الممكن محتاج إلى علَّته بقاءً كما أنه محتاج إليها حدوثًا
البحث هنا لدفع توهُّم ساذج، وإلَّا فبالنظر العقلي التحليلي لا ينشأ مثل هذا التوهُّم؛ فقد يُقال: إن الممكن الذي أوجدَته العلة قد يستغني عن العلَّة؛ لأنه وُجد وتحقق، فيستغني عنها، ويمثَّل لذلك بمثالٍ بسيط: وهو بناء الغرفة؛ فبمجرد أن يأتي البناء ويبنيها تُوجَد الغرفة، وقد يموت البنَّاء، وتبقى الغرفة قائمة، كما هو في الأهرامات وغيرها من الأبنية التي مضى عليها آلاف السنين وهي قائمة؛ فالأشياء الممكنة بمجرد أن تُوجَد تستغني عن علَّتها.
وهذا القول يفترض أن هذه الموجودات تستغني عن الباري تعالى بمجرد أن يُوجدها، بينما عقيدة التوحيد تقول بأن هذا الوجود مُفاضٌ منه تعالى ومرتبط به؛ فلو انقطع الفيض منه آنًا ما لانعَدَم الوجود وتلاشى ولم يبقَ منه شيء.
فما هو الرد على هذا الكلام، الذي يقول إن الممكن يستغني عن العلَّة بعد وجوده؟
الجواب: كما أن الممكن محتاج إلى العلَّة في وجوده، كذلك هو محتاج في بقائه واستمرار وجوده إلى العلة أيضًا، ولو انقطع ارتباطه بالعلة لحظةً من اللحظات لتلاشى وجوده واستحال إلى عدم، وذلك لما يلي:
-
البرهان الأول: أن حاجة الممكن إلى العلة ناشئة من إمكانه — كما
أثبتنا في الفصل السابق — وإمكانه ملازم للماهية
ولا ينفك عنها، وهذه الماهية قبل وجودها يلازمها
الإمكان، وهو علَّة حاجتها إلى العلَّة، وبعد
الوجود لا ينفك عنها الإمكان؛ أي هو محفوظ مع
الماهية في حالة حدوثها واستمرارها وبقائها
وأبديتها؛ فما دام الإمكان ملازمًا للماهيَّة فهي
مفتقرة إلى العلة غير مستغنية عنها.
فالحاجة إلى العلَّة ناشئة من الإمكان وهو ملازم للماهية؛ فالماهية الممكنة كما هي في حاجة إلى العلة في حدوثها، كذلك في استمرارها وبقائها تحتاج إلى العلَّة.
-
البرهان الثاني: وجود الممكنات ووجود المعلولات وجودٌ رابط، وهو
وجودٌ قائم بغيره لا بنفسه، متعلق الذات بسواه،
متقوِّم بغيره، فهو لا يستغني عن غيره، سواء كان
وجوده قديمًا أو حادثًا؛ لأنه غير مستقل بذاته؛
ولهذا فإن الحاجة إلى العلة حدوثًا وبقاءً واحدة؛
أي الحاجة لازمة للمعلول الممكن، فالممكنات
والعالم بأَسْره لو انقطع عن الواجب لحظةً واحدة
لتلاشى.
إذن الممكن محتاج إلى العلة في بقائه كما هو محتاج إليها في حدوثه.
والذين استدلُّوا على هذه المسألة استدلوا بأمثلةٍ ساذجة وبسيطة، ومنها مثال البَنَّاء والبِناء، والصحيح أن البَنَّاء ليس علَّة للبِناء، وإنما هو علة مُعِدة ومهيِّئة، وهو ليس بعلَّة حقيقية؛ لأن الأدوات ومواد البناء كالطابوق والجص هي جزء العلَّة أيضًا، فالبنَّاء ليس إلا مُقرِّبًا إلى العلة ومُهيِّئًا وممهدًا لها.
خاتمة
إن الإدراكات الموجودة في الذهن تنقسم إلى قسمَين؛ فمنها ما هو جزئي، ومنها ما هو كلي، فإدراكك لهذا الكتاب هو أمرٌ جزئي، أما إدراكك لمفهوم الكتاب الكلي، فهو إدراكٌ لمفهومٍ كلي.
