الفصل العاشر

في أنه لا تمايُز ولا علِّية في العدم

هذا البحث هو بحثٌ استطرادي؛ لأن موضوع الفلسفة هو الوجود، والبحث فيه في أحوال الموجود من حيثُ إنه موجود، والعدم في مقابل الوجود، فلا يكون البحث في العدم داخلًا في الفلسفة، وإنما يبحث بحثًا استطراديًّا بتبع الوجود.

ولكن العدم وإن لم يكن له تحقُّق في عالم الأعيان لأنه يقابل الوجود، ولكن مما لا ريب فيه أن مفهوم العدم له تحقق في الذهن الإنساني، كأي مفهوم فلسفي آخر، إذا العدم والمعدوم — وإن لم يكن له تحقُّق في الأعيان — إلا أنه من المفاهيم الفلسفية التي تدخُل في بناء المعرفة البشرية، فالبحث في العدم مهمٌّ في المعرفة البشرية.

والبحث هنا إنما هو في إطار وجود المفاهيم؛ لأن العدم مفهوم في الذهن، والذهن يميِّز هذا المفهوم عن غيره من المفاهيم.

فما هو العدم إذن؟ العدم هو لا شي‏ء؛ ولذلك نقول أنْ لا تمايُز في الأعدام ولا عليَّة في الأعدام، فهنا دعويان:

  • الأولى: لا تمايُز في الأعدام.
  • الثانية: لا عليَّة في الأعدام.

(١) لا تمايز في الأعدام

الدعوى الأولى: لا تمايُز بين عدم وعدم، وهذه الدعوى بديهية، ولكن البديهيات نوعان؛ قسم غير قابل للاستدلال، وقسم منها قابل للاستدلال، ومنها هذه المسألة، مسألة أنْ لا تمايُز ولا اختلاف بين عدم وعدم؛ فعلى الرغم من كونها مسألةً بديهية نراها قابلةً للاستدلال.

بيان الاستدلال، بماذا يكون الامتياز حتى يتميَّز شي‏ء عن شي‏ء؟ التمايز تارةً يكون بتمام الذات كالأجناس العالية؛ فالجوهر يمتاز عن الكيف، والكيف يمتاز عن الأين، بتمام الذات، وتارةً يكون التمايز بجزء الذات، كالتمايز بين الإنسان والفرس، فكلاهما من جنس الحيوان، لكن فصل الفرس هو الصاهل وفصل الإنسان هو الناطق. ويكون التمايز تارةً أخرى بالأعراض (المنضمَّات)، كالتمايز بين هذه الورقة البيضاء وتلك السوداء باللون، وهنا نقول إن العدم لا ذات ولا حقيقة له لأنه بطلانٌ محض، فإذا لم تكن هناك ذاتٌ للعدم فلا تمايُز بتمام الذات، كما لا تمايُز بجزء الذات، ولا تمايُز بالمنضَمَّات للذات.

العدَم المطلَق والعدَم المضاف

ولكن قد يُقال إننا نشعر بالاختلاف والتمايز بين عدم السمع وعدم البصر، فمن أين نشأ هذا الفَرق؟ الجواب: العدم نفسه ينقسم إلى عدمٍ مطلَق وعدمٍ مضاف، والعدم المطلَق: هو العدم بلا قيد وإضافة لشي‏ء، والمضاف: هو العدم الذي يُضاف إلى شي‏ء، كما في: عدم البصر، وعدم السمع، فالبصر شي‏ءٌ أضفْت له العدم، والسمع شي‏ء أضفْت له العدم، وهنا بما أن السمع موجود، والبصر موجود، وهما متمايزان، والذهن يُدرك الفرق بينهما، فعندما ننفي البصر، يشعر الذهن أن نفيه يُغاير نفي السمع، وهذه المغايَرة ليست حقيقية وذاتية، وإنما هي مغايَرة بالعرض والمجاز؛ لأن التمايز والاختلاف في الواقع بين وجودَين هما السمع والبصر، بمعنى أن التمايز الحاصل بالإضافة تمايُز بالعرض، فإن المتمايز بالحقيقة هو المَلَكات وأقسام الوجود، ويُنسب مجازًا إلى الأعدام المضافة إليها؛ ولذلك قال المصنِّف: ربما يتميز عدم من عدم بإضافة الوهم إياه إلى المَلَكات وأقسام الوجود. والمقصود بالوهم هنا القوة الواهمة المدركة للمعاني الجزئية، كما فسَّره المحققون الآشتياني والآملي والهيدجي في تعاليقهم على شرح المنظومة. وقد يُراد بالوهم الذهن، كما فسَّره آخرون.

