الفصل الأول

في بداهة مفهوم الوجود

قبل الدخول في هذا الفصل نشير إلى أن المقصود بعنوان المرحلة الأولى «في كلِّيات مباحث الوجود» هو أحكام الوجود الكلية؛ أي الأحكام التي موضوعُها الوجود بقولٍ مطلَق، بخلاف ما يأتي في سائر المراحل، فإنها من المباحث التقسيمية للوجود، فيُقسم الوجود أولًا إلى أقسام، ثم يبحث في أحكام الأقسام، كلها، أو بعضها، فكلُّ حكمٍ من الأحكام فيها إنما هو لقسمٍ من أقسام الوجود.

وفيما يلي نذكُر بعض النقاط التوضيحية التي تنفعنا في دراسة هذا الفصل والفصل الذي يليه.

النقطة الأولى

أن مباحث الوجود تنقسم إلى قسمَين:

  • (١)

    قسم يتعلَّق بمفهوم الوجود ومعناه؛ أي بالصورة الذهنية للوجود، والمباحث التي تتعلق بمفهوم الوجود التي ندرُسها في هذا الكتاب هي ثلاثة مباحث:

    • الأول: في بداهة مفهوم الوجود وهو الذي ندرُسه في الفصل الأول.
    • الثاني: في الاشتراك المعنوي للوجود وهو ما ندرُسه في الفصل الثاني.
    • الثالث: في أن مفهوم الوجود زائدٌ على الماهيَّة عارض لها وهو ما ندرُسه في الفصل‏ الثالث.
  • (٢)

    وقسم يتعلق بحقيقة الوجود والواقعية، والخارجية، والشيئية، التي تُساوي الوجود، وفي الفلسفة ندرُس حقيقة الوجود؛ أي واقع الوجود، ومصداق الوجود، ولا يتعلق بحثُنا بمفهوم الوجود.

أما العلم الذي ندرُس فيه المفاهيم فهو المنطق؛ فإنه يُعنى بالمعاني وتصنيفها وبيان العلاقات بينها في الذهن. بينما ندرُس في الفلسفة أحوال الوجود من حيثُ هو موجود؛ أي أحوال الموجود وحقيقة الوجود وما يتعلق بها.

فدراسة مسائل مرتبطة بمفهوم الوجود يعود لارتباط هذه المسائل بالمسائل التي تليها، فهذه المسائل التي تدرُس أحكام مفهوم الوجود تُعَدُّ بوابةً ومداخل لتلك المسائل التي تبحث أحكامَ حقيقةِ الوجود، كأصالة الوجود ووحدة الوجود، وغيرها، مما سيأتي.

فنحن ندرُس في هذا الفصل مفهوم الوجود؛ ولذلك عنون المصنِّف المبحث بقوله: بداهة مفهوم الوجود.

النقطة الثانية

أن العلم ينقسم إلى قسمَين؛ تصوُّر وتصديق. والتصور ينقسم إلى قسمَين؛ تصوُّر بديهي وتصوُّر نظري. والمقصود بالتصوُّر البديهي، أن صورة الشي‏ء تحصُل في الذهن بأدنى التفات أو بدون حاجة إلى نظر وتأمل، بينما التصوُّر النظري، هو أن صورة الشي‏ء في الذهن تحتاج إلى تأمل ونظر. والتصديق أيضًا قسَّموه إلى قسمَين؛ تصديق بديهي وتصديق نظري، والتصديق البديهي هو الذي لا يحتاج إلى برهان واستدلال، بينما النظري هو الذي يحتاج إلى عملية استدلال؛ ففي كتب الهندسة المستوية مثلًا، تُذكر عادةً بديهياتٌ في بداية هذه الكتب ثم تُذكر النظريات، فيُقال مثلًا: الواحد نصف الاثنَين، وإذا أُضيفَت كمِّياتٌ متساوية إلى أخرى متساوية تبقى النتائجُ متساوية … إلخ، فهذه بديهياتٌ لا تحتاج إلى برهان، بعد ذلك تُذكر نظريات، مثل: أن مجموع زوايا المثلث يساوي ١٨٠ درجة، فهذه نظريةٌ تحتاج إلى برهان.

