واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات
هذا الموضوع كان الأنسب أن يُبحث في مرحلة الإلهيات بالمعنى الأخص، لكن بحثه المصنِّف في سياق البحث السابق.
والمقصود بذلك أن كل صفة من الصفات التي نثبتها له تعالى، فنقول: «الباري تعالى عالم، مريد، قادر»، لا بد أن يكون كل كمالٍ وجودي واجبًا بالنسبة له؛ أي ضروري الثبوت له، فكل كمالٍ ننسبه له لا بد أن يكون ضروريًّا له؛ أي لا بد أن يكون الواجب تعالى واجبًا من جميع الجهات، من جهة حياته، من جهة علمه، من جهة قدرته؛ أي الحياة واجبة له، ضرورية الثبوت له … إلخ.
ولا يخفى أن الكمالات على قسمَين؛ الأول منها كمال الموجود المحدود بما أنه محدود، كالنمو للنبات، والتغذية للحيوان، وهذا القسم من الكمال ممتنع في حقِّه تعالى، لاستلزامه النقص والمحدودية في موصوفه.
والقسم الثاني منها كمال الوجود بما هو وجود، كالحياة والعلم والقدرة، أو كمال للوجود غير المحدود بما أنه غير محدود، كالاستقلال والغنى، وهذا القسم من الكمالات ممكن بالإمكان العام له تعالى.
وصفات الباري تعالى هي عين ذاته — كما سيأتي في الإلهيات بالمعنى الأخص — وكل صفة هي عين الأخرى، وإلا لو لم تكن هذه الصفات ضرورية الثبوت له، لعنى ذلك أن تكون ذاته خالية منها؛ فالقدرة مثلًا، لو لم يكن قادرًا بذاته، لكانت ذاته مقيَّدة بقيدٍ عدمي أو جهةٍ عدمية، وقد ذكرنا أن ذاته لا تكون مقيَّدة بقيدٍ عدمي؛ لأن ذلك يعني أن هذه الذات ليست كاملة؛ وبالتالي فهي ليست واجبةً بالذات.
فواجب الوجود، كل الصفات الثابتة له بالإمكان العام تكون ضرورية الثبوت له. والإمكان العام، هو سلب ضرورة عن الطرف المخالف؛ فعندما نقول الباري عالم بالإمكان العام، فيعني ذلك سلب ضرورة العدم، أو سلب الامتناع، والإنسان موجود بالإمكان العام يعني سلب ضرورة العدم، سلب الامتناع؛ فإما أن يكون وجود الإنسان ضروريًّا، أو أن يكون ممكنًا بالإمكان الذاتي أو الخاص؛ فالإمكان العام أعمُّ من المواد الثلاث، وهي الضرورة، والإمكان الخاص، والامتناع؛ وعليه فكل ما يثبُت له بالإمكان العام يكون ضروريًّا بالنسبة له، وليس ممكنًا بالإمكان الخاص بالنسبة إليه؛ فعندما نقول «الباري تعالى عالم»، فثبوت العلم ضروريٌّ له، وهكذا عندما نقول «حي» … إلخ.