في أن مفهوم الوجود مشترك معنوي
نشير ابتداءً إلى بعض النقاط ذات الصلة بالموضوع، ثم ننتقل لما أفاده المصنِّف في الكتاب.
النقطة الأولى: المقصود بالمشترك اللفظي والمشترك المعنوي والفرق بينهما
إن المشترك اللفظي يعني أن لفظًا واحدًا يكون موضوعًا لعدة معانٍ، وكل معنًى يغاير المعنى الآخر، كلفظ العين؛ فهو لفظٌ واحدٌ موضوعٌ لمعانٍ عديدة، هي الباصرة، النابعة، الذهب والفضة، وغيره، فهذا اللفظ يُسمَّى بالمشترك اللفظي؛ لأن الاشتراك هنا باللفظ فقط، وأمَّا المعنى فمتغاير، وإذا تغايرت المعاني في المشترك اللفظي اختلفَت وتغايرَت المصاديق، كلفظ زيد، فإنه يُوضَع لأفرادٍ وأعلامٍ متعددة بعدَد الأفراد الموضوع لهم.
أما المشترك المعنوي، فهو أن هناك لفظًا واحدًا موضوعًا لمعنًى واحد ولكنه معنًى عام، كلِّي، وله مصاديقُ متعدِّدة، كلفظ الكتاب، فهو لفظ موضوع لمعنى الكتاب، فاللفظ واحد والمعنى واحد، والمعنى — معنى الكتاب — كُلِّي، عام، وهذا المعنى له مصاديقُ متعددة؛ لأن معنى الكتاب، ينطبق على الكتاب الصغير والكتاب الكبير، المطبوع والمخطوط، القديم والحديث، فالاشتراك هنا في المعنى، ولكن المصاديق مختلفة ومتغايرة؛ ولذلك نقول المشترك هنا معنوي، الحيوان لفظٌ واحد لكن مصاديقه متعدِّدة، كالإنسان، والطير، والفرس … إلخ.
وبذلك يتضح أن المشترك اللفظي هو اللفظ الواحد الموضوع لمعانٍ متعدِّدة، كلٌّ بوضع على حدة، بينما المشترك المعنوي لفظٌ واحد موضوع لمعنًى واحد، يقبل الانطباق على كثيرين، وإن كان ذلك المعنى الواحد جامعًا انتزاعيًّا من معانٍ مختلفةٍ متباينة.
والفرق بين المشترك اللفظي والمعنوي عند الحكيم وغيره هو أن المناط عند الحكيم تعدُّد المعنى ووحدته، أما المناط عند غيره كاللغوي فهو تعدُّد الوضع ووحدته.
والكلام في هذا الفصل في أن مفهوم الوجود مفهومٌ واحد، خلافًا لمن زعم أنها مفاهيمُ متعدِّدة، مع أن اللفظ والوضع واحد.
النقطة الثانية: متى ظهرت هذه المسألة؟
يُقال إن هذه المسألة مِمَّا ورثَتْه الفلسفة الإسلامية من الفلسفة اليونانية، وهنا نشير إلى قضية، وهي أن هناك زعمًا بأن الفلسفة الإسلامية لم تتوفَّر على إبداع، وأن مهمَّتها كانت كساعي البريد؛ أي إنها نقلَت التراث الفلسفي القديم لليونان إلى أوروبا الحديثة، وهذه دعوى غير دقيقة؛ لأن الذي توصَّل إليه المحققون أن ما ورثَتْه الفلسفة الإسلامية من الفلسفة اليونانية لا يتجاوز مائتَي مسألة، بينما بلغ مجموع المسائل في الفلسفة الإسلامية سبعمائة مسألة؛ فالفلسفة الإسلامية إذن أضافت وابتكرت على الأقل خمسمائة مسألة جديدة في الفلسفة، هذا أولًا.
وثانيًا: حتى ما ورثَتْه الفلسفة الإسلامية من مسائل؛ أي المائتَي مسألة القديمة لم تبقَ على صورتها الأصلية التي ورثَتْها من الفلسفة اليونانية وإنما أعادت إنتاجها؛ أي استوعبها الفلاسفة المسلمون وتمثَّلوها وأعادوا صياغتها بطريقةٍ جديدة؛ فلم تكن وظيفتهم وظيفة نقلٍ بدائية ساذجة.
