في الوجود الخارجي والوجود الذهني
البحث في المرحلتَين الثانية والثالثة ليس في كُليات مباحث الوجود، كما تقدَّم في المرحلة الأولى؛ أي ليس في الأحوال المساوية للوجود من حيثُ هو موجود؛ فقد كنَّا نبحث عن أصالة الوجود؛ أي إن الوجود هو منشأ ترتُّب الآثار، فالمحمول مساوٍ للموضوع، والأصالة مساوية للوجود، وهكذا الوجود شيء، فالشيئية مساوية إلى الوجود.
أما هنا فنبحث في الأحوال وفي الأحكام التي هي وما يقابلها تُساوي الوجود؛ فإن الوجود ينقسم إلى ذهني وخارجي، وينقسم إلى مستقلٍّ ورابط — كما في المرحلة الثالثة — فالوجود ليس خارجيًّا فقط وليس ذهنيًّا فقط، وإنما الوجود ينقسم إلى خارجي وذهني؛ أي الخارجية زائدًا الذهنية تُساوي الوجود.
الخارجية المطلَقة والخارجية بالقياس
عندما نطلق مصطلح الخارجية، تارةً نعني به الخارجية في مقابل الذهنية، وأخرى نعني به الخارجية المطلَقة. وبعبارةٍ أخرى الخارجية تارةً تكون خارجيةً مطلقة، وأخرى تكون خارجيةً بالقياس، وما نعنيه في هذه المرحلة هي الخارجية بالقياس لا الخارجية المطلقة.
والخارجية بالقياس هي ما يقابل الذهنية، والخارجية المطلَقة هي ما تشمل الخارجية والذهنية. ونعني بالخارجية المطلَقة، الوجود الذي يكون منشأً لترتُّب الآثار؛ فكما أن الوجود الخارجي يكون منشأً لترتُّب الأثر — النار في الخارج تُحرق — كذلك الوجود الذهني يكون منشأً لترتُّب أثرٍ معيَّن. قد يُقال كيف؟ الجواب: هو أنَّ الوجود الذهني يطرد الجهل؛ أي صورة الكتاب الآن في ذهنك تطرد عدم الصورة، أو عدم علمك بالكتاب مثلًا، كما تكون منشأً لترتُّب آثارٍ أخرى؛ فهذه الأحكام التي نثبتها للوجود الذهني هي من آثاره الوجودية، بمعنى أثرٍ لما هو موجودٌ خارجي، وهكذا قد تتصوَّر أحيانًا «العنب الحامض» فيسيلُ لُعابُكَ، فصار الوجود الذهني هنا منشأً لترتُّب أثرٍ معيَّن، لترتُّب انفعالٍ نفسي معيَّن؛ فالوجود الذهني بهذا اللحاظ يكون وجودًا خارجيًّا، ويعني مصطلح الخارجية هنا الخارجية المطلَقة، التي هي أعمُّ ممَّا هو في الخارج وممَّا هو في الذهن؛ أي يشمل كل ما يكون منشأً لترتُّب الآثار.
أما المقصود بالخارجية في هذا الفصل فهي الخارجية بالقياس وليس الخارجية المطلَقة.
ومن المعلوم أن ذهنية الذهن إنما هي في كونه مرآة وحاكيًا للخارج، وإلَّا فهو من حيث نفسه وجودٌ خارجي تترتَّب عليه آثاره؛ حيث إنه علم، والعلم أمرٌ وجودي، وليس أمرًا عدميًّا.
ويُسمَّى وجود الماهية في الذهن وجودًا ذهنيًّا، كما يُسمَّى علمًا حصوليًّا، وهو أعمُّ من العلم الحسي والخيالي والعقلي.
تاريخ بحث الوجود الذهني
كما أن مسألة الوجود الذهني أسهَم فيها المتكلمون والحكماء والعرفاء، وكان لكلٍّ منهم دورٌ مهم في المسألة، ولكن دور المتكلمين كان دورًا تخريبيًّا، أو بالأصح كان دورهم في هذه المسألة هو إثارة الإشكالات والنقوض عليها، فيما قام العرفاء والحكماء بدَورٍ رائد في بيان هذه المسألة وجلائها. وقد انتهت هذه المسألة في مدرسة الحكمة المتعالية إلى مستوى النضج، وهو ما تبنَّاه المصنِّف في هذا الكتاب.
أهمية البحث في هذه المسألة
هذه المسألة من المسائل المهمة؛ لأنها ترتبط بموضوع العلم والإدراك، وفي الفلسفة الحديثة هناك بحثٌ مهمٌّ حول قيمة المعرفة، ويبحث في قضية إلى أيٍّ مدًى تكشف المعارف الموجودة في الذهن عن الواقع؟
نظريات الوجود الذهني
أمَّا الحديث هنا فهو في بيان النظريات في الوجود الذهني؛ فإنه ابتداءً يمكِن أن نصنِّف الاتجاهات إلى قسمَين؛ أي يُوجد موقفان في هذه المسألة؛ موقفٌ أنكر الوجود الذهني أساسًا، وموقفٌ قال بالوجود الذهني.
والموقف الذي تبنَّى القول بالوجود الذهني فيه قولان: قول بأن الوجود الذهني هو وجود الماهيَّات في الذهن، وقول بأن الوجود الذهني هو وجود شبح الماهيَّة، وليس الماهية نفسها. والنتيجة تكون النظريات ثلاثًا:
- الأولى: تقول بأن هناك وجودًا ذهنيًّا، وهو وجود الماهيَّات في الذهن بنفسها.
- الثانية: تقول بأن هناك وجودًا ذهنيًّا، لكنه ليس وجود الماهيَّة في الذهن، بل هو وجود شبح الماهية في الذهن؛ فإن القائل بالشبح منكِر للوجود الذهني للماهية نفسها؛ حيث إن ما يعتقده ويثبته هذا القائل ليس وجودًا ذهنيًّا للشيء ذاته، وإنما هو وجودٌ ذهنيٌّ لشبحه.
- الثالثة: أنكرَت الوجود الذهني، وقالت بأنه ليس هناك وجودٌ ذهني، وأن الذي يتحقَّق في حالة علمنا بشيء هو إضافة بين العالم والمعلوم.
والآن نبدأ ببيان هذه النظريات الثلاث:
نظرية الحكماء
النظرية الأولى ذهبَت إلى أن العلم أو المعارف؛ أي ما هو موجود في الذهن، هو وجود الماهيَّات، وهذا ما ذهب إليه الحكماء؛ فصورة الكتاب التي في ذهنك، وصورة السماء التي في ذهنك، هي وجود هذه الماهيَّات في ذهنك بنفسها، وهذه الماهيَّات هي التي تكشف وتحكي لك عمَّا في الخارج، ولكن هذه الماهيَّات لها حالتان؛ حالة تكون فيها موجودة بوجودٍ خارجي، كالنار تكون موجودةً بوجودٍ خارجي، فتترتَّب عليها الآثار الخارجية؛ أي إنَّ ماهيَّة النار إذا كانت موجودة بالوجود الخارجي تترتَّب عليها الآثار الخارجية للنار، فتكون محرقة، مضيئة، وأخرى تكون هذه الماهيَّات موجودةً في الذهن بوجودٍ ذهني، فلا تترتب عليها الآثار الخارجية، فماهيَّة النار في الذهن لا تُحرِق، وهذا الوجود الآخر للماهية في الذهن هو الذي نسمِّيه بالوجود الذهني، فالوجود الذهني هو الوجود الآخر للماهية في الذهن، الذي لا تترتَّب عليه الآثار الخارجية، والذي لا يكون منشَأً للآثار الخارجية.
والآثار الخارجية ليست للماهيَّة بما هي ماهيَّة؛ أي إن ما يُحرق في الخارج هو وجود النار لا ماهيَّة النار، فالماهية تتلبَّس بالوجود الخارجي فتترتَّب عليها الآثار الخارجية، تترتَّب هذه الآثار على وجود الماهيَّة في الخارج، لا على ذات الماهيَّة. والماهيَّة تتلبَّس بالوجود الذهني فلا تترتَّب عليها الآثار الخارجية، والحكماء قالوا: إن الموجود في الذهن هو الماهية، وهي التي تكشف لنا عن الخارج، ولكن هذه الماهية الموجودة في الذهن لا تترتَّب عليها الآثار الخارجية. فالوجود الذهني هو وجود الماهيَّة في الذهن المجرَّدة عن الآثار الخارجية؛ لأن الآثار الخارجية إنما تتحقق للماهيَّة إذا تلبَّسَت بالوجود الخارجي لا الوجود الذهني.
أدلة الحكماء
وقد استدل الحكماء على نظريتهم بعدة أدلة، وهنا المصنف ذكر ثلاثة:
- الدليل الأول: أننا نحكم بأحكام إيجابية على الأمور المعدومة، نقول مثلًا: «اجتماع النقيضَين غير اجتماع الضدَّين»، ونقول: «بحر الزئبق بارد»، ونقول: «شريك الباري محال»؛ ففي: «بحر الزئبق بارد»، بحر الزئبق غير موجود في الخارج، لكن هذا الحكم صحيح، وكذلك بقية الأمثلة؛ فهذه الأحكام الموجبة على المعدومات تعني وجود هذه المعدومات، ولكنها غير موجودة في الخارج، إذن لا بد أنها تكون موجودةً في موطنٍ آخر، هو الذهن.
