الفصل الثامن

في معنى نفس الأمر

عندما نقول هذه القضية صادقة أو ليست بصادقة، مثل: الإنسان نوع، الإنسان كلي، فهل يعني ذلك أن لها مصداقًا في الخارج؟ الجواب: إن القضية «الإنسان كلي» صادقة لأنها مطابقة لنفس الأمر.

ومن هنا تنقسم القضايا إلى:

  • (١)

    الخارجية: يعني أن للقضية مصداقًا خارجيًّا؛ فالمحمول والموضوع أمرٌ خارجي، كما في «زيد قائم»، أو «الإنسان كاتب»، ﻓ «الإنسان» و«الكاتب» كلاهما أمرٌ خارجي، وكذلك «زيد» و«قائم».

  • (٢)

    الذهنية: ويكون فيها المحمول من الأمور الذهنية، بينما الموضوع يمكن أن يكون ذهنيًّا ويمكن أن يكون خارجيًّا، كما في «الإنسان نوع»، أو «الكلي ذاتي وعرضي»، فهذه قضايا ذهنية.

  • (٣)

    القضايا الصادقة ومع ذلك ليس لها مطابق لا في الذهن ولا في الخارج: ويعبَّر عنها بقضايا «نفس الأمر» كما نقول: «العدم باطل الذات» فهذه القضية لا مطابق لها لا في الذهن ولا في الخارج؛ لأن الموضوع لا مصداق له لا في الخارج ولا في الذهن، ولكن مع ذلك هذه القضية صادقة.

ولذلك نقول: إن صدق النوع الأول من القضايا يكون بمطابقتها للخارج، لمصداقها الخارجي، كما نقول «الإنسان كاتب»، وصدق النوع الثاني من القضايا، كما في «الإنسان نوع» إنما يكون بمطابقتها للذهن؛ أي إن مفهوم الإنسان في الذهن نوع، والذهن كما هو معلوم أمرٌ عيني، والقضايا نفس الأمرية: هي القضايا التي تعني أنْ لا مطابق لها بالذات وإنما مطابقها بالعرض، كما نقول «عدم العلة علة لعدم المعلول»، أو «عدم الغيم علة لعدم المطر»، فإنما تصدق هذه القضية بالتبع لقضية «الغيم علة للمطر»؛ أي قضية «لكل معلول علة».

وببيانٍ آخر أن الثابت الحقيقي هو الوجود، ولأن الماهيَّات هي ظهورات الوجودات الإمكانية العينيَّة وحدود هذه الوجودات، فالعقل اعتبر الثبوت للماهيَّات، باعتبار أن عملية التفكير تتطلب ذلك، وكذلك اعتبر العقل الثبوت لأحكام الماهيَّات، كما أن العقل كان مضطرًّا في عملية التفكير أن يمنح الثبوت والتحقُّق لكل المفاهيم والمعقولات الثانية — وسيأتي بيان المعقولات الثانية — حيثُ يعتبر العقل الثبوت لمفهوم الماهية، ومفهوم العدم، فإذا عبَّرنا بنفس الأمر، نعني به الثبوت المطلَق الأعم من الأول والثاني والثالث، فيكون الثبوت العام الأعم من الأول: ثبوت الوجود، والثاني: ثبوت الماهية، والثالث: ثبوت المعقولات الثانية، وهذا ما يعبَّر عنه بقضايا نفس الأمر بالمعنى الأعم، وهي تشمل الوجود الحقيقي، والماهيَّات، والأمور الثابتة التي يعتبر لها العقل الثبوت. وأما نفس الأمر بالمعنى الأخص، فهو ما ينطبق على الأمر الثالث فحسب، فنفس الأمر هو معنًى واسعٌ للثبوت، يعُم الثبوت الحقيقي والاعتباري. والحقيقي هو الوجود، والاعتباري هو ثبوت الماهيَّات، والمعقولات الثانية.