أما تاريخ هذه المسألة، فإن هذه المسألة مِمَّا ورثَتْه الفلسفة الإسلامية من الفلسفة اليونانية؛ إذ ظهرَت أولًا على يد المتكلمين، فقد ظهر بينهم بحثٌ يرتبط في مسألة التشبيه والتنزيه في صفات الله تعالى، ومنهم من ذهب إلى التنزيه، فقال كل ما يصدُق على المخلوق لا يمكِن أن يصدُق على الخالق؛ ولهذا قالوا: إن معنى العالَم الذي يصدُق وينطبق على المخلوق معنًى معيَّن لا يمكن أن ينطبق على الخالق بنفس المعنى، وعلى هذا الأساس فمعنى الوجود في المخلوق يُغايِر معناه في الخالق.
وهناك اتجاهٌ آخر هو اتجاه التشبيه، وهذا الاتجاه ذهب إلى أن ما يصدُق على المخلوق يصدُق على الخالق؛ ولهذا قالوا إن معنى سميع في الخالق أنه يسمع بآلة للسمع، كما أن المخلوق يسمع بآلة للسمع هي الأذن، وكذلك بصير وغيره مما يصدُق على المخلوق فإنه يصدُق على الخالق، فنشأَت إثْر ذلك فكرة الاشتراك اللفظي؛ ففي اتجاه التنزيه يكون معنى «موجود» في قولنا «الله موجود» غير معناه في قولنا «الإنسان موجود». وسيأتينا أن القول بالاشتراك اللفظي غير صحيح وأن القول بالاشتراك المعنوي هو الصحيح.
وهنا ينبغي أن نشير إلى أن التراث الكلامي لمدرسة أهل البيت عليهم السلام عالج مسألة التنزيه والتشبيه؛ فعندما نرجع إلى نهج البلاغة مثلًا نجد الإمام عليًّا عليه السلام يتحدث عن صفات الله تعالى في أكثر من موضع، وكان بحثُه عميقًا ودقيقًا، وقد ذهب المتكلمون الشيعة إلى أن ما يصدُق على المخلوق نوعان:
- الأول: ما فيه شائبة النقص.
- الثاني: ما يحكي عن الكمال.
وأن ما فيه شائبة النقص، كالجهل، العجز، البخل، وغيره؛ كل النواقص تعود إلى العدم؛ فالجهل يعود إلى عدم العلم، والعجز يعود إلى عدم القدرة، البخل يعود إلى عدم الكرم.
والكمالات تعود إلى الوجود، فالعلم أمرٌ وجودي، وكذلك القدرة، والكرم، فكل الكمالات تعود إلى الوجود، وما نسلبه عنه تعالى من صفات، عندما ننزِّهه ونقول: سبحان الله، إنما ننزِّهه عمَّا فيه شائبة النقص، وما نصف به الخالق تعالى هو الكمال الذي يعود إلى شدة الوجود، فيمكن استخدام المعاني التي تعود إلى الكمال في ذات الحق تعالى، فنقول: هو عالم، هو خالق، هو قادر، هو كريم، وليس في ذلك تشبيه؛ ومن هنا يصح ما قيل: وفي كل شيء له آية؛ أي إن المخلوقات تكون آياتٍ للحق؛ لأنها مظهرٌ للحق.
فإذن هذا البحث نشأ من اختلافٍ ظهر بين المتكلمين المسلمين في القرن الثاني الهجري، وتطوَّر البحث في القرن الرابع الهجري، لدى المتكلمين المعروفين، وأشهرهم المتكلم أبو الحسن الأشعري الذي وضع القواعد والأسس العقلية لاتجاه المحدِّثين، ومن أبرز كتبه «مقالات الإسلاميين».
