في أن الشيء ما لم يجب لا يُوجَد، وبطلان القول بالأولوية
في هذا الفصل مطلبان:
- الأول: في أن الشيء ما لم يجب لا يُوجَد.
- الثاني: بطلان القول بالأولوية.
في المطلب الأول يشير المصنِّف إلى رأي الحكماء، وفي الثاني يشير المصنِّف إلى ما ذهب إليه المتكلمون.
الشيء ما لم يجب لا يُوجَد
المقصود ﺑ «الشيء ما لم يجب لا يوجد»: الشيء هو الممكن؛ فالممكن إذا لم يصل إلى درجة الوجوب فإنه لا يُوجَد ولا يمكِن أن يتحقَّق، والممكِن هو الذي تتساوى نسبته إلى الوجود والعدم، والعقل يحكُم أنه لا بد من شيء يُخرِجه إلى مرتبة الوجود، أو ينعدم ذلك الشيء حتى يعدم؛ أي إن وجوده متوقف على العلة كما أن عدمه متوقف على عدم العلة.
الممكن حتى يُوجَد؛ أي يخرج من حالة التساوي إلى حالة الوجود لا بد أن تصل درجة الوجود إلى ١٠٠٪، ولا يكفي في طرف الوجود أن يصل إلى درجة ٥١٪، بل لا بد أن تصل الدرجة في طرف الوجود ١٠٠٪ لكي يُوجَد، ويكون طرف العدم صفرًا٪، بل إن طرف الوجود حتى لو بلغ ٩٩٪ لا يُوجَد الممكن، مع أن طرف العدم هو ١٪ وهذا معنى الوجوب؛ فما لم يصل الشيء للوجوب لا يُوجَد؛ فوجود الممكن متوقفٌ على أن يبلغ الوجود حد ١٠٠٪؛ أي حد الوجوب، والعدم تكون درجته صفرًا.
بطلان الأولوية
قال بعض المتكلمين يمكن في وجود الممكن أن يكون طرف الوجود أولى من طرف العدم؛ أي إذا كان طرف الوجود ٥١٪ وطرف العدم ٤٩٪، فيكون طرف الوجود أولى من طرف العدم، فيُوجَد الممكن حينئذٍ.
ثم هذه الأولوية، قُسِّمَت إلى أولويةٍ ذاتية وأولويةٍ غيرية.
والذاتية، تعني أن ذات الممكن أي وجوده في ذاته أولى من عدمه؛ أي ذاته تقتضي ذلك.
والأولوية الغيرية، بمعنى أن الغير، العلة أو الأمر الخارجي، هو الذي يجعل ذات الممكن أولى من عدمه.
وهذه الأولوية قُسِّمَت إلى: كافية: وهي التي يتحقق معها الوجود، وغير كافية: وهي التي لا يتحقق معها الوجود.
فأقسام الأولوية تكون أربعة، تنقسم أولًا إلى ذاتية وغير ذاتية، والذاتية، هي التي يقتضيها ذات الممكن ونفسه لا من الخارج، والأولوية الغيرية هي التي تكون بسبب العلة الخارجية، والأولوية الذاتية تنقسم إلى كافية، وغير كافية.
إن الأولوية بتمام أقسامها باطلة، أما الأولوية الذاتية، فلأننا لو لاحظنا ماهية الممكن قبل وجودها، فهي أساسًا أمرٌ عدمي، مثل ولدك قبل أن تتزوج، فإن درجة وجوده صفر؛ لأن الماهيَّة قبل أن تُوجَد، فهي لا تقتضي الوجود، ولا يكون وجودها أولى من عدمها؛ فالماهية إذا لاحظناها قبل وجودها، من حيثُ هي، تكون متساوية النسبة إلى الوجود والعدم، ولا يكون وجودها أولى من عدمها؛ فالقول بأن وجود الممكن بذاته أولى من عدمه، أو أن ذات الممكِن تقتضي الوجود، فالأولوية الذاتية باطلة؛ لأن الممكن قبل أن يُوجَد هو عدمٌ محضٌ غير موجود فلا يكون وجوده أولى من عدمه.
أما الأولوية الغيرية، أي بواسطة العلة الخارجية، فهذه العلة إذا دفعَت الممكن نحو الوجود؛ أي جعلَت وجوده أولى من عدمه، فإنه لا يُوجد ما دام باب العدم مفتوحًا؛ أي إذا كان العدم في الطرف المقابل ١٪ فالممكن لا يُوجَد، بل يُوجَد إذا أصبح طرف العدم صفرًا، وطرف الوجود ١٠٠٪، فيصل للوجوب حسب التعبير الفلسفي. وبذلك ينقطع السؤال عند وصوله إلى درجة ١٠٠٪، فلا يُقال لماذا وجد هذا؟ ولمن وجد هذا؟ بينما الأولوية التي لا توصله إلى درجة ١٠٠٪ بل توصله إلى درجة ٩٩٪ فلا ينقطع معها السؤال، ما زال يُوجَد في الطرف الآخر احتمال العدم ولو ١٪، ولهذا فالأولوية لا تصل بالممكن إلى الوجوب مع وجود طرف العدم.