-
الدليل الثاني: نتصوَّر مفهوم الإنسان ونصف هذا المفهوم
بأنه كُلي؛ أي نتصوَّر الكليات العقلية، فما
هو التصوُّر؟ التصوُّر إشارةٌ عقلية كما
يقولون؛ فأنت عندما تتصوَّر شيئًا تشير إليه،
والتصوُّر هو إشارةٌ عقلية، تقتضي وجود المشار
إليه، ولو بالإشارة نفسها، و«الكلي من حيثُ هو
كُلي غير موجود في الخارج، بل الموجود هو
الجزئي» لأن زيدًا في الخارج إنسانٌ جزئي،
فإذن هذه الأمور التي نتصوَّرها والتي تتصف
بالكلية، ليست موجودة إلَّا في الذهن، وهذا
يعني أن الوجود الذهني ثابت.
ومن المعلوم أن الإشارة العقلية تُغاير الإشارة الحسية؛ فإن الإشارة الحسية تحتاج إلى مُشارٍ إليه موجود قبل الإشارة، بخلاف الإشارة العقلية، حيث إن المشار إليه فيها يُوجد بنفس الإشارة، فالأولى من قبيل الإضافة المقولية، والثانية من قبيل الإضافة الإشراقية.
- الدليل الثالث: نحن عادةً نتصور الصِّرف من كل شيء، ونعني بالإنسان الصِّرف مثلًا، هو المجرَّد من كل ما هو منضم له ومختلط به؛ فالصرف هو الشيء الخالص والبحت الخالي من الزوائد؛ فعندما نتصوَّر الإنسان، الصِّرف الإنسانية، نجده عبارةً عن الإنسان محذوفًا عنه: الطول، اللون، الوزن، المزاج … إلخ. فحقيقة الإنسان الصرفة هذه لا تتثنَّى ولا تتكرر؛ لأن التثنية إنما تحصل من خلال القيود والضمائم، وهي أمورٌ خارجية، بينما هذه كلها محذوفة من الصِّرف؛ فالإنسان إنما يتكرَّر بما يخالطه من ضمائم؛ لأن زيدًا في الخارج يساوي إنسانًا زائدًا ضمائمَ خارجية، أمَّا الصِّرف الخالص فلا يتثنَّى ولا يتكرر؛ ولذا فهو واحدٌ وحدةً جامعةً لكل أفراد الإنسان؛ لأنه ينطبق على كل إنسانٍ قديمًا كان أو حادثًا، ميتًا أو حيًّا … إلخ، والصِّرف بهذه المواصفات غير موجود في الخارج؛ لأن الموجود في الخارج من حقيقة الإنسان متمايزة ومختلفة؛ فمن الناس طويل، ومنهم قصير … إلخ.
وعلى هذا الأساس لمَّا لم يكن الصِّرف موجودًا في الخارج، إذن لا بد أنه موجودٌ في موطنٍ آخر وهو الذهن.
وهذه الأدلة التي ذكرها المصنِّف على قول الحكماء إنما تثبت مطلق الوجود الذهني؛ أي تثبت أنه يُوجد موجود في الذهن، لكن هل هو ماهيَّة أو شبح؟ لا تفصح عنه هذه الأدلة.
نظرية الشبح
الشبَح ما بدا لك شخصُه غير جلي من بُعد، وشبَح الشيء ظله وخياله، والقول بالشبح يعني أن ما موجود في الذهن هو رسم الماهيَّة أو ظلُّها أو شبحُها أو صورتُها، أشبه بصورة الشخص في المرآة، ولكن هذه الصورة ليست دقيقةً للشخص، وغير مطابقة للماهية الخارجية، وإنما هي مباينة لها، ولكن تُشابهها بنحوٍ ما وتحكي عن بعض خصائصها، بمعنى أن الموجود في الذهن هو شبَح الماهيَّة، صورة الماهيَّة، لا حدُّ الماهيَّة، لا الماهية نفسها. ما هو موجود في الذهن عبارة عن صورةٍ حاكية عن هذا الأمر الخارجي، وهذه الصورة مباينة له غير مطابقة؛ أي بمثابة الظل، كظِلِّك عندما تسير في الشمس فإنه يرافقك، وظلك لا يطابقك، ولا يحكي عنك حكايةً دقيقةً تفصيلية، وإن كان يُشابِهك مشابهةً عامة، لكن بالتدقيق هو مباينٌ لك؛ لأنه قابلٌ لأن ينطبق على غيرك أيضًا، إذ هو يحكي عن بعض خصوصياتك.
مناقشة نظرية الشبَح
وهذا الكلام يقود إلى السفسطة وإنكار الواقع؛ لأن هذه الصورة إذا لم تكن مطابقة لما هو في الخارج، فلا تكون حاكية عنه حكايةَ دقيقةً وتامة، وحينئذٍ يؤدي ذلك إلى إنكار الخارج؛ إذ لا طريق لنا للاتصال بالواقع غير هذه الصورة الذهنية، وإذا لم يمكن الاتصال بالواقع فلا يمكن إثبات أن هناك واقعًا، وبالنتيجة ينتهي الموقف إلى السفسطة التي تُنكِر الواقع، والفلسفة تبدأ حيثُ تنتهي السفسطة؛ أي الفلسفة تقوم على إثبات الواقعية، ثم التحقيق فيمَ هي هذه الواقعية؟ أهي وجود أم ماهيَّة؟ وإذا كانت وجودًا، فهل هو واحدٌ أو كثير؟ … إلخ.
وهنا نشير إلى نكتة في المقام، وهي أن مسألة الوجود الذهني ترتبط بإدراك المدرك لغيره، وليس بإدراكه لذاته؛ أي هي ترتبط بالعلم الحصولي لا الحضوري؛ أي بما نعلمه نحن وما لدينا من صورٍ ذهنية، وليس بإحساسنا بلذَّاتنا أو آلا منا التي هي علمٌ حضوري لدينا.
نظرية الإضافة
وقد تبنَّاها بعض قدماء المتكلِّمين، وسمَّاها بعضهم كنصير الدين الطوسي، بالتعلُّق. وهذه النظرية يمكِن تقسيم القائلين بها إلى فريقَين:
- الفريق الأول: يقول بوجود صورة من المعلوم في الذهن، ولكن لجملة أسبابٍ يقولون إن العلم ليس هذه الصورة الموجودة في الذهن، بل إن العلم هو إضافة بين العالم وبين تلك الصورة.
- الفريق الثاني: أنكروا وجود صورة في الذهن أساسًا، ولم يعتبروا العلم إلا إضافة بين العالم والشيء المُدرَك — المعلوم — أي أنكروا «الوجود الذهني» ونجد هذَين الرأيَين عند الفخر الرازي، الأول في كتابه «المباحث المشرقية»، ونراه يختار القول الثاني في كتابه «المحصل».
مناقشة نظرية الإضافة
أنت تعلم بأن شريك الباري محال، وتعلم بأن اجتماع النقيضَين محال. وشريك الباري واجتماع النقيضَين أمران عدميان، فإذا كان العلم إضافة ونسبة بين العالم وبين المعلوم الخارجي، فهنا بالنسبة لشريك الباري لا يُوجد في الخارج معلومًا؛ إذ لا مصداق له في الخارج، مع أننا نعلم بأن شريك الباري مُحال.
إذن العلم بالمعدومات ينفي نظرية الإضافة؛ لأنه لا يمكن أن نستفيد معنًى محددًا في العلاقة بالنسبة للمعدوم؛ لأن الإضافة لا بد أن تكون بين العالم والمعلوم الثابت والمتحقق. والإضافة إلى العدم وهو اللاشيء لا حقيقة لها إلَّا عدم الإضافة.
الإشكالات على نظرية الحكماء
الإشكال الأول
إذا قلنا إن الوجود الذهني هو حصول الماهية بنفسها في الذهن، فإن هذا القول يستلزم أنَّه إذا حصلَت ماهية جوهر في الذهن تكون هذه الماهية في آنٍ واحد جوهرًا وعرضًا معًا، ولا يمكن أن يكون شيءٌ واحدٌ جوهرًا وعرضًا في آنٍ واحد؛ فحين تصوَّرتَ الكتاب أو الحجَر، فإنه جوهرٌ في الخارج؛ أي موجود لا في موضوع، فمعنى وجود صورة هذا الكتاب أو الحجر في ذهنك أن ماهيَّة الكتاب — الجوهر — وُجدَت في ذهنك بذاتها، كما تقول نظرية الحكماء؛ لأن ماهيَّة الكتاب أو الحجر هي جوهر، فإن الجوهر في الذهن جوهر، لاستحالة سلب الشيء عن نفسه. ولكن لو لاحظتَ هذه الصورة الموجودة في الذهن من حيثُ إنها قائمة بالذهن، أو موجودة في الذهن، فحينئذٍ تكون موجودًا في موضوع؛ لأن هذه الصورة عارضةٌ على الذهن، وقائمةٌ بالذهن قيام العرض بمعروضه، يعني كقيام البياض بالورقة، فتكون عرضًا؛ لأنها موجودة في موضوع.
