في أصالة الوجود واعتبارية الماهية
نذكر أولًا مدخلًا لهذا الفصل يشتمل على فوائد، ونحاول الابتعاد قدْر الإمكان عن الاستطراد؛ فلا نريد إقحام الطالب في أكثر مما هو مقرَّر له في هذه المرحلة وفي هذا الكتاب.
وفيما يلي نذكر هذه الفوائد في عدة نقاط:
- الأولى: إشارة مختصرة لتأريخ المسألة.
- الثانية: مصادر إلهام القول في نظرية أصالة الوجود.
- الثالثة: أهمية القول بهذه المسألة.
- الرابعة: ما هو المقصود بأصالة الوجود؟
- الخامسة: تحرير محل النزاع.
ثم ننتقل بعد ذلك إلى بيان الأقوال في هذه المسألة.
وقبل الدخول في بيانٍ مختصرٍ لتأريخ هذه المسألة، نُذكِّر بما سبق من أن مباحث الوجود تنقسم إلى قسمَين؛ قسمٌ منها يتعلق بمفهوم الوجود، وهي الفصول الثلاثة الأولى المتقدمة، وقسمٌ منها ما يتعلق بحقيقة الوجود ومصداقه، وهي بقيَّة المباحث، كأصالة الوجود، ووحدة الوجود التشكيكية، وغير ذلك.
(١) مختصر تاريخ مسألة أصالة الوجود
لم تُطرح هذه المسألة في الفلسفة اليونانية، ولكن اشتُهر بين دارسي الفلسفة أن القول بأصالة الوجود منسوب إلى المشَّائين، والقول بأصالة الماهية منسوبٌ إلى الإشراقيين، والحال أن القول بأصالة الوجود لم يُصَغْ بشكلٍ نظري وبصورةٍ واضحة إلا في مدرسة الحكمة المتعالية، على يد صدر المتألهين الشيرازي؛ لأننا إذا راجعنا التراث الفلسفي اليوناني فلا نجد لهذه المسألة ذكرًا، كذلك عندما نراجع تراث الفارابي المتوفَّى سنة (٣٣٩ﻫ) لا نجد عنوانًا لهذه المسألة، كذلك لو رجعنا إلى تراث ابن سينا المتوفَّى سنة (٤٢٨ﻫ) لا نجد في تراثه عنوانًا لأصالة الوجود، كذلك لا نجد عنوانًا لها في تراث الخواجة نصير الدين الطوسي المتوفَّى سنة (٦٧٢ﻫ)، كما لا نجدها مُعَنونةً في تراث شيخ الإشراق السهروردي ولا في تراث غيره، وإنما أول ما طُرحَت هذه المسألة بهذا العنوان عند محمد باقر الميرداماد المتوفى سنة (١٠٤٠ﻫ) من مدرسة أصفهان الفلسفية، وهو أستاذ صدر المتألهين الشيرازي، والميرداماد كان يتبنَّى القول بأصالة الماهية، واقتفى أثره ابتداءً تلميذه صدر المتألهين، ثم بعد ذلك رفض صدر المتألهين القول بأصالة الماهية وأشاد أركانَ نظرية أصالة الوجود التي أضحَت محورًا أساسيًّا لإبداعاته الفلسفية، وإبداعات مدرسته، مدرسة الحكمة المتعالية.
نعم يُمكن أن نجد كلامًا يُفَسَّر بالقول بأصالة الوجود أو بأصالة الماهية في تراث المتقدمين، وقد نجد في تراث فيلسوفٍ واحد ما يقبل التفسير بأصالة الوجود وأصالة الماهية معًا.
(٢) مصادر إلهام القول بنظرية أصالة الوجود
المصدر الأول
تراث المتكلمين؛ فالمتكلمون يهتمُّون بنوعَين من البحوث، قسم يرتبط بالمسائل العقائدية، وهو البحث الأساسي عند المتكلمين، وقسم آخر يُمثِّل مقدمةً لمباحثهم، ويرتبط بالمسائل الفلسفية، وقد حصل تمازُجٌ واضح بين الفلسفة والكلام عند المتكلمين المتأخرين، وخصوصًا منذ الخواجة نصير الدين الطوسي المتوفَّى سنة (٦٧٢ﻫ) حتى الآن.
لقد طُرحَت مسألة زيادة الوجود على الماهية أولًا لدى المتكلمين، ثم دخلَت هذه المسألة إلى الفلسفة بسبب إشكالاتهم، وهذه المسألة كانت أحدَ المنابع التي سبَّبَت القول بأصالة الوجود.