وقد افترق السنَّة إلى اتجاهين؛ اتجاه المحدِّثين، الذين اعتمدوا على ظواهر النصوص وتقيَّدوا بحَرْفيتها، وهو الاتجاه الظاهري، والاتجاه الآخر، هو الذي انتسب إلى الأشعري، ومَن انتسب إليه عُرِف بالأشاعِرة.
النقطة الثالثة: ما أهميَّة هذه المسألة
خاصة وأن البحث فيها هو بحث في مفهوم الوجود، كالمسألة الأولى في الفصل الأول، وكذلك المسألة الثالثة في الفصل الثالث؛ ففي جميعها يدور البحث حول مفهوم الوجود، بينما ذكرنا أن البحث الفلسفي يُعنى بحقيقة الوجود، أمَّا البحث في مفهوم الوجود، فهو بحثٌ استطرادي، وبمثابة التوطئة والتمهيد للمباحث الأخرى؛ فما هي قيمة هذا البحث إذا لم يكن مقصودًا لذاته؟
تظهر قيمة هذا البحث في جملة مسائلَ أساسية في الفلسفة، وخاصةً لدى مدرسة الحكمة المتعالية؛ حيث يتوقف إثبات تلك المسائل على أن الوجود مشتركٌ معنوي، كمسألة أصالة الوجود، وهذه المسألة هي المحور الأساسي الذي تتمحور حوله المسائل الأخرى في مدرسة الحكمة المتعالية. كما أن مسألة وحدة الوجود التشكيكية تقوم على أصالة الوجود؛ وبالتالي فهذه المسألة تقوم على القول بالاشتراك المعنوي للوجود؛ إذ لو لم يكن مفهوم الوجود واحدًا لما أمكن القول بوحدة الوجود التشكيكية؛ فهذه ثمرة لمسألة الاشتراك المعنوي للوجود.
كما أن هذا البحث تظهر فائدته في مسألة أن موضوع الفلسفة واحد وليس متعددًا؛ إذ لو لم نقُل بالاشتراك المعنوي للوجود، فإن موضوع الفلسفة لا يكون الوجود أو الموجود بما هو موجود، باعتبار أن معناه لا يكون واحدًا؛ لأن معنى الوجود أو الموجود سيتعدَّد بتعدُّد الموجودات، فيكون لكل مسألةٍ موضوعٌ خاص بها، ولا يُوجَد موضوعٌ كُلي جامع يكون محورًا جامعًا لمسائل الحكمة الإلهية.
الأقوال في هذه المسألة
في المسألة قولان أساسيان:
الأول: ما ذهب إليه الحكماء
وهو أن الوجود مشتركٌ معنوي مطلقًا بين الواجب والممكِن والممكِنات جميعًا، بمعنى أنه لو قلنا: الواجب موجود، الإنسان موجود، الكتاب موجود، فإن معنى موجود «المحمول» في القضية الأولى «الواجب موجود» نفس معناه في القضية الثانية «الإنسان موجود».
وهنا ننبِّه على أن كلا منا في المفهوم لا في المصداق، وإلَّا فمِمَّا لا إشكال فيه، أن حقيقة الواجب تعالى في الخارج تختلف عن حقيقة الممكِن؛ أي إن حقيقته وكنهَه ليس كمثلها شيء، وهي غير حقيقة مخلوقاته.
إن المفهوم من كلمة موجود، ومعنى هذه الكلمة هو الأمر (الثابت، الخارجي، الحقيقي) فمعنى موجود في هذه القضايا واحد؛ ولذلك فهو مشتركٌ معنوي، لكن مصاديقه متغايرة، كما أن الكتاب مشتركٌ معنوي ومصاديقه مختلفة.
الثاني: القول بالاشتراك اللفظي
وهذا القول فيه تفصيل؛ فمنهم من قال إن الوجود مشتركٌ لفظي بين الموجودات؛ أي إن الوجود له معانٍ بعدد الموجودات، وبذلك يكون الوجود أوسعَ مشترك؛ لأنَّه يتعدد معناه بتعدُّد الموجودات؛ فمعنى الموجود أو الوجود يكون بعدد الموجودات.