وبعبارة أخرى إن ماهية الكتاب أو الحجر في الخارج جوهر؛ لأنها موجودةٌ لا في موضوع، ومن حيثُ هي قائمة في النفس، وموجودة في الذهن وجودَ العرض بمعروضه، فتكون عرضًا؛ لأن العرض هو الموجود بموضوع، فتكون في آنٍ واحد جوهرًا وعرضًا.
ولا إشكال أنه لا يمكن أن يكون شيءٌ واحد جوهرًا وعرضًا — قائمًا في موضوع وغير قائم به — لأن الشيء إمَّا أن يكون جوهرًا أو عرضًا، بينما هذه الصورة — صورة الكتاب مثلًا — التي في الذهن أصبحَت في آنٍ واحد جوهرًا وعرضًا، هي جوهر لأنها ماهيَّة الجوهر، وهي عرضٌ لأنها موجودة في موضوع وهو الذهن.
الإشكال الثاني
أن الماهية الذهنية مندرجة تحت مقولة الكيف، كما أنها تكون مندرجةً تحت مقولةٍ أخرى غير مقولة الكيف. وقبل توضيح ذلك نشير أولًا إلى نقطةٍ مهمة، وهي أن المقولات العشر المعروفة: الجوهر، ومقولات العرض التسعة: الكم، الكيف، الأين، المتى، الإضافة، الجدة، أن يفعل، أن ينفعل، هذه الماهيَّات بتمامها متباينة الذات، وهي أجناسٌ عالية ليست فوقها أجناس، فهي بسيطة؛ فالجوهر الذي هو جنس الأجناس بسيط لا يتألف من جنس وفصل، بخلاف الأجناس التي تقع تحته، فإنها كلها تتألَّف من جنس وفصل. وهكذا الكم والكيف والأين … إلخ.
ولمَّا كانت هذه الأجناس العالية بسيطةً غير مركبة، ليس فوقها جنسٌ عالٍ، فإن هذه الماهيَّات العشر متباينة بتمام الذات.
وبما أن الصورة الذهنية هي حضور ماهيَّة ذلك الشيء في الذهن، فإنها تكون جوهرًا لانحفاظ ذاتيات الماهية، وبما أنها علم، والعلم مندرج تحت ماهية الكيف النفساني، فتكون الصورة العلمية للكتاب الموجودة في الذهن مندرجة تحت مقولتَين؛ مقولة الجوهر؛ لأنها ماهية للكتاب، الذي ماهيته الخارجية جوهر، فماهيته في الذهن كذلك جوهر لانحفاظ الذاتيات، والجوهر في الذهن جوهر، لاستحالة سلب الشيء عن نفسه، وكذلك تكون ماهيَّته من مقولة الكيف النفساني؛ لأنها علم، والعلم مندرج تحت الكيف النفساني، فتكون هذه الصورة الذهنية للكتاب جوهرًا، بما هي حاكية عن الكتاب الخارجي الذي هو جوهر، وتكون كيفًا نفسانيًّا بما أنها علم، والعلم مندرج تحت الكيف النفساني.
كذلك لو تصوَّرنا، كمًّا معينًا، طول شارعٍ معيَّن، فهذا الطول بما أنه ماهيَّة يكون مندرجًا تحت مقولة الكم، وبما أنه علم، يكون مندرجًا تحت مقولة الكيف النفساني؛ لأن العلم مندرج تحت الكيف النفساني، فتكون الصورة العلمية للطول في الذهن كمًّا وكيفًا في آنٍ واحد؛ أي مندرجة تحت مقولتَين.
كذلك لو تصوَّرنا صورةً للونٍ معيَّن، فإنها تكون مندرجة تحت مقولة الكيف المحسوس، وبما هي علم، فإنها تكون كيفًا نفسانيًّا؛ وبالتالي تكون صورة اللون مندرجة تحت نوعَين مختلفَين من مقولةٍ واحدة، وهذا محال.
قد يُقال: لم لا يجوز اندراج ماهيةٍ واحدة تحت مقولتَين؛ أي جنسين، مع أنه يمكن أن يكون الشيء الواحد ذا أجناسٍ مختلفة، عالية وسافلة ومتوسطة؟
الجواب: يمكِن ذلك في الأجناس التي يكون كلٌّ منها في طول الآخر، وأما الأجناس التي يكون كلٌّ منها في عرض الآخر — كما في حالتنا هذه — فلا يجوز اندراج ماهيةٍ واحدة تحت أكثر من واحدٍ منها؛ إذ يلزم كون شيءٍ واحد ذا حقيقتَين أو أكثر، وهي كثرة الواحد.
جواب الإشكال الأول
أن التباين الذاتي إنما هو بين المقولات العشر: «الجوهر، الأين، المتى، الكم، … إلخ»، فهي أجناسٌ عالية، متباينة بتمام الذات، أما العرض، فهو مفهومٌ عام (وليس مقولة) تقع تحته مقولاتُ العرض التسع، فالعرض ليس جنسًا عاليًا لهذه المقولات التسع، وإنما هو مفهومٌ عام وعنوانٌ كلي لهذه المقولات التسع، وهي تندرج تحته؛ أي يندرج تحته كل ما هو موجودٌ في موضوع.
أما الجوهر فيمكن أن نقسمَه إلى قسمَين؛ الجوهر في الخارج، وصورة الجوهر ومفهومه في الذهن.
والجوهر الذي يكون منشأً لترتُّب آثار الجوهر ويندرج تحت مقولة الجوهر هو الجوهر الخارجي؛ أي إن الجوهر هو الماهية التي إذا وُجدَت في الخارج وُجدَت لا في موضوع، وإذا وُجدَت في الذهن فمن الجائز أن تقومَ في موضوع، هو الذهن، قيامَ العرض بمعروضه، كما يقوم اللون الأبيض بهذه الورقة البيضاء، أما إذا وُجد في الخارج فلا يُوجد في موضوع، وعلى هذا الأساس يمكن أن تندرج صورة الكتاب في الذهن — الجوهر الذهني — تحت مفهوم العرض العام، الذي هو عنوانٌ عام، فيكون مفهوم العرض عرضًا عامًّا يشمل الجوهر الذهني، وبذلك ينحل الإشكال الأول.
جواب الإشكال الثاني
وملخص الإشكال كما تقدَّم: أن الماهية الواحدة تدخل تحت مقولتَين، فتكون جوهرًا أو كمًّا أو متى … إلخ، وكيفًا نفسانيًّا، أو تكون كيفًا محسوسًا وكيفًا نفسانيًّا، وبما أن المقولات متباينة بتمام الذات، فذلك مُحال.
الجواب بإنكار الوجود الذهني
وهذا الإشكال لدقَّته اضطَر بعضهم أن يُنكر الوجود الذهني أساسًا؛ ولذلك قال بأن العلم إضافة بين العالِم والمعلوم؛ ولهذا فإن المعلوم يكون دائمًا مندرجًا تحت مقولته الخارجية فقط؛ أي إنْ عَلِمنا بالجوهر فسيكون المعلوم جوهرًا، وإن علمنا بالكم فسيكون المعلوم كمًّا، وإن علمنا بالكيف فسيكون المعلوم كيفًا.
وقد اوضحنا سابقًا أن القول بالإضافة غير تام؛ لأن علم الإنسان بالمعدومات لا يصحِّحه هذا القول، مثل علمنا بأن جبل الذهب يلمع، أو بحر الزئبق بارد، مع أنه لا يُوجد جبل ذهب ولا بحر زئبق في الخارج.
الجواب بالقول بالشبح
كما أن بعضهم أجاب عن الإشكال الثاني، بأن الماهيَّات الخارجية موجودة بأشباحها؛ أي إن أصحاب النظرية الثانية في تفسير الوجود الذهني، وهي النظرية القائلة بأن الوجود الذهني هو وجود شبَحِ الشيء وصورتِه وظلِّه؛ أي إن الأشياء ليست موجودة بماهيَّاتها في الذهن وإنما الموجودة هي أشباحُها، وبعبارة أخرى إن الموجود في الذهن هو صورةٌ ضبابية تحكي عن الواقع، إن كانت هذه الصورة غير مطابقة للواقع تمامًا فهي صورةٌ تختلف عن الواقع الخارجي، وإن كانت تُشابِهه ببعض الخصوصيات، وعلى هذا تكون الصورة العلمية في الذهن مندرجة تحت الكيف النفساني؛ أي هذا الشبَح الموجود في الذهن يكون مندرجًا تحت الكيف النفساني، أما هل هذا جوهرٌ أو كيفٌ أو كم؟ فإنها لا تكون جوهرًا في الذهن؛ لأن المقولة الخارجية غير باقية في الصورة الذهنية، وعلى هذا الأساس حاول القائل بالشبح أن يحلَّ هذا الإشكال.
لكن بيَّنا أن القول بالشبح غير سديد؛ لأنه ينتهي إلى السفسطة. إذن الجواب على الإشكال الثاني بنظريتَي الإضافة والشبح غير صحيح لبطلان النظريتَين.
