الفصل الثاني عشر

في امتناع إعادة المعدوم بعينه

منشأ هذا البحث ظهر لدى المتكلمين، ثم أدرج في مباحث الفلاسفة بعد أن صار موردًا للأخذ والرد، وكان منشأ هذا البحث شبهةً ارتبطَت بمسألة المعاد؛ حيثُ رأى بعض المتكلمين أن مسألة البعث والمعاد يوم القيامة هي إعادة للمعدوم؛ لأن الإنسان حسب رأيهم عندما يتوفاه الله تعالى ينعدم، فإذا انعدم فكيف يُبعث يوم القيامة؟ إذن لا بد من القول بإمكان إعادة المعدوم، حتى يصح الاعتقاد بالبعث والمعاد.

ولكن هذا كلامٌ غير دقيق، فإن إعادة المعدوم ممتنعة وليست ممكنة، كما زعم هؤلاء المتكلمون، ومن المتكلمين تسرَّب هذا البحث إلى الفلسفة، فبحثه الفلاسفة، وقرَّروا أن إعادة المعدوم من الأمور الممتنعة.

معنى امتناع اعادة المعدوم

ما هو المقصود بامتناع إعادة المعدوم؟ المقصود هو أن يكون هناك شي‏ءٌ موجود وله مشخصات؛ لأن الشي‏ء ما لم يتشخص لا يُوجد، فهذا الكتاب الذي بيدك، متشخِّص في وجوده، في زمانه الخاص، وفي مكانه الخاص … إلخ، فإعادة المعدوم تعني، أن هذا الكتاب عُدِم — فرضًا — وتلاشى، فهل يمكن إعادته بنفس حالته السابقة وبنفس مشخصاته؟ الفلاسفة قالوا: إن ذلك مستحيل، إعادة المعدوم بشخصه مستحيل، لكن شبيه ومثيل هذا الكتاب يُمكِن أن يعود وليس الكتاب نفسه، فالثاني هو مثل للأول، فإعادة شبيه للمعدوم غير ممتنع، لكن إعادة المعدوم نفسه بشخصه وعينه ممتنع ومستحيل.

وبعبارة أخرى إنه ليس البحث في إعادة ماهية كانت موجودة وانعدمَت، إعادتها بعينها في وجودٍ آخر. وأيضًا ليس البحث في إبداع وجود يماثل الموجود المعدوم. وإنما الكلام في إعادة موجود بعينه وشخصه بعد انعدامه، بأن يكون شخص الموجود موجودًا بوجودَين؛ وجود قبل الانعدام، ووجود بالإعادة.

ومن المعلوم أن المفهوم الحقيقي الذي تدُل عليه لفظة «الإعادة» هو ما يُفيده قيد «بعينه» فيكون ذكره للتأكيد، في قولهم «ان إعادة المعدوم بعينه ممتنعة».

ونضرب مثالًا آخر بسيطًا: نقول حرِّك يدك حركةً معيَّنة، فهذه الحركة بعد برهة سوف تنقضي وتنتهي، ثم حرِّك يدك مرةً أخرى بنفس أسلوب الحركة السابقة، فهل هذه الحركة الثانية هي نفس الحركة الأولى؟ من الواضح أن الحركة الثانية ليست إعادة للحركة الأولى بتمام مشخصاتها وأبعادها؛ لأن الحركة الأولى تمَّت مثلًا في الساعة الخامسة والدقيقة الخامسة والثانية الخامسة، بينما الحركة الثانية تمَّت بنفس الساعة والدقيقة لكن في الثانية الثامنة، فحينئذٍ الزمان اختلف وهو من المشخصات، فالحركة الثانية ليست هي نفس شخص الحركة الأولى بل هي مماثلة لها، فهما حركتان لا حركةٌ واحدة، وإن كانت الحركة الثانية شبيهة ومماثلة للحركة الأولى من جهاتٍ كثيرة، لكنها غيرها.