المصدر الثاني
تراث العرفاء، فهم يهتمون ببحث مسألة الوحدة، وحدة الوجود، أو وحدة الشهود، أو وحدة الحقيقة.
فقد طُرِحَت وحدة الوجود وبُحِثَت وتمت صياغة أصولها النظرية بشكلٍ واضح في تراث «محيي الدين بن عربي»، ثم أضحت هذه المسألة محورًا لأفكار «جلال الدين الرومي» في كتابه الشهير «المثنوي»، وبعد ذلك من خلال تراث العرفاء عبَرت هذه المسألة إلى البحث الفلسفي عند صدر المتألهين؛ ولذا نجد جذورَ غيرِ واحدةٍ من المسائل الفلسفية في مدرسة الحكمة المتعالية في تراث ابن عربي، كما يقول بعض المحققين.
المصدر الثالث
البحث المعروف الذي سيأتي (واجب الوجود ماهيَّته إنِّيته).
(٣) ثمرة القول بأصالة الوجود
إذن هذه المسألة محورٌ أساسي في مدرسة الحكمة المتعالية؛ فيرى محمد تقي مصباح اليزدي: أن مسألة أصالة الوجود، مسألة جارَّة وأساسية، ولا ينبغي إطلاقًا أي تساهل في تناولها؛ لأن مسائل العِلِّية وعلاقة المعلول بالعلة ونتيجة ذلك ترتبط بأصالة الوجود، وعلى أساسِ ذلك تُحل كثيرٌ من المسائل المهمة، كنفي الجبر والتفويض، وإثبات التوحيد الأفعالي، وغير ذلك، كما أن مسألة الحركة الجوهرية تستند إلى أصالة الوجود؛ ولذلك نقول إن هذه المسألة — أصالة الوجود — أصبحَت محورًا في مدرسة الحكمة المتعالية.
(٤) المقصود بأصالة الوجود
لا بد أن نعرف مدلول ثلاثة مصطلحات، وهي: الوجود، الماهية، الأصالة والاعتبار.
-
أما الوجود: فيُطلق ويُراد به أحد ثلاثة معانٍ؛ إما
المعنى الحرفي الرابط بالقضايا الدالَّة عليه
كلمة «است» بالفارسية، أو
«Is»
بالإنجليزية، أو الهيئة التركيبية في الجملة
العربية؛ أي المعنى الحرفي، وهذا ليس هو
المقصود.
أو أن المقصود بالوجود في أصالة الوجود، مفهوم الوجود — الذي قرأناه في بداية هذه المرحلة وقلنا إنه بديهي التصور — وليس هذا هو المقصود.
أو أن المقصود نفس الحقيقة العينية الخارجية، التي تترتَّب عليها الآثار ويحكي عنها مفهوم الوجود، حكاية كل مفهومٍ عن مصداقه، وهذا هو المراد بالوجود في قولنا أصالة الوجود.
فالمراد بأصالة الوجود، هو أصالة الحقيقة العينية، وهي الخارجية التي تترتَّب عليها الآثار، وليس المراد بأصالة الوجود أصالة مفهوم الوجود، ولا المراد أصالة المعنى الحرفي للوجود.
-
أما معنى الماهيَّة: فقد أوضحناه في درسٍ سابق، وذكرنا أنها
تُستعمَل بمعنيَيْن:
- الأول: هو مصدرٌ جعْلي مأخوذ من «ما هو» وهو ما يناله العقل من الموجودات الممكِنة عند تصوُّرها تصوُّرًا تامًّا، أو هي قالبٌ كُلي ذهني للموجودات العينية، وهذه هي الماهية بالمعنى الأخص، وهي إنما تكون للموجودات القابلة للكُنه، أما غير القابلة لذلك، كالوجود فإنه لا ماهية له، فكُنْهُه في غاية الخفاء، كما يقول الملا هادي السبزواري. والعدم أيضًا لا حدود له.
- الثاني: هو المعنى الأعم للماهيَّة أي ما به
الشيء هو هو؛ أي ما يتحقَّق به الشيء،
وهذا النوع من الماهية يشمل الموجود
المحدود وغير المحدود.
والمقصود في هذا البحث هو المعنى الأول؛ أي الماهية بالمعنى الأخص.