وهنا يصحُّ القول إن تصوُّر مفهوم الوجود هو تصوُّرٌ بديهي وليس تصورًا نظريًّا؛ لأنه لا يحتاج إلى نظر وتأمل بل بأدنى التفاتٍ يُدرك.

النقطة الثالثة

ينقسم التعريف إلى: تعريف لفظي، وهو استبدال لفظٍ بآخر، كما يُستبدل لفظ الأسد بلفظ السبع، ولفظ القط بلفظ الهر عندما يُقال: ما هو القط؟ فيكون الجواب هو الهر. فهذا في الواقع ليس تعريفًا بل هو استبدالُ لفظٍ بآخر.

والنوع الثاني من التعريف هو التعريف الحقيقي؛ لأن التعريف اللفظي تسامحًا يُقال عنه تعريف. والتعريف الحقيقي ينقسم إلى: حد ورسم، والحد ينقسم إلى: حدٍّ تام وحدٍّ ناقص، والرسم كذلك.

وفي الحد التام عندما نعرِّف شيئًا نُعرِّفه بالجنس القريب والفصل القريب، فعندما نعرِّف الإنسان نقول: حيوانٌ ناطق. وبالحد الناقص عندما نعرِّف الإنسان نُعرِّفه بالجنس البعيد والفصل القريب، فنقول: جسمٌ ناطق، أو بالفصل القريب خاصة، فنقول: ناطق.

وفي الرسم التام نُعرِّفه بالجنس القريب وبالخاصة، فنقول: حيوانٌ ضاحك. وفي الرسم الناقص نُعرِّفه بالخاصة فقط فنقول: الإنسان ضاحك. والتعريف الحقيقي هو الحدُّ والرسم.

النقطة الرابعة

ما هو ملاك بداهة المفهوم؟ حينما نقول هذا المفهوم بديهي وذاك المفهوم نظري، فما هو الملاك في كون هذا المفهوم بديهيًّا وذاك المفهوم نظريًّا؟

الملاك في بداهة المفهوم يعتمد على طبيعة هذا المفهوم؛ لأن المفاهيم تنقسم إلى قسمَين؛ مفهوم بسيط ومفهوم مركَّب، وهذا نظير المركَّبات والعناصر البسيطة؛ فمرَّة يكون عنصرًا بسيطًا كالهيدروجين، ومرَّة يكون مركَّبًا من المركَّبات كالماء، الذي هو مركَّب من الهيدروجين والأوكسجين، وهكذا المفاهيم فتارةً تكون بسيطة وأخرى تكون مركَّبة، والمفهوم المركَّب عندما يحلُّ في الذهن، فتارةً يعرفه الإنسان بهيئته وحالته التركيبية، بما هو مركَّب ولا يعرف عناصره، وأخرى يعرفه بهيئته التركيبية كما يعرف العناصر المركَّب منها؛ أي تارةً يلاحظ الماء بما هو ماء بحالته التركيبية، وأخرى يعرف أن هذا الماء مؤلَّف من هيدروجين وأوكسجين، وأن المعرفة الدقيقة لهذا المركَّب تقتضي تحليله إلى عناصره الأولية والبسيطة المكوَّن منها، فإذا أردنا معرفة الماء معرفةً علمية فلا بُد أن نحلِّل الماء تحليلًا كيميائيًّا فيزيائيًّا ونتعرَّف على العناصر المكوَّن منها، فتكون حينئذٍ المعرفة علميةً ودقيقة.

وهكذا المفاهيم العقلية، فتارةً يكون المفهوم مفهومًا بسيطًا، غير مركَّب؛ فبمجرد الالتفات إليه يمكن معرفتُه وتصوُّره، وأخرى يكون المفهوم مركَّبًا كمفهوم الإنسان؛ فمفهوم الإنسان ماهيَّة، والماهيَّة تتركَّب من أمرَين — عنصرَين عقليَّين — هما جنس وفصل، أي مِمَّا هو أعم وهو الجنس، ومِمَّا هو مساوٍ وهو الفصل، فإذا أردنا معرفة الماهيَّة معرفةً دقيقة، فلا بد أن نحلِّل ونجزِّئ الماهيَّة، نحلِّلها إلى عناصرها العقلية المكوِّنة لها، وهي الحيوان والناطق في ماهيَّة الإنسان، وحينئذٍ تتم معرفة الإنسان معرفةً صحيحة.