رأي الحكماء

والقول بامتناع إعادة المعدوم بعينه، هو الذي ذهب إليه الحكماء وقالوا إنه من البديهيات، وتبعَهم بعض المتكلمين، ومنهم الفخر الرازي المعروف بتشكيكاته الكثيرة؛ فهو يقول: إن امتناع إعادة المعدوم أمرٌ بديهي لا يحتاج إلى الاستدلال، لكن قال كثيرٌ من المتكلمين إن إعادة المعدوم ممكِنة.

من هنا تعدَّدَت الأقوال في المسألة؛ فالحكماء قالوا: باستحالة إعادة المعدوم بعينه، وأكثر المتكلمين قالوا: بإمكان الإعادة، وقسمٌ من الحكماء قالوا ببداهة استحالة إعادة المعدوم بعينه، وبعضهم قال بأنها نظريةٌ تحتاج‏ برهانًا. وقد عدَّ ابن سينا امتناع إعادة المعدوم ضروريًّا، فقال في إلهيات «الشفاء»١ عن إعادة المعدوم: «على أن العقل يدفع هذا دفعًا لا يحتاج إلى بيان، وكل ما يُقال فيه فهو خروج عن طريق التعليم.»
وقال صدر المتألهين:٢ «إن المسألة بديهيةٌ أولية، بعد تذكُّر الوجود والعدم والإعادة؛ وذلك لأن الوجود ليس إلَّا نفس هوية الشيء الوجودي. وكذا العدم ليس إلَّا بطلان الشيء، فكما لا يكون لشيء واحد إلَّا وجودٌ واحد، فلا يُتصوَّر وجودان لذاتٍ واحدة بعينها.»

وهنا قد يُقال: إذا كانت هذه المسألة بديهية فلماذا لم يقبلها بعضهم؟ الجواب: إن الذهن يأنس بالماهيَّات؛ ولذلك كانت القضايا في الفلسفة مسوقة على عكس الحمل؛ أي إن الذهن يضع الماهية موضوعًا ثم يحمل عليها المحمول، بينما في الواقع الموجود هو الموضوع والماهيَّة هي المحمول، فأُنسُ الذهن وإِلْفُه بالماهيَّات هو الذي سبَّب الالتباس في هذا الموضوع.

الأدلة على هذه المسألة؟

ذكر المصنف أربعة أدلة، وهي:

  • (١)

    لو جاز للمعدوم في زمان أن يُعاد في زمانٍ آخر، كما لو انعدم هذا الكتاب اليوم وأُريدَت إعادته غدًا مثلًا، يلزم من ذلك أن يتخلل العدَم بين الشي‏ء ونفسه، بين الكتاب وذاته، وتخلُّل العدم بين الشي‏ء ونفسه محال؛ لأنه حينئذٍ يكون موجودًا في زمانَين بينهما عدمٌ متخلل.

    فإن الشي‏ء الواحد سيكون له تقدُّم على نفسه، ولا يمكن أن يكون شي‏ء متقدمًا على نفسه، أما أن يتقدم جزء الشي‏ء على جزئه الآخر فهذا لا محذور منه.

    إذن فيلزم من إعادة المعدوم بعينه تخلُّل العدم بين وجود الشي‏ء ووجوده نفسه، فيكون الشيء متقدمًا على نفسه؛ أي إنه سيتقدَّم الشيء على نفسه بالزمان، وهو بحذاء تقدُّم الشيء على نفسه بالذات،٣ وهذا محال.
  • (٢)

    لو جازت إعادة المعدوم بعينه بعد عدمه، لجاز إيجاد ما يماثله من جميع الوجوه، ابتداءً واستئنافًا؛ أي إيجاد ما هو عينه، فعلى فرض إعادة هذا الكتاب بعينه، يجوز إيجاد كتاب يماثله من جميع الوجوه، يماثله ابتداءً، ويماثله استئنافًا فيكون هو هذا الكتاب، وهذا محال.

    وهذا يعتمد على قاعدةٍ عقلية وهي «مبدأ الانسجام والتماثل» وملخَّصها: أن حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد. ومن المعلوم أن الجواز في مصطلح الفلاسفة بمعنى الإمكان، وفي مصطلح الفقهاء بمعنى الإباحة في العبادات والصحة في المعاملات.

