الفصل التاسع

الشيئية تساوق الوجود

معنى المساوقة

المصطلحات في الفلسفة دقيقة؛ فالمساوقة ليست بمعنى المساواة، بل بمعنًى أخصَّ من المساواة، ولكي يتضح الفرق بين المساوقة والمساواة نقول: يُوجَد لدينا مفهوم، ويُوجَد لدينا مصداق، وتُوجَد لدينا حيثية الصدق، فإذا كانت حيثية الصدق نفسها بينهما مشتركة، فتكون بينهما مساوقة، وإذا كانت حيثية الصدق بينهما غير مشتركة فلا تكون بينهما مساوقة بل مساواة، ففي المساواة يُشترط أن يكون المصداق واحدًا، لكن المفهوم متعدِّد، بينما حيثية الصدق قد تكون واحدةً أو مختلفة، بخلاف المساوقة التي تتحد فيها حيثية الصدق أيضًا.

وبعبارةٍ أخرى إن الفرق بين المساوقة والمساواة، هو أن المساواة تعني اتحاد معنيَين في جميع مصاديقهما؛ بحيث كل ما صدق عليه هذا المعنى صدق عليه ذلك المعنى أيضًا، سواء كانت حيثية الصدق واحدةً أم مختلفة. وأما المساوقة فيُشترط فيها مع ذلك اتحاد جهة الصدق وحيثيته؛ فالمساواة أعمُّ من المساوقة.

من هنا يكون معنى الوجود مساوقًا للشيئية، أن كل موجود فهو من حيث إنه موجودٌ شيء، كما أن كل شيء فهو من حيث إنه شيءٌ موجود. وذلك لأنه ليس هناك أمرٌ وراء الوجود به يكون الشيء شيئًا. وهكذا الوجود والوحدة كما سيأتي في الفصل الأول من المرحلة الثامنة، بل الوجود مساوقٌ لكلٍّ من صفاته العامة، كالخارجية المطلَقة، والفعلية المطلَقة، والتشخُّص، وغيرها.

وربما يتحقَّق التساوي من دون المساوقة، كما في الإنسان والضاحك، فإنه وإن كان يصدق الإنسان على كل ما يصدق عليه الضاحك، وبالعكس، إلَّا أن حيثية الصدق مختلفة؛ فإن المصاديق تلك، من جهة ذواتها وجواهرها إنسان، ومن جهة بعض عرضياتها وأعراضها ضاحك، فلا يكون الإنسان من حيث إنه إنسان ضاحكًا، ولا الضاحك من حيث إنه ضاحكٌ إنسانًا.

الوجود والشيئية متساوقان

إن الوجود والشيئية متساوقان؛ أي وإن كان مفهوم الوجود في الذهن غير مفهوم الشيئية، ولكن مصداقهما في الخارج واحد، وحيثية الصدق واحدة؛ فإن الوجود وجود من حيثُ هو شي‏ء، والشي‏ء شي‏ء من حيثُ هو وجود، إذن بينهما مساوقة؛ فكل ما صدق عليه أنه شي‏ءٌ يصدُق عليه أنه وجود، وكل ما صدق عليه أنه وجود يصدُق عليه أنه شي‏ءٌ من نفس الحيثية، فالشيئية لا تساوي الوجود فقط بل هي تساوقه، فالوجود هو الشي‏ء، والشي‏ء هو الوجود؛ إذ لا غير للوجود إلا العدم، وهو بطلانٌ محض لا ثبوت له، والوجود هو الأصيل الذي يكون منشَأً لترتُّب الآثار الخارجية، والمسألة واضحة إذ إن مجرد التصور الصحيح لها يكفي للتصديق وجدانًا بها.

شبهة المعتزلة

إن سبب إثارة هذا البحث، هو شبهة ذكرها المعتزلة، وملخَّصها: أنهم زعموا أن الثبوت أعمُّ مطلقًا من الوجود؛ أي إن المعدومات قُسِّمَت إلى قسمَين؛ معدوم ممكن ومعدوم محال، والمعدوم الممكن ثابت؛ فالثابت عندهم أعم، يشمل الموجود والمعدوم الممكن، بينما غير الثابت — المنفي بتعبيرهم — يكون معنًى أخص من المعدوم؛ لأنه لا يشمل إلا المُحال — المعدوم غير الممكن — وقد ذهب جماعةٌ من المعتزلة إلى أن الوجود لا يساوق الشيئية، فقالوا إن الوجود لا يساوق الثبوت وإنما الثبوت معنًى أعم من الوجود، وإن المعدومات قسمان، منها ما هو ممتنع، كاجتماع النقيضَين، وشريك الباري، ومنها ما هو ممكن؛ أي له ثبوت قبل وجوده وتحقُّقه، إذن هو شي‏ء.

