الفصل الأول

في ‏تعريف المواد الثلاث وانحصارها فيها

نشير أولًا إلى معنى بعض المصطلحات ذات العلاقة بهذا المبحث، مثل جهة القضية ومادة القضية، عندما يُقال: هذه القضية موجهة، فالمقصود بالجهة هو كيفية النسبة بين مفهوم ومفهوم؛ ففي قولنا: «زيد قائم»، كيفية النسبة في الذهن بين مفهومَي زيد وقائم تُسمَّى جهة القضية، ونفس كيفية النسبة في الواقع الخارجي‏ تُسمَّى مادة القضية. ومن المعلوم أن محور بحث الفيلسوف هو الواقع والوجود؛ ولذلك يُقال في بحث القضايا هل الوجود أمرٌ ضروري أم ممتنع أم غير ضروري؟

والمادة هنا — مصطلحًا — ليست بمعنى المادة الذي ذكرناه سابقًا، عندما كنَّا نقول إن الجسم مركَّب من مادة وصورة، وإنما نعني بمصطلح المادة هنا هو المصطلح المنطقي، الذي يعني: كيفية النسبة في الواقع بين أمرَين؛ فمادة القضية هي كيفية النسبة في نفس الأمر، وإذا أتى بها في القضية، سواء كانت القضية معقولة أو ملفوظة، سُميَت جهة.١

ففي هذه المرحلة ندرس كيفية النسبة في الخارج بين أي أمر والوجود، فإذا لاحظنا أمرًا ما كالإنسان أو الكتاب أو اجتماع النقيضَين، فإذا كان الوجود ضروريًّا له، يكون واجبًا، وإن كان الوجود ممتنعًا له، كما في اجتماع النقيضَين، يكون ممتنعًا، وإن لم يكن الوجود ضروريَّ الثبوت ولا ضروريَّ الامتناع كان ممكنًا؛ فالكلام في الفصل الأول يقع في نقطتَين:

  • الأولى: انحصار المواد في هذه الثلاث.
  • الثانية: في معنى الوجوب، والإمكان، والامتناع.

والمقصود بالوجوب والامتناع والإمكان، هو أنَّ أي مفهوم إذا قسناه للوجود؛ أي حملنا الوجود عليه، فلا يخلو من إحدى ثلاث حالات، فعندما نقول: «الباري تعالى موجود»، فالنسبة بين الوجود والباري هي الضرورة «الوجوب»؛ أي إن الوجود ضروريٌّ له، ولا يمكن أن ينفك عنه، وإذا لاحظنا الإنسان ونسبنا الوجود له، فإن الوجود لا ضروري الثبوت ولا ضروري العدم؛ أي يتساوى فيه الطرفان، وبذلك تكون ضرورة الوجوب مرتفعة وضرورة العدم مرتفعة، فيكون مُمكنًا. وإذا لاحظنا اجتماع النقيضَين ونسبناه إلى الوجود، فثبوت الوجود بالنسبة إلى اجتماع النقيضَين ممتنع؛ أي إنه مُحال، وضروري‏ العدم.

وعندما نعبِّر بالمفهوم في قولنا «كل مفهوم إذا قسناه للوجود» إنما يعني المفهوم ما يُفهم من اللفظ، وهو أعم من الماهية، والماهية أعم من الحقيقة؛ إذ الحقيقة هي الماهية الموجودة.

انحصار المواد في الثلاث

هذه المواد منحصرة في الثلاث؛ لأن الشي‏ء إمَّا ضروري الوجود، أو ضروري العدم، أو لا ضروري الوجود ولا ضروري العدم (ممكِن).

ومن المعلوم أن الحصر هنا عقلي، والحصر العقلي إذا كان ذا أطرافٍ ثلاثة ينحلُّ إلى منفصلتَين حقيقيتَين، فيُقال: المفهوم إذا قيس إلى الوجود، فهو إما ممتنع وإما غير ممتنع، وغير الممتنع منه إما أن يجب له الوجود أو لا يجب.

والوجه في ذلك، أن المنفصلة لا يكون لها أكثر من طرفَين؛ فالأطراف الثلاثة إنما تُستفاد من منفصلتَين.٢

وقد يُقال: لماذا لم يكن هناك ما هو ضروري الوجود وضروري العدم؟

الجواب: هذا مُحال؛ لأنه يلزم منه اجتماع النقيضَين؛ أي اجتماع الوجود والعدم.

معنى المواد الثلاث

إن هذه المواد الثلاث بديهية، مستغنية عن التعريف؛ أي لا تُعرَّف تعريفًا حقيقيًّا؛ لأن هذه المفاهيم مثلها، كالوجود، كما أن الوجود مفهومٌ عامٌّ بسيط، مستغنٍ عن التعريف، مفهومٌ بديهي، كذلك هذه المفاهيم، بسيطة، فهي مستغنية عن التعريف، فإذا لاحظتَ الضرورة، فإن حكمها هو حكم الوجود؛ لأن جميع الضرورات تنشأ من الوجود، والضرورة تساوي الوجود بالنتيجة؛ وعليه فكما أن الوجود مستغنٍ عن التعريف فكذلك الضرورة.

وهكذا الأمر في الإمكان، فإنه غيرُ قابلٍ للتعريف؛ فهو وإن كان منسوبًا للماهيَّة؛ لأن الماهيَّة هي الممكن، وهي يمكِن أن يعتبرها الذهن بشكلٍ مستقل، باعتبار أن مفهوم الماهيَّة زائد على الوجود، ولكن الماهية لا تكون مستقلة عن الوجود في الواقع؛ أي لا تتحقق ماهيَّة بلا وجود؛ فالماهية إمَّا تكون متلبِّسة بالوجود الخارجي والذهني أو على الأقل متلبسة بالوجود الذهني، فالإمكان دائر مدار الوجود، وبما أن الوجود مستغنٍ عن التعريف فكذلك الإمكان، فضلًا عن أن الإمكان هو سلبٌ لضرورة طرف الإيجاب وسلبٌ لضرورة طرف السلب.

أما الامتناع فهو عبارة عن ضرورة العدم، فإذا عرَّفنا الوجود وعرَّفنا العدم عندها يكون الامتناع واضحًا؛ لأنه ضرورة العدم.

وعليه يتضح أن هذه الأمور الثلاثة مستغنية عن التعريف، مُتأسية فيه بالوجود، كما يقول السبزواري. وما ذُكر لها من تعاريف يلزم منها الدور؛ لأنه يؤخذ أحدها في الآخر؛ إذ يقولون في تعريف الواجب: «ما يلزم من فرضٍ عدمه محال» فأخذ فيه عدم الامتناع، ويقولون في تعريف المُحال: «ما يجب ألَّا يكون» أخذ فيه عدم الوجوب، ويقولون في تعريف الممكن: «ما ليس بممتنع ولا واجب» أخذ في تعريفه عدم الوجوب وعدم الامتناع.

١  «حاشية ملا عبد الله»، ص٧٤؛ «شرح المنظومة»، ص٦٣.
٢  «الأسفار الأربعة»، ج١، ص١٦١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