في حاجة الممكن إلى العلة وما هي علة احتياجه إليها
البحث في هذا الفصل في مطلبَين:
- الأول: في حاجة الممكن إلى العلة.
- الثاني: في علَّة أو مناط الاحتياج إلى العلة.
حاجة الممكن إلى العلة
إن حاجة الممكن إلى العلة من الأشياء البديهية، أو الضرورية الأوَّلية، والضروريات تنقسم إلى قسمَين؛ بديهياتٌ أولية، وبديهياتٌ غير أولية، وفي المنطق ذكروا ستة أقسام للبديهيات، القسم الأول منها فقط هو البديهيات الأولية أو الضروريات الأولية، بينما الأقسام الخمسة الأخرى، بديهياتٌ غير أولية، وهي: المحسوسات، التجريبيات، النظريات، المتواترات، الحَدْسيات، وقد قالوا إنما يكون التصديق بالبديهيات غير الأوَّليَّات بمساعدة الحس أو التجربة … إلخ. أما الأوَّليَّات فلا يحتاج التصديق بها إلى شيءٍ آخر، بل يكفي تصوُّر الموضوع والمحمول، مع نسبة المحمول إلى الموضوع، للتصديق بها.
فهذه القضية — الممكن محتاج إلى العلة — من البديهيات الأولية، التي يكفي تصوُّر الموضوع والمحمول، مع نسبة المحمول إلى الموضوع للتصديق بها.
قد يُقال: إن بعضهم أحيانًا لا يصدِّق بهذه القضية، فكيف نقول إن المسألة بديهية؟
الجواب: إن بداهة هذه المسألة تعتمد على صحة تصوُّر الموضوع والمحمول؛ لأن سبب التشكيك وعدم التصديق في القضايا البديهية ينشأ من عدم تصوُّرها تصوُّرًا صحيحًا؛ ولهذا في القضايا الفلسفية كثيرًا ما تكون المشكلة تصوُّرية وليست مشكلةً تصديقية؛ أي كثيرًا ما لا نؤمن بقضيةٍ فلسفية، وسبب عدم الإيمان هو عدم التصوُّر الصحيح للموضوع والمحمول. كذلك منشأ عدم التصديق في هذه القضية البديهية هو عدم التصوُّر الصحيح للموضوع والمحمول، وإلا فإذا تصوَّرنا الممكن، وهو الذي تستوي نسبته للوجود والعدم، كميزانٍ متساوي الكفَّتَين، وتصوَّرنا الاحتياج إلى العلة، ومعناه أن ارتفاع أحد طرفَي الميزان وانخفاض الآخر يحتاج إلى سبب، فنقول: إن خروج الممكن إلى الوجود يحتاج إلى علة، كما أن انعدام الممكن يحتاج إلى عدم علة، فهذا معنى الاحتياج إلى العلة، فإذا تصوَّرنا الممكن — الموضوع — تصوُّرًا صحيحًا، وتصوَّرنا الاحتياج إلى العلة تصوُّرًا صحيحًا — المحمول — ونسبنا المحمول إلى الموضوع، حينئذٍ نصدِّق بهذه القضية بلا حاجة إلى برهان، وبذلك نقول إن قضية حاجة الممكِن إلى العلة من القضايا البديهية الأولية.
لماذا يحتاج الممكن إلى العلة
تُوجد عدة نظريات أشار إليها محمد باقر الصدر في القسم الثاني من كتاب فلسفتنا، ومنها: نظرية الحدوث، والإمكان الوجودي، والإمكان الماهوي. وفي كتاب بداية الحكمة نقرأ نظرية الحدوث، ونظرية الإمكان.
فقد قال المتكلمون إن حاجة الممكن إلى العلة ناشئة من حدوثه؛ فهذا الكتاب محتاج إلى العلة لأنه لم يكن ثم كان؛ إذ هو أساسًا عدم، فلأنه حصل بعد عدمه احتاج إلى علَّة، والا لو لم يكن أو كان قديمًا لاستغنى عن العلة.
أمَّا الحكماء فقالوا: إن سبب حاجة الممكن إلى العلَّة هو إمكانه؛ أي لأنه ممكن بقطع النظر عن حدوثه أو عدم حدوثه؛ فسواء كان قديمًا أو حادثًا فهو محتاج ومفتقر إلى العلَّة.
وهذه المسألة من المسائل التي سبَّبَت نزاعًا بين المتكلمين والفلاسفة المسلمين، ممَّا دعا العالم المعروف أبا حامد الغزالي إلى تأليف كتابه «تهافُت الفلاسفة» الذي ذهب فيه إلى آراءٍ مُنكَرة بحق الفلاسفة المسلمين، ثم ردَّ عليه الفيلسوف المعروف ابن رشد بكتابه «تهافُت التهافُت».