أنواع المعقولات

ينبغي أن نشير إلى مسألة، وهي أن المفاهيم أو المعقولات تنقسم إلى قسمَين أساسيَّين، هما: المفاهيم الماهوية «المفاهيم الأولية» كمفهوم الكتاب والإنسان، والمفاهيم الثانوية «الثانية»، والأخيرة تنقسم إلى:

  • (١)

    المفاهيم الفلسفية، أو المعقولات الثانية الفلسفية، كمفهوم العلة والمعلول.

  • (٢)

    المفاهيم المنطقية، أو المعقولات الثانية المنطقية، كمفهوم العكس المستوي وعكس النقيض وغيره.

هذه هي المفاهيم الاعتبارية التي تُستعمل عادةً في عملية التفكير، وهذا التقسيم الثلاثي من مبتكَرات الفلاسفة المسلمين، ولهذا التقسيم دورٌ أساسي في المعرفة البشرية.

معنًى آخر لنفس الأمر

ذهب بعضهم إلى أن المقصود بنفس الأمر: هو عقلٌ مجرَّد كلي، وجوده وجودٌ واسع، ليس محدودًا بزمان ولا مكان، وهو المسمَّى بالعقل الفعَّال،١ فعندما نقول عقلٌ كلي، نعني أنه واسعٌ وغير محدود، وهو غير الكلي في المنطق؛ لأن الكلي في المنطق، هو القابل للانطباق على كثيرين، بينما العقل الكلي هنا، بمعنى أن وجوده مجردٌ غير محدود بزمانٍ أو مكان.

فعندما يُقال نفس الأمر، فإنما يُقصد به ذلك العقل الكلي المجرد، وهذا العقل المجرَّد يشتمل على صور المعقولات؛ أي إن كل المفاهيم والصور الذهنية موجودة في ذلك العقل المجرَّد من الزمان والمكان، ومعنى أن القضايا صادقة بمطابقتها لنفس الأمر؛ أي بمطابقتها للصور العلمية الموجودة في ذلك العقل الكُلي المجرَّد، وهذا الكلام مبنيٌّ على أساس أن هناك طوليةً في العوالم، وأن هناك عالم العقل.

والمراد بذلك أنهم يقولون: إن الموجودات الإمكانية إما مجرَّدة ذاتًا وفعلًا عن المادة وآثارها، فهي ما يُسمَّى — بحسب اصطلاحهم — بالعقل‏ المجرَّد.

أو هي مجرَّدة عن المادة ذاتًا دون أن تكون مجردة عن المادة فعلًا؛ أي مجردة عن المادة دون آثارها، فيُسمَّى ذلك بعالَم المثال.

أو تكون الموجودات الإمكانية مادية، وهي تتمثَّل بعالم الطبيعة، وهو عالمنا هذا.

وقد ناقش المصنِّف هذا الكلام، وقال إنه غيرُ تام؛ لأننا نسأل عن المفاهيم والمعارف الموجودة لدى هذا العقل المجرَّد المشتمل على المعارف، فما هو ملاك صدقها وكذبها؟ لأن المفاهيم الموجودة في أذهاننا ملاكُ صدقها وكذبها هو مطابقتُها للمفاهيم الموجودة في ذلك العقل المجرَّد بحسب الفرض، لكن ما هو ملاك صدق وكذب تلك المفاهيم التي لدى ذلك ‏العقل؟

إذا كان الملاك هو المطابقة لما هو موجود عند عقل آخر، ننقل الكلام إلى العقل الآخر، فنقول: ما هو ملاك صدق ما هو موجود لديه من معارفَ ومفاهيم؟ فلا بد أن تكون مطابقةً لما هو موجود في عقل ثالث، وفي العقل الثالث نقول كذلك: ما هو ملاك صدقها؟

فيتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية، والتسلسل محال، إذن هذا القول غير تام.

والصحيح ما ذكرناه، وهو أن ملاك الصدق في القضايا هو المطابقة لما هو ثابت، سواء كان هذا الثبوت خارجيًّا أو ذهنيًّا؛ أي الثبوت بالمعنى الأعم.

١  الخواجة نصير الدين الطوسي، «شرح الإشارات»، ج٢، ص٣٦١؛ و«كشف المراد»، ص٧٠؛ وملا هادي السبزواري، «شرح المنظومة»، ص٥٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