وعلى هذا الأساس يصح القول إذا كان المفهوم مركَّبًا يُجري الذهن عليه عملية تحليل، وهذا التحليل هو التعريف، يحلِّله إلى عناصره الأساسية، إلى جنسه وفصله، وإذا كان المفهوم بسيطًا غير قابل للتحليل والتجزئة، فلا يحتاج الذهن إلى تحليله إلى عناصره؛ لأنه ليس هناك عناصرُ مؤلِّفة له، كما أنه غير قابل للتحليل؛ ولذلك فهذا المفهوم البسيط هو مفهومٌ بديهي وليس مفهومًا نظريًّا.

ولهذا كان يُعبِّر القدماء عن مبحث التعريف بمبحث التحليل، كما نرى ذلك في تراث أرسطو وتبعًا له الفارابي.

مفهوم الوجود لا يحتاج إلى تعريف

هل يحتاج مفهوم الوجود إلى التعريف أو هو مستغنٍ عن التعريف؟ فإذا كان محتاجًا للتعريف يكون نظريًّا؛ لأنه تتم معرفته بواسطة غيره، مثلما تتم معرفة الإنسان بواسطة، الحيوان والناطق، وإذا كان مستغنيًا عن التعريف، تتم معرفته ويتم العلم به ويتعقَّله الإنسان بنفس ذاته من دون حاجة لشي‏ءٍ آخر.

الصحيح أن مفهوم الوجود، مفهومٌ بسيط، غير مركَّب؛ فهو غير محتاجٍ لتوسيط شي‏ءٍ آخر في معرفته، وقد ذكَر المصنف دليلَين على بداهة مفهوم الوجود، هما:

  • الأول: لأن الوجود ظاهرٌ بنفسه مُظهِر لغيره. يشبِّهون الوجود عادةً بالنور، فكما أن النور ظاهرٌ بنفسه مظهرٌ لغيره، كذلك الوجود كالنور ظاهر بنفسه مُظهِر لغيره، والمعرِّف لا بد أن يكون أجلى وأظهر من المعرَّف؛ لأن عملية التعريف، مثل الضوء الذي نسلِّطه على شي‏ءٍ غير واضح فيكشِفه لنا، وهكذا التعريف يكشِف ويُنير لنا الشي‏ء المعرَّف، أمَّا إذا كان هذا الشي‏ء المعرَّف هو بنفسه واضحًا ومضيئًا فحينئذٍ لا يحتاج إلى تعريف؛ فتارة تبحث عن شي‏ءٍ في مكانٍ مظلم فتحتاج إلى المصباح، فأنت تحتاج للمصباح حتى تصل إلى هذا الشي‏ء، وأخرى أنت تريد أن تصل إلى مصباحٍ مضي‏ء، فلا تحتاج إلى أن تحمل مصباحًا بيدك لأجل الوصول لذلك المصباح.
    هكذا الوجود فهو مضي‏ء بنفسه كما أنه يضي‏ء غيره، ظاهر بنفسه ومُظهِر لغيره، فليس هناك شي‏ءٌ أوضح وأعرف من الوجود، بل قال ابن سينا:١ «إن الوجود لا يمكِن أن يُشرح بغير الاسم؛ لأنه مبدأٌ أول لكل شرح، فلا شرح له، بل صورتُه تقوم في النفس بلا توسُّط شيء.» وهو يعني بذلك أن كل شي‏ءٍ لا بد أن يُعرف بواسطة الوجود؛ لأن تعريف أي شي‏ءٍ يحتاج لتصوُّرٍ سابق عن الوجود، فأنت عندما تريد أن تُعرِّف «أ» تقول هو «ب» فهذه كلمة «هو» تعني الوجود، إذن لا بُد أن يكون لديك تصورٌ سابق عن الوجود حتى تتمكَّن من تعريف «أ»، فليس هناك أوضحُ من الوجود، بل ليس هناك غير الوجود أساسًا.
    وبتعبير صدر المتألهين:٢ «ولا أجلى من الوجود؛ لأنه أبسط من كل متصوَّر وأول كل تصوُّر.»

