كيفية اختلاف الوجود الرابط والمستقل
هل الاختلاف بين الوجود الرابط والمستقل اختلاف سنخي (نوعي)؟ بمعنى أن سنخ وحقيقة ونوع الوجود الرابط غير سنخ ونوع الوجود المستقل. أو لا يوجد اختلافٌ نوعي بينهما؟ هناك موقفان في هذه المسألة، تبنَّى المصنِّف أحدَهما واعتبره الحق.
موقفٌ يرى أن الوجود الرابط سنخ وجودٍ غير الوجود المستقل، والاختلاف بينهما حقيقيٌّ نوعي.
بينما اختار المصنِّف عدم الاختلاف النوعي بينهما، فقال: يمكن أن ينسلخ الوجود الرابط عن معناه التعلُّقي فيلاحظه الذهن مستقلًّا.
وليس المراد من الاختلاف النوعي بين الوجود الرابط والمستقل اختلاف ماهيتَين، كالإنسان والفرس، فإن الموضوع للحكم هنا هو الوجود، كما ليس المراد تباين الوجودات بتمام الذات، كما هو منسوب إلى المشَّائين، ولا اختلافهما التشكيكي، فإن البحث عنها قد مرَّ في موضعه، بل الاختلاف النوعي هنا مصطلحٌ خاص يُراد به عدم إمكان النظر إلى الرابط بالاستقلال، وفرضه كذلك، حتى يصير ذا مفهومٍ مستقل، بعدما كان رابطًا ذا مفهومٍ غير مستقل.
ولا يخفى أن العلاقة بين المعلول والعلة علاقة ربط؛ أي المعلول مرتبطٌ بالعلة، المعلول مضافٌ للعلة، وهذه الإضافة إشراقية؛ أي إن المعلول ليس له وجود وراء وجود العلة، وإنما العلة هي التي تُفيض وتُشرق المعلول، وفي ضوء نظرية الفقر الوجودي للممكِنات، فإن هذه الممكِنات مفتقرة في وجودها للواجب؛ أي هي ظلٌّ له، وإشعاعٌ له، ومفاضةٌ منه، كما جاء في الدعاء الشريف: «إلهي أنا الفقير في غناي، فكيف لا أكون فقيرًا في فقري.»
فإذا لاحظنا الوجود الإمكاني (وجود المعلول)، بالنسبة إلى الواجب تعالى، فإن وجوده لا يكون مستقلًّا، وإنما يكون وجوده وجودًا رابطًا، تعلقيًّا، وإذا لاحظناه في نفسه بقطع النظر عن علَّته، فمنه ما هو جوهر، ومنه ما هو عرض، والأعراض والجواهر هي موجوداتٌ مستقلة؛ أي وجودها وجودٌ محموليٌّ مستقل.
وعليه يمكن أن يكون هذا الوجود الممكن وجودًا رابطًا من جهة، ووجودًا مستقلًّا من جهة أخرى.
ومن هنا يتبيَّن أن أي مفهوم ومعنًى من المعاني إنما يكون معنًى مستقلًّا أو معنًى رابطًا، تبعًا للوجود الذي يُنتزع منه، فإذا انتزعناه من وجودٍ مستقل يكون معنًى مستقلًّا، وإذا انتزعناه من وجودٍ رابط يكون رابطًا؛ أي حيث كان النفسي والرابط من أقسام الوجود، فالمفهوم والماهية يتبعان الوجود في الاستقلال وعدمه، فإذا كان الوجود رابطًا كان المفهوم منه رابطًا، وإن كان مستقلًّا كان المفهوم منه مستقلًّا.
أمَّا إذا لاحظنا المفهوم بقطع النظر عن الوجود الذي يُنتزع منه؛ أي لاحظناه في نفسه، فلا يكون إلَّا مبهمًا، فلا نستطيع أن نصفه بالمستقل أو الرابط، فالمفهوم من حيث هو مفهوم لا مستقل ولا رابط، بمعنى يقبل أن يكون مستقلًّا كما يقبل أن يكون رابطًا، لكن وجوده الذي يُنتزع منه هو الذي يحدِّد ما إذا كان مستقلًّا أم رابطًا.
ولا يخفى أن المفهوم في أصل مفهوميته لا يمكن أن يكون مبهمًا؛ فإنه مناقض لكونه مفهومًا؛ أي معلومًا، لكن المفهوم من وجهة الاستقلال والارتباط ليس له في نفسه إلَّا الإبهام، فالمفهوم من حيث هو مفهوم لا مستقلٌّ ولا رابط، بمعنى يمكن أن يكون رابطًا كما يمكن أن يكون مستقلًّا.