الإمكان علة حاجة الممكن إلى العلة
الصحيح ما قاله الحكماء، وهو أن علة حاجة الممكن إلى العلة هي الإمكان دون الحدوث، وقد استدلَّ المصنِّف على ذلك بدليلَين:
-
الأول: إذا لاحظنا الماهيَّة، فتارةً نلاحظها بما
هي؛ أي بقطع النظر عن الوجود والعدم، لحاظًا
عقليًّا بحتًا، وأخرى نلاحظها لا بما هي،
فحينئذٍ إمَّا أن تكون موجودة أو معدومة؛ لأن
الماهيَّة فعلًا إما أن تكون علَّتها التامة
موجودة فتُوجد، أو لا تكون علَّتها موجودة
فتنعدم، فحينئذٍ الماهيةُ الموجودةُ الوجودُ
ضروريٌّ وواجب لها، لكن هذه الضرورة بشرط
المحمول، الماهية الموجودة موجودةٌ
بالضرورة.
ما هو الحدوث؟ الحدوث هو ترتُّب ضرورة الوجود على ضرورة العدم؛ أي كانت سابقًا ضرورية العدم، الضرورة بشرط المحمول، والآن هي ضرورية الوجود، ضرورة بشرط المحمول، وعلى هذا الأساس يعني الحدوث تحقُّق الشيء بعد عدمه.
إذن الماهية قبل وجودها كانت ضرورية العدم، وبعد وجودها أصبحَت ضرورية الوجود، ضرورة بشرط المحمول. والضرورة مناط الغنى؛ أي الضروري مستغنٍ عن غيره، فالماهية الموجودة موجودة بالضرورة، وإذا كانت موجودة بالضرورة فهي مستغنية عن غيرها، والماهية المعدومة معدومة بالضرورة، فإذا كانت ضرورية العدم فهي مستغنية أيضًا عن غيرها؛ فالضرورة هي مناط الاستغناء عن السبب؛ لأن الشيء إذا كان ضروريَّ الوجود فلا يحتاج علة، وإذا كان الشيء ضروريَّ العدم فلا يحتاج علَّة، مع فرق بينهما؛ لأن عدم حاجة الواجب إلى العلَّة هو لشدة وجوده، والممتنع مستغنٍ عن العلة لضعفه، ولأنه ليس بشيء حتى يحتاج إلى علة؛ فعندما نقول إن الضرورة هي مناط الغنى وعدم الاحتياج، لا بد أن نلاحظ أنه قبل الوجود كانت ضرورية العدم، وبعد الوجود أصبحت ضرورية الوجود.
إن الحدوث يعني ترتُّب ضرورة الوجود على ضرورة العدم، وهذه ضرورة بشرط المحمول، ولمَّا كانت الضرورة مناط الغنى، والحدوث هو ترتُّب ضرورة على ضرورة، فحينئذٍ لا يكون الحدوث مناطًا للاحتياج إلى العلة، ولا بد أن يكون مناط الاحتياج إلى العلة هو الإمكان، وليس الحدوث؛ فالإمكان هو أمرٌ ملازم للماهية ويمثِّل فقرها واحتياجها؛ فهي بسببه مفتقرة إلى العلة؛ هذا هو البرهان الأول.
- الثاني: لو لاحظنا ماهيَّة من الماهيَّات الموجودة، كماهيَّة الإنسان مثلًا، فهذه الماهيَّة حسب التحليل العقلي لها عدَّة مراتب، وهذه المراتب دقيقة جدًّا، وعلى أساس فهم هذه المراتب نفهم هذا البرهان.
فعندما يحلِّل العقل ماهيَّة الإنسان الموجود يلاحظ عدَّة مراتب مرَّت بها هذه الماهيَّة حتى وُجدَت، وهذه المراتب ليس بينها تقدُّم وتأخُّر زمني، وإنما تقدُّم وتأخُّر رتبي، وهي كما يلي:
- الأولى: تقرر ذات الماهيَّة.
- الثانية: إمكان الماهيَّة.
- الثالثة: احتياج الماهية إلى العلة حتى تُوجَد.
- الرابعة: إيجاب العلة؛ أي إذا وُجدَت العلة التامة وُجد المعلول.
- الخامسة: وجوب المعلول (الماهيَّة).
- السادسة: إيجاد العلة للمعلول.
- السابعة: مرتبة وجود المعلول.
- الثامنة: إذا وُجد حدث (حدوث المعلول).
وهذا كله شيءٌ واحد، ولكن العقل بقدرته التحليلية الدقيقة يحلِّل هذا الأمر الواحد إلى مراتب؛ ولهذا ذكروا هذه المراتب بعبارةٍ مختصَرة بقولهم: الشيء قُرِّرَ فأمكن فاحتاج فأوجب فوجب فأوجد فوُجد فحدث.