والمعقولات هي المعاني الكلية لا الجزئية الموجودة في الذهن؛ فالمعاني في الذهن تُقسَّم إلى معقولات وغير معقولات، والمعقولات هي المعاني الكلية المدركة، وغير المعقولات هي المعاني الجزئية الموجودة في الذهن، والمعقولات الكلية تُقسَّم إلى أولية وثانية.
ومراتب الإدراك تقسَّم إلى أربع مراتب:
- الأولى: الإدراك الحسي.
- الثانية: الإدراك الخيالي.
- الثالثة: الإدراك الوهمي.
- الرابعة: الإدراك العقلي.
ومراتب الإدراك الثلاث الأولى هي مراتب إدراك المعاني أو الصور الجزئية، والمرتبة الأخيرة (الإدراك العقلي) هي مرتبة إدراك المعاني الكلية.
والإدراك الحسِّي، كما في إحساسك بشيء تراه بعينك، وليكن قلمًا، فتكون له صورة في ذهنك، وهذه صورةٌ محسوسة، ولو أغمضتَ عينك فتكون لهذا القلم صورةٌ جزئيةٌ خيالية، والخيال فوق الحس، أما الصورة الوهميَّة فهي صورة الأشياء المجرَّدة الجزئية، كمعنى الحب والألم والبغض.
والإدراك الخيالي غير الإدراك الحسِّي، فكل صورة تُولد في وعاء غير وعاء الصورة الأخرى، كما تُحفظ في الوعاء الذي تُولد فيه.
ثم يأتي دور الإدراك العقلي؛ فكما أن الصورة الخيالية حصلَت في عالمها الخاص، كذلك تحصل صورةٌ أخرى تتناسب مع قوةٍ أخرى هي القوة العقلية؛ أي إن الذهن يقوم بعملية تجريد، فيقوم بعملية تجزئة وتحليل لهذه الصورة الحسية، فيُبعد منها بعض الأشياء ويحتفظ ببعضها الآخر؛ أي ينفي ما به الامتياز، ويحفظ ما به الاشتراك، فيحصل على صورةٍ مجردة، هي الطبيعي أو الكلي.
وعلى هذا الأساس فعندما ندرك صورة هذا القلم فالصورة تأتي أولًا من الحس، فتكون صورةً محسوسة، ثم بعد ذلك تأتي إلى الخيال فتكون صورةً متخيَّلة، ثم من الخيال إلى العقل، عندما يجرِّد العقل هذه الصورة فيستبعد ما به الامتياز، ويحتفظ بما به الاشتراك بين هذا القلم وبقية الأقلام، فيحصُل على صورةٍ كلية للقلم.
وبذلك تكون هذه الصورة مندرجة تحت مقولة من المقولات العشر، (مقولة الجوهر والمقولات العرضية التسع).
وعلى هذا تكون هذه الصورة التي مرَّت بمرحلة الحس ثم الخيال ثم العقل من المعقولات الأولية، والمعقولات الأولية معانٍ كليَّة متلقَّاة من الخارج، وهي تندرج تحت مقولة من المقولات العشر أو الماهيَّات.
أما المعقولات الثانية فهي عبارة عن مجموعة من المعاني الكلية الموجودة في الذهن، والتي تُغايِر المعقولات الأولية.
الفرق بين المعقولات الأولية والثانية
إذا كانت المعقولات الثانية معاني كلية، والمعقولات الأولية معاني كليَّة أيضًا، فما هو الفرق بينهما؟
- أولًا: المعقولات الثانية ليست صورًا للموجودات الخارجية، التي نُحس بها وتأتي للذهن، بينما المعقولات الأولية لا بد أن تكون مسبوقة أولًا بالحس، بينما الثانية غير مسبوقة بالحس؛ أي إن الأولية تمُر بالمراحل المذكورة، وهي أن الصورة تكون حسيَّة، ثم خياليَّة، ثم عقليَّة، بينما المعقولات الثانية لا تفرض لها صورة خياليَّة ولا حسيَّة.
- ثانيًا: المعقولات الأولية تختص بمجموعة أشياء، كصورة القلم، الكتاب، المندرجة تحت الجوهر، البياض المندرجة تحت الكيف، … وغيرها؛ أي إن كل مجموعةٍ منها تقع تحت عنوانٍ ما، يُسمَّى مقولة، بينما المعقولات الثانية لا تدخل تحت هذه المقولات.
أقسام المعقولات الثانية
المعقولات الثانية تنقسم إلى قسمَين:
- الأول: المعقولات الثانية المنطقية.
- الثاني: المعقولات الثانية الفلسفية.