وإنما ساقوا ذلك لشبهة طرأَت لديهم، ملخَّصها: أن الله تعالى يعلم بالأشياء قبل إيجادها، والعلم من الصفات الحقيقية ذات الإضافة؛ أي يحتاج العلم إلى متعلق، فعندما نقول مثلًا: فلان يعلم بالكتاب، أو يعلم بالأمر الفلاني، فلا بد أن يكون هذا الأمر المعلوم ثابتًا حتى يتعلق به العلم، والله تعالى يعلم بالممكِنات قبل وجودها، فلا يمكن أن تكون هذه الممكنات المعلومة معدومة — عدمًا محضًا — لأن المعدوم ليس ثابتًا، وما ليس ثابتًا لا يمكن أن يتعلَّق به علم. ومن جهةٍ أخرى أن الحق تعالى عالمٌ عِلمًا تفصيليًّا أزليًّا بالأشياء قبل إيجادها، فلا بد أن يكون لهذه الأشياء نحو ثبوت وشيئية في حال عدمها، لكي تقع متعلقًا لعلمه تعالى. وعلى هذا الأساس قالوا: إن الممكنات المعدومة ليست موجودة ولكنها ثابتة، ومعنى الثابت عندهم، هو ما يُمكِن أن يُخبر عنه، أو ما يُمكِن أن يُعلم، والمنفيُّ نقيضُه وبالتالي ينطبق على الثابت عنوان الشيئية، فلا تكون الشيئية مساوقة للموجودية، وإنما تكون الشيئية أعمَّ من الموجودية؛ إذ قد يكون الشي‏ء ثابتًا ولكنه ليس بموجود، كما في الممكِنات المعدومة قبل وجودها، وهذه الشبهة أدَّت بهذه الطائفة من المعتزلة إلى الالتزام بهذه الدعوى الباطلة، وهي أن الثبوت أعم من الوجود؛ أي يشمل بعض المعدومات، وأن النفي يقابل الثبوت، وهذه شبهة في مقابل البداهة.

كما نُسب إلى بعضهم أن هناك واسطةً بين الوجود والعدم وهي الحال، فعندما نَصِفُ زيدًا بالعالِميَّة، ونَصِفُ الكتاب بالمعلومية، فإنها من الصفات الانتزاعية التي لا وجود منحازًا لها، وإن كان لها وجود غير منحاز، حيث إنها إضافة، والإضافة — كما صرَّح المصنِّف في الفصلِ السادسَ عشرَ من المرحلة السادسة من نهاية الحكمة — موجودة بوجود موضوعها. وهذا معنى كونها انتزاعية، فإن الانتزاعي هو الذي يكون وجوده بوجود منشَأ انتزاعه، وليس له وجودٌ منحاز؛ فلو حلَّلنا «زيد عالم» لما وجدنا إلا زيدًا الذات والعلم، والعلم هو منشَأ لانتزاع العالم، أما العالِمية؛ أي الرابطة والإضافة والعلاقة بين زيد والعلم، فليس لها ما بإزاء في الخارج، أما العالِم فهو موجود في الخارج لأنه يُوجد لدينا «علمٌ وزيد» موجود في الخارج، أما العالِمية فليس لها ما بإزاء في الخارج، إذن هي ليست موجودة، وبما أنها صفة لزيد وهو موجود، وصفة الموجود لا بد أن تكون موجودة، فإذن هي غير معدومة، ولكنها غير موجودة في الخارج بمصداق، فلما كانت هذه الصفة — العالميَّة — لا موجودة ولا معدومة، إذن هي حالةٌ وسطى بين الوجود والعدم، عبَّروا عنها بالحال.

فالحال حالةٌ وسطى بين الوجود والعدم، وليست هناك حالةٌ وسطى بين الثابت والمنفي عندهم.

وملخَّص القول فيما نُسب إلى المعتزلة، أنهم يرَون أن الثابت نقيض المنفي، والمنفي هو المعدوم الممتنع، أما الثابت فهو الموجود والمعدوم الممكن.

بينما يرى بعضهم أن الثابت يشمل الموجود والمعدوم الممكِن بالإضافة إلى الحال.

جواب الشبهة

وهذا الكلام شبهة في مقابل البديهة؛ لأن الوجود والعدم متناقضان ولا واسطة بينهما. وإن الثابت شاملٌ للوجود والحال التي يقول بها المعتزلة، والنفي مساوٍ للعدم.

وهذه الدعوى تبتني على أن الموجود لا بد له من مصداقٍ منحازٍ مستقل في الخارج، وهذا الأصل الذي ابتنَت عليه دعوى الحال لا دليل عليه، بل الدليل على عدمه — كما سوف يأتي — لأن بعض ما يصدق عليه أنه موجود، محالٌ أن يكون له ما بإزاء منحازٍ مستقل في الخارج؛ أي لا يكون له وجود في نفسه، كالوجود الرابط بين الموضوع والمحمول، ليس له ما بإزاء في الخارج موجود بنفسه متشخِّص قائم بذاته؛ لأنه قائم بطرفَيه.

وبكلمةٍ بديلة إن الاعتقاد بثبوت العدم وشيئيته، مع أنه مخدوشٌ من جهة توهُّم ضرورة الوجود المنحاز لكل موجود، وعدم الالتفات إلى أن الصفات الإضافية المحضة التي هي نفس الإضافة، سنخ وجودها أنه ليس وجودًا مستقلًّا، وإلَّا لم يكن ربطًا وإضافة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