-
أما معنى الأصالة والاعتبار: فإن الأصيل: هو الأمر الواقعي الحقيقي
الخارجي، الذي تترتَّب عليه الآثار الخارجية
أولًا وبالذات، والمراد من الأصالة هي الأصالة
في التحقُّق؛ أي كون الخارج مصداقًا له
بالأصالة، وبلا مجاز في الإسناد، وبعبارة
أخرى: هي كون الشيء ذا مصداقٍ عيني متحقِّق
بالذات، هو منشَأ الآثار، كما يُستفاد من
قوله: «إلى مستوى الوجود بحيث تترتَّب عليه
الآثار»، وقوله: «إلى مرحلة الأصالة فتترتَّب
عليها الآثار»؛ من هنا تساوي الأصالة العينية
ومنشَئية الآثار حقيقة بلا مجاز في
الإسناد.
وفي قبال الأصيل، الاعتباري؛ فالاعتبار يقابل الأصالة، وهو ما لا تترتب عليه الآثار الخارجية أولًا وبالذات.
واعتبارية الماهية بمعنى كون الماهية صرف اعتبارٍ من الذهن للحكاية عمَّا به يمتاز هذا الوجود عن ذلك، مع عدم كون ما به الامتياز في كل وجود إلَّا نفس الوجود وعينه، كما سيتضح في مبحث الوحدة التشكيكية للوجود.
والقائل بأصالة الماهية يرى: أن ما في الخارج من المصداق هو مصداقٌ للماهية بالذات، وأما مفهوم الوجود فليس إلا اعتبارًا ذهنيًّا للحكاية عن أصالة الماهية، التي هي ليست إلَّا عين الماهية.
(٥) تحرير محل النزاع في المسألة
محل النزاع هو: من الذي يملأ الواقع الخارجي، وتترتَّب عليه الآثار الخارجية، أهو الوجود أم الماهية؟
هذا هو منشأ النزاع في المسألة، فأما الذي يملأ الواقع الخارجي ويكون هو الحقيقة العينية فهو الوجود، عندها يكون هو الأصيل، هذا معنى أصالة الوجود، وإذا كانت هي الماهية فإن الأصالة للماهية.
ولكن ما الذي يذهب إليه العقل؟ الجواب: هناك أربعُ فرضيات، وهي:
-
(١)
يكون كلا الأمرَين (الوجود والماهية) اعتباريَّين؛ أي لا تُوجَد حقيقة تملأ الواقع الخارجي وتكون منشَأً لترتُّب الآثار الخارجية.
-
(٢)
كلاهما أصيل؛ أي كلاهما يملأ الواقع وتترتَّب عليه الآثار، فيصبح كل شيء حقيقته مزدوجة من ماهيَّة ووجود.
-
(٣)
الوجود أصيل والماهيَّة اعتبارية.
-
(٤)
الماهيَّة أصيلة والوجود اعتباري.
الفرض الأول يؤدي إلى القول بالسفسطة، وهي إنكار الواقع الخارجي، والفلسفة تبدأ حيثُ تنتهي السفسطة؛ فالفلسفة هي التيار العقلي الذي يُثبِت واقعية الأشياء، وهي التي نقضَت السفسطة، وإنكار الواقع هو رفضٌ صوري؛ لأن من ينكره يعترف به في مضمون إنكاره، فهو عندما يجوع يذهب ليأكل الطعام؛ لأنه أمرٌ واقعي، وعندما تأتيه سيارة يهرب منها؛ لأنها واقعية، أو تقرب منه عقرب فإنه يهرب؛ لأنها أمر واقعي، وإلا فالأمور الافتراضية الوهمية لا تُوجِب الهروب.
أما الفرض الثاني: وهو كون الوجود والماهية كليهما أصيلًا؛ أي كلٌّ منهما يملأ الواقع الخارجي وتترتَّب عليه الآثار الخارجية، فهو قولٌ غير صحيح؛ لأنه يلزم منه المُحال، على اعتبار أن كل شيء سوف يتعدد؛ فكل شيء يصبح شيئَين، كالقلم في يدك يصبح مزدوجًا، ونحن ندرك بالبداهة، أن القلم له في الخارج حقيقةٌ واحدة تترتَّب عليها الآثار.
ومن المعروف أن المفاهيم الماهوية لا يصدُق منها مفهومان على شيءٍ واحد. لكن المفاهيم غير الماهوية يمكن أن يصدق منها أكثر من مفهوم على شيءٍ واحد، وكذلك يمكن أن يصدُق على الشيء الواحد مفهومٌ ماهوي ومفهوم آخر غير ماهوي.
