الفصل السابع

في أحكام الوجود السلبية

كان الكلام في الفصول المتقدمة في جملة من الأحكام الإيجابية الثبوتية للوجود، وهي على قسمَين؛ الأول ارتبط بمفهوم الوجود، في الفصول الثلاثة الأولى، وفي الثلاثة الأخرى كان البحث في حقيقة الوجود.

وفي هذا الفصل سنذكُر بعض الأحكام التي تُسلب وتُنفى عن الوجود، وهي لا ترتبط بمفهوم الوجود بل بحقيقة الوجود. والمراد من الوجود في عنوان هذا الفصل هو الوجود بما هو وجود ساقط الإضافة إلى الماهيَّات، كما يُستفاد ذلك من تعليقة المحقِّق السبزواري على «الأسفار».١

الحكم الأول

يُقال إن حقيقة الوجود لا غير لها؛ لأننا فيما سبق — في بحث أصالة الوجود — أثبتنا أن الأصيل الذي يكون منشأً لترتُّب الآثار الخارجية هو الوجود دون سواه، وما عداه هو العدم، والعدم لا شي‏ء، بطلانٌ محض؛ وبالتالي فلا يمكن أن يكون غيرًا للوجود؛ أي لا يصح أن نقول هناك الوجود وهناك العدم؛ لأن العدم لا شي‏ء، فلا يمكن أن يكون غيرًا للوجود.

أمَّا الماهية فقد يُقال: إن غير الوجود هو الماهية، لكن الماهية أمرٌ اعتباري، انتزاعي، ينتزعه الذهن، ولا تحقق لها وراء الوجود، وإنما هي قوالبُ ذهنية وحدودٌ ينتزعها العقل من الموجودات الممكِنة، فهي ثابتةٌ بالوجود لا بذاتها!

إذن فلا غير للوجود. وقد يعبَّر عنه بأنه لا ضد له.

الحكم الثاني

أن حقيقة الوجود الشاملة لكل مراتبه من أدناها إلى أعلاها ليس لها ثانٍ؛ فلو لاحظنا الإنسان مثلًا فيمكن أن نفترض له ثانيًا، الأول الإنسان يُوجَد بوجود زيد، ووجود ثانٍ بنفس حقيقة الإنسان هو بوجود بكر، كما أن حقيقة الإنسان لها غير، كحقيقة الكتاب، وهكذا، فالتغاير إذا كان في الحقيقة فلا يُعَد ثانيًا، وإن لم يكن الاختلاف في الحقيقة بل بوجودٍ ثانٍ لحقيقةٍ واحدة فهذا وجودٌ ثانٍ.

وعليه، فالحكم الأول ينفي أن تكون حقيقة ثانية غير الوجود، أما الحكم الثاني فينفي أن يكون هناك وجودٌ ثانٍ للوجود غير الوجود الأول للوجود؛ لأن المفروض أن حقيقة الوجود واحدة.

وقد يُقال: لماذا لا يمكن أن نفرض لحقيقة الوجود وجودًا ثانيًا؟ فيُقال: لو فرضنا لحقيقة الوجود وجودًا ثانيًا فإن ما به الاشتراك بينهما هو الوجود، وما به الاختلاف بينهما لا يمكن أن يكون حقيقة الوجود، بل يجب أن يكون أمرًا خارجًا عن حقيقة الوجود، وهذا الأمر الخارج لا بد أن يكون غير الوجود، وقد أثبتنا في الحكم الأول أن لا غير لحقيقة الوجود، ولهذا قالوا إن الثاني الذي فرضناه لا بد أن يكون نفس الوجود الأول، لأن كل ما يفرض هو وجود وداخل في حقيقة الوجود؛ لأن كل شيء وجود، وغير الوجود عدمٌ باطلٌ لا شيء.

وقد يعبَّر عن أن الوجود لا ثاني له، بأنه لا مثل له، والفرق بينه وبين الغير أن ثاني الشيء يوافق الشيء في الذات والحقيقة، وهذا بخلاف الغير، فإن غير الشيء يباينه في ذلك.

الحكم الثالث

الوجود لا جوهر ولا عرض، عندما نقسِّم الوجود نقول: إنه ينقسم إلى واجبٍ وممكِن، والممكِن ينقسم إلى جوهر وعرض، فالجوهرية والعرضية مرتبطةٌ بمرتبة من مراتب الوجود الإمكاني، والجوهر ماهيَّة من الماهيَّات، والعرض ماهية إن وُجدَت في الخارج وُجدَت في موضوع، وحقيقة الوجود لا يُمكِن أن يكون لها موضوع؛ لأنه لا يوجد غيرٌ للوجود فيقوم به.

