في أن المعدوم المطلَق لا خبر عنه
معنى المعدوم المطلَق
أما الذي لا تحقُّق له في الخارج وله وجود في الذهن، كالمعقولات الثانية المنطقية، فإنها ليست من مصاديق المعدوم المطلَق؛ لأن الذهن مرتبةٌ من مراتب الوجود الخارجي؛ إذ الخارجية أعمُّ من الذهن والخارج، كما سيأتي.
المعدوم المطلَق لا يُخبر عنه
وما لا تحقُّق له في الخارج ولا في الذهن هو المعدوم المطلَق، وهذا لا يقع موضوعًا في قضية؛ لأنه بطلانٌ محض، ولهذا فلا يصح أن يُحمل عليه شيء ولا أن يُخبر عنه بشيء؛ لأن الأخبار والحكم إنما يكون عما هو متحققٌ وثابت، والمعدوم المطلَق لا تحقُّق له بالخارج ولا بالذهن، فلا يمكِن أن يُخبر عنه، أما ما له تحقُّق في الخارج فيُمكِن أن نُخبر عن وجوده الخارجي، وكذلك ما له وجودٌ ذهني.
تجدُر الإشارة إلى أن امتناع الإخبار عن المعدوم المطلَق، إنما يختص بالإخبار الإيجابي الذي يكون بطريق الحمل الشائع؛ لأنه يكون إخبارًا عن شيءٍ بشيء، أما الإخبار الإيجابي بطريق الحمل الأوَّلي، فلأنه إخبار عن الشيء بنفسه، وليس إخبارًا عن شيء بشيء فيصح؛ حيث يُقال: المعدوم المطلَق معدومٌ مطلَق، وهكذا يصح الإخبار السلبي، كما يُقال: المعدوم المطلَق ليس بموجود؛ ولذلك قال ابن سينا في إلهيَّات الشفاء: «والمعدوم المطلَق لا يُخبَر عنه بالإيجاب.»
إشكال
وهنا قد يُثار سؤالٌ ملخَّصه: كيف تقولون إن المعدوم المطلَق لا يُخبر عنه، بينما أنتم بقولكم هذا نفسه تُخبرون عنه؟ لأن هذه القضية «المعدوم المطلَق لا يُخبر عنه» فيها موضوع هو «المعدوم المطلق»، وفيها محمول هو «لا يُخبر عنه»، والمحمول هو حكم؛ أي خبر، فيكون خبرًا عن هذا الموضوع.
إذن هذه القضية تُناقِض نفسها؛ لأنها بنفسها هي إخبار عن المعدوم المطلَق بعدم الإخبار عنه.
جواب الإشكال
ولكي ندفع ما يبدو من تناقض لا بد من بيان نوعَين من الحمل؛ فالحمل ينقسم إلى قسمَين؛ حمل أولي ذاتي، وحمل شائع صناعي، وسوف نبيِّنهما بشكلٍ موجز، وسنلاحظ أن هذه الشبهة تُحل على أساس تعدُّد نوعَي الحمل، وأن هذه القضية من قبيل جملة من القضايا كقولنا: شريك الباري شريك الباري، وشريك الباري ليس بشريك الباري، والجزئي جزئي، والجزئي ليس بجزئي بل كلي، وغيرها، فهذه القضايا في النظرة الأولية لها قد تبدو متناقضة، فكيف نصحِّح هذه القضايا وندفع التناقض؟
الجواب: إن التناقض يتحقَّق إذا توفَّرت شروطه، وهي الوحدات الثماني المعروفة، والتي أضاف إليها ملا صدرا وحدةً تاسعة، وهي وحدة الحمل، وعلى أساسها يُحل هذا الإشكال.
ومن المعروف أنه لكي يتحقَّق الحمل لا بد من توفُّر ركنَين:
- الأول: أن يكون هناك تغايُر بين الموضوع والمحمول.
- الثاني: وجود نحوٍ من الاتحاد بين المحمول والموضوع.
وللحمل عدة تقسيمات، لكن ما يهمُّنا هنا هو تقسيمه إلى حمل أولي ذاتي وحمل شائع صناعي؛ ففي الحمل الشائع الصناعي يكون التغاير في المفهوم؛ أي إن المفهومَين مختلفان، والاتحاد يكون في المصداق، كقولنا: «الإنسان ناطق»، فالمفهومان مختلفان، والمصداق واحد في الخارج.
أما إذا كان الاتحاد في المفهوم والمصداق، والمغايرة اعتبارية، كما في قولنا: الإنسان إنسان، فالحمل أولي ذاتي؛ إذ إن الذهن يعتبر الإنسان ويلاحظه مرة ويجعله موضوعًا، ثم يعتبره ويلاحظه مرةً أخرى ويجعله محمولًا، فالإنسان هو الإنسان ذاتًا وماهية، لم يتعدد إلَّا في ملاحظة الذهن واعتباره.
ويُسمى هذا الحمل بالأولي نسبة إلى الأوليات؛ أي لا يحتاج حمل المحمول على الموضوع إلى دليل، كما في صحة حمل الحيوان الناطق على الإنسان، ومعنى كونه حملًا ذاتيًّا نسبةً إلى الذات والذاتيات؛ لأن الأساس في هذا الحمل هو حمل الذات والذاتيات على الذات، وهنا قد يُقال: ما الفائدة من الحمل الذاتي إذا كان هو حمل الذات على الذات أو حمل الذاتيات على الذات؟
الجواب: الفائدة تظهر إذا كان هناك من يشُك في أن الشيء ثابتٌ لنفسه؛ أي هو هو أو ليس هو هو.