ومن المعلوم أن عدم السمع وعدم البصر هو عدمٌ مضافٌ إلى المَلَكات، أما عدم زيد وعدم عمرو فهو عدمٌ مضافٌ إلى أقسام الوجود.

(٢) لا علِّية في العدم

أما الدعوى الثانية: وهي أنه لا عليَّة في العدم؛ أي إن عدم الشي‏ء لا يكون علةً لعدمٍ آخر، لكن ربما يُقال فكيف يصح القول: «عدم العلة علةٌ لعدم المعلول؟».

فعندما نقول النار علَّة للغليان، أو الحرارة علَّة للتمدد، فالعلة تعني وجود شي‏ءٍ هو النار، وهكذا المعلول، إذن العلة والمعلول أمورٌ حقيقية، أما نفي الأثر والمؤثِّر فإنها أمورٌ غيرُ حقيقية؛ أي إن العلِّية هي التأثير، والتأثير أمرٌ وجودي، وهو لا يتحقق بين عدمَين، فكيف نقول عدم العلَّة علَّة لعدم المعلول؟

الجواب: هذا كلامٌ مجازي وليس كلامًا حقيقيًّا؛ أي إننا نريد أن نقول هكذا: إذا لم يكن سببٌ فلا يُوجَد مسبَّب، فمرَّة نقول: إذا وُجد الغيم وُجد المطر، إذا وُجدَت العلة وُجد المعلول، ومرَّة أخرى نريد نفي وجود المطر، فنقول: إذا لم يكن مؤثرٌ لم يكن أثر، إذا لم تكن علة لم يكن معلول، إذا لم يكن غيمٌ لم يكن مطر، فنعبِّر عن هذا تعبيرًا مجازيًّا، فنقول: عدم العلَّة أي عدم الغيم علَّة لعدم المعلول؛ أي علة لعدم المطر، وإلا ففي الواقع لا عليَّة هنا؛ لأن عدم الغيم وعدم المطر، عدمٌ وبطلانٌ ولا شي‏ء.

وبهذا يتضح أنه قولٌ على سبيل تقريب تعلُّق وجود المعلول بوجود العلة تعلقًا مطلقًا؛ بحيث لا يُمكِن تحقُّقه بدونها.

وهذا كما في القضية الحملية السالبة؛ ففي القضية الحملية الموجبة يُوجَد حملٌ حقيقي، حكمٌ ثابت لموضوع حقيقةً، أما في القضية السالبة عندما نقول: الإنسان ليس بحجر، فليس هناك حملٌ حقيقي، بل نفي الحمل، سلبٌ للحمل، لا يُوجَد حكم على الإنسان، بل نفي للحكم، لكن مع ذلك نُسمِّي هذه القضية بالحملية السالبة، والشي نفسه يُقال في القضية الشرطية السالبة، فالتعبير عن الحملية السالبة بالحملية هو تعبيرٌ مجازي؛ لأنه ليس في الحملية السالبة إلا سلبُ الحمل، وكذلك في الشرطية السالبة.

وهناك ما يشبه ذلك في كلمات أصحاب المعقول؛ فهم يقولون: منفصلةٌ حقيقيةٌ سالبة، ومنفصلةٌ مانعةٌ جمع سالبة، ومنفصلةٌ مانعةٌ خلو سالبة، مع أن في سالبة المنفصلة الحقيقية يُنفى ويُسلب العناد من الطرفَين، وفي سالبة مانعة الجمع يُسلب امتناع الجمع، وكذا في مانعة الخلو السالبة يُسلب منع الخلو.

ومن ذلك أيضًا إطلاق الشرطية على المنفصلة، قال ابن سينا في منطق المشرقيين: «وكان الواجب بحسب لغة العرب أن تكون الشرطية هي المتصلة، فإنك تجد هناك شرطًا موضوعًا وجزاءً مرادفًا، لكنهم يُسمُّون المنفصلة أيضًا شرطية، وكأنهم يعنون بالشرطية ما يلحق فيه قضية …»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