    أمَّا ما ذُكِر من تعاريف للوجود، مثل تعريف جماعةٍ من المتكلمين، بأنه «هو الثابت العين»، أو تعريف جماعة من الحكماء بأنه «هو الذي يُمكِن أن يُخبر عنه» ولعل مرادهم من الإخبار الإخبار الإيجابي؛ إذ الإخبار السلبي يتأتى في العدم أيضًا؛ فإن هذه التعاريف لفظية وليست تعاريفَ حقيقية؛ حيث قال المصنف: هي من قبيل شرح الاسم …

    وشرح الاسم هو التعريف اللفظي، وهو تبديل لفظٍ مجهول المعنى بلفظٍ آخر مرادفٍ له معلوم، وهو ما يتكفَّل به اللغوي، بخلاف التعريف الحقيقي، الذي هو شرح مفهوم الشيء وتفصيله ببيان ذاتياته، كما في الحد، أو بيان خاصته لتمييزه عن جميع ما عداه، كما في الرسم.

    قال صدر المتألهين٣ في تعريف شرح الاسم: «وهو تنبيه للذهن وإخطار المعنى بالبال وتعيينه بالإشارة، من بين ساير المرتكزات في العقل، لا إفادته بأشياء أشهر منه.»

    تجدُر الإشارة إلى أن كلًّا من التعريف الاسمي وشرح الاسم قد يُطلق أيضًا على جواب «ما الشارحة» الذي هو من التعريف الحقيقي.

  • الثاني: إذا أردنا تعريف شي‏ء فلا بد أن نُعرِّفه بما هو أعم وهو الجنس، وبما هو مساوٍ وهو الفصل. والوجود ليس هناك ما هو أعم منه، إذن فلا جنس له، كما أن الوجود لا فصل ولا خاصة له، ومعلومٌ أن التعريف إنما يتم بهذه الأمور الثلاثة، فالتعريف إما حدٌّ أو رسم، والحد والرسم يتألَّفان من هذه الثلاثة؛ الجنس، والفصل، والخاصة، كما أن مقسم الجنس والفصل والخاصة الذي يتفرَّعان عنه هو الماهيَّة، والماهيَّة في مقابل الوجود، إذن فهذه ماهيَّات والماهيَّة مقابلة للوجود. وعلى هذا ما دام المعرِّف يتألف من هذه الأمور، وهذه الأمور مقابلة للوجود، فلا معرِّف حقيقيًّا للوجود، والتعاريف التي تُذكَر هي عادةً تعاريفُ لفظية.

ملخَّص لما سبق

أن العلم ينقسم إلى تصوُّر وتصديق، والتصور بديهي ونظري، وتصوُّر مفهوم الوجود بديهي.

وأن التعريف ينقسم إلى لفظي وحقيقي، وليس هناك تعريفٌ حقيقي للوجود وإنما تعريفه لفظي، وأن ملاك بداهة المفهوم هو أن يكون المفهوم بسيطًا وليس مركبًا، ومفهوم الوجود بسيط، وأنه لا يمكن تعريف الوجود؛ لأنه أظهر وأوضح من كل شي‏ء، والمعرِّف لا بد أن يكون أظهر من المعرَّف.

وأن الوجود لا جنس ولا فصل ولا خاصة له، وبهذه الأمور يتم التعريف بالحدِّ أو الرسم، وبذلك لا يمكن تعريف الوجود، فهو إذن مفهومٌ بسيطٌ غير قابل للتحليل؛ وبالتالي هو مفهومٌ بديهي.

١  «النجاة»، ص٢٠٠.
٢  «المبدأ والمعاد»، ص١٠.
٣  «الأسفار الأربعة»، ج١، ص٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