من الوجود في نفسه ما هو لغيره ومنه ما هو لنفسه
إن معنى وجود الشيء في نفسه لغيره، أنه يطرد عدم نفسه، وعدمًا مقارنًا لمحلِّه، مثل وجود العرض. وحقيقة وجود العرض يمكن أن تتضح بالمثال؛ فالعلم عرض، ووجود العلم يطرد عن ماهيته العدم، كما يطرد عدمًا عن الماهية التي يحلُّ فيها؛ فعندما تعلم بشيءٍ يطرُد علمُك به عدم العلم، ويطرُد عدمًا آخر عن ذهنك، عن المحل الذي حلَّ فيه؛ أي يطرد عن ذهنك عدم العلم «الجهل».
إذن الوجود في نفسه لغيره يطرُد، عدم نفسه، ويطرُد عدمًا مقارنًا لماهيَّة غيره. خُذ وجود البياض بالنسبة للورقة، فإنه أولًا يطرد العدم عن ماهيَّة البياض، وثانيًا يطرد عدمًا مقارنًا للورقة؛ لأن البياض كان معدومًا في الورقة، فطرد عدم البياض لتصبح بيضاء.
ولكن هل العلم أو البياض يطرد عدم الماهية التي يحل فيها؟
الجواب: لا، بل العلم يطرد عدمًا عن الذهن وهو عدم العلم، يطرُد عدمًا عن الماهية التي يحلُّ فيها. والبياض يطرد عدمًا عن الورقة التي يحلُّ فيها، فتتصف بأنها بيضاء، ولا يطرد عدم ماهيَّة الورقة؛ أي لا يُوجِد الورقة. وإلَّا لو فرضنا أنه يطرد عدمه ويطرد عدم الماهيَّة التي يحلُّ فيها — لا عدمًا عنها — فسيكون لأمرٍ واحدٍ ماهيتان، يكون للعلم ماهيَّتان، ماهية نفسه، كيف نفساني، وله ماهيَّة الذهن، وللبياض أيضًا تكون ماهيَّتان، ماهية نفسه، وماهيَّة المحل وهي الورقة؛ أي يلزم أن يكون للوجود لغيره ماهيَّتان، ماهية نفسه وماهية معروضه؛ حيث يطرد عن ماهية نفسه العدم، وعن ماهية معروضه العدم. وهذا محال؛ لأنه يلزم من ذلك أن يكون الأمر الواحد كثيرًا، والواحد من حيث هو واحد ليس بكثير. وهذا مُحال.
إذن الوجود في نفسه لغيره يطرد عدم نفسه، عدم ذاته، عدم ماهيَّته، ويطرد عدمًا مقارنًا للمحلِّ الذي يحلُّ فيه؛ أي يطرد عدم العلم عن الذهن، أو يطرد عدم البياض عن الورقة.
وبتعبير أدق إن الوجود لغيره لا يطرد إلَّا عدمًا واحدًا، وهو نقيضه كالعلم يطرد عدم العلم، لكن لمَّا كان هذا العدم له نوع مقارنة لشيءٍ آخر، فعدم العلم له نوع مقارنة للذهن، فهو عدمٌ نعتي؛ أي إن هذا العدم هو عدم ملكة، يُنتزع من موجود، ويكون ناعتًا له.
وبذلك يتضح الفرق بين الوجود لغيره والوجود لنفسه، فإن العدم الذي يطرده الوجود لغيره له نوع مقارنة لشيء، فهو عدم نعتي، بينما العدم الذي يطرده الوجود لنفسه ليس له نوع مقارنة لشيء، بمعنى أنه ليس ناعتًا.
قد يُقال: ما هو الدليل على تحقُّق الوجود في نفسه لغيره؟
الجواب: إن وجودات الأعراض هي الدليل على تحقُّق هذا القسم من الوجود في نفسه لغيره؛ لأن كل عرض من الأعراض، كالعلم والبياض، والقدرة، يطرد عن ماهيته العدم، البياض يطرد عدم البياض، فيوجد البياض، كما يطرد نوعًا من العدم المقارن للورقة.
كذلك الدليل على وجود هذا القسم هو الصور النوعية الجوهرية؛ فقد قلنا سابقًا، إن الجسم مؤلَّف من مادة وصورة، والمادة جوهر، والصورة أيضًا جوهر، والمادة هي حيثية القبول، والصورة هي حيثية الفعلية؛ فالإنسان يبدأ نطفة ثم علقة … إلخ؛ أي في كل مرة يلبس صورة، أو البذرة تلبس صورة البذرة، ثم صورة النبتة، ثم صورة السنبلة، ثم صورة الطحين، ثم صورة الخبز، فهذه الصورة هي صورةٌ نوعية جوهرية، تحدِّد ماهيَّة نوع من الأنواع، والمادة تقبل هذه الصور، وهذه الصور الجوهرية، تطرد العدم عن نفسها؛ لأنها عندما تُوجد صورة النبتة تطرد عدم النبتة، كما أنها تطرُد عدمًا مقارنًا للمادة؛ لأن المادة لم تكن لابسة لصورة النبتة، وهذا النوع من الطرد هو الذي عبَّرنا عنه بالوجود لغيره، الوجود الناعت لغيره، وبذلك يتضح أن الوجود في نفسه لغيره يشمل الأعراض مضافًا إلى الصور النوعية الجوهرية.
والفرق بين الصور النوعية التي هي من الجواهر وبين العرض، أن العرض حالٌّ في الموضوع، والموضوع مستغنٍ عنه، والصورة النوعية حالَّة في الهيولى والمادة، والمادة لا تستغني عنها؛ إذ المادة لا تُوجد إلَّا مع الصورة.
والصورة النوعية تحصِّل الهيولى، والهيولى تشخِّص الصورة النوعية؛ إذ لا تُوجَد صورةٌ نوعية بدون مادة.
ويقسَّم الوجود لذاته إلى: الوجود بذاته، والوجود بغيره، والوجود لذاته أي لنفسه، وأما الوجود في غيره والوجود لغيره، فلا يُتصوَّر فيهما الوجود بذاته؛ لأن كلًّا منهما قائم بغيره، فلا يمكن إلَّا أن يكون معلولًا.