الوجود في نفسه والوجود في غيره
لو لاحظنا هذه القضية الموجبة «الإنسان ضاحك»، فإن فيها موضوعًا ومحمولًا وكلاهما موجود في الخارج، الموضوع وهو الإنسان موجود في الخارج، كزيد، والضاحك هو المحمول، وهو أيضًا موجود في الخارج، ﮐ «زيد يضحك» مثلًا. لكن هل يُوجد وراء الموضوع والمحمول أمرٌ آخر غيرهما، أو أن الموجود هو الموضوع والمحمول فقط؟ الصحيح أن هناك وجودًا آخر غير وجود الموضوع والمحمول؛ أي وجود ثالث، وهو الوجود الذي يربط بين الموضوع والمحمول ويحقِّق الاتحاد بينهما، وإن كنا مسامحة نعبِّر عن هذا الوجود بأنه وجودٌ ثالث؛ لأن هذا الوجود ليس وجودًا مستقلًّا بل هو قائم بالطرفَين؛ فوجود الإنسان وجودٌ مستقل، ووجود الضاحك وجودٌ مستقل، أمَّا الوجود الرابط بين الإنسان والضاحك فهو غيرُ مستقل، بل هو رابط بين الوجودَين؛ ولذلك فليس هناك وجودٌ مستقل في الخارج غير هذَين الوجودَين، ليس هو وجودًا ثالثًا مستقلًّا؛ إذ إن وجوده بوجود الطرفَين، قائمٌ بالطرفين؛ لأنه لو كان له وجودٌ منحاز، لأصبح لدينا ثلاثة أطراف، ولكي يتحقق ربط بين هذه الوجودات الثلاثة لا بد أن يكون بين الطرفَين الأول والثاني وجود، وبين الطرفَين الثاني والثالث وجود، فتصبح عندنا خمسة وجودات، وهذه الوجودات الخمسة إذا كانت مستقلة كلها فسوف نحتاج إلى أربعة روابط، تربط الأول بالثاني والثاني بالثالث والثالث بالرابع والرابع بالخامس فتصبح تسعة، وهذه التسعة وجودات إذا كانت كلها مستقلة نحتاج إلى ثمانية روابط، وهكذا تتسلسل العملية إلى ما لا نهاية، وهذا محال.
إذن فالصحيح هناك وجودٌ مستقلٌّ للموضوع، ووجودٌ مستقل للمحمول، ووجودٌ رابط بينهما، وهو قائمٌ بهما. هذا في الخارج.
أمَّا في الذهن، فهل هذا المفهوم الرابط بين الطرفَين مستقلٌّ في مفهومه في الذهن؟ الجواب: هو ليس مستقلًّا في مفهومه في الذهن؛ فعندما نتصوَّره، نتصوَّره أيضًا بما هو رابطٌ بين الطرفين؛ أي إن معناه في الذهن هو معنًى حرفي وليس معنًى اسميًّا — كما قرأنا في الأصول — إذ المعنى الاسمي هو المستقل بالمفهومية، كمعنى زيد، وضاحك، أما المعنى الحرفي فليس مستقلًّا بالمفهومية بل إنما يتصوَّر في إطار ووعاء طرفَيه؛ لأنه قائمٌ بالطرفَين، مثل معنى «من». هذا هو الوجود الرابط القائم بطرفَيه.
والوجود الآخر هو الوجود المستقل أو الوجود المحمولي، ومعناه الذي له معنًى مستقلٌّ في المفهومية، ويقبل الحمل على غيره، مثل «الضاحك» إذ تستطيع أن تحمله على غيره فتقول: الإنسان ضاحك.
وبعبارة أخرى إن الوجود المستقل هو ما يُفهم مستقلًّا؛ أي يكون ذا مفهومٍ مستقل سواء كان عرضًا موجودًا في الموضوع، أو جوهرًا موجودًا في المحل، أو جوهرًا غير موجود في المحل.
تجدُر الإشارة إلى أن الوجود الرابط إنما يكون في القضايا الموجبة، التي فيها رابط بين الموضوع والمحمول، أما القضايا السالبة فليس فيها أي ربط بين الموضوع والمحمول، وإنما فيها سلب الربط.
نتائج
يستخلص المصنف نتائج ثلاثًا:
- الأولى: أن كل وجودٍ رابطٍ لا ماهيَّة له. وهنا نشير إلى نكتة، وهي أن الممتنعات لا ماهيَّة لها، كما أن الواجب تعالى لا ماهيَّة له، بل ماهيَّته إنيَّته — كما سوف يأتي — كذلك الوجود الرابط لا ماهيَّة له، مع أنه وجودٌ ممكن وليس وجودًا واجبًا؛ لأن الماهيَّة — كما قلنا — هي ظهورات الوجود الممكِن للذهن أو حدوده، والحدود تقتضي وجودًا مستقلًّا؛ فالوجود المستقل له حدودٌ معيَّنة، والذهن ينتزع منه هذه الحدود، وحدود الوجود الممكِن هي ماهيَّته، أما بالنسبة للوجود الرابط فليس مستقلًّا؛ وعليه فلا يمكن أن يكون له معنًى مستقل؛ ولذلك لا يمكن أن تكون له ماهيةٌ مستقلة.
- الثانية: أن ثبوت الوجود الرابط يقتضي اتحادًا بين طرفَين؛ فكلما كان هناك وجودٌ رابط فلا بد من اتحاد بين طرفَين، كزيد والقيام؛ لأن الوجود الرابط أمرٌ واحد وليس متعددًا، وهو قائمٌ بطرفَيه وغير خارجٍ منهما، فلا بد أن تكون هناك وحدة بين الطرفَين، حتى يتحقَّق الوجود الرابط.
- الثالثة: الوجود الرابط إنما يتحقَّق في مطابق الهَليات المركَّبة دون مطابق الهَليات البسيطة؛ فقد قلنا سابقًا إن «هل المركبة» هي التي يُطلب فيها ثبوت شيء لشيء، تسأل «هل زيد قائم؟» ﻓ «هل» هنا مركَّبة. أمَّا «هل البسيطة»، فهي التي يُطلب فيها ثبوت الشيء؛ أي يُسأل فيها عن وجود الشيء، لا ثبوت شيءٍ لشيءٍ آخر، فالوجود الرابط بما أنه يربط بين شيئَين فهو يربط بين شيء وشيء؛ لذلك فهو يتحقق في مطابق الهَليات المركَّبة التي يكون في مطابقها شيئان، والوجود الرابط يربط بين هذَين الشيئَين. أمَّا مطابق الهَليات البسيطة، فليس هناك إلَّا طرفٌ واحد؛ إذ هي تدُل على ثبوت الشيء، والطرف الواحد لا يتحقَّق فيه رابط لأن الرابط إنما يربط بين طرفَين.
وبكلمةٍ بديلة، كما أن الوجود الرابط متحقق في نفس الهَلية المركَّبة، وهي القضية المعقولة، كذلك في مطابقتها، وهو الخارج، وأما في الهَليات البسيطة فالربط وإن كان متحققًا في الذهن إلَّا أنه غير متحقق في مطابقتها، وهو الخارج؛ إذ ليس في الخارج إلَّا شيءٌ واحد.
ولا يخفى أن الربط إنما يتحقَّق في الموجبة منها، وأما السالبة ففيها سلب الربط، ولا بد لصدقها من عدم وجود الربط في مطابقها.