وعلى هذا يمكننا الإجابة على الإشكال المتقدم ونفي ما يبدو من تناقض بين القضايا المارَّة الذكر، فإذا كان الإيجاب بنحو الحمل الأولي والسلب بنحو الحمل الشائع فلا يقع التناقض، فعندما نقول: الجزئي جزئي بالحمل الأوَّلي، والجزئي ليس بجزئي؛ أي كلي بالحمل الشائع، فلا يقع التناقض بينهما، لماذا؟ لأنه في الحمل الأوَّلي نلاحظ المفهوم، وبالنسبة للحمل الشائع نلاحظ المصداق.
أي إن مفهوم الجزئي هو مفهوم الجزئي بالحمل الأوَّلي، وعندما يكون نظرنا إلى المصداق نقول بأن مفهوم الجزئي في الذهن هو مصداق من مصاديق الكلي؛ لأن الحمل الشائع ينصرف النظر فيه إلى المصداق.
ولا بد من الإشارة إلى أن معنى الحمل الأوَّلي والحمل الشائع يُستعملان في كلمات الفلاسفة بنحوَين؛ فتارة يكون الحمل الأوَّلي والحمل الشائع قيدًا للموضوع في القضية، وأخرى يكونان قيدًا لنفس القضية المؤلَّفة من الموضوع والمحمول، فهنا لا بد أن نلاحظ هل الحمل مأخوذ قيدًا للموضوع خاصة، أو أنه مأخوذ قيدًا لتمام القضية المكوَّنة من المحمول والموضوع؟
لقد ذكر المصنِّف قيد الحمل الأوَّلي والحمل الشائع في كتاب «بداية الحكمة» قيدَين للقضية ذاتها المؤلَّفة من الموضوع والمحمول. فإذا كانا قيدَين للقضية يفيدان كيفية الحمل وأن الاتحاد بين المحمول والموضوع هل هو اتحادٌ مفهومي أم مصداقي؟ بينما إذا كانا قيدَين للموضوع فإنهما يفيدان حال ما حكم عليه وهل هو المفهوم أو المصداق؟
إن القضايا من قبيل الجزئي جزئي، والجزئي ليس بجزئي، وشريك الباري شريك الباري، وشريك الباري ليس بشريك الباري، وإن كان يبدو أن بينها تناقضًا إلا أنه لا تناقض فيها، لاختلاف وحدة الحمل؛ فالجزئي جزئي بالحمل الأوَّلي؛ أي مفهوم الجزئي الذي يمتنع صدقه على كثيرين هو نفسه مفهوم الجزئي، والجزئي ليس بجزئي؛ أي كلي بالحمل الشائع، بمعنى أن الجزئي الذي لا يمتنع صدقه على كثيرين هو مصداق للكلي؛ أي إن مفهوم الجزئي في الذهن هو مصداقٌ كلي ينطبق على كل جزئي، فهو مصداق للكلي، الذي لا يمتنع فرض صدقه على كثيرين، كما في الإنسان الخارجي الذي هو مصداق الإنسان، أما الإنسان الموجود في الذهن فهو مفهوم الإنسان؛ أي ليس مصداقًا للإنسان الحقيقي الخارجي.
أما القول: كل معدومٍ مطلقٍ لا يُخبر عنه، فكل معدومٍ مطلَق معدوم مطلق لا يُخبر عنه بالحمل الشائع؛ لأن المعدوم المطلَق لا وجود له لا في الخارج ولا في الذهن، ولكن الذهن يفترض مصداقًا، وهذا المصداق الافتراضي لا يمكن أن يُخبر عنه؛ لأنه لا شيء؛ ولذلك فكل ما هو مصداقٌ افتراضي للمعدوم المطلَق؛ أي بالحمل الشائع، فإنه معدومٌ مطلَق لا يُخبر عنه، أما ما وقع الإخبار عنه، عندما نقول: المعدوم المطلَق معدومٌ مطلق، فهو مفهوم المعدوم المطلَق؛ أي المعدوم المطلَق بالحمل الأولي، إذن فما نُخبر عنه هو مفهوم المعدوم المطلَق وليس مصداق المعدوم المطلَق الافتراضي؛ أي إن المعدوم المطلَق بالحمل الأولي يُخبر عنه؛ أي عن مفهومه، أما مصداقه الافتراضي، أي المعدوم المطلَق بالحمل الشائع، فلا يُخبر عنه؛ لأنه لا شيء؛ وبالتالي يحل التهافت والتناقض بين القضيتَين.
وبعبارةٍ أخرى: إن ما يُخبر عنه هو الموجود الذهني؛ أي مفهوم المعدوم المطلَق، أما ما لا يمكن الإخبار عنه فهو المصاديق التي يفترضها الذهن للمعدوم المطلَق، وهذه المصاديق الافتراضية لا شيء.
وهنا ينبغي بيان نكتة في المقام، وهي أن مفهوم العدم يمكِن أن يتصوَّره الذهن، تبعًا لتصوُّره للوجود، وهذا المفهوم لا مصداق له في الخارج، لكن له وجودٌ ذهني، فيمكِن أن نحكُم على مفهوم العدم المتلبِّس بالوجود الذهني؛ لأن الذهن أحد مفردات عالَم الوجود؛ فما يفترضه الذهن يتلبَّس بالوجود الذهني، وإن كان أمرًا غير موجود خارج الذهن.