الفصل الثالث

واجب الوجود ماهيَّته إنيَّته

نبحث هذه المسألة عبْر نقاط:

الأولى

أن هذه المسألة، لم تُبحث في الفلسفة اليونانية، وأول من بحث هذه المسألة الفيلسوف المسلم الفارابي، ثم ابن سينا، ثم المتأخرون، فهذه المسألة من مبتكرات الفلسفة الإسلامية.

الثانية

أن الماهية — كما ذكرنا — عندما تُطلَق يُراد بها أحد معنيَين؛ إما الماهية بالمعنى الأخص أو الماهية بالمعنى الأعم، والماهية بالمعنى الأخص هي ما يُقال في جواب ما هو؟ نقول ما هو الإنسان؟ الجواب: حيوانٌ ناطق.

أمَّا الماهيَّة بالمعنى الأعم فهي ما يتحقَّق به الشي‏ء، بمعنى ما به الشيء هو هو، سواء كان هذا الشي‏ء له ماهيَّة، مثل الممكنات، كالإنسان والكتاب، أو لم تكن له ماهيَّة، كالواجب تعالى، فإن الواجب تعالى متحقِّق بذاته؛ أي متحقق بوجوده، فالماهية بالمعنى الأعم إنما تعني الوجود، وهنا عندما يُقال: واجب الوجود ماهيَّته إنيَّته، المقصود بالماهية هنا التحقُّق والوجود؛ فواجب الوجود ماهيته وجوده، وإنيَّته المقصود بها الوجود.

الثالثة

تبحث عادةً مسألة «واجب الوجود ماهيَّته إنيَّته» في موضعَين في الفلسفة الإسلامية:
  • أحدهما: الأمور العامة، في بحث الوجود والعدم والماهيَّة؛ لأن هذا البحث يخص الكيفية المتعلقة بالوجود؛ ولذلك يبحث في هذه المرحلة؛ لأنه بحث في نحو الوجود، في كيفية وجود الواجب تعالى، هل له تعالى ماهيَّة أم لا؟
  • وثانيهما: هو الإلهيَّات بالمعنى الأخص، وهي المرحلة الثانية عشرة من هذا الكتاب.

وقد بحثَها صدر المتألهين في كتابه «الأسفار» في الأمور العامة، كما بحثها في الإلهيات بالمعنى الأخص. كذلك بحثها السبزواري في كتابه «المنظومة» في موضعَين.

الرابعة

قلنا إن المقصود بالماهية هنا ما به الشيء هو هو، لا الماهيَّة بالمعنى الأخص بل الماهيَّة بالمعنى الأعم، ما به يُوجد الشي‏ء، سواء كان الشي‏ء ممكنًا أم واجبًا، فإن الواجب تعالى ماهيَّته وجوده.

لقد حصل خلاف في المسألة، فإن بعضًا كالفخر الرازي والمحقِّق الدواني، وإن بحثوا المسألة تحت هذا العنوان، ولكنهم فسَّروا «واجب الوجود ماهيَّته إنيَّته» بتفسيرٍ آخر، فقالوا: إن الواجب حقيقة ثبت لها الوجود. ومعنى ذلك أنه عند التحليل سنلاحظ هناك معنيَين للواجب، معنًى ذاتيًّا ومعنًى وجوديًّا، كما أن الممكن له معنًى ذاتي ومعنًى وجودي، ولكن الفرق بين الممكن والواجب أن الممكن ذاته معلومة، ماهيَّته معلومة الحقيقة، وأما الواجب فذاته غيرُ معلومة، ماهيَّته مجهولة الحقيقة، من هنا أثبتوا وجود ماهيَّة للواجب، فقالوا: كما أن الممكن له ماهيَّة كذلك الواجب، ولكن الفرق أن ماهيَّة الممكن معلومة، بينما ماهيَّة الواجب غير معلومة، مجهولة الكُنْه.

