الفصل السادس

فيما يتخصص به الوجود

قال المحقق الآملي:١ «اعلم أن الموجودات متمايزة بحسب الخارج، وأما الوجودات فهي متمايزة في السلسلة الطولية بالتقدُّم والتأخُّر، والغنى والفقر، والوجوب والإمكان، والكمال والنقص، والشدة والضعف. وأما في السلسلة العرضية، فباعتبار ما معه من اللواحق والأعراض، وذلك عند من يقول بتحقُّق الوجود، كما أن من يقول باعتباريته يقول بتميُّزه، باعتبار إضافته إلى الماهيَّات.»

ويرجع هذا البحث إلى حقيقة الوجود لا إلى مفهومه. ويدور هذا البحث حول ما يتعيَّن ويتشخَّص به الوجود، ومن المعلوم أن التشخُّص والتعيُّن إنما يكون بالوجود ذاته، وبمراتبه غير الخارجة عنه؛ فالتخصص بها هو تخصُّص بالوجود، أما التخصص بالماهيَّات فليس هو إلَّا تخصصًا اعتباريًّا محضًا، لاعتبارية الماهية وكونها لا حقيقة لها.

الوجود يتخصَّص بثلاثة وجوه

  • الأول: بحقيقته العينية البسيطة؛ لأن الوجود أمرٌ حقيقي خارجي عيني واقعي، ما يملأ هذا الواقع ويكون منشَأً لترتُّب الآثار، وهو حقيقةٌ بسيطة، وليست مركَّبة، وهذه الحقيقة البسيطة متشخِّصة بنفسها، ومتعيِّنة بنفس موجودية الوجود.
  • الثاني: بخصوصيات المراتب؛ أي إن الوجود يتكثَّر تبعًا لمراتبه الطولية المختلفة — وقد بيَّنَّاه في آخر الفصل السابق — كما أنه يتكثَّر عرضيًّا تبعًا للقوابل وهي الماهيَّات، فيتكثَّر طوليًّا تبعًا لمراتبه المختلفة، من الشدة والضعف، والتقدم والتأخر … إلخ؛ ففي كل مرتبة خصوصيات، فمرتبة الوجود بالقوة فيها خصوصيات غير خصوصيات مرتبة الوجود بالفعل.
  • الثالث: التكثُّر العرضي، فالوجود يتخصَّص تبعًا للأوعية والقوالب؛ أي الماهيَّات، ولكن هذا الاختلاف والتكثُّر للموجودات ليس تكثرًا بالذات؛ لأن الماهية أمرٌ اعتباري، ولما كان هذا الأمر الاعتباري متحدًا مع الوجود فالعقل ينسب حكم أحد المتحدَين إلى الآخر، فنقول هذه الوجودات متغايرة، والتغاير ليس بذات الوجود بل هو تغاير بالعرض؛ أي يتغاير الوجود تبعًا لتغاير الماهيَّات، كما نقول: زيد تحرك بسيَّارته إلى بغداد، والواقع أنه لم يتحرك؛ لأن الذي تحرَّك واقعًا هو السيارة، ولكن الحركة تُنسب له لمكان الاتحاد بينهما؛ أي ننسب حكم أحد المتحدَين إلى الآخر، ومن هنا يتخصَّص الوجود بإضافته إلى الماهيَّات المتنوعة، فتتعدَّد الوجودات تبعًا لتعدُّد الماهيَّات.

وهنا قد يُقال: كيف يكون عروض الوجود للماهية؟ أإن ثبوت الوجود للماهية من قبيل ثبوت القيام لزيد، فثبوت القيام لزيد يتوقف على وجود زيد أولًا، ثم بعد ذلك يثبت له القيام؛ لأنه لا بد أن يكون الموضوع ثابتًا ثم يثبت له المحمول، أم أن عروض الموجود للماهية بنحوٍ آخر؟ فيُقال: إن عروض الوجود للماهية ليس من قبيل عروض القيام لزيد؛ أي ليس من قبيل العروض المقولي، وهو عروض مقولة على مقولة، وبكلمةٍ بديلة حمل مقولة على مقولة، من قبيل حمل البياض على الورقة، فالبياض مندرج تحت مقولة الكيف والورقة مندرجة تحت مقولة الجوهر، فحين نقول: الورقة بيضاء، فإننا حملنا الكيف على الجوهر، وإنما عروض الوجود للماهية ليس عروضًا وحملًا مقوليًّا بل هو عروض وحمل بنحوٍ آخر؛ لأن حقيقة ثبوت الوجود للماهية هو أن الماهية ثابتة بالوجود، وهذا هو معنى كون الوجود هو الأصيل والماهية اعتبارية.