وقد ذكَر المصنِّف عدة إجابات، منها للقوشجي شارح «تجريد الاعتقاد» ولصدر الدين الدشتكي، ولجلال الدين الدواني، ولكن الإجابة الصحيحة التي تبنَّاها المصنِّف هي إجابة صدر المتألهين، وهي أدقُّ الإجابات كما سنلاحظ.
جواب القوشجي
يعتقد القوشجي بأن هناك أمرَين في الذهن: أحدهما هو العلم، والثاني هو المعلوم، فلو علمتُ أنا بشيء كالكتاب، فالموجود في ذهني أمران، المعلوم والعلم، والمعلوم مندرج تحت المقولة الخارجية للكتاب؛ أي المعلوم جوهر؛ لأن الكتاب في الخارج جوهر، فالمعلوم مندرج تحت مقولته، إن كان جوهرًا فجوهر او كمًّا فكم، أما العلم فهو مندرجٌ تحت مقولة الكيف ومن نوع الكيف النفساني.
وبالتالي فلا إشكال؛ لأن الإشكال ينشأ من أن الصورة العلمية الموجودة في الذهن هي صورة واحدة، موجود ذهني واحد، فكيف يمكن لهذا الموجود الذهني الواحد في آن واحد أن يندرج تحت مقولتين، هما الجوهر والكيف النفساني؟ أو تحت الكم والكيف النفساني؟ أما إذا قلنا بأن الموجود في الذهن اثنان، أمران، هما المعلوم، والعلم، والمعلوم مندرج دائمًا تحت مقولته، ماهيَّته الخارجية، أما العلم فهو صفةٌ للنفس تطرد عنها الجهل، وهي مندرجة تحت مقولة الكيف النفساني.
وهذا كما لو وضعنا شيئًا في غرفة وكان في جدرانها مرايا، فهنا تظهر صورة الكتاب في المرايا كما أن الكتاب موجود في الغرفة، فهنا يكون للكتاب وجودان؛ الأول: هو وجوده في وسط الغرفة وهذا يمثِّل وجود المعلوم أي قيامه بنفسه، والثاني: ظهور الكتاب أو صورته في المرايا، وهو العِلم. وبذلك لا يُوجد تنافٍ؛ لأن العلم شيء والمعلوم شيءٌ آخر، العلم مندرج تحت مقولة الكيف النفساني، والمعلوم جوهر، فلا اجتماع لمقولتَين او لنوعَين من مقولةٍ واحدة.
مناقشة جواب القوشجي
لو رجعنا إلى أنفسنا عندما نعلم بشيء، ندرك صورة الكتاب مثلًا، أفنجد في ذهنِنا أمرَين أم أمرًا واحدًا؟ أي ما ندركه من صورة الكتاب أتعبِّر عن معلومٍ زائدٍ علمًا، أم أنها تعبِّر عن شيءٍ واحد، صورةٍ واحدة، أمرٍ واحد فقط؟
لا إشكال أننا ندرك الصورة العلمية وهي شيءٌ واحد، وهي ذاتُها تكون وصفًا لنا نتصف به وهو العلم، فحينئذٍ ليس هناك معلومٌ مستقلٌّ عن العلم؛ فنحن نلاحظ وجودًا ذهنيًّا واحدًا، صورةً واحدة، هي التي تطرد عنَّا الجهل.
جواب صدر الدين الدشتكي
صدر الدين الدشتكي المعروف بالسند، وهو من القائلين بأصالة الماهية، وملخَّص جوابه: أن الماهية عندما تحضُر في الذهن تتغيَّر وتنسلخ من حقيقتها، فإذا كانت جوهرًا فإنها تتبدل من حقيقة الجوهر وتكون شيئًا آخر، وإذا كانت كمًّا فإنها كذلك تنسلخ من حقيقة الكم وتكون شيئًا آخر؛ أي إن الماهية مهما كانت في الخارج فإنها سوف تتغيَّر في الذهن إلى كيف. ولمَّا كانت الماهية في الذهن مندرجةً تحت مقولة الكيف فلا يرِد الإشكال المتقدم، وقد أوضح السند الدشتكي هذا الجواب فيما يلي:
- أولًا: إن الماهية بقطع النظر عن الوجود الذهني أو الخارجي لا تتحدَّد حقيقتها. وبعبارةٍ أخرى يقول: إن موجودية الماهية متقدِّمة على الماهيَّة، فإن الماهيَّة بقطع النظر عن الوجود لا شيء أصلًا.
- ثانيًا: أن الوجود تارةً يكون ذهنيًّا وأخرى يكون خارجيًّا، والوجود الذهني يغاير الخارجي حقيقةً، فإذا تبدَّل الوجود الخارجي إلى وجود ذهني، فحينئذٍ لا بد أن يكون ما بالذهن مغايرًا لما بالخارج؛ لأن هناك اختلافًا حقيقيًّا بين الوجودَين.
وعلى هذا الأساس تتحدَّد حقيقة الماهية؛ لأن الماهية مع قطع النظر عن الوجود ليست شيئًا أصلًا، فحينئذٍ تنسلخ الماهية عن حقيقتها، فإذا كانت في الخارج كمًّا، فإنها تتغيَّر في الذهن تبعًا للوجود الذهني المغاير للوجود الخارجي، وإذا كانت في الخارج جوهرًا، تتحول في الذهن إلى كيف؛ أي إن الذي يحدِّد حقيقة الماهية هو الوجود الذهني، فتكون دائمًا كيفًا، أما الوجود الخارجي لها فيكون جوهرًا أو كمًّا أو كيفًا حسب حقيقتها.
وهنا قد يُقال: ألا يلزم من ذلك التبايُن بين الماهية الذهنية والماهية الخارجية؛ لأن ماهية الكتاب في الخارج جوهر، وماهيته في الذهن كيفٌ نفساني؟ فكيف يصدُق هذا الكيف النفساني على الجوهر الخارجي وبينهما تباين؟
الجواب: يمكن حل هذا الإشكال بالبحث في أمرٍ مشترك بين الماهيتَين — الذهنية والخارجية — فالعقل يمكِن أن يصوَّر عنصرًا مشتركًا قابلًا للانطباق على ما بالخارج وما بالذهن، كأن يكون عنوان الشيئية والأمرية، فيصدُق على ما في الخارج أنه شيء ويصدُق على ما في الذهن أنه شيء؛ لأنَّ الشيء عنوانٌ عام، كذلك يصدُق عليهما الأمر.
وعلى هذا الأساس يمكن أن ينطبق ما في الذهن على ما في الخارج، ويكون ما في الذهن نفس ما في الخارج، وهذا من قبيل الأصل المشترك بين الكائن والفاسد الماديَّين؛ فالخشب عندما يحترق يفسد — حسب تعبيرهم — لكن هناك أصلٌ مشترك بين هذا الخشب والرماد، هو المادة، التي تلبَّسَت بصورٍ مختلفة، فهذا الأصل المشترك بين الخشب والرماد، نصوِّر نظيره بين الماهية الذهنية (الكيف النفساني) وبين الماهية الخارجية (الجوهر) فتصلُح حينئذٍ الماهية الذهنية للانطباق على الماهية الخارجية.
مناقشة جواب الدشتكي
وهذا الجواب ناقشه المصنف بما يلي:
- أولًا: هذا الجواب لا يتطابق مع مبنى الدشتكي القائم على أصالة الماهيَّة؛ لأن هذا الجواب يبتني على أساس أن الماهيَّة لا حقيقة لها بقطع النظر عن الوجود؛ وبالتالي هذا الجواب لا يتطابق مع أصالة الماهية.
- ثانيًا: أن هذا الجواب ينتهي إلى نفس الجواب الذي انتهى إليه القول بالشبح؛ لأن القول بالشبح مضمونه يعني المغايرة بين الصورة العلمية للكتاب والكتاب الخارجي؛ لأن صورة الكتاب هي شبح للكتاب يمكن أن ينطبق على الكتاب أو على غيره، تُباين الكتاب مع الاحتفاظ ببعض خصوصياته، وهذا ينتهي إلى السفسطة؛ أي إنكار معرفة الواقع؛ لأنه يقول إن الصورة التي في الذهن مباينة للماهية الخارجية. ولكن نُصوِّر شيئًا عامًّا ينطبق على الصورة والشيء الخارجي، وفي المحصِّلة فهو كالشبح؛ لأنه كما ينطبق على هذا الكتاب قابل أن ينطبق على القلم أو على الأشياء الأخرى، وفي النتيجة لا تكون هذه الصورة كاشفة عن الواقع كشفًا تامًّا، فيفسد الطريق لاكتشاف الواقع والاتصال به، ويلزم من ذلك السفسطة، وينتهي هذا القول إلى نفس ما انتهى إليه القول بالشبح من لزوم محذور السفسطة.
ومن المعلوم أن القول بوجود أصلٍ مشترك بين الأمرين، لا يكفي لتصحيح أن ما في الذهن هو نفسه ما في الخارج؛ لأنه إن أريد بالأصل المشترك كون كلٍّ منهما شيئًا أو أمرًا أو ماهية، فإن المصحح هو بقاء شيءٍ من الأمرَين في الآخر، وهو منتفٍ هنا؛ فإن الوجودَين مختلفان بالحقيقة، كما هو المفروض، والماهيتَين أيضًا مختلفتان بتمام الذات، وهذا بخلاف الكائن والفاسد الماديَّين، كالخشب ورماده والماء وبخاره، فإن المادة الموجودة في الكائن باقية في الفاسد.