الحكم الرابع

أن الوجود ليس جزءًا في مركَّب، يتركب من الوجود ومن غيره؛ أي ليس الوجود جزءًا عينيًّا لمركبٍ خارجي، بأن يكون هناك أمرٌ مركَّب من جزأَين خارجيَّين أحدهما الوجود؛ لأن الوجود لا غير له، ولو كان هناك غير للوجود لأمكن افتراض مركَّب من الوجود وذلك الغير، أما إذا قلنا بأنه لا يُمكِن افتراض غير للوجود، فلا يمكن افتراض مركَّب يتألف من الوجود ومن‏ غيره.

وهنا يرد إشكال مفاده: أن كل ممكنٍ زوج تركيبي، له ماهية ووجود، فقد يُقال: إن الوجود الإمكاني مركَّب من الوجود زائدًا أمرًا آخر، فكيف قلنا: إن الوجود ليس مركبًا؟

ونُجيب على هذا الإشكال بما تقدَّم، فقد قلنا إن الأصيل هو الوجود، أما الماهية فهي أمرٌ اعتباري؛ أي إن الوجود الإمكاني وجودٌ محدود ينتزع الذهن منه الماهية، وهي عبارة عن قالبٍ يحكي عن حدود هذا الوجود الإمكاني المحدود، أما وجود الواجب فإنه سنخ وجودٍ غير متناهٍ وغير محدود، فلا يُمكِن للذهن أن ينتزع منه ماهيةً — أي حدًّا — لأنه غير محدود، فليس في الوجود الممكن — فضلًا عن الوجود الواجب — سوى الوجود، والماهية أمرٌ اعتباريٌّ انتزاعي، فليس الممكن مركَّبًا من جزأَين أصيلَين، وإنما الممكِن الموجود له جزءٌ أصيل هو الوجود فقط، والماهية ليست أصيلة، وإنما هي أمرٌ اعتباري. وهذا معنى قول الحكماء: إن كل وجودٍ ممكن هو زوجٌ تركيبي له ماهية ووجود.

الحكم الخامس: أن الوجود لا جزء له

في الحكم الرابع كنا نقول إن الوجود ليس جزءًا لمركَّب، وهنا نقول: إن الوجود لا جزء له غير الوجود؛ لأنه لا شيء غير الوجود. والجزء إما أن يكون عقليًّا أو خارجيًّا، أو جزءًا مقداريًّا.

ونشير هنا إلى التركيب، حتى يتبين أن الوجود غير مركَّب لا خارجيًّا ولا عقليًّا، فالتركيب أساسًا له أقسامٌ متعددة، والمصنِّف ذكر ثلاثة منها:

  • القسم الأول: هو التركيب من الجنس والفصل.
  • القسم الثاني: التركيب من المادة والصورة.
  • القسم الثالث: التركيب من الأجزاء المقدارية.

وهنا نريد أن ننفيَ هذه الأقسام من التركيب عن حقيقة الوجود، حتى نثبت أن الوجود لا جزء له.

الوجود غير مركَّب من جنس وفصل

أما التركيب الأول: فهو التركيب من الجنس والفصل، وهذا التركيب تركيبٌ عقلي، وهنا نريد أن ننفي أن يكون الوجود مركبًا من جزأَين أحدهما جنس والثاني فصل.

فمثلًا لو لاحظنا الإنسان لوجدناه مركبًا من جزأَين أحدهما الجنس — حيوان — وهو يمثِّل الجزء المشترك بين الإنسان وبقية الحيوانات، والجزء الآخر هو الفصل — ناطق — وهو يمثِّل الجزء المختص بالإنسان، وبواسطة التركيب بين الجنس والفصل يتحقَّق النوع، الذي هو الثالث من الذاتيات المذكورة في المنطق. وهذا النوع من التركيب يكون بحسب التحليل العقلي، والوجود لا يُمكِن أن يتحقق فيه هذا النحو من التركيب، وبيان هذه المسألة بشكلٍ دقيق يتوقف على بعض النقاط:

  • الأولى: النسبة بين الفصل (الناطق) والنوع (الإنسان) هي أن الفصل مقوِّم للنوع؛ لأن الناطق داخل في ماهية الإنسان وأحد الأجزاء الذاتية له.
  • الثانية: النسبة بين الجنس (الحيوان) والفصل (الناطق) هي نسبةٌ عرضيَّة؛ فالجنس عرضٌ عام للفصل، والفصل خاصة للجنس؛ أي إن الجنس ليس من الأجزاء الذاتية للفصل. الحيوان ليس جزءًا ذاتيًّا للناطق، كما أن الفصل ليس من الأجزاء الذاتية لماهية الجنس، فالناطق والحيوان كلٌّ منهما خارج عن حقيقة الآخر وذاته؛ ولذلك لا يصدق الحيوان على الناطق صدقًا ذاتيًّا، كما لا يصدق الناطق على الحيوان صدقًا ذاتيًّا، ومن هنا فلا الناطق مقومًا للحيوان، ولا الحيوان مقومًا للناطق.

    فالنسبة بين الجنس والفصل هي نسبة العرض العام، نسبة الحيوان إلى الناطق، كنسبة الماشي إلى الإنسان، ونسبة الناطق إلى الحيوان هي نسبة العرض الخاص، كنسبة الضاحك إلى الإنسان.

  • الثالثة: وهي تبتني على الثانية، إن نسبة الناطق إلى الحيوان كنسبة الضاحك بالنسبة إلى الإنسان، وإن وظيفة الفصل ليست تقويم ماهية الجنس وإنما تخصيص وتقسيم الجنس إلى الأنواع المتعددة؛ أي وظيفة الناطق هي تقسيم الحيوان إلى أقسام، وحصصٍ متعددة، كذلك وظيفة الناطق تحصيل الجنس؛ أي تحصيل الوجود الخارجي للحيوان، ولهذا قالوا: إن الفصل هو المحصِّل، الذي يحقِّق الوجود الخارجي للجنس، وهو مقسِّم، يقسِّم الجنس إلى ناطق وغيره، فالفصل ليس مقوِّمًا لماهية الجنس.

فإذا كان الوجود مركبًا من جنس وفصل، فما هو جنس الوجود؟

المفروض أن جنسه إما الوجود أو غيره، وفصله إما الوجود أو غيره، والقسمة عقلية حاصرة، وقد قلنا سابقًا — في الحكم الأول — أنْ لا غير للوجود، فيكون الجنس هو الوجود، والفصل هو الوجود أيضًا، فيلزم أن يكون الفصل — الذي هو الوجود — محصِّلًا لذات الجنس؛ لأنه وجود أيضًا، وهذا خلاف ما أثبتناه، من أن الفصل ليست وظيفته تقويم الماهيَّة — ماهية الجنس — وإنما وظيفة الفصل تحصيلُ ماهية الجنس، ولم يُشِر المصنف إلى أن الوجود لا فصل له؛ لأن قولنا أنْ لا جنس للوجود كافٍ؛ إذْ لا وجود لفصل بلا جنس، وهذا كله نفي أن يكون الوجود مركبًا من جنس وفصل تركيبًا عقليًّا. ومنه يُعلم أنه لا يمكِن أن يكون الوجود جنسًا لشيءٍ مطلقًا.

الوجود غير مركَّب من مادة وصورة

أما نفي أن يكون الوجود مركَّبًا تركيبًا خارجيًّا من مادة وصورة، فيمكن بيانه بما يلي: حيث إن المدرسة المشَّائية ذهبَت إلى أن الأشياء في الخارج مركَّبة من جزأَين حقيقيَّين هما المادة والصورة، والمادة هي القابلية والاستعداد الموجود في الأجسام لقبول التغيُّرات والتحوُّلات المختلفة، والصورة هي حيثية الفعلية، فمثلًا لو كانت: هذه بيضة بالفعل، فهنا لو لاحظنا هذه البيضة فإننا نجد فيها حيثيتَين؛ إحداهما حيثية قبول الفعليات، تقبل أن تكون دجاجة، وهذه هي المادة، وحيثية أخرى تترتَّب عليها الآثار الخارجية وهي «الصورة».

فالذهن ينتزع من المادة والصورة مفهومَين، هما المادة والصورة في داخل الذهن، وهما غير المادة والصورة في الخارج، فإذا لاحظ العقل هذَين المفهومَين، بنحوٍ لا يحمل كل واحد على الآخر، ولا يُحملان على الكل؛ أي المجموع المؤلَّف منهما (الجسم) مثلًا، فهنا بهذا الاعتبار يُسمَّيان مادة وصورة، ويعبَّر عنهما بشرط لا من جهة الحمل، لأننا نلاحظهما بشرط ألَّا يُحمل أحدهما على الآخر، ولا يُحملا على المركب منهما (الجسم).