فالشيء الممكن قُرِّرَ (المرتبة الأولى)، فأمكن (المرتبة الثانية)، فاحتاج (المرتبة الثالثة)، فأوجبَ (المرتبة الرابعة)، فوجب (المرتبة الخامسة)، فأوجدَ (المرتبة السادسة)، فوجد (المرتبة السابعة)، فحدث (المرتبة الثامنة).
فهذه المراتب طولية؛ أي إن المرتبة السادسة لا يصح أن تكون خامسة مثلًا؛ لأنها مترتبة عقلًا عليها، فإذا قلنا إن علة احتياج الممكن إلى العلة هي الحدوث، فيلزم من ذلك أن يكون هذا المتأخر — الحدوث — الذي هو في المرتبة الثامنة متقدمًا؛ لأن الحاجة إلى العلة في المرتبة الثالثة، وهي مترتِّبة على المرتبة الثانية، التي هي إمكان الماهية، وليس حدوث الماهية الذي رتبته الثامنة؛ فليس معقولًا أن تكون المرتبة الثالثة معلولة للمرتبة الثامنة؛ لأنه يلزم المُحال، وهو أن الشيء المتأخر يصبح علَّة للمتقدم.
إذن علة الحاجة إلى العلة في الممكن هي الإمكان لا الحدوث؛ أي المرتبة الثالثة سببها المرتبة الثانية، وليس سببها المرتبة الثامنة وهي الحدوث.
مناقشة نظرية الحدوث
إن الذي قال إن علة الحاجة إلى العلة هي الحدوث ذهب إلى أنه لو قلنا: إن علة الحاجة إلى العلَّة هي الإمكان، للزم من ذلك القول بالقديم الزماني؛ أي جواز وجود القديم الزماني، وهو الذي لا بداية له، هو غير حادث؛ أي الأزلي الذي لا أول لوجوده، والقول بالقديم الزماني يلزم منه أن نقول بأشياء مستغنية عن العلة، ما دام قديمًا، أزليًّا، فحينئذٍ يكون مستغنيًا عن العلة؛ لأنه أساسًا لم يكن عدمًا، لكي يحتاج إلى رفع العدم بالعلة، فهو موجود من الأزل ومستمر بالوجود؛ ولذلك قالوا: علَّة الاحتياج إلى العلَّة هي الحدوث لا الإمكان.
والجواب على ذلك بما يلي:
-
أولًا: افتراض القديم الزماني لا يغني عن العلة؛
لأن منشأ الحاجة إلى العلة هو ذات الشيء
المفتقرة بوجودها وبقائها إلى غيرها، وهي
محفوظة مع الوجود الدائم؛ فإن هناك حاجة إلى
العلة حتى مع فرض وجود القديم الزماني، هناك
حاجة إلى العلة، وهذه الحاجة كامنة في ذاته،
وهي حاجةٌ دائمة؛ لأنه مفتقر إلى غيره.
أي على فرض أنه دائمٌ ومستمر، فلا بد أن يكون متصلًا بالعلَّة حتى يدوم ويستمر وجوده؛ لأن ذاته فقيرة لا تقوم بذاتها، وإن كان إذا لاحظناه بشرط المحمول يكون مستغنيًا عن العلة.
وبكلمةٍ بديلة نلاحظ هذا القديم الزماني بلحاظَين؛ أي وهو محفوف بوجوبَين، وجوب وجود من جهة العلة، ووجوب وجود من جهة المحمول، فإذا لاحظناه من جهة العلة فهو مفتقرٌ لها ومحتاجٌ لها بذاته، وإذا لاحظناه من جهة المحمول فهو مستغنٍ عن العلة؛ لأن القديم الموجود موجود بالضرورة، فهو بذاته محتاج إلى العلَّة، وهذه الحاجة كامنة ومستقرة فيه.
-
ثانيًا: أن وجود أي معلول — بقطع النظر عن كونه
حادثًا أو قديمًا — وجودٌ رابطٌ لا مستقل، كما
أسلفنا من قبلُ، ومعنى الوجود الرابط هو أنه
كوجود الضوء بالنسبة إلى الشمس؛ لأنه لو
انطفأت الشمس فسوف ينطفئ الضوء فورًا، فوجود
المعلول دائمًا وجود رابط، وجوده مُفاضٌ من
علَّته؛ فلو انطفأَت علَّته آنًا ما ينطفي
الفيض، وبذلك تنطفئ المعلولات. فهذا العالم
بكل ما فيه هو مُفاضٌ منه تعالى.
فالحاجة إلى العلَّة ذاتية، سواء كان هذا العالم قديمًا، أو حادثًا، فهو محتاج إلى العلَّة بذاته؛ لأن وجوده وجودٌ فقير، ووجودٌ رابط، وجودٌ قائم بغيره وليس مستقلًّا بذاته.