جواب الدواني
إن العلم لمَّا كان متحدًا مع المعلوم بالذات، كان من مقولة المعلوم، إنْ جوهرًا فجوهر، وإن كمًّا فكَم، وهكذا.
بمعنى أنه لا يقول بأن هناك علمًا مستقلًّا عن المعلوم كما قال القوشجي. والمعلوم بالذات هو الصورة الذهنية لأنها موجودة بالذهن، والمعلوم بالعرض هو المصداق الخارجي لأننا نعلمه من خلال الصورة الذهنية، ولا بد أن يكون العلم من مقولة المعلوم؛ أي إن العلم دائمًا من مقولة المعلوم، وليس كيفًا، فإن كان المعلوم — كالكتاب — جوهرًا كان العلم جوهرًا كذلك، وهكذا إن كان المعلوم كمًّا كان العلم كذلك؛ فالدواني ينفي أن يكون العلم من مقولة الكيف النفساني. وهذا القول عكس القول الثاني؛ لأن الثاني يقول إن العلم دائمًا يكون كيفًا نفسانيًّا، ولا يندرج تحت مقولة الشيء الخارجي، بل الماهية الخارجية حينما تتحول للذهن فإنها تتحول إلى الكيف النفساني، بينما هذا القول يرى أن الماهيَّة الخارجية تبقى على حالها؛ لأن العلم والمعلوم أمرٌ واحد.
وهنا قد يرِد على الدواني، لماذا يُقال: بأن العلم كيفٌ نفساني؟ فيجيب: إن هذا القول مبنيٌّ على التسامح في التعبير؛ أي الفلاسفة عندما يقولون بأن العلم كيفٌ نفساني، إنما يقصدون بذلك أن كيفيَّته هذه، كما يُقال عن هذا الخشب بأن كيفيته خشبية، أو عن هذا الورق بأن كيفيته ورقية، فالناس يعبِّرون تعبيرًا عرفيًّا بالوصف بالكيفية، كذلك يُسمى العلم مجازًا كيفًا، وإلا فهو في الواقع ليس كيفًا، كما يسمُّون كل وصفٍ ناعت للغير بالعرف العام. كما يسمُّون كيفية هذا الحجر حجرية، وإن كان هو في الواقع جوهرًا.
وبكلمةٍ موجزة إن قولهم مبنيٌّ على المسامحة في التعبير، ووجه المسامحة أنهم عبَّروا بالكيف ولم يريدوا به المعنى الذي اصطلَحوا هم أنفسهم عليه، بل أرادوا به مطلَق الوصف الناعت، الذي ليس هو إلَّا معنًى عرفيًّا؛ أي إن الفلاسفة تكلموا هنا بلسان أهل العُرف واللغة، فعبَّروا بالكيف وأرادوا به الوصف الناعت، ولم يريدوا به المعنى المصطلَح عليه عندهم.
وبذلك ينحل الإشكال الثاني؛ لأن الصورة الذهنية لا تندرج تحت مقولتَين، بل هي مندرجة تحت مقولةٍ واحدة، هي مقولة الشيء الخارجي.
أما الإشكال الأول: وهو كون أمر واحد جوهرًا وفي الوقت نفسه عرضًا، فجوابه ما تقدم من أن مفهوم العرض هو عرضٌ عام تقع تحته المقولات التسع العرضية كما يقع تحته الجوهر الذهني؛ لأن الجوهر في الذهن قائمٌ في موضوع.
مناقشة جواب الدواني
في نقض جواب الدواني يمكن القول:
- أولًا: إن مجرد صدق مفهوم مقولةٍ ما، كصدق مقولة الجوهر على الماهية الذهنية، لا يوجب اندراج هذه الصورة الذهنية تحت الجوهر، إلَّا إذا كانت منشَأ لترتُّب آثار الجوهر الخارجية، والمفهوم — الصورة الذهنية — ليست مصداقًا، ولا تترتَّب عليها الآثار الخارجية للشيء، فلا تندرج تحت مقولة الشيء الخارجية، إن كان جوهرًا أو كمًّا أو كيفًا … إلخ.
- ثانيًا: مَنْ قال إن العلم ليس كيفًا نفسانيًّا؟ فقد ذكرنا أن الوجود الذهني يعني العلم الحصولي، وهو مندرج تحت الكيف النفساني، وهذا متفَق عليه بين علماء المعقول، ولم يقُل أحد إن ذلك مجاز ومسامحة، كما زعم الدواني؛ فإننا نجدهم في مباحث الكيف يعُدُّون العلم من الكيفيات النفسانية. وأيضًا يطبِّقون حد الكيف — وهو أنه عرضٌ لا يقبل القسمة ولا النسبة لذاته — حرفًا بحرفٍ على العلم.
ولذلك فليس صحيحًا في حل الإشكال ما أفاده الدواني.
جواب صدر المتألهين
أن صدر المتألهين يحل هذا الإشكال بناءً على تمييزه بين نوعَي الحمل الشائع والأوَّلي؛ حيثُ يقول: إن الحمل الأوَّلي لا يوجب اندراج الشيء تحت المقولة، بينما الحمل الشائع يوجب ذلك.
وبناءً على أن ما في الذهن ذو وجهَين وحيثيتَين؛ بأحدهما هو وجودٌ ذهني، وبالآخر هو عِلم.
توضيح ذلك: عندما نقول إن هذه المقولة يندرج تحتها شيء، مثل مقولة الجوهر، فلا بد لكي يدخل شيءٌ تحت هذه المقولة من أمرَين:
- أولًا: صدق مفهوم الجوهر على هذا الشيء، كالكتاب الذي لا بد أولًا أن يصدُق مفهوم الجوهر عليه.
- ثانيًا: لا بد أن تترتَّب آثار الجوهر على الكتاب؛ فلا يكفي أن يدخل شيء تحت مقولةٍ ما، بصدق مفهومها فقط عليه دون ترتُّب الآثار، وإلا لو كان ذلك يكفي لصارت كل المفاهيم هي مصاديق ذلك الشيء.
وعلى هذا الأساس نقول: إن مجرد أخذ مفهومٍ في حدِّ شيءٍ ما هل يوجب اندراج ذلك الشيء تحت ذلك المفهوم أو لا يوجب اندراجه؟ فعندما أخذت مفهوم الحيوان في حدِّ الإنسان، فهل يُوجب ذلك اندراج حد الإنسان تحت الحيوان وعندما أخذت الجوهر في حدِّ الإنسان، فهل يوجب ذلك اندراج حد الإنسان تحت مقولة الجوهر؟
الجواب: لا، بل إنما يتوقف اندراجُه على ترتُّب الآثار عليه حقيقة، وإنما تترتَّب الآثار على مصداق الإنسان في الخارج، على زيد الخارجي، ولا تترتَّب الآثار على الصورة الذهنية والمفهوم.
وبعبارةٍ فنية، عندما نقول: «الإنسان إنسان» بالحمل الشائع، و«الإنسان إنسان» بالحمل الأوَّلي، أو قل: الإنسان حيوان بالحمل الأوَّلي، والإنسان حيوان بالحمل الشائع، أو الإنسان جوهر بالحمل الأوَّلي، والإنسان جوهر بالحمل الشائع، فالإنسان جوهر بالحمل الأوَّلي؛ أي ليس للإنسان من الجوهر إلا مفهوم الجوهر، صورة الجوهر، أي هذا الإنسان ينطبق عليه مفهوم الجوهر، فالاتحاد في الحمل الأولي — كما قلنا سابقًا — اتحادٌ مفهومي؛ أي إن مفهوم الإنسان هو نفس مفهوم الجوهر، وإذا قلنا الإنسان جوهر بالحمل الشائع، فذلك يعني أن مصداق الإنسان يكون مصداقًا حقيقيًّا للجوهر، وتترتَّب عليه الآثار الحقيقية للجوهر، ويكون موجودًا لا في موضوع.
فالحمل الأوَّلي يوجب أن يكون للشيء مفهوم المقولة فقط، بينما الحمل الشائع يوجب أن يكون الشيء مندرجًا حقيقة تحت تلك المقولة، ومصداقًا لتلك المقولة؛ فالصورة الذهنية للجوهر لا تندرج تحت الجوهر؛ لأنها لا تترتَّب عليها آثار الجوهر الخارجية.
كما أن ما في الذهن ذو وجهَين وحيثيتَين؛ بأحدهما هو وجودٌ ذهني، وبالآخر هو علم فيمكن أن نلاحظ الصورة الذهنية بلحاظَين، فتارةً من حيثُ هي وجودٌ ذهني حاكٍ عن الوجود الخارجي، لا تكون هذه الصورة — بهذا اللحاظ — جوهرًا ولا عرضًا.