ويبقى الفرضان الثالث والرابع، فما هو الصحيح منهما؟
الذي ذهبَت إليه مدرسة الحكمة المتعالية هو القول الثالث؛ أي القول بأصالة الوجود واعتبارية الماهية؛ فالوجود هو الحقيقة في العالم العيني، وهو المنشَأ لترتُّب الآثار الخارجية، أما الماهية فهي أمرٌ اعتباريٌّ مُنتزَع من الوجود، فلا تترتَّب عليها الآثار الخارجية وإنما الآثار تترتَّب على منشَأ انتزاعها وهو الوجود؛ ولذلك يمكِن أن تُنسب لها كما سنوضِّح لاحقًا.
الأقوال في المسألة
القول بأصالة الوجود، وهو قول مدرسة الحكمة المتعالية، والقول بأصالة الماهية، وهو قولٌ منسوب إلى شيخ الإشراق السهروردي، وقولٌ ثالثٌ وهو المنسوب إلى المحقِّق الدواني، فقد قال بأصالة الوجود في الواجب وأصالة الماهية في الممكن.
القول بأصالة الوجود
قبل بيان الأدلة على أصالة الوجود، نشير إلى مسألة، وهي أن هذا البحث بالقياس لما سبقه من مباحث يتسلسل منطقيًّا بالكيفية التالية:
- أولًا: هذا القول يبتني على إنكار السفسطة والقول بالواقعية.
- ثانيًا: أن هذا القول يبتني على القول بأن مفهوم الوجود مشتركٌ معنوي.
- ثالثًا: أن مفهوم الوجود زائدٌ على الماهية مغايرٌ لها تصورًا.
- رابعًا: أن هذه الواقعية لا يمكن أن تكون مصداقًا حقيقيًّا للوجود والماهية معًا؛ إذ الواقعية إما للوجود أو للماهية، وسوف نثبت أنها للوجود لا للماهية؛ فإنه ليس في الخارج إلَّا أمرٌ واحد، إلَّا أنه يتعدد مفهومه؛ أي وإن اتحد الوجود والماهية مصداقًا، غير أن المفهوم من أحدهما غير المفهوم من الآخر. وكل واحدٍ من الوجود والماهية يصدُق على المصداق الخارجي العيني على نحو الحقيقة اللغوية، ولكن صدق أحدهما عليه لا يكون إلا على نحو المجاز العقلي. وهذا نظير جريان الميزاب وجريان الماء، فإن مصداقهما واحد، وهو الجريان العارض للماء حقيقة، والمنسوب إلى الميزاب بالعرَض. وهنا يُقال: الإنسان موجود، والوجود أيضًا موجود، غير أن الوجود يُنسب للوجود بالذات، والوجود يُنسب إلى الإنسان بالعرَض.
إذن ندخل في بيان القول الأول وهو القول بأصالة الوجود، وهو الذي ذهب إليه صدر الدين الشيرازي، وقرَّره في فلسفته المعروفة بالحكمة المتعالية، وقد ذكر على هذا القول مجموعةَ أدلة متناثرة في كتابه «الأسفار الأربعة»، وقد جمعها في كتابه «المشاعر» فأنهاها إلى ثمانية أدلة، وهي متفاوتة في قوَّتها، والملا هادي السبزواري في «المنظومة» ذكر ستة أدلة، فيما ذكر الطباطبائي في نهاية الحكمة دليلًا واحدًا، وهنا ذكر مجموعة أدلة.
الأدلة على أصالة الوجود
(١) البرهان الأول
الماهية من حيثُ هي لا موجودة ولا معدومة، الماهية بحد ذاتها لا تقتضي الوجود ولا العدم؛ لأن الوجود والعدم خارجان عن ذاتها، فهي متساوية النسبة إليهما؛ لأن الماهية تقبل الاتصاف بالعدم، كما تقبل الاتصاف بالوجود، وإن لم تكن متساوية النسبة، وكان الوجود مأخوذًا فيها، لما قبلَت الاتصاف بالعدم، للزوم اجتماع النقيضَين، ونظيره ما لو كان العدم مأخوذًا فيها؛ فعندما نريد تحليل ماهيةٍ ما، كماهية الإنسان، فلا نقول الإنسان: حيوان ناطق موجود؛ لأن الوجود خارج عن ذات الماهية. الماهية متساوية النسبة إلى الوجود والعدم، فالجوهر مثلًا مأخوذ في ماهية الإنسان؛ ولهذا فلا يمكن أن نقول إن الإنسان يمكِن أن يكون جوهرًا ويمكِن ألَّا يكون جوهرًا؛ لأن الجوهر مأخوذٌ في ماهية الإنسان، لكن يمكن القول بأن الإنسان يمكِن أن يكون موجودًا ويمكن ألَّا يكون موجودًا؛ لأن الوجود لم يُؤخَذ في ماهيَّة الإنسان.