أما إذا لاحظهما الذهن باعتبارٍ آخر، بنحوٍ يمكن أن يحمل أحدهما على الآخر؛ أي يمكن أن تُحمل المادة على الصورة، والصورة على المادة، فهنا يلاحظهما لا بشرطٍ من الحمل، ويعبر عنهما بتعبير آخر، فيُسمَّيان الجنس والفصل، ولهذا فإن الجنس هو المادة، والفصل هو الصورة، فالجنس والمادة أمرٌ واحد لكن باختلاف الاعتبار، وكذلك الفصل والصورة حقيقةٌ واحدة لكن باختلاف الاعتبار.

وعلى هذا الأساس يُقال: إن الوجود ليس مركبًا من مادة وصورة خارجية؛ لأن الوجود لا جنس ولا فصل له، وحيثُ إن المادة هي الجنس وإن الصورة هي الفصل مع اختلاف الاعتبار، فإذا انتفى الجنس والفصل عن الوجود انتفت عنه المادة والصورة، الخارجية والعقلية أيضًا؛ ولذلك يُقال: إن الوجود غير مركَّب من مادة وصورة.

وبعبارة أخرى إن المادة والصورة العلميتَين اللتَين تحكيان المادة والصورة الخارجيتَين هما الجنس والفصل، كما يُستفاد من المصنِّف في نهاية الفصل الرابع من المرحلة الخامسة، وكما صرَّح به الحكيم السبزواري في حاشية شرح المنظومة. ويتضح أيضًا أن الجنس والفصل، وهما أمران ذهنيَّان، لا يكونان بأنفسهما هما المادة والصورة الخارجيتَين.

ويتلخَّص مما سبق، أنه لو كانت للوجود مادة وصورة خارجيتان، لكانت له مادة وصورة ذهنيَّتان. ولو كانت له مادة وصورة ذهنيَّتان، لكان له جنس وفصل، لكن لا جنس له ولا فصل، فليست له مادة وصورة خارجيتان.

الوجود غير مركَّب من أجزاءٍ مقدارية

النحو الثالث من التركيب المنفي عن الوجود، هو تركيبٌ خارجي أيضًا، وهو أن الوجود غير مركَّب من أجزاءٍ مقدارية، والمقصود بالأجزاء المقدارية — كما سيأتي — أن هذه الأجسام التي نراها في الخارج لها عوارض، وهذه العوارض تتمثل في الجسم التعليمي والسطح والخط؛ فالجسم التعليمي هو عبارة عن الامتداد في الأبعاد الثلاثة؛ الطول والعمق والعرض، ويُقال عن السطح إنه امتدادٌ في بُعدين، ويُقال عن الخط إنه الامتداد في بُعدٍ واحد، فهذه الأقسام الثلاثة للامتداد يعبَّر عنها بالمقدار؛ لأنها قابلةٌ للانقسام إلى أجزاءٍ لا متناهية. وهذه يعبَّر عنها بالأجزاء المقدارية، والوجود ليس مركبًا من أجزاء مقدارية؛ لأن افتراضها يعني افتراض الجسم التعليمي أو السطح أو الخط، بينما قلنا إن هذه الأمورَ عوارضُ تعرض للجسم، والجسم هو ما يتألف من مادة وصورة، وقد تبيَّن فيما سبق أن الوجود ليس مؤلَّفًا من مادة وصورة؛ فالوجود ليس جسمًا، وبالتالي فلا جزء مقداريًّا للوجود؛ لأن الجزء المقداري إنما يكون للخط والسطح والجسم التعليمي، وهذه الأمور الثلاثة إنما هي عوارضُ للجسم، فالوجود لا أجزاءَ مقداريةً له.

الوجود ليس نوعًا

إن الوجود ليس نوعًا، وهذا واضح مما تقدم؛ حيثُ إن النوع مركَّب من جنس وفصل، وليس للوجود جنس ولا فصل؛ وبالتالي فلا نوع له، لكن المصنِّف ساق برهانًا قال فيه: النوع إنما يتحقَّق في الخارج من خلال التشخص الفردي، كالإنسان يتحقَّق بزيد، وذكرنا سابقًا أن الوجود موجودٌ بذاته؛ فلو كان الوجود نوعًا للزِم أن يوجَد بغيره، وهذا خلاف ما فرضناه من أنه موجودٌ بذاته.

١  «الأسفار الأربعة»، ج١، ص٣٥٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