وتارةً نلاحظ صورة الجوهر في الذهن من حيثُ هي أمرٌ موجود وحاصل للذهن؛ أي بما هي وجودٌ تترتَّب عليه آثار، وهو أنها تطرُد عدم الصورة، بمعنى أنها عِلم، فحينئذٍ إذا ترتَّب عليه أثرٌ يكون وجودًا خارجيًّا؛ لأن الخارجية بالمعنى الأعم هي حيثية ترتُّب الآثار.
فإذا لاحظنا هذه الصورة بقطع النظر عن الخارج، وبما هي تطرُد عن الذهن الجهل؛ أي تكون منشأً لأثرٍ خارجي، فإنها تكون مصداقًا حقيقيًّا للكيف؛ فهي كيف بالحمل الشائع؛ أي مندرجة تحت مقولة الكيف، وتكون مصداقًا حقيقيًّا لمقولة الكيف؛ لأنها عِلم.
ويمكن تلخيص مدَّعى الحكماء في أن الوجود الذهني للماهية هو نفس الوجود الخارجي، ما عدا ترتُّب الآثار على الماهية في الخارج، بذكر عدة مقدِّمات:
- الأولى: إذا أدركنا شيئًا فإنه يُوجد شيءٌ في الذهن حال الإدراك، وهذا اعترافٌ بالوجود الذهني.
- الثانية: أن ما يحصُل في الذهن هو شيءٌ واحد لا شيئان.
- الثالثة: أن ما يحصل في الذهن هو عين ماهيَّة الشيء لا شيء آخر.
- الرابعة: الموجود في الذهن — الصورة العلمية — يقع تحت مقولة الكيف، باعتبارها علمًا، والعلم يندرج تحت الكيف النفساني.
- الخامسة: أن المقولات متباينةٌ بتمام الذات.
وفي ضوء هذه المقدمات يمكن معرفة الفرق بين نظرية الحكماء وغيرها.
الفرق بين نظرية الحكماء والنظريات الأخرى
إن نظرية الإضافة القائلة بأن العلم هو إضافة ونسبة بين العالم والمعلوم، تنكر المقدمة الأولى؛ أي لا تقول بوجود شيءٍ في الذهن حال الإدراك.
أما نظرية القوشجي فإنها تنكر المقدمة الثانية؛ إذ تقول: إن ما يحصل في الذهن شيئان هما العلم والمعلوم، كما لو كانت هناك قنينةٌ زجاجية شفَّافة داخلها مصباحٌ أحمر، فإن القنينة الزجاجية الشفَّافة سوف تتلوَّن باللون الأحمر للمصباح الأحمر، فالمصباح هو المعلوم، والقنينة المتلوِّنة بلون المصباح الأحمر هي العلم. بينما المقدمة الثانية تقول: إن ما في الذهن هو أمرٌ واحد لا أمران.
أما نظرية الشبح فإنها تنكر المقدمة الثالثة، التي تقول إن ما يحصل في الذهن هو عين ماهيَّة الشيء، بينما نظرية الشبح تقول إن ما يحصل في الذهن هو رسمُ الماهية وشبحُ الماهية.
بينما تنكر نظرية صدر الدين الدشتكي المقدمة الثالثة، فإنها تقول: إن ما يحصل في الذهن ليس نفس الماهية بل الماهية تنسلخ عن مقولتها الخارجية، وتتحول إلى كيفٍ نفساني في الذهن.
أما نظرية المحقِّق الدواني فإنها تنكر المقدمة الرابعة، التي تقول: إن الموجود في الذهن يقع تحت مقولة الكيف؛ لأن المحقِّق الدواني يقول: إن ما في الذهن لا يقع تحت مقولة الكيف، وإنما يقع تحت مقولته الخارجية، وأمَّا التعبير بالكيف فهو تعبيرٌ مسامحي ومجازي.
مصطلَحات الحمل
ينقسم الحمل الشائع في أحد تقسيماته إلى الحمل الشائع بالذات، والحمل الشائع بالعرض.
والمقصود بالأول: أن يكون المحمول مأخوذًا في ذات الموضوع الخارجي، فنقول: «زيد إنسان»؛ فالمحمول هنا جزءٌ ماهويٌ مأخوذٌ في ذات الموضوع.
أما الحمل الشائع بالعرض: فهو الحمل الذي يكون فيه المحمول متحدًا مع عرضٍ من أعراض الموضوع، كما في «زيد كاتب»؛ فالكتابة ليست جزءًا ذاتيًّا من زيد لأنه إنسان، وإنما هي أمرٌ عرضي.
وهناك مصطلحٌ آخر في الحمل وهو أن المحمول تارةً يكون محمولًا بالضميمة، وأخرى يكون محمولًا بالصميمة أو خارج المحمول.
المحمول بالضميمة، عندما نقول: الورقة بيضاء، هنا ينضم شيء للورقة وهو البياض، وهذا البياض هو الذي يكون منشَأً لصحة الحمل، فلا يكون المحمول من صميم الموضوع. وإنما المحمول منضمٌّ إلى الموضوع.
وأما المحمول أو الحمل بالصميمة: فلا ينضَم شيء إلى الموضوع، بل المحمول مستخرجٌ من صميم الموضوع، كالإنسان ممكن أو زيد شيء، فالشيئية ليست أمرًا إضافيًّا منضمًّا لزيد؛ لأن كل وجود شيء، فالمحمول هنا — الشيئية — مستخرج من صميم الموضوع.
الإضافة المقولية والإشراقية
تُقسَّم الإضافة إلى:
-
(١)
المقولية: هي التي تكون إحدى المقولات — مقولات العرض التسع — كما إذا كان هناك طرفان وبينهما نسبةٌ متكررة، كالأخوة مثلًا؛ فالأخوة تفترض زيدًا وبكرًا، ولا يمكن أن تكون من طرفٍ واحد، فلا يكون زيدٌ فقط أخًا لبكر، وبكر ليس أخًا له.
-
(٢)
الإشراقية: هي التي لا يكون فيها طرفان، بل طرفٌ واحد، مثل العلة والمعلول، الواجب تعالى علَّة العلل، والممكِنات معلولاتٌ له، فهي ليست طرفًا حقيقيًّا في قبال الواجب، بل الواجب، هو الذي يُفيض هذا الوجود الإمكاني، وهو الذي يُشرق هذا الوجود؛ ولذلك تُسمَّى الإضافة بالإشراقية، فالعلة تُفيض وتُشرق بوجودها وجود المعلول.
جواب صدر المتألهين على الإشكال ببيانٍ آخر
أن الحمل الأوَّلي لا يوجب الاندراج، والحمل الشائع يوجب الاندراج؛ أي عندما نقول صورة الإنسان التي في الذهن جوهرٌ بالحمل الأوَّلي، يعني أن هذه الصورة ليست مندرجة تحت مقولة الجوهر، وإنما ليس لها من الجوهر إلا مفهوم الجوهر؛ لأن اندراج شيء تحت مفهومٍ ما لا بد أن ينطبق عليه هذا المفهوم أولًا، وثانيًا، لا بد أن تترتَّب على هذا الأمر الآثار الخارجية للشيء، فصورة الإنسان في الذهن جوهرٌ بالحمل الأولي؛ أي ليس لها إلا مفهوم الجوهر، بينما الإنسان في الخارج جوهر بالحمل الشائع؛ أي مندرج تحت مقولة الجوهر، تترتَّب عليه الآثار الخارجية للجوهر، وهو أنه موجودٌ لا في موضوع.
هذا هو الأمر الأول، الذي يبتني عليه جواب صدر المتألهين.
أما الأمر الثاني من الأمرَين اللذَين يبتني عليهما جوابه، فهو أن هذه الصورة الذهنية يمكن أن نلاحظها بلحاظَين؛ فتارة بما هي وجودٌ ذهني حاكٍ عن الإنسان الخارجي، فلا تكون جوهرًا ولا عرضًا، وإذا لاحظنا هذه الصورة الذهنية باعتبارها أمرًا موجودًا في النفس، يتصف به الذهن، ويطرُد عن الذهن حالةً من الجهل بالإنسان؛ أي نلاحظها من حيث هي علم، فحينئذٍ تكون أحد مصاديق الخارجية المطلَقة، الخارجية بالمعنى الأعم، فإذا لاحظنا الماهية بهذا اللحاظ عندها تكون موجودًا إمكانيًّا، والذهن ينتزع منه ماهية، وهذا الوجود الإمكاني يندرج تحت مقولة الكيف النفساني، ولكن يمكن أن نصف اللحاظ الأول للصورة الذهنية، إذا لاحظناها بما هي مقيسة للخارج، وقلنا إنها ليست جوهرًا ولا عرضًا، فيمكن أن نقول إنها عرض وداخلة تحت مقولة الكيف بالعرض؛ أي يصدُق عليها باللحاظ الأول أنها كيف بالحمل الشائع بالعرض؛ لأن ما في الذهن هو أمرٌ واحد، لكن نلاحظه بلحاظَين، مرَّة بما هو حاكٍ عن الخارج، وأخرى بقطع النظر عن الخارج، وباعتباره متحدًا مع نفس الصورة الذهنية التي لاحظناها بقطع النظر عن الخارج، والتي كانت مندرجة تحت الكيف النفساني بالذات، يعني التي يصدُق عليها أنها كيفٌ نفساني بالحمل الشائع بالذات، فلمَّا كانت متحدة مع ذلك، وحكم أحد المتحدين يُمكِن أن يسريه الذهن إلى المتحد الآخر، كانت هذه الصورة المقيسة إلى الخارج بهذا اللحاظ كيفًا بالعرض؛ أي هي بالحمل الشائع بالعرض كيفٌ.