ملخَّص لما سبق
يتلخَّص مما سبق ما يلي:
-
(١)
أن المعاني الموجودة في الذهن قسمان، معانٍ جزئية ومعانٍ كلية.
-
(٢)
أن المعاني الجزئية هي الصور الحسيَّة، والخياليَّة، والوهميَّة، والمعاني الكلية الموجودة في الذهن هي الصور العقلية.
-
(٣)
أن الذهن عندما يُحس بالصورة أولًا تكون صورةً محسوسة، ثم إذا قطع إحساسه بها تكون خيالية، ثم ترتقي إلى مرتبة العقل، والعقل يستبعد ما به الامتياز ويُبقي ما به الاشتراك.
-
(٤)
أن الصور التي يتلقاها الذهن من الخارج تندرج تحت مقولةٍ ما؛ أي الماهيَّات.
-
(٥)
أن هذه المقولات هي المعقولات الأولية، وهي غير نوعٍ آخر يُسمَّى بالمعقولات الثانية، والفرق بينهما أن المعقولات الأوليَّة مسبوقة بالحس والخيال، بينما الثانية ليست مسبوقةً بذلك.
-
(٦)
أن المعقولات الثانية لا تندرج تحت مقولةٍ من المقولات، بينما المعقولات الأولية تندرج تحت مقولةٍ ما؛ أي إن الثانية أعم.
-
(٧)
أن المعقولات الثانية تنقسم إلى منطقية وفلسفية، والمعقولات الثانية المنطقية هي المعاني الذهنية المحضة التي يكون عروضُها والاتصافُ بها في الذهن؛ أي يكون ظرف وجودها هو الذهن ولا علاقة لها بالخارج، وإن كان بنحو ارتباطها بالمعقولات الأولية يكون لها نحو ارتباط بالخارج، والمفاهيم والقضايا التي ندرُسها في المنطق هي معقولاتٌ ثانيةٌ منطقية، مثل العكس المستوي، عكس النقيض، الجزئي، الكلي، … إلخ.
فالمعقولات الثانية المنطقية هي معقولاتٌ كلية؛ لأنها صورٌ معقولةٌ كلية، وهي لا يتلقاها الذهن مباشرة عن طريق الحواس، وهي ليست موجودة في خارج الذهن، وإنما عروضها والاتصاف بها في الذهن؛ فعندما نقول: الإنسان نوع، فالنوعية معقولٌ ثانوي منطقي، والاتصاف بها يكون في الذهن؛ أي ليس الإنسان الذي هو بالخارج نوعًا، بل صورة الإنسان في الذهن، فالنوعية تعرض على الإنسان الذهني لا الإنسان الخارجي.
والمعقولات الثانية الفلسفية هي مجموعة المفاهيم والمعاني المستخدَمة في الفلسفة، كالعلة والمعلول، والإمكان، والقوة والفعل، والوحدة والكثرة … إلخ. وهذه المعقولات ليست صورًا ومعاني للأشياء الخارجية، مثل المعقولات الأولية، التي هي ماهيَّات، كماهيَّة الكتاب، وماهيَّة الإنسان. كما أن المعقولات الثانية الفلسفية لا يتلقاها الذهن مباشرةً عن طريق الحس كما في المعقولات الأولية، ولكنها ليست كالمعقولات المنطقية التي يكون موطن صدقها الذهن؛ أي العروض والاتصاف يكون في الذهن؛ لأن موطن صدق المعقولات الثانية الفلسفية هو الخارج؛ أي لها نحو وجود في الخارج، عروضها في الذهن، والاتصاف بها في الخارج، فمثلًا في: الإنسان ممكن، فإن اتصاف الإنسان بالإمكان يكون بالخارج، أو مثلًا: العلاقة بين العلة والمعلول ضرورية، فإن الضرورة ليست أمرًا ذهنيًّا، بل هي علاقةٌ واقعية في الخارج، فالمعقولات الثانية الفلسفية يكون العروض فيها في الذهن والاتصاف في الخارج، ولكن ليس لها وجودٌ منحاز في الخارج، كوجود الماهيَّات.
الوجوب والإمكان والامتناع
إن الوجوب والإمكان والامتناع، التي هي كيفيات لنِسَب القضايا، تنقسم إلى قسمَين:
- الأول: عدمي، وهو الامتناع.
- الثاني: وجودي، وهو الوجوب والإمكان، فهما أمران وجوديان