فإذا قلنا: الإنسان موجود؛ أي أصبح الموجود محمولًا والماهية موضوعًا، فمن المعلوم أنه لا بد أن يكون الموضوع ثابتًا أولًا، حتى يتحقَّق ويثبت له المحمول.

وإنما نقوم بذلك لأن الذهن يأنس بالماهيَّات؛ ولذلك يفترضها هي الموضوع، وإنما يأنس الذهن بالماهيَّات لأنها هي الرابطة للاتصال بالعالم الخارجي، وهي التي يتصورها الذهن، وأما الوجود فلا يحضر عند النفس إلَّا بالعلم الحضوري، وقلما يحصل؛ ولذلك بسبب أنس الذهن بالماهيَّات يعتبرها هي الموضوع، والوجود هو المحمول؛ ولذا قيل بأن حمل الوجود على الماهية هو من عكس حمل.

إذن اتضح أن حمل الوجود على الماهية هو في الواقع حمل للماهية على الوجود.

إشكال مبتنٍ على قاعدة الفرعية

وقع بعضهم في إشكال وملخَّصه: يُقال في قاعدة الفرعية «إن ثبوت شي‏ء لشي‏ء فرع ثبوت المثبَت له»؛ أي إن ثبوت القيام لزيد، أو ثبوت المحمول للموضوع، أو ثبوت الوجود للماهية، عندما نقول: الإنسان موجود، هو فرع ثبوت المثبَت له؛ أي فرع ثبوت الموضوع.

فالإشكال يقول: لا بد أن تكون الماهية ثابتة — موجودة — حتى يثبت لها الوجود، لأنه لو لم تكن الماهية ثابتة قبل ثبوت الوجود للزِم من ذلك تقدُّم الشي‏ء على نفسه، وهو محال.

وإن قلنا بأن ثبوت الوجود للإنسان في قولنا: «الإنسان موجود» ليس بهذا الوجود وإنما بغيره، فنقول أيضًا هذا الوجود يتوقف بثبوته وتحقُّقه على ثبوتٍ آخر للماهية، ويؤدي ذلك إلى التسلسل، وهو مُحال.

وبعبارةٍ أخرى إن هذا الثبوت والتحقُّق للماهية قبل عروض الوجود عليها، إما بنفس الوجود المحمول على الماهية أو بغير الوجود المحمول على الماهية؛ فإنه لا يخلو من أحد فرضَين:

فإن كان هو نفس الوجود المحمول على الماهية، فيلزم من ذلك كون هذا الوجود المحمول المتأخر متقدمًا، ويلزم كون المتقدم — وهو الوجود — الثابتة فيه الماهية متأخرًا، وهو محال، للزوم الدور، والدور مُحال.

وإن كان هذا الثبوت للماهية (قبل عروض الوجود عليها) ليس بنفس الوجود المحمول عليها وإنما بوجودٍ آخر للماهية، هنا ننقل الكلام إلى الوجود الآخر الثاني، والوجود الثاني أيضًا عارض، فتأتي هنا قاعدة الفرعية، التي تقول إن ثبوت شي‏ء لشي‏ء فرع ثبوت المثبت له، فلا بد أن يكون للماهية ثبوتٌ قبل هذا الثبوت الثاني، فنحتاج إلى تحقُّقٍ وثبوتٍ ثالث، ونحتاج إلى تحقُّق وثبوتٍ رابع، وهكذا، فيتسلسل، والتسلسل مُحال.

جواب الإشكال

لعل هذا الإشكال هو الذي دفع البعض للقول بأصالة الماهية؛ فهو من الإشكالات التي تصلح أن تُتخذ دليلًا على أصالة الماهية.

وقد أجيب عن هذا الإشكال بعدة أجوبة نذكُر أهمها:

  • (١)

    إجابة ذكرها صدر الدين الشيرازي واختارها المصنِّف، وملخَّصها هو أن المسائل في الفلسفة مسوقةٌ على طريق عكس الحمل؛ أي إن المحمول في واقعه هو موضوع والموضوع محمول.