- الأولى: جهة كونه مقيسًا إلى وجوده الخارجي، وهو من هذه الجهة فاقدٌ للآثار الخارجية التي له في الخارج. وهذه هي حقيقة حكايته، وليس له إلَّا الحكاية عما وراءه فقط. وهذا هو مورد البحث في الوجود الذهني.
- والثانية: جهة ثبوته في نفسه من غير قياسه إلى الوجود الخارجي، بل من جهة أن هذا الحاكي أمرٌ ثابتٌ طاردٌ للعدم [يطرد العدم عن ماهيته الكيفية، ويطرد العدم عن النفس وهو الجهل]. وله من هذه الجهة آثارٌ وجوديةٌ مترتبة عليه، وهو من هذه الجهة وجودٌ خارجي [ينعت أمرًا خارجيًّا هو النفس] لا ذهني.» والجهة الأولى هي ما يُسمَّى بالوجود الذهني، أما الجهة الثانية فهي العلم.
إشكال المحقق السبزواري على جواب صدر المتألهين
يمكن تقرير إشكال المحقق السبزواري بصورةٍ فنية؛ ذلك أن السبزواري استدل بمقدمتَين يتألف منهما قياسٌ من الشكل الثاني، كما يلي:
المقدِّمة الأولى
أن وجود الصورة الذهنية ليست ضميمةً تزيد على النفس، بل وجودها في نفسها ووجودها للنفس واحد.
وحاول أن يبرهنَ على هذه المقدِّمة بأنه عند وجود صورة في الذهن هناك أربعة أمور يحتمل التمسك بها لإثبات وجود عرضٍ ينضم إلى النفس، وهي:
-
(١)
الوجود الخارجي لهذه الصورة، ولكن لا يخفى أنه لم يبقَ بكُلِّيته، فإن الذي يحضُر النفس، عند العلم بالأشياء، إنما هي ماهيَّاتها، لا وجوداتها، كما هو المفروض في محل البحث.
-
(٢)
ماهية الصورة الذهنية، ولكنها في نفسها من مقولته الخاصة، إنْ جوهرًا فجوهر، وإنْ كمًّا فكَم، وهكذا.
-
(٣)
وجود تلك الماهية في الذهن، وهو الوجود الذهني. وهذا لا يفيد المدَّعي أيضًا، لاعترافه بأن الصورة الذهنية من جهة كونها وجودًا ذهنيًّا ليست داخلةً تحت شيء من المقولات؛ فهي ليست بجوهر ولا عرض.
-
(٤)
ظهور الماهية لدى النفس، الذي هو للماهية الذهنية، من قبيل الصفات الحقيقية ذات الإضافة. ولكن هذا أيضًا لا يفيده؛ لأن ظهور الماهية لدى النفس، ليس إلَّا نفس الماهية (الأمر الثاني) مع وجودها الذهني (الأمر الثالث)؛ فإن ظهور الشيء ليس أمرًا زائدًا عليه ينضم إليه، وإلَّا لكان ذلك الأمر ظهورًا لنفسه حقيقة وبالذات، وكان نسبة الظهور المنضَم إليه مجازًا وبالعرض.
المقدمة الثانية
إن الكيف من المعمولات بالضميمة، كما تقرَّر ذلك في محله.
ويستنتج المحقِّق السبزواري من هاتَين المقدمتَين، أن الصورة الذهنية ليست كيفًا بالذات بوجه.
لكن قد يُقال: إن هناك أمرًا آخر غير ما ذكره، لعله هو الضميمة التي يحصُل الكيف بانضمامها إلى النفس وارتباطها بها، وهي بنسبة الصورة إلى النفس، وارتباطها بها، التي هي من قبيل الصفات الإضافية المحضة.
الجواب: لو كانت نسبةً مقولية، كانت ماهية العلم إضافة، لا كيفًا، وإذا كان إضافةً إشراقية (نسبةً إشراقيةً فائضةً من النفس بإفاضتها تتحقَّق الصور العلمية) كان وجودًا، والوجود ليس ماهية، بمعنى أن الإضافة المقولية، مقولة من مقولات العرض التسعة، أو قُل هي ماهية من الماهيَّات، بينما الإضافة الإشراقية ليست كذلك؛ لأنها إيجاد، والإيجاد والوجود واحدٌ حقيقة، ويختلفان باعتبار النسبة إلى الفاعل والقابل، والوجود مقابلٌ لمقسم المقولات، وهو الماهية.
جواب إشكال المحقِّق السبزواري
بالنسبة للصورة العلمية، نحن نُحس بالوجدان عندما نعلم بشيء أن هناك أمرًا أُضيف إلى أنفسنا؛ أي نُحس بالوجدان أن هناك وجودًا ذهنيًّا حصل لدينا، طردَ عدَم العلم بهذا الشيء، وهذا الوجود الذهني الذي حصل لدينا يعبِّر عن كمالٍ للنفس؛ فصورة الكتاب في الذهن هي أمرٌ موجود في الذهن، وهو وجود ممكِن من الممكِنات، وكل ممكنٍ له ماهية، فننتزع منه ماهيته، ولمَّا لم تكن هذه الماهية كمًّا ولا إضافةً ولا جوهرًا، فإنها كيف؛ أي إنه عرض لا يقبل القسمة ولا النسبة لذاته، وهو من نوعِ الكيف النفساني.
الإشكال الثالث
أنه يلزم من القول بالوجود الذهني — بناء على المشهور عند الحكماء، من أن الماهيَّات تحصل بأنفسها في الذهن — أن تجتمع بالذهن المتنافيات، فإذا علمنا بالثلج، يلزم أن تحضر ماهية الثلج، فيكون الذهن باردًا، وإذا علمنا بالنار، تكون ماهية النار حاضرة بالذهن فيكون الذهن حارًّا ويحترق الذهن، وهكذا.
لأننا نعني بالبارد أو الحار ما تحصُل وتقوم به هذه المعاني، فيلزم من ذلك أن تجتمع في الذهن المتنافيات.
جواب الإشكال الثالث
وهذا الكلام واضح البطلان؛ لأن المعاني الخارجية لا تحصل في الذهن بوجوداتها العينية التي تكون منشأً لترتُّب الآثار، وإنما تحصل في الذهن بصورها، بماهيَّاتها؛ أي النار الذهنية نارٌ بالحمل الأوَّلي؛ أي ليس لها من النار إلا صورة النار ومفهومها، والنار الخارجية نارٌ بالحمل الشائع، فما في الذهن ليس له من الماهية إلا مفهومها وصورتها، والذي يوجب الاتصاف بالحرارة والبرودة هو حصول هذه الوجودات بوجوداتها الخارجية لا الذهنية.
الإشكال الرابع
أنَّا نتصوَّر المُحالَات الذاتية، كشريك الباري، واجتماع النقيضَين … إلخ، فلو كانت هذه المُحالَات ثابتة في الذهن، للزِم من ذلك ثبوت الأشياء المستحيلة في الذهن، فعندما نقول: إن اجتماع النقيَضين لا مصداقَ خارجيًّا له لأنه محال، فموطن ثبوته هو الذهن، ومعنى ذلك أن المُحالات الذاتية ثابتة بالذهن، ومن المعلوم أن المُحال لا ثبوت له لا بالخارج ولا بالذهن.
جواب الإشكال الرابع
المُحالات الذاتية مفاهيمها ثابتةٌ في الذهن، لا مصاديقها؛ أي إن اجتماع النقيضَين هو اجتماع النقيضَين في الذهن بمفهومه، وليس مصداق اجتماع النقيضَين قائمًا بالذهن. كذلك شريك الباري؛ أي مفهوم شريك الباري هو مفهومُ شريك الباري، وليس هذا المفهوم الموجود بالذهن هو مصداقًا حقيقيًّا لشريك الباري، تعالى الباري عن ذلك عُلوًّا كبيرًا، وإنما هو ممكنٌ مخلوق للباري؛ فشريك الباري في الذهن هو صورة، هو مفهوم، وهو كيفٌ نفساني، وهو موجودٌ ممكنٌ مخلوق للباري.
الإشكال الخامس
أنه لو كانت الأشياء بماهيتها تحضُر في الذهن، فإن هناك أشياء في الخارج لها من الاتساع قدْرٌ هائل، كسَعة البحار أو الأرض مثلًا؛ فلو كان حضور الماهيَّات في الذهن بأنفسها، للزِم من ذلك أن ينطبع هذا الكبير أو هذه الأمور الواسعة جدًّا في الصغير الذي هو الدماغ، ومُحالٌ أن ينطبع الكبير في الصغير؛ ففي الإناء الصغير لا تستطيع أن تستوعب البحر بتمامه.
ومن المعلوم أن الإشكال الخامس والسادس يجريان في الصور الإدراكية المحسوسة والمتخيَّلة، كما أن غيرهما من الإشكالات إنما تجري في الصور الإدراكية المعقولة. والصور الإدراكية المحسوسة والمتخيَّلة جزئية، بينما المتعقَّلة تكون كلية.