    فعندما نلاحظ قطعة حديد تتمدد بالحرارة، نقول القطعة المماثلة لها حكمها أيضًا؛ أي حكم هذه القطعة من الحديد نفسها.

    والحكم المنفي عن قطعة الحديد الأولى هو كذلك منفي عن الثانية؛ لأن حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد.

    وابتداء مثل الشي‏ء ومعاد الشي‏ء لا فرق بينهما بوجهٍ؛ لأن الشي‏ء المبتدأ والشي‏ء المعاد هما أمرٌ واحد، متماثلان من جميع الوجوه، فإذا جازت إعادة الشي‏ء بعينه بعد أن ينعدم جاز إيجاد ما يماثله ابتداءً أو استئنافًا، وهذا محال؛ لأنه يلزم من ذلك اجتماع المثلين في الوجود، وهو محال؛ لأن اجتماعهما يعني عدم التمييز بينهما، وهذا يقتضي وحدة الكثير من حيثُ هو كثير، وهو مُحال؛ فإن المثلَين من جميع الوجوه يعني العينَين.

    وبتعبيرٍ آخر، إن هذا الكتاب يجوز أن يُوجد ما يماثله بكل شي‏ء ابتداءً، فإذا جاز ذلك يصبح لدينا شخصان لهذا الكتاب، متطابقان في كل المشخصات، فيلزم ألَّا يكون بين الكتابين أي مائز أو فارق، فيكونان أمرًا واحدًا، ولكننا قد فرضنا أنهما اثنان (كثير) فيلزم من ذلك أن يكون الكثير واحدًا والواحد كثيرًا، وهذا محال.

  • (٣)

    إن إعادة المعدوم توجب كون المعاد هو المبتدأ، يعني إعادة هذا الكتاب بعد انعدامه، تعني أن إعادة الكتاب في اليوم الثاني هو عين الكتاب الأول، وهذا محال؛ لأنه يلزم من ذلك إما الانقلاب أو الخُلف.

    إن إعادة المعدوم بعينه يستلزم أن تكون إعادة هذا الكتاب الذي انعدم هو عين هذا الكتاب الذي بأيدينا ذاتًا، في جميع المشخصات والخصوصيات، فيكون المعاد عين الكتاب الأول، فيلزم من ذلك الانقلاب، أو يلزم من ذلك الخُلف؛ لأنه يلزم ألَّا يكون عودًا، ونحن فرضنا أن الكتاب (الذي سيكون) المعاد هو إعادة.

    وكما هو مستفادٌ من شرح المنظومة، أن المعاد إذا صار عين المبتدأ، ولم يكن هناك إلا موجودٌ واحد، فإن قلتم إن الموجود ذلك معاد، لزم انقلاب المبتدأ وصيرورته معادًا. وإن قلتم إنه مبتدأ، لزم الخُلف؛ إذ عليه لا تتحقَّق الإعادة المفروض تحقُّقها. وإن قلتم إنه معاد ومبتدأ، لزم اجتماع المتقابلَين.

  • (٤)

    لو جازت الإعادة وجاز أن يُعاد الكتاب المعدوم غدًا بنفس مشخصاته، فهذه الإعادة لهذا الكتاب، تُمكِن عدة مرات، بل إلى ما لا نهاية؛ لأنه إذا أمكن أن يُعاد مرة فيمكن أن يُعاد لما لا نهاية وذلك يعني عدم وجود فرق بين الكتاب المعاد والكتاب المبتدأ، وتعيُّن العدد من لوازم الشي‏ء المتشخص، والشي‏ء ما لم يتشخص لا يُوجد فإنه في الأنواع التي تقبل الكثرة في أفرادها، لا تخلو الأعراض ومنها العدد، إما أن تكون أسبابًا للشخص، كما ذهب إليه جمهور الفلاسفة، أو أنها تكون أمارات ولوازم للتشخص، كما ذهب إليه الفارابي، وتبعه ملا صدرا، والمصنِّف، وعلى أي حال فلا ينفك التشخُّص عنها.