    فعندما نقول: الواجب موجود، أو الممكن موجود، فهذه في أصلها هكذا: الوجود يكون واجبًا، الوجود يكون ممكنًا، فلا يرِد الإشكال المذكور؛ لأن الوجود موجود بذاته، والماهية أمرٌ اعتباري منتزع من الوجود، فما لم يتحقق الوجود في الخارج، لا يمكن أن تُنتزَع ماهية من الماهيَّات، والإنسان يجعل الماهيَّات موضوعًا والوجود محمولًا؛ لأنه يتصل بالعالم الخارجي عبْر الماهيَّات.

  • (٢)

    الجواب الآخر يُسلِّم بأن الوجود محمول والماهية موضوع، ولكنه يقول: إن الهَليَّات، تارةً يُطلب بها ثبوت الشي‏ء، وتارةً يُطلب بها ثبوت شي‏ءٍ لشي‏ء، فهل التي يُطلب بها ثبوت الشي‏ء هي هل البسيطة، وهل التي يُطلَب بها ثبوت شي‏ءٍ لشي‏ء هي هل المركَّبة، أو كان التامة وهي ما تثبت لنا الشي‏ء، وكان الناقصة وهي التي يثبت بها شي‏ء لشي‏ء. وقاعدة الفرعية تجري في هل المركَّبة، التي يُطلب فيها ثبوت شي‏ء لشي‏ء، وليست هل البسيطة، نقول: هل الإنسان ناطق؟ فيكون الجواب: نعم، فنثبت النطق للإنسان الموجود، وحمل الوجود على الماهية ليس من قبيل الهَليَّة المركَّبة، وإنما هو من قبيل الهَليَّة البسيطة، فلا تجري القاعدة فيه، ولا يرِد الإشكال هنا.

  • (٣)

    ادَّعى الفخر الرازي أن قاعدة الفرعية مخصصة؛ أي إن مثل هذه القضايا التي يُحمل فيها الوجود على الماهية خارجةٌ عن المقام؛ فهو يقول بأن قاعدة الفرعية العقلية لا تنطبق على هذه الحالة، فلا يرِد الإشكال المذكور؛ أي إشكال الدور أو التسلسل.

    لكن هذا القول غير تام؛ لأن القاعدة العُرفية، والعقلائية، والشرعية، قابلة للتخصيص، أما القواعد العقلية فغير قابلةٍ للتخصيص، كقاعدة استحالة اجتماع أو ارتفاع النقيضَين، فكل قاعدةٍ عقليةٍ آبية عن التخصيص، ومعنى التخصيص هو بطلانها.

  • (٤)

    ما ذكره المحقِّق الدواني وملخَّصه: هو أنه استبدل الفرعية بالاستلزام، بمعنى أن ثبوت شي‏ء لشي‏ء يستلزم ثبوت المثبَت له.

    وإن الاستلزام لا يقتضي أن يكون للمثبت له ثبوتٌ قبل ثبوت المحمول عليه، وإنما يقتضي الاستلزام أن يكون الموضوع ثابتًا في ظرف ثبوت المحمول، وذلك أعمُّ من أن يكون الموضوع ثابتًا قبل ثبوت المحمول أو بنفس ثبوت المحمول على الموضوع.

    لكن هذا الجواب غير تام أيضًا؛ لأن الإشكال نشأ من قاعدة الفرعية؛ فلو أنكرنا قاعدة الفرعية، ينتفي الإشكال أساسًا، كما أن هذا ليس جوابًا على الإشكال وإنما هو اعتراف بالإشكال؛ لأنه لم يفعل أي شيء سوى أنه بدَّل الفرعية بالاستلزام.

  • (٥)

    ما ذكره صدر الدين الدشتكي، وهو أحد فلاسفة الدورة الشيرازية؛ فالفلسفة نشطت في شيراز أولًا ثم انتقلَت إلى أصفهان بعد انتقال صدر المتألهين الشيرازي إليها.

    وكان الدشتكي أو السند والصدر كما يُسمى في كتب الفلسفة من القائلين بأصالة الماهية، وهو يرى أن المحذور إنما يرِد لو كان للوجود المحمول نحو تحقُّق وثبوت فيأتي الإشكال، ولكن الوجود ليس له تحقُّق، كما يقول، لا في الخارج ولا في الذهن، فلا يكون الوجود ثابتًا للماهية، حتى يرِد الإشكال المذكور، وهو أن ثبوت شي‏ء لشي‏ء فرع ثبوت المثبَت له؛ لأن الوجود إذا لم يكن له تحقُّق لا في الخارج ولا في الذهن فلا يرِد الإشكال، ومثال ذلك لو قلنا: الإنسان موجود، فإن هذه القضية ليست مصداقًا لقاعدةٍ الفرعية؛ لأن موجود هذا ليس ثابتًا ولا متحققًا لا في خارجٍ ولا في ذهنٍ.