بيان ذلك، عندما نقول: القلم موجود، الكتاب موجود، السماء موجودة … إلخ، فمعنى موجود في كل قضية غير معناه في القضية الأخرى، وبذلك يكون معنى الوجود متعددًا بتعدُّد الموجودات، وأن معناه في الواجب غير معناه في الممكن، وبذلك يكون الوجود مشتركًا لفظيًّا، فهو لفظٌ واحد لكن معانيه متعدِّدة، كما أن العين لفظٌ واحد إلَّا أن معانيه متعدِّدة، كالنابعة، والباصرة، والذهب … إلخ.
ومنهم من قال: إن الوجود مشترك لفظي بين الواجب والممكن؛ أي للوجود معنيان فمعناه في الواجب غير معناه في الممكن، فهو أيضًا قول بالاشتراك اللفظي، لكن معناه في الممكنات واحد، وليس متعددًا مثلما يرى القول السابق بالاشتراك اللفظي.
بعد هذا التفصيل تكون الأقوال ثلاثة؛ فقول بالاشتراك المعنوي بين الواجب والممكنات. وقول بالاشتراك اللفظي بين الموجودات بأَسْرها. وقولٌ بالاشتراك اللفظي بين الواجب والممكن، أما في الممكِنات فيكون الاشتراك معنويًّا.
الدليل على قول الحكماء
القول الأول هو مختار الحكماء؛ إذ ذهبوا إلى أن الوجود مشتركٌ معنوي؛ أي يُحمل على الواجب والممكِن والممكِنات جميعًا بنفس المعنى، واستدل المصنِّف على ذلك بثلاثة أدلة، هي:
-
(١)
أن مفهوم الوجود يقع مقسمًا في تقسيمٍ حقيقي، وهذا ينسجم مع القول بالاشتراك المعنوي فيما لا ينسجم مع القول بالاشتراك اللفظي.
بيان ذلك، أنَّه لو أردنا أن نقسِّم «الكلمة» قسمةً حقيقية، فالكلمة تقع مقسمًا لكل من: الاسم والفعل والحرف، وهنا لو لاحظنا هذا المقسم «الكلمة» نجده موجودًا في جميع الأقسام حقيقة، الكلمة موجودة في الاسم؛ لأن الاسم مصداقٌ للكلمة، والكلمة موجودة في الحرف؛ لأن الحرف مصداقٌ الكلمة، وكذلك في الفعل؛ فالفعل أيضًا مصداقٌ للكلمة، ولكنْ هناك اختلافٌ في الخصوصيات؛ لأن خصوصيات الحرف وقيوده وأحواله غير خصوصيات الفعل والاسم وأحوالهما وقيودهما.
وهكذا الأمر في مفهوم الوجود؛ فإنه يمكن تقسيمه إلى الواجب والممكن، ومعناه في الواجب نفس معناه في الممكن؛ لأن الواجب موجود، والممكن موجود، والممكن يمكِن تقسيمه إلى: جوهر وعرَض، والجوهر يمكِن تقسيمُه إلى أقسامه الخمسة المعروفة: عقل ونفس وصورة وجسم ومادة، والعرَض يمكِن تقسيمه إلى أقسامه المعروفة أيضًا، كيف وكم ومتى … إلخ.
والتقسيم يعني ضم القيود إلى مورد القسمة؛ أي عندما نقول: الوجود واجب وممكن، فالواجب هو الوجود زائدًا خصوصيَّة معيَّنة، هي أنه مستغنٍ عن غيره، والممكن هو الوجود زائدًا خصوصيةً معينة، هي أنه مفتقر إلى غيره؛ فالمقسم موجود في كل هذه الأقسام، والقسم هو مجموع مورد القسمة مع القيد؛ أي الممكن يساوي الوجود زائدًا القيد (الممكن = الوجود + القيد) والقيد «هو أنه مفتقر إلى غيره».
فقَبول الوجود للقسمة الحقيقية، ووجود المقسم في جميع الأقسام يدُل على أن الوجود مشتركٌ معنوي؛ لأنه لو كان مشتركًا لفظيًّا لما صحَّت القسمة بهذه الكيفية.