    وتقرير هذا البرهان بشكلٍ آخر، أن الإعادة إما مستحيلة أو ممكنة، فإذا كانت ممكنة فإنها ممكنة ليس في المرة الأولى فقط بل هي ممكنة فيما لا نهاية من المرات؛ لأن الإعادة إذا كانت جائزة في المرة الأولى، فإنها جائزة أيضًا لما لا نهاية، فإذا كانت الإعادة ممكنة لما لا نهاية، إذن لا يمكن أن نعيِّن العدد، ولمَّا كان تعيين العدد من لوازم الشي‏ء المتشخص، والشي‏ء ما لم يتشخص لا يُوجد، فلا يمكن إعادة المعدوم. هذا هو تمام الكلام في قول الحكماء.

رأي جماعة من المتكلمين

أنهم قالوا: بإمكان إعادة المعدوم؛ حيث استدلوا بأنه لو كانت إعادة المعدوم ممتنعة فهذا لا يخلو من ثلاثة احتمالات، إما أن يكون هذا الامتناع ناشئًا من ماهية هذا الشي‏ء، فأساسًا لا تُوجد هذه الماهية الممتنعة، أو لأمرٍ لازم للماهية، فإذا لزم الماهيَّة أمرٌ ممتنع تمتنع الماهية، أو أن الامتناع لأمرٍ خارج عن الماهية، عارض ومفارق للماهية، فبعد أن يزول هذا الأمر يزول امتناع الماهية.

لكن هذا الكلام غير تام؛ لأن الامتناع لم ينشأ من الماهية؛ لأنها أمرٌ اعتباري، وإنما الامتناع ينشأ من وجود الشي‏ء المعدوم، أو لأمرٍ ملازم لوجوده. وهو أنه لا يمكن أن يكون لموجود وجودان؛ لأن معنى العينية هي الوحدة وعدم التمايُز بشيء، ولازم الإعادة الاثنينية، فإعادة الشيء بعينه تستلزم التناقض.

ومن الواضح أن الممتنعات كاجتماع النقيضَين ماهيتها مفروضة؛ لأن المُحالات الذاتية لا ماهية لها.

معنى المعاد

ما الذي دعا هؤلاء إلى القول بجواز الإعادة؟ إن الذي دعاهم هو زعمهم أن المعاد هو إعادة للمعدوم، والمعاد أمرٌ يقيني؛ لأنه نصَّت عليه الشرائع السماوية.

لكن الصحيح أن المعاد ليس إعادة المعدوم؛ لأن الموت ليس انعدامًا كما توهَّموا. الله تعالى يعبِّر عنه بالتوفِّي اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فالموت ليس إعادة للمعدوم؛ لأنه عبر عنه بالتوفِّي، والتوفِّي هو التحوُّل، تحوُّل الإنسان إلى نشأةٍ أخرى، والانتقال من عالمٍ إلى عالم، من النشأة الدنيوية إلى النشأة البرزخية ثم العالم الآخر يوم القيامة، فالتوفِّي ليس من مادة «فوت» بل هو من مادة «وفَّى» بمعنى استوفى أي حوَّله، كما لو فرضنا أن شخصًا وفَّى آخر يطلبه، بمعنى أعطاه الدين، والله تعالى يتوفاه بمعنى يأخذه من هذا العالم إلى عالمٍ آخر؛ ولهذا عبَّر المصنِّف عنه بقوله إن الموت نوع استكمال؛ أي انتقال من عالم إلى عالمٍ آخر، ومن نشأة إلى أخرى، وليس انعدامًا وزوالًا.

١  «الشفاء»، الإلهيات، ص٢٩٨.
٢  «تعليقة صدر المتألهين على الشفاء»، ص٢٩.
٣  «الأسفار الأربعة»، ج١، ص٣٥٦؛ «شرح المنظومة»، ص٤٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