إن الممكن لا يخرج بالأولوية عن حد الاستواء؛ أي من حد لا ضرورة الوجود ولا ضرورة العدم، وهو الإمكان، الذي يعبَّر عنه باستواء النسبة إلى الوجود والعدم، فإن المواد منحصرة في الثلاث، وليس بين الإمكان والوجوب ولا بين الإمكان والامتناع واسطة.
وبكلمةٍ موجزة إن الاستواء لازم الإمكان، الذي هو لا ضرورة الوجود والعدم، كما سيأتي في الفصل السابع؛ فحيث لم يَصِر الوجود أو العدم ضروريًّا كان الاستواء باقيًا، وما لم تُسد كافة ثغور العدم وسبل الانتفاء لا يُوجَد الشيء.
وجوب الموجود الممكن
يتبيَّن أن الشيء لكي يُوجَد لا بد أن توصله العلة إلى درجة الوجوب، وبتعبيرٍ آخر إن الموجود لا بد أن يكون واجبًا، ولكن هذا الوجوب تارةً يكون وجوبًا بالذات، وتارةً يكون واجبًا بالغير، فالأول هو وجوب الباري تعالى، والثاني هو كل هذه الموجودات في عالم الإمكان؛ فكل موجود واجب، لكن وجود الباري واجب بالذات، ووجود الممكنات الموجودة واجب بالغير، فالعلة لا بد أن توصل الممكن إلى درجة الوجوب لكي يُوجَد.
الضرورة بشرط المحمول
إذا لاحظنا القلم أو الكتاب، ففيه ضرورتان «وجوبان»:
-
الأولى: من جهة العلة؛ لأن العلة لا بد أن تُوصل
القلم أو الكتاب إلى درجة الوجوب حتى يُوجَد؛
لأن الشيء «الممكن» ما لم يجب لا
يُوجَد.
إذن يثبت لهذا القلم وأي ممكنٍ وجوبٌ من طرف العلة وبالعلة. وإن صفة العلة هي الإيجاب، وأما الوجوب فهو صفة الممكِن، وبذلك يكون معنى القاعدة: أن الشيء ما لم يجب من جهة إيجاب علته إياه لم يُوجَد؛ فالوجوب وصف للممكن بحال نفسه. نعم يحصُل له هذا الوصف بسبب العلة؛ فالعلة واسطة في ثبوت هذا الوصف لا في عروضه.
- الثانية: كما أن الوجود يكون واجبًا أيضًا لهذا القلم أو الكتاب من جهةٍ أخرى، وهي جهة المحمول، فالكتاب الموجود موجودٌ بالضرورة؛ أي إن ثبوت الوجود للكتاب الموجود واجب، فهنا يكون ثبوت المحمول لهذا الكتاب الموجود واجبًا وضروريًّا.
لكن ما هو الموضوع هنا؟ الموضوع هو «الكتاب الموجود» والمحمول هو «موجود»؛ فهنا أصبح المحمول جزءًا من الموضوع؛ ولذلك نسمِّيها «ضرورة بشرط المحمول»؛ أي إن المحمول صار جزءًا وصار شرطًا في الموضوع؛ ولذا فإن ثبوت المحمول للكتاب ضروريٌ، وهذه الضرورة من طرف المحمول.
ولكي يتضح المطلب نضرب مثالًا آخر وهو أن نقول: الورقة بيضاء بالإمكان، فثبوت البياض للورقة يكون ممكنًا، أو نقول: الورقة البيضاء بيضاء بالضرورة؛ لأن المحمول هنا صار جزءًا في الموضوع، أو نقول: «زيد قائم بالإمكان»، ولكن إذا قلنا «زيد القائم قائم»، فيكون المحمول ثابتًا للموضوع بالضرورة لا بالإمكان؛ لأن زيدًا القائم قائم بالضرورة، فهذه ضرورة من جهة المحمول وبشرط المحمول.
ولهذا قالوا: «الممكن دائمًا محفوف بضرورتَين سابقة ولاحقة» فهذا الكتاب الموجود وجوده ضروري، فهو متصفٌ بالضرورة من ناحيتَين؛ من ناحية ثبوت الوجود له؛ أي من ناحية العلة، وتُوجَد ضرورةٌ أخرى من طرف المحمول، فالكتاب الموجود موجودٌ بالضرورة.