في أن الوجود زائد على الماهية عارض لها
الكلام في هذا الفصل — كما في الفصل الأول والثاني — في معنى الوجود ومفهومه لا في حقيقة الوجود ومصداقه، فيكون مدلول العنوان هكذا «إن مفهوم الوجود زائدٌ على مفهوم الماهيَّة عارض لها» وعارض على الماهيَّة بمعنى محمول عليها؛ ولذلك قال السبزواري:
أي إن الوجود عارض الماهيَّة في التصور والمفهوم وإن كانا متحدَين في الخارج، فهما في الخارج أمرٌ واحد، لكنهما في الذهن متغايران. خلافًا لما يراه الأشعري الذي قال بعينيَّته لها ذهنًا، بمعنى أن المفهوم من أحدهما عينُ المفهوم من الآخر.
معنى الماهية
والمراد بالماهيَّة أنها تارةً تُطلَق ويُراد منها المعنى الأخص، وهي ما يُقال في جواب ما هو؟ فلو سُئلنا ما هو الإنسان؟ لقلنا: حيوانٌ ناطق. وهي مصدرٌ جعلي مأخوذ من ما هو؟ أي هي ما يناله العقل من الموجودات الممكِنة عند تصوُّره لها تصورًا تامًّا، أو هي قالبٌ ذهني للموجودات العينية الإمكانية، أو هي الحدُّ العقلي المنعكِس في العقل من الموجودات المحدودة.
والماهيَّة بالمعنى الأخص إنما تكون للماهيَّات القابلة للكُنْه والمعرفة الذهنية؛ أي التي لها حدود، والمحدود يمكِن أن ينعكس في الذهنِ عبْر حدوده، أمَّا ما لا حدود له فلا ماهيَّة له.
في هذا الضوء يمكن تقسيم المفاهيم في الذهن إلى قسمَين؛ مفاهيم ماهوية، كمفهوم الإنسان، ومفاهيم ليست ماهوية، كمفهوم العدم.
وهناك معنًى أعمُّ للماهيَّة، وهو ما به الشيء هو هو؛ أي ما يتحقَّق به الشيء، ويشمل هذا المعنى مطلَق الموجود، حتى الموجود غير المحدود، وما ليس له ماهيَّة بالمعنى الأول للماهيَّة؛ ولذلك عندما نقول: إن الواجب تعالى ماهيَّته إنِّيته، نعني بها المعنى الثاني للماهيَّة؛ أي المعنى الأعم، ما به يتحقَّق الشيء، وليس المأخوذ من ما هو؟ والمقصود بالبحث في هذا الفصل هو المفهوم الماهوي بالمعنى الأخص؛ أي ما يناله الذهن من الموجودات الممكِنة.
كل ممكنٍ زوجٌ تركيبي له ماهية ووجود
في هذا البحث يريد المصنف من «أن الوجود زائد على الماهيَّة عارضٌ لها» أن يبيِّن مسألة، وهي: أن العقل حينما يلاحظ أي موجودٍ ممكن، كالقلم، الكتاب، الأرض … إلخ، فإنه يرى كل ممكنٍ زوجًا تركيبيًّا له ماهيَّة ووجود؛ أي إن الذهن ينتزع من هذا الموجود الممكن مفهومًا مشتركًا، يشترك به هذا الموجود مع بقية الموجودات، وينتزع من هذا الممكن مفهومًا مختصًّا به دون غيره؛ ففي قولنا القلم موجود، الكتاب موجود، الإنسان موجود، ندرك أن هذه الأشياء كلها موجودة، فهناك ما هو مشترك بين هذه الأشياء؛ أي ما به الاشتراك، وهو الوجود، كما أن الذهن يدرك ما به الاختصاص؛ أي إن كل واحدة من هذه الممكنات (الكتاب، القلم، الإنسان)، تُغايِر الأخرى؛ فكل ممكنٍ ننتزع منه حيثيَّتَين، ينتزع الذهن حيثيةً يشترك بها مع غيره، وحيثيةً يختص بها.
إذن للقلم في الذهن حيثيتان، أو بُعدان؛ بُعدٌ يشترك به القلم مع الكتاب وكل الممكِنات الموجودة الأخرى، وهو الوجود، وبُعدٌ يختصُّ به القلم عن بقية الممكِنات الموجودة الأخرى، كالإنسان والكتاب والشجر، وهي الماهيَّة. والذهن يُميِّز بينهما، فيرى أن المفهوم من أحدهما غير المفهوم من الآخر، وعلى هذا الأساس نقول إن الوجود ليس عين الماهيَّة ولا جزء الماهيَّة في الذهن.
الدليل على زيادة الوجود على الماهية
أما الدليل على ذلك فقد ذكر المصنف عدة أدلة هي:
-
(١)
يصح سلب الوجود عن الماهيَّة؛ إذ يصح أن نقول: الإنسان قبل آدم ليس موجودًا. فهنا سلبنا الوجود عن ماهيَّة الإنسان، فالوجود يصح سلبه عن الماهيَّة، بينما لا يصح سلب الماهية عن نفسها، كقولنا «الإنسان ليس بإنسان».