وعلى هذا الأساس قالوا: إن الفرق بين الواجب والممكن هو أن الماهيَّات الممكنة بذاتها لا تقتضي الوجود ولا العدم؛ أي لا ننتزع من ذات ماهيَّة الإنسان، بقطع النظر عن الوجود والعدم، لا ننتزع منها الوجود ولا العدم، أما ماهيَّة الواجب، ذات الواجب، فهي ذات ننتزع منها لذاتها الوجود بقطع النظر عمَّا عداها، هي في مرتبة ذاتها تكون منشأً لانتزاع الوجود؟

فهذا الموقف يُثبت الماهية للواجب، ولكنه يقول: إنها مجهولة، والفرق بين ماهيَّة الواجب والممكن أن ماهيَّة الممكن لا ننتزع منها الوجود ولا العدم بقطع النظر عمَّا عداها، إذا لاحظناها بما هي، فهي لا موجودة ولا معدومة، أمَّا ماهيَّة الواجب من حيثُ هي ننتزع منها الوجود.

ولكن صدر الدين الشيرازي الذي بحث هذه المسألة بالتفصيل قال: إن الواجب لا ماهيَّة له، وماهيَّته وجوده؛ لأن الماهيَّة هي حدُّ الوجود الإمكاني؛ فالوجود لا بد أن يكون محدودًا حتى ينتزع منه الذهن الحد. الوجودات الإمكانية لها حدود، لها جنسٌ معيَّن، لها فصلٌ معيَّن، لها علَّة معيَّنة … إلخ؛ فالذهن يستطيع أن ينتزع من هذا الوجود حدودًا معيَّنة، هي الماهيَّة، أما الوجود الواجب فليس محدودًا بحدود، بل هو وجودٌ مطلَق، لا يحدُّه أي حدٍّ من الحدود؛ ولهذا لا يمكن أن ننتزع منه حدودًا، وفي النتيجة فلا ماهيَّة له؛ لأن الماهية هي حدُّ الوجود، والواجب لا حدَّ له؛ أي لا حدود للمطلَق.

من هنا يُقال: إن الحقائق المحدودة قابلة للإدراك والتصوُّر؛ ولذا ينتزع الذهن منها ماهيَّات، أمَّا حقيقة الوجود الواجب فهي مطلَقة، غير محدودة، فلا ينتزع الذهن منها ماهية؛ ولهذا نقول لا ماهية للواجب، بل ماهيَّته هي وجوده.

الخامسة

في البرهان على أن الواجب تعالى لا ماهيَّة له؛ فقد برهَن المصنِّف على ذلك ببرهانٍ مذكور في كتاب «المنظومة»، فقال: إذا فرضنا لواجب الوجود ماهيَّة ووجودًا، فيلزم من ذلك أن يكون وجوده عارضًا على ماهيته.

لاحظ الورقة البيضاء، فالبياض عارض على الورقة، وكل عارض على شي‏ء لا بد أن يكون معللًا؛ أي محتاجًا إلى علة، فنقول: لماذا كانت الورقة بيضاء لا خضراء؟ لأن العرضي — البياض للورقة — معلَّل، أمَّا الذاتي فلا يعلَّل، فلا نقول: لماذا الإنسان حيوان؟ أو لماذا النبات كائنٌ حي؟ لأن الذاتي لا يعلَّل.

فلو كان للواجب ماهيَّة ووجود، لاقتضى ذلك أن يكون الوجود عارضًا على الماهية، كما يعرض البياض على الورقة، فإذا كان عارضًا، والعرضي يحتاج دائمًا إلى علة، فيكون ثبوت الوجود لماهيته محتاجًا إلى علة، وهذه العلة يمكن حصرها بأمرَين لا ثالث لهما؛ فإما أن تكون هذه العلة خارجة عن ذاته، بمعنى أن ثبوت وجوده لماهيَّته يكون سببه خارجًا عن ذات الواجب، فيعني ذلك أن الواجب تعالى أصبح فقيرًا إلى غيره، بينما الوجوب مناط الغنى بالذات وعدم الافتقار إلى الغير، فلا يمكن أن نفرض أن تكون العلَّة خارجة عن ذاته.

وإما أن تكون العلة هي ذات الواجب، فيلزم من ذلك المحال؛ لأن العلاقة بين العلة والمعلول هي علاقة التقدم والتأخر، فالعلة متقدمة والمعلول متأخر، فإذا كان هو علة لذاته يلزم من ذلك أن يكون هو متقدمًا على ذاته، وهذا يعني تقدُّم الشي‏ء على نفسه، وتقدُّم الشي‏ء على نفسه محال. وإذا قلنا لا، فإن وجود المرتبة الثانية غير وجود المرتبة الأولى، يعني أن وجود الذات بالمرتبة الأولى عندما نقول «الواجب موجود» غير وجود الذات بالمرتبة الثانية، فهنا قد يُقال: لا يلزم تقدُّم الشي‏ء على نفسه؛ وبالتالي فالاستحالة تنتفي، ولكن نقول هنا أيضًا يلزم التسلسل، وهو مُحال كذلك؛ لأنه ننقل الكلام إلى المرتبة الأولى، فوجودها أهو وجودٌ عرضي، محتاج علة أم لا؟ فإذا كان وجودًا معللًا، عرضيًّا، ننتقل إلى علة هذا فنقول: العلة إما أن تكون خارج الذات وهذا خلاف افتراض كونه واجبًا بالذات، أو تكون نفس الذات، فإذا كانت العلة هي نفس الذات لزم من ذلك إما تقدُّم الشي‏ء على نفسه، أو أن وجود الذات في المرتبة هذه غيره في المرتبة تلك، وهنا ننقل الكلام لتلك المرتبة، فنقول هل وجودها معلَّل أم ليس بمعلَّل؟ وحينئذٍ ننتهي إلى التسلسل وهو مُحال. فافتراض وجود ماهيَّة للواجب يلزم منه الاستحالة.

وملخَّص القول، أنه تعالى لو كانت له ماهية غير وجوده، سيكون وجوده زائدًا على ذاته، عرضيًّا لها؛ لأن المفروض كونه ذا ماهية، وكون ماهيته أمرًا وراء وجوده، فتكون ماهيته وهي ذاته كسائر الماهيَّات، من جهة عدم كون الوجود مأخوذًا فيها ذاتيًّا لها، وكل محمول لم يكن ذاتيًّا فهو عرضي بالضرورة.

السادسة

وصف الوجوب، عندما نقول: «الباري واجب» هذا الوصف أهو مفهوم أم ماهيَّة؟ فأنت عندما تقول «القلم موجود» فالقلم ماهيَّة، و«موجود» مفهوم، والمفهوم أعم من الماهية؛ إذ قد يكون أمرٌ ما مفهومًا، لكن لا ماهية له، كما في المُحالات الذاتية، كشريك الباري؛ إذ لها مفاهيم في الذهن، صورٌ ذهنية موجودة لها، لكن لا ماهية للمُحال؛ لأن الماهية للممكِن فقط.

والواجب تعالى لا ماهية له، والوجوب مفهومٌ فلسفي، هو معقولٌ ثانٍ فلسفي منتزع من ذاته تعالى، من ذات وجوده؛ فعندما نقول «إنه تعالى واجب»، فالوجوب يعني الاستغناء عن الغير، وأيضًا أن وجوده، غير محدود، مطلَق، وغير مقيَّد بقيدٍ عدمي؛ فلو كانت ذاته مقيَّدة بقيدٍ عدمي كانت محدودة، فتكون ذات ماهية، فإن الحد هو الماهية، باعتبار الماهيَّات حدود الوجود.

بينما وجود الكتاب مقيَّد بقيودٍ عدمية، مثل: الكتاب ليس بكائنٍ حي، ليس بعالم، ليس بعاقل، الإنسان أيضًا ليس بعالمٍ مطلقًا، ولا بقادرٍ مطلقًا، الإنسان الذي لا يقرأ ليس بقارئ، بينما وجود الواجب ليس مقيَّدًا بقيدٍ عدمي، وإلا لو كان مقيَّدًا فسوف ينتفي عنه الكمال الوجودي، كما لو فرضنا أنه كان محرومًا من العلم فلا يكون واجبًا بالذات؛ لأن الواجب بالذات يقتضي أن يكون له كل كمالٍ وجودي ولا ينقص عنه كمالٌ ما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