وهنا ينبغي أن نشير إلى أن للحمل صورتَين:
- الأولى: الحمل التحليلي أو الذاتي، وفي هذه الصورة نستخرج المحمول من ذات الموضوع؛ أي حمل الذاتي على الذات؛ ولذلك نقول: الإنسان جوهرٌ جسمٌ حيوانٌ ناطقٌ، فهنا نحمل الذاتي على الذات، كل هذه المحمولات ذاتيات بالنسبة للإنسان، وفي هذه الحالة نستخرج المحمول من ذات الموضوع، وهنا يستحيل حمل نقيض المحمول على الموضوع، فعندما نقول: الإنسان جوهر، لا يمكن القول: الإنسان ليس بجوهر.
- الثانية: الحمل التركيبي، وهو حمل شيء من خارج ذات الموضوع على الموضوع، مثل: الإنسان أبيض، الإنسان طويل، الإنسان قصير، ففي هذه الحالة لا يستحيل حمل نقيض المحمول على الموضوع، إذ نستطيع القول الإنسان أبيض والإنسان ليس بأبيض، ففي هذا الحمل لا يكون المحمول مستخرجًا من ذات الموضوع؛ أي ليس من حمل الذاتي على الذات.
وهنا نسأل: هل حمل الوجود والعدم على ماهيةٍ ما، كماهية الإنسان، من الحمل التحليلي أم التركيبي؟
الجواب: إن الوجود والعدم معنَيان تركيبيان؛ أي ليسا داخلين في معنى الماهية، وإنما يحملان على الماهية من باب حمل شيء من خارج ذات الموضوع على الموضوع؛ ولذلك لا يستحيل حمل نقيض أحدهما على الماهية، فيمكن أن نقول: الماهية موجودة، الإنسان موجود، ونقول الماهية معدومة، الإنسان معدوم.
الحمل في القضية الأولى حمل الوجود على الماهية وفي الثانية حمل نقيضه وهو العدم، وهذا الحمل تركيبي؛ ولذلك فالوجود والعدم غير مأخوذَين في مفهوم الماهية، وهذا معنى القول: «الماهية من حيثُ هي ليست إلا هي، لا موجودة ولا معدومة» وإن كانت الماهية في الواقع ونفس الأمر إما موجودة أو معدومة، كالإنسان.
والآن نقول مَن الذي أخرج ماهية الإنسان من حالة الحياد بين الوجود والعدم وجعلها متلبِّسة بالوجود؟
الجواب: إن الذي أخرجها هو الوجود، وهذا معنى أصالة الوجود.
هذا ملخَّص الكلام في الدليل الأول، وربما يقول قائل إن الذي يُخرِجها غير الوجود، أو هي التي تخرج بذاتها، لكن يكون ذلك منها انقلابًا؛ أي انقلابًا للماهية الممكنة إلى الواجب، فإنها إذا كانت موجودة بنفسها كانت واجبة.
إذن لكي تخرج الماهية من حالة الاستواء إلى حالة الوجود لا بد من مُخرِجٍ لها، وهذا المُخرِج لا يمكِن أن يكون هو الماهية لأنها متساوية النسبة للوجود والعدم، فلا بد أن يكون هذا المخرج هو الوجود، ومن هنا تكون الآثار الخارجية ناشئة عن الوجود، والمتحقق في الخارج هو الوجود.
قد يُقال: إن المُخرِج للماهية من حد الاستواء ليس الوجود، وإنما بنسبةٍ مكتسبةٍ من الجاعل تخرج من حد الاستواء إلى مرحلة الأصالة فتترتَّب عليها الآثار.