فمبدأ الهوهوية يقول الإنسان هو هو، ولا يصح سلب الذات عن ذاتها، كما لا يمكِن سلب الوجود عن الماهيَّة لو كان جزء الذات؛ إذ لا يمكن سلب الذاتي عن الذات، فلا نستطيع القول: الإنسان ليس بحيوان، أو ليس بناطق، بينما يصح أن نقول: الإنسان ليس بموجود، إذ هو قبل آدم لم يكن موجودًا، أو الإنسان ليس موجودًا في هذه الدار أو في المريخ، فيمكِن سلب الوجود عن الماهيَّة، وعلى هذا الأساس نقول: لو كان الوجود نفس الماهيَّة، وذات الماهيَّة، لما صحَّ سلبه عن الماهيَّة؛ إذ لا نستطيع القول المثلث ليس بمثلث، ولو كان الوجود جزء الماهيَّة أيضًا لما أمكَن سلبه عنها، فلا يمكن أن نقول: المثلث ليس شكلًا، الإنسان ليس بحيوان؛ لأن سلب الشيء عن نفسه أو سلب جزء ذاته عنه معناه نفي الشيء، بينما لو كان الوجودُ عينَ الماهيَّة أو جُزءَها فلا يُمكِن سلبه عنها، وما دام يُمكِن سلبه عنها فهو ليس عينَ الماهيَّة ولا جُزءَها في الذهن.
-
(٢)
أن حمل الوجود على الماهيَّة يحتاج إلى دليل؛ ولذلك قال المحقق السبزواري: «ولافتقار حمله إلى الوسط»؛ أي افتقار حمل الوجود على الماهيَّة إلى الدليل.
بيان ذلك، في الذاتيات يكفي أن نحلِّل الذات إلى أجزائها لكي نحمل الذاتي على الذات، فعندما نريد أن نحمل الحيوان أو الناطق على الإنسان، لا نحتاج إلى برهان لحمل الحيوان أو الناطق على الإنسان، ولا نحتاج دليلًا عندما نحمل الحيوان على الإنسان، إنما نحتاج أن نحلِّل ماهيَّة الإنسان إلى أجزائها، حتى نحمل كل ما هو ذاتيٌّ لها على الذات، من دون حاجة إلى برهان؛ فحمل الذاتي على الذات لا يحتاج إلى برهان؛ ولذلك اشتُهر بينهم القول: «لا يُكتسب الحدُّ بالبرهان»، كما قرأنا في المنطق، ومعناه أن الحد لا يحتاج حمله على المحدود أو المعرِّف لا يحتاج حمله على المعرَّف إلى دليل، بل يكفي الحصول على أجزاء الذات من خلال تحليلها.
بينما نحتاج في حمل الوجود على الماهيَّة إلى دليل؛ أي عندما نتساءل: هل توجد حياة في المرِّيخ؟ حتى نبرهن على صحة هذه القضية وهي: الحياة موجودة، ونثبت وجود الحياة في المريخ، نحتاج إلى دليل، كي نحمل الوجود على الماهيَّة؛ ولذلك بُعثَت المركبات الفضائية من أجل اكتشاف هذا الكوكب؛ فلو كان الوجود ذاتيًّا، وكان نفس ذات الماهيَّة أو ذاتيًّا لها لما احتاج حمل الذات والذاتي على الذات إلى دليل، كقولنا المثلث شكل.
وقد عبر المصنف بقوله: «لأن ذات الشيء وذاتياته بيِّنة الثبوت له»، والمقصود بالذات هي تمام حقيقة الشيء وماهيته، وهي النوع، أما الذاتي فهو جُزْؤها من الجنس والفصل. وقد يُطلَق الذاتي على ما يعُم الذات، وذلك في مثل قول المناطقة: «الكلي إما ذاتي وإما عرَضي، والذاتي هو النوع والجنس والفصل.»
-
(٣)
الماهيَّة متساوية النسبة للوجود والعدم؛ فالماهيَّة من حيثُ هي ليست إلَّا هي لا موجودة ولا معدومة، ففي الماهيَّة لم يُؤخَذ الوجود ولا العدم؛ إذ لا نقول في ماهيَّة الإنسان مثلًا: «الإنسان حيوان ناطق موجود»، أو «الإنسان حيوان ناطق معدوم»، وإن كانت الماهيَّة في الواقع لا بد أن تكون متلبسة بالوجود أو العدم، لكن الماهيَّة من حيثُ هي متساوية النسبة للوجود والعدم؛ فلو كان الوجود عينها؛ أي كان الوجود عين ماهيَّة الإنسان، مثلًا، أو كان الوجود جزءًا لها؛ أي كان الوجود جزء ماهيَّة الإنسان، كما الحيوان جزء ماهيَّة الإنسان، أو كما الناطق، فمن المستحيل أن ننسبها للعدم الذي هو نقيض الوجود، فمن المحال أن نقول: إن الإنسان ليس بموجود هنا؛ لأنه يلزم من ذلك اجتماع النقيضَين؛ فعندما نقول الإنسان معدوم، معنى ذلك أن الإنسان الذي تستبطن ذاته الوجود معدوم، بعد أن افترضنا الوجود عين الماهيَّة، فإذا نسبنا له العدم، يلزم اجتماع الوجود والعدم فيه؛ أي يلزم من ذلك اجتماع النقيضَين وهو محال.
وعلى هذا فلا بد أن يكون مفهوم الوجود غير مفهوم الماهيَّة في الذهن.