-
(٢)
أنا ربما أثبَتْنا وجود شيء ثم تردَّدنا في خصوصيَّة ذلك الشيء؛ فلو أثبَتْنا أنه في هذا المكان — ولنفترضه بيتًا مغلقًا — يُوجَد حيوان، ولكن حصل لدينا تردُّد في هذا الحيوان، أهو إنسان أم ليس بإنسان؛ فلو نفينا كون هذا الحيوان ناطقًا، كأن سمعنا صوتًا يدُل على أن هذا الحيوان ليس بإنسان، فلو كان معنى الوجود في الإنسان غيره في الحيوان، لأمكننا نفي الإنسان هنا، وبنفيه ينتفي كل وجود؛ فالإنسان موجود، ومعنى موجود فيه غير معناه في قولنا «الفرس موجود»، فإذا نفينا الإنسان لا بد أن ينتفي معه الوجود؛ أي وجود الحيوان الآخر، بينما نحن نفَينا وجود الإنسان فقط، وما زلنا نؤمن بوجود حيوان، ولكنه ليس بإنسان؛ فعليه لو لم يكن للوجود معنًى واحد؛ أي لو كان الوجود مشتركًا لفظيًّا ومعناه متعدِّد بتعدُّد موضوعاته، لتغيَّر معناه بتغيُّر موضوعاته، فلم يمكِن بقاء العلم بالوجود مع الشك في موضوعاته، ولم يمكِن العلم بالوجود مع التردُّد في الموضوع.
-
(٣)
الوجود نقيض العدم، والعدم له معنًى واحد؛ فعدم الأرض وعدم السماء وعدم المطر، العدم في كل ذلك بمعنًى واحد؛ لأن العدم لا شيء، والتميُّز إنما هو بالوجود؛ إذْ لا فرق في الإعدام من حيثُ العدمُ، فإذا كان معنى العدم واحدًا، فلا بد أن يكون معنى الوجود الذي هو نقيض العدم واحدًا أيضًا. وإلَّا يلزم من ذلك ارتفاع النقيضَين؛ فإنه لو كان للوجود أكثر من معنًى؛ أي كان معنى الوجود في الإنسان غير معناه في الكتاب؛ فقولنا الإنسان موجود، يعني ارتفاع العدم لأنه نقيضُه، وفي قولنا الكتاب موجود، كذلك العدم مرتفع، ومعنَى موجود في الكتاب غير معنَى موجود في الإنسان، بناء على الاشتراك اللفظي لا المعنوي. إذن في قولنا الإنسان موجود، العدم مرتفع؛ لأنه نقيضه بالبداهة، كما أن الوجود مرتفع؛ أي معنى الوجود المقيَّد بالكتاب، فيرتفع بذلك عن شيءٍ واحد «الإنسان» الوجودُ والعدمُ وهذا محال؛ لأنه ارتفاع النقيضَين، إذ كلٌّ من مصاديق المفهومَين يُسلب عنه المفهوم الآخر كما يُسلب عنه العدم، والمفهوم الآخر والعدم نقيضان، فيلزم ارتفاع النقيضَين.
وبعبارة أخرى أنه لمَّا كان للوجود الذي هو نقيض العدم معنًى واحد، فلا بد أن يكون للعدم الذي هو نقيضه معنًى واحد؛ لأن نقيض الواحد واحد، وإلَّا ارتفع النقيضان.
فلو كان للوجود معنيان مثلًا، لصدق على مصداق كلٍّ من المفهومَين أنه ليس بعدم، وأنه ليس بوجود بالمعنى الآخر. والعدم والمفهوم الآخر نقيضان، فيرتفع النقيضان في كل مصداق من مصاديق كلٍّ من المفهوَمين.
هذه هي الأدلة الثلاثة التي ذكرها المصنِّف على قول الحكماء، في الاشتراك المعنوي للوجود.
وأما القول بالاشتراك اللفظي للوجود، وأن الوجود يتعدد معناه بتعدُّد الموجودات، فهو منسوب إلى أبي الحسن الأشعري، وإلى أبي الحسين البصري الذي هو أحد كبار رجال المعتزلة.