الجواب: إن هذا الكلام غير تام، لماذا؟ لأننا نسأل عن هذه الحيثية المكتسبة، وهي أن الماهية عندما انتسبَت إلى الجاعل فقد تحقَّقَت، وعندها تترتَّب عليها الآثار؛ أي حيثية تكون متلبسة بالوجود والأصالة، اكتسبَتْها من الجاعل، فنقول: أهذه الحيثية المكتسبة، حقيقيةٌ متأصلة في الأعيان خاصة، أم هي أمرٌ اعتباري؟ فإذا كانت أمرًا خارجيًّا حقيقيًّا عينيًّا أصيلًا، فهذا هو ما نعنيه بأصالة الوجود. وإن كانت هذه الحيثية المكتسبة لم تغيِّر من حال الماهية؛ أي الماهية قبل وبعد الانتساب للجاعل مستوية النسبة للوجود والعدم، فحينئذٍ يلزم من ذلك الانقلاب، وهو مُحال.
بمعنى أن الأمر الاعتباري ينقلب إلى أصيل، الأمر المعدوم يغدو موجودًا بلا سبب فيلزم التناقض، والتناقض مُحال.
وبعبارةٍ موجزة: إن أعطاها الجاعل شيئًا فهو الوجود، وإن لم يُعطِها شيئًا ومع ذلك حمل عليها أنها موجودة كان انقلابًا.
(٢) البرهان الثاني: وله مقدمات هي
-
(أ)
أن الماهيَّات مثار الكثرة والمغايرة، فكل ماهية مغايرة للماهيَّات الأخرى، وهذه المغايرة تستند لذات الماهية؛ ولهذا يُقال الماهيَّات منشأ الاختلاف والكثرة.
-
(ب)
أن الحمل هو الاتحاد في جهةٍ ما، والاختلاف في جهةٍ أخرى.
ولهذا ذكروا للحمل شرطَين:
- الأول: وجود المغايرة بين الموضوع والمحمول، وإلا فلا فائدة في الحمل؛ لأنه حمل الشيء على نفسه.
- الثاني: أن يكون هناك اتحادٌ بينهما من جهةٍ ما، وإلَّا فالمتباينان من كل جهة لا يصح حمل أحدهما على الآخر، مثل: الإنسان حجرٌ، فهذه قضيةٌ كاذبة، إذن نحتاج مناطَ وحدةٍ واتحادٍ بين الأمرَين.
-
(جـ)
أن تحقُّق ووجود الحمل أمرٌ بديهي، كقولنا: الإنسان ضاحك، والإنسان ناطق.
فالحاصل من هذه المقدمات الثلاث، من الأولى: أن الماهيَّات مثار الكثرة والاختلاف، ومن الثانية، أن للحمل شرطَين هما الاتحاد من جهة والاختلاف من جهة أخرى، والثالثة: أنه لا يمكن إنكار أن هناك حملًا فهو أمرٌ بديهي.
وعلى هذا الأساس نقول إن جهة التغاير في كل حمل تعود إلى الماهيَّات، وهنا يجب أن نبحث عن جهة الاتحاد بين الماهيَّات في الحمل، وليس هناك سوى الوجود؛ لأنه لو كانت الماهية هي مناط الاتحاد في الحمل، لما تحقق حملٌ أصلًا في القضايا؛ لأن الماهيَّات — كما قلنا — هي مثار الكثرة والمغايرة، فلا يمكن أن يكون منشأ الاختلاف هو نفسه منشأ للاتحاد، وإنما منشأ الاتحاد لا بد أن يكون شيئًا آخر، وهو الوجود؛ فالاتحاد بين الموضوع والمحمول في القضية الحملية إنما يتحقَّق بالوجود؛ فهو جهة الوحدة بين الماهيتَين المختلفتَين، وهذا الكلام إنما يتم على القول بأصالة الوجود، وأنه المنشأ لترتُّب الآثار، أما لو كان الوجود اعتباريًّا، فيتحقَّق الركن الأول فقط في الحمل دون تحقُّق الركن الثاني.
على أنه لو فُرض المُحال وصح الحمل بين الماهيَّات المختلفة بناء على أصالة الماهية، لم يكن فرقٌ بين الماهيَّات في حمل كلٍّ منها على الأخرى، مع أنَّا نرى صحة حمل الضاحك على الإنسان وعدم صحة حمل الحجَر عليه.
(٣) البرهان الثالث: ويتم بيانه من خلال مقدمتَين، وهما
-
(أ)
أن إدراكنا للأشياء إنما يتم من خلال الماهيَّات؛ أي إن الماهيَّات هي الرابطة بين الذهن والخارج، فالرابطة بين الذهن والكتاب الخارجي مثلًا هي رابطةٌ ماهوية لا وجودية.
-
(ب)
أن ماهية المعلوم بالذات؛ أي صورته في الذهن، هي عين ماهيته بالذات.
فماهية الإنسان في الذهن نفسها في الخارج، لكن الإنسان في الذهن لا تترتَّب عليه الآثار المترتبة على ماهيته في الخارج، وهنا نقول لو كانت الماهيَّة أصيلة؛ أي إنها هي المنشأ لترتُّب الآثار الخارجية، والوجود أمرًا اعتباريًّا، وأدركنا ماهيَّةً ما، كالنار مثلًا، للزم أن تأتي آثارُها، كالإحراق والحرارة للذهن.
ولكن ذلك باطل جزمًا؛ إذ لا تترتَّب الآثار على صورة الماهية، فإنَّ ماهية النار في الذهن ومع ذلك لا يترتب عليها آثار النار وهي الإحراق، إذن فالمنشأ لترتُّب الآثار هو الأصيل، وهو الوجود.
(٤) البرهان الرابع: وله مقدمتان، وهما
-
(أ)
أن الموجودات في الواقع الخارجي مختلفة من حيثُ التقدمُ والتأخرُ، والشدةُ والضعفُ، والقوةُ والفعلُ، فالعلة متقدمة على المعلول، ووجود العلة أشد من وجود المعلول … إلخ.
-
(ب)
أن الماهية بالمعنى الأخص متساوية النسبة؛ أي لا يختلف حال الماهية بالنسبة للقديم والحديث والشديد والضعيف … إلخ؛ لأن الماهية لا يقع فيها التشكيك.
فالماهية متساوية الحال بالنسبة لجميع الأمور، فلا يختلف حال الماهية بالنسبة للإنسان المتقدم والمتأخر، فالجنين والكبير، والحي والميت، تنطبق عليهم جميعًا ماهية الإنسان.
ولذلك قالوا: لا تشكيك في الماهية؛ فلو كانت الماهية هي الأصيلة لما وقع في الخارج تقدُّم وتأخر، أو شدَّة وضعف؛ لأن الماهية متساوية النسبة للجميع حسب المقدمة الثانية، وفي المقدمة الأولى أثبَتْنا وجود التفاوت في الموجودات من حيثُ التقدم والتأخر و… إلخ.
إذن الماهية ليست أصيلة، وإنما تثبت الأصالة لأمرٍ آخر هو الوجود، ويكون التفاوت — التشكيك — للوجود لا للماهية.
القول بأصالة الماهية
القول الثاني وهو أصالة الماهية، وهو منسوب إلى شيخ الإشراق السهروردي، وأشهر كتاب له هو «حكمة الإشراق» وفيه عنوان: «حكومة الماهية على الوجود»، وقد ذكر برهانًا نتيجتُه أن الماهية أصيلة والوجود اعتباري، ويقوم هذا البرهان على ما يلي:
عندما نقول (الكتاب موجود)، نجد المحمول — موجود — اسم مفعول، وهو مشتق من المشتقات؛ أي إنه يشتمل على ذات ومبدأ للاشتقاق، بمعنى ذات ثبت لها الوجود كقولنا: عالم، شيء ثبت له العلم؛ أي ذات ومبدأ للاشتقاق.
كذلك هنا، موجود ينحلُّ إلى شيءٍ ثبت له الوجود، فننقل الكلام للوجود، ونسأل أهو موجود أم معدوم؟ فإن كان موجودًا، فهذا معناه، أنه شيءٌ ثبت له الوجود، ثم ننقل الكلام للوجود الثالث، وهكذا ننقل الكلام حتى يتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية، والتسلسل في الوجودات المحمولة مُحال، فلا بد أن يكون الوجود اعتباريًّا والماهية أصيلة.
وهذا الكلام يبتني على قاعدة قرَّرها شيخ الإشراق ومفادُها: «كل شيء لزم من تحقُّقه تكرُّره لا إلى نهاية فهو اعتباري»، وهنا الوجود شيء، ويلزم من تحقُّقه في الخارج تكرُّره، فحينئذٍ يكون اعتباريًّا، وصدر الدين الشيرازي في كتابه «الأسفار» قال: نقبل هذه القاعدة، ولكن لا نقبل النتيجة التي ذكرها السهروردي؛ أي إن تطبيق القاعدة غير صحيح.
والجواب على كلام السهروردي سهل، والمسألة تعود أساسًا إلى بحث المشتق؛ ففي ضوء معرفة بحث المشتق تنحلُّ هذه المسألة.
إن قولنا «موجود» الموجود ليس ذاتًا ثبت لها الوجود، وإنما الموجود هو عين الوجود وعين الواقعية؛ أي إن الوجود الخارجي موجود بنفس ذاته، وأما العروض والحمل فإنما هو في الذهن للحكاية، الإخبار.
إن هذا الإشكال ينشأ من تفسير المشتق بأنه ذاتٌ ثبت لها المبدأ، ولكن الصحيح أن المشتق يستعمل في موردَين:
تارةً نستعمله في ذات ثبت لها المبدأ، كما نقول: «زيد عالم»، فعالم ذات ثبت لها العلم؛ لأن العلم شيء وزيدًا شيء آخر، ومرة أخرى قد نستعمل المشتق في موارد يكون المحمول عين الموضوع كما نقول: البياض أبيض، والنور مضيء، فالبياض هو عين الأبيض، وكذلك النور هو نفس الضوء.
وهكذا في الوجود موجود؛ فالمشتق هنا بنفس معنى مبدأ الاشتقاق، الوجود وموجود بمعنًى واحد.
وقد ذهب صاحب الكفاية إلى أن الوجود دائمًا بنفس معنى مبدأ الاشتقاق، وقال بأن الفرق بينهما اعتباري؛ لأن الفرق بين عالم وعلم، ليس في المعنى، المعنى واحد.
القول بأصالة الوجود في الواجب وأصالة الماهية في الممكن
هناك قولٌ ثالث بالتفصيل؛ أي أصالة الوجود في الواجب وأصالة الماهية في الممكن، وهذا القول منسوب إلى المحقق جلال الدين الدواني، وهو أحد الفلاسفة الذين عاشوا في القرن التاسع الهجري، وهذا الفيلسوف نشط في مدرسة شيراز الفلسفية، التي ظهرت قبل ظهور مدرسة الفلسفة في أصفهان. وهو يرى أصالة الوجود في الواجب؛ أي ليس هناك موجود غير الواجب تعالى، فما يتصف بالوجود حقيقةً هو «الواجب تعالى» واتصاف غيره بالوجود بمعنى انتسابه للوجود، بمعنى أنه منتسبٌ للوجود الذي هو الواجب.
فعندما نقول «الماهيَّات موجودة» أي منتسبة للوجود، والانتساب يعني وجود رابطة بين الشيء والمبدأ، بينما يعني الاتصاف، الاتحاد بين الشيء — الذات — والمبدأ.
فعندما نقول «زيد قائم» يعني متصفٌ بالقيام؛ أي هناك اتحاد بين الذات (زيد) و المبدأ (القيام). وعندما نقول «بغدادي، تامر»، فهناك شخص منسوب إلى بغداد، أو إلى التمر وهو بائع التمر.
وهذا يعني عدم وجود اتحاد بين الذات والمبدأ؛ أي بين زيد وبغداد، ولا بين زيد والتمر، وإنما هناك ارتباط ونسبة بين بغداد وزيد، بين المبدأ والذات، بينما عندما نقول «عالم» فهناك اتحاد بين زيد وبين العلم، فالانتساب يعني عدم الاتحاد، والاتصاف يعني الاتحاد، والانتساب كما في انتساب شخص إلى مدينةٍ أو إلى مهنةٍ ما، كالتمر نقول تامر، يعني أنه يبيع التمر، ولا يوجد اتحاد بينه وبين التمر.
وعلى هذا الأساس يرى الدواني: أن معنى الإنسان موجود، يعني أنه منتسبٌ إلى الوجود ومرتبط به؛ أي تُوجَد علاقة وارتباط بين الوجود وزيد ولا يُوجَد بينهما اتحاد؛ فالماهية قبل الانتساب اعتبارية، ولكنها تُوجَد وتتحقَّق بالانتساب إلى الجاعل.
والجواب على ذلك: إنْ حصل للماهيَّة ثبوت وتحقُّق بعد الانتساب للوجود الذي هو الواجب تعالى، فهذا هو معنى القول بأصالة الوجود، وإن ظلت الماهية على حالها بعد الانتساب للجاعل الواجب، فيلزم من ذلك الانقلاب، وهو مُحال.
ومعنى الانقلاب أن الماهية كانت قبل الانتساب أمرًا اعتباريًّا، وبعد الانتساب — مع أنه لم يطرأ عليها أي تغيُّر في ذاتها — فإنها تكون أصيلة، وهذا يعني أنها في ذاتها تكون اعتبارية وأصيلة، والاعتباري مقابل الأصيل، وهذا معنى الانقلاب، وهو مُحال.