جواب الإشكال الخامس
أن العصَب الذي تنطبع فيه الصورة، أو القوة الدماغية هذه التي تظهر فيها الصورة واسعةً كبيرة؛ لأنها تنقسم إلى ما لا نهاية، فهذا الدماغ الذي تنطبع فيه الصورة ينقسم إلى ما لا نهاية، فهذا الدماغ لو قسمناه إلى جزأَين، ثم كل جزء نُقسمه، وهكذا حتى نصل إلى الذرة مثلًا، فإنها كذلك يمكِن تقسيمها؛ إذ فيها أعلى وأسفل، والأسفل فيه يمينٌ وشمال، والقسم اليمين يمكن تقسيمه إلى يمين وشمال وأسفل وأعلى، وهكذا لما لا نهاية.
لكن يرِد على الجواب المتقدم ما يلي: أن التقسيم غير متناهٍ عقليًّا، ولكن الأقسام متناهية، كالذرة، تنقسم إلى إلكترون وبروتون ونيترون، ثم تقف عند هذا، وتتفتَّت بتحوُّلها إلى طاقة. أمَّا إمكان التقسيم فالعقل يقول يمكِن أن نقسِّم إلى ما لا نهاية، فالممكن هو التقسيم، أمَّا الأقسام فإنها متناهية وتقف عند نقطةٍ معيَّنة.
ومن جهةٍ ثانية فإننا ندرك بالوجدان أن كفَّ الإنسان لا يمكن أن تستوعب الجبل، حتى لو فرضنا أن هذا الكف كانت أقسامه غير متناهية. إذن الجواب على الإشكال غير تام.
والصحيح في جواب الإشكال الخامس أن نقول:
أولًا: إن الصورة العلمية الموجودة في الذهن تنقسم إلى صورةٍ حسيَّة وصورةٍ خيالية وصورةٍ عقلية.
والصورة الحسيَّة: هي صورة القلم الذي نشاهده الآن مثلًا، وهي صورةٌ جزئية.
والصورة الخيالية: هي نفس صورة القلم لو رفعتُه أو أغمضتُ عيني؛ أي صورته بعد أن يغيب هذا القلم، وهي جزئية أيضًا.
والصورة العقلية: هي صورة القلم الكلي، مفهوم القلم الكلي، الذي لا يمتنع أن ينطبق على أي مصداق من مصاديقه؛ فالصورة الحسية والخيالية مجرَّدة عن المادة دون آثارها؛ إذ فيها طول القلم ولونه ومواصفاته الأخرى. أما الصورة العقلية — مفهوم القلم الكلي — فهي مجرَّدة عن المادة وآثارها.
وبكلمةٍ بديلة ينقسم المجرَّد إلى: مثالي وعقلي. والعقلي هو المجرَّد عن المادة وجميع آثارها، أما المثالي فهو المجرد عن المادة دون آثارها، فإن فيه آثارًا من المادة، كالشكل، والمقدار، والوضع، وغيرها.
وهنا نقول: إن الصورة التي ندركها — صورة القلم أو الكتاب أو الأرض أو البحار — هذه الصورة الجزئية هي صورةٌ مجردة عن المادة تجردًا مثاليًّا، وهو غير التجرُّد العقلي؛ لأنه تجرُّد عن المادة وإن كانت فيها آثار المادة — شكل المادة، طولها، لونها … إلخ — فإذن هذه الصورة تحصُل في النفس، والنفس أيضًا مجرَّدة عن المادة، وإن كانت في فعلها مرتبطة بالمادة، فالصورة موجودٌ غير مادي، والنفسُ أيضًا موجودٌ غير مادي، والصورة تحصُل في النفس، والكبير والصغير من خصائص المادة، أمَّا المجرَّد فلا يُوصف بالكبير والصغير، فيمكن أن تحلَّ صورة الأرض مثلًا في النفس؛ لأنها صورةٌ مجرَّدة عن المادة تجرُّدًا مثاليًّا؛ أي تحمل مواصفات هذا الشيء الجزئي وتحلُّ في النفس المجرَّدة أيضًا عن المادة، وعليه يمكن حل الإشكال.
وقد يُقال: ما هذه الأفعال والانفعالات التي نراها في أجهزة الحواس؟ فعندما نُحس بشيء بأجهزة الحواس فإن الجهاز العصبي ينفعل ويتأثَّر وتطرأ عليه تغيُّرات مثل هذه الانفعالات والتغيُّرات، لكن الجهاز العصبي ما هو إلَّا قناة تُوصل الصور إلى النفس. وبتعبيرٍ فلسفي: إن الإحساس هو الذي يؤدي إلى انتقال الصور للنفس، وهذه الانفعالات والأفعال إنما هي معِدَّات أو مقدِّمات؛ أي تُوصل هذه الصور العلمية إلى النفس، وتجعل النفس مستعدةً لقبول هذه الصور.
الإشكال السادس
أن علماء الطبيعة المعاصرين يفسِّرون الإدراك تفسيرًا ماديًّا، فيقولون إنك عندما تدرك صورة الكتاب في ذهنك وتحضُر صورته لديك، يسقط شعاع من هذا الكتاب على عدسة عينك أو على القرنية، ثم ينتقل من القرنية إلى الشبكية، وهذه النظرية بخلاف النظرية القديمة التي تقول إن الشعاع يخرج من العين ويسقط على الجسم المرئي.
والشبكية تحتوي على قدْرٍ هائلٍ من الخلايا الحسَّاسة العصبية، وهذه الخلايا تحصُل فيها حالة ارتعاش أو إحساس أو تفاعل فسلجي معيَّن، وحينئذٍ تنقل الشبكية الصورة إلى الدماغ، وبالنتيجة لا يكون الإدراك إلا هذا.
وعلى هذا الأساس لا يكون إدراك ماهيَّة الكتاب، هو حضور ماهيَّته في النفس كما قال الفلاسفة.
جواب الإشكال السادس
إننا لا نفسِّر الإدراك تفسيرًا ماديًّا، وإلا لو كنَّا نفسِّره ماديًّا لكُنَّا نقبل ما قلتم؛ لأن تفسير الإدراك تفسيرًا ماديًّا يؤدي إلى السفسطة؛ إذ لا طريق لنا إلى معرفة الواقع حينئذٍ؛ لأن هذه الصورة المفترضة التي انتقلَت إلى الدماغ لا تكون مطابقةً للواقع الخارجي. وعليه فنحن نفسِّر الإدراك تفسيرًا آخر، فنقول: إن الصور العلمية تنقسم إلى صورٍ عقلية وصورٍ حسية وخيالية جزئية، وكل الصور مجرَّدة، ولكن الصور الخيالية والحسية مجرَّدة تجردًا مثاليًّا؛ لأنها تحمل بعض آثار المادة، بينما الصور العقلية مجرَّدة تجرُّدًا تامًّا عن المادة، وهذه الصورة المجرَّدة تحضُر لدى النفس المجرَّدة، وعلى هذا فإن: الماهية بنفسها تكون حاضرةً في الذهن، وحينئذٍ تكون مطابِقةً للخارج مطابَقةً تامة.
الإشكال السابع
أنه عندما نتصوَّر صورة الكتاب مثلًا، فهذه الصورة لمفهوم الكتاب الكلي، كما أنها تكون كلية فإنها جزئية أيضًا، ولا يمكن أن تكون ماهيَّةً واحدةً كلية وجزئية.
أما كيف تكون كلية وجزئية؟ فيقول صاحب الإشكال: إذا لاحظتَ مفهوم الكتاب في الذهن، من حيثُ كونُ هذا المفهوم كليًّا، ينطبق على كل مصداقٍ للكتاب في الخارج، فهذه صورةٌ كلية، وإذا لاحظتَ مفهوم الكتاب في الذهن، من حيثُ هو موجود في ذهن زيد أو في ذهنك الآن، فالصورة جزئية؛ لأنها مرتبطة بمحلٍّ معين، في ذهنك خاصة دون أذهان الآخرين، وزمانٍ معين، ومرتبطة بخصائصَ تجعلها جزئية؛ فصورة الكتاب الكلية الموجودة في ذهنك غير صورة الكتاب الكلية الموجودة في ذهني؛ فإن تلك في ذهنك وهذه في ذهني، فالمحل ليس واحدًا، فتكون الصورة التي في الذهن كلية وجزئية في آنٍ واحد. وهذا لا يمكن؛ إذ هناك مغايرة بين الكلي والجزئي.
جواب الإشكال السابع
ليس هناك إشكال أن يكون هذا الشيء كليًّا بلحاظٍ معيَّن، ويكون جزئيًّا بلحاظٍ آخر، فإذا لاحظناه من حيثُ انطباقهُ على الخارج، على مصاديقه الخارجية، يكون حينئذٍ كليًّا، وإذا لاحظناه بلحاظٍ آخر، من حيثُ هو موجود في ذهنك، في هذا المحل، وموجود في هذا الزمان، فهو جزئي، فلا مانع من أن تكون هذه الصورة كلية وجزئية باختلاف اللحاظ.