والقول الآخر في الاشتراك اللفظي، وأن الوجود مشتركٌ لفظي ومعناه في الواجب غيره في الممكن ذهب إليه القاضي سعيد القمي تبعًا لشيخه المولى رجب علي التبريزي، وينسبه إلى بعض المحدَثين أيضًا، وهو يعني أن معنى الوجود في الممكِنات كافَّة هو التحقُّق والثبوت، وفي الواجب هو سلب النقيض؛ أي ليس بمعدوم.
مناقشة القول بالاشتراك اللفظي
قد يُقال: ما هو السبب الذي أدَّى بهؤلاء إلى القول بالاشتراك اللفظي للوجود، سواء بين الواجب والممكن، أو بين الممكنات كافة؟ قالوا: حذرًا من لزوم السنخية بين الخالق والمخلوق؛ أي حتى لا نقول بالمشابهة بين الخالق والمخلوقات! لذلك قالوا بأن معنى الوجود في الخالق غير معناه في المخلوق.
والرد على ذلك:
-
أولًا: سيأتي في الفصل الرابع من مرحلة العلة والمعلول، أن الشرط
الأساسي في نظام العلِّية هو وجود السنخية بين العلة والمعلول، وأن
السنخية لا تتنافى مع الآية الكريمة ، فالسنخية إذن من
شرائط العلِّية والمعلولية.
أي إن السنخية بين العلة والمعلول واجبة، وإن الاختلاف إنما هو في الوجود العيني، لا في المفهوم؛ فهو من باب خلط المصداق بالمفهوم. وبتعبير آخر أن السنخية بين العلة والمعلول ضرورية، كما سيأتي في قاعدة الواحد، فما عدُّوه محذورًا ليس بمحذور، بل هو ضروري. هذا مضافًا إلى أن الاختلاف بين العلة والمعلول إنما هو في وجودهما الخارجي، لا في مفهوم الوجود، فمنشأ اشتباههم خلط المفهوم بالمصداق، كما صرَّح بذلك الحكيم السبزواري،٣ والمصنِّف في «نهاية الحكمة».
-
ثانيًا: أن الاشتراك اللفظي يلزم منه لوازم باطلة؛
إذ يلزم منه تعطيل العقول عن معرفته تعالى؛
لأنه إذا كان معنى الوجود في الواجب غير معناه
في الممكن، فذلك المعنى لا يخرج عن أحد
ثلاثة:
إما أن المفهوم من قولنا «الواجب موجود» نفس المفهوم من قولنا «الممكن موجود»، فهذا هو القول بالاشتراك المعنوي.
أو أن المفهوم من قولنا «الممكن موجود» نقيض «موجود» في قولنا «الواجب موجود»، ونقيض الوجود هو العدم، وهذا يعني نسبة العدم إليه وهذا يعني نفيًا لوجوده.
أو أنَّا لم نفهم من معنى قولنا «الواجب موجود» شيئًا، بينما معنى قولنا «الإنسان أو الممكن موجود»، أنه ثابت، واقعي، فيلزم من ذلك تعطيل العقل عن معرفته تعالى، بينما قال أمير المؤمنين عليه السلام «أول الدين معرفته، وكمال الدين التصديق به». ونحن نجد أنَّا نعرفه ونؤمن به تعالى؛ فالنفس تنزع نزوعًا فطريًّا للإيمان بالله تعالى، إلَّا إذا حصل ما يحجُب هذه الفطرة فقد تنحرف، والعياذ بالله.
وفي ختام هذا الفصل ننبه إلى مسألة ذكرناها قبل قليل، وهي أن القول بالاشتراك اللفظي عند هؤلاء نشأ من شبهة الخلط بين المفهوم والمصداق؛ فالمغايرة والاختلاف بين الواجب والممكن هي من حيثُ المصداقُ، مصداقُ الوجود؛ أي الوجود الخارجي، أما المفهوم — أي معنى موجود — فإنه في الواجب والممكن بمعنًى واحد، وهو الواقعي والحقيقي والثابت، وحكم المغايرة للمصداق بينما الاتحاد والاشتراك المعنوي للمفهوم.