    وهنا قد يُقال إنه عندما نحمل الموجودية على الماهيَّات فنقول: الإنسان موجود؛ فمن الواضح أن كلمة موجود مشتق، والمشتق يدل على ذاتٍ ثبت لها مبدأ الاشتقاق؛ أي ثبت لها الوجود، إذن فكيف يقول الصدر إن الوجود لا تحقُّق له لا في خارج ولا في ذهن؟ بينما عندما نقول «موجود» فالموجود يعني ذاتًا ثبت لها الوجود.

    هذا الإشكال كما يقول الصدر الدشتكي غير وارد؛ لأن «موجود» ليس مشتقًّا، وإن كان اللفظ مشتقًّا، لكن معناه ليس مشتقًّا، بل معناه بسيطٌ غير مشتق، فلا يدل على ذاتٍ ثبت لها الوجود، وإنما هذا مثل كلمة «هست» الفارسية فإنها ليست مشتقة، وإنما هي تدُل على معنًى بسيط، وهذا المعنى يعني التحقُّق ومطلَق الثبوت، والذي يقول بأصالة الماهية لا يعني عندما يقول: الإنسان موجود، بأن الإنسان له وجود، بل يعني أن الماهية متحقِّقة وثابتة في الخارج.

    وبعبارة أخرى يرى الدشتكي أن للموجود معنًى بسيطًا والاشتقاق صوري، يعني أن الوجود وإن لم يكن له تحقُّق في الخارج ولا في الذهن فلا معنى له، إلَّا أن الموجود يكون ذا معنًى، ولكن لا يكون معناه مركبًا من الذات والمبدأ، حتى يلزم بثبوت المبدأ في الذهن، فينافي ما ذكره أولًا، من أن الوجود لا ثبوت له لا في الذهن ولا في الخارج. ولما اعترض عليه أن الموجود مشتق وكل مشتق يدُل على المبدأ على الأقل، فكون الموجود ذا معنًى؛ أي كونه موجودًا في الذهن، يستلزم ثبوت الوجود في الذهن، دفع الاعتراض بقوله «والاشتقاق صوري».

  • (٦)

    جواب مبني على القول بأصالة الماهية، وهو مذهب شيخ الإشراق، والمحقِّق الداماد، وصاحب الشوارق، ومذهب القائلين باعتبارية الوجود من المتكلمين؛ فهم يرَون أنه ليس للوجود فردٌ حقيقي أصلًا، والمتأصل في الخارج ليس إلَّا الماهيَّات، أما الوجود المعتبر مضافًا إلى الماهية؛ بحيث يتأصل بتأصُّلها أو يصير فردًا خارجيًّا للوجود فلا تحقُّق له، وإنما مفهوم الوجود موجود في الذهن، إما مطلَقًا أو مضافًا إلى ماهية؛ بحيث لا تكون الماهية المتأصلة داخلة في المقيد.

ويفرق صاحب دستور العلماء٢ بين الحصة والفرد، في أن الفرد هو الطبيعة المأخوذة مع القيد، بأن يكون كلٌّ من القيد والتقيُّد داخلًا، كزيد وعمرو للإنسان، والحصة هي الطبيعة المضافة إلى القيد، بأن يكون التقييد من حيث هو تقييد داخلًا والقيد خارجًا، كوجود زيد ووجود عمرو، وعلم زيد وعلم عمرو.

وهذا جوابٌ غير تام؛ لأنه أيضًا مبني على أصالة الماهية، وهي باطلةٌ كما سبق.

وبذلك يتبيَّن أن الجواب الصحيح هو جوابُ صدر المتألهين، وهو أن الحمل في مثل هذه القضايا هو من عكس الحمل؛ أي إن الوجود هو الموضوع والماهية هي المحمول، والوجود موجود بذاته والماهية موجودة بالوجود، فلا يرِد إشكال الفرعية.

١  «درر الفوائد»، ج١، ص١٦٥.
٢  «دستور العلماء»، ج٢، ص٣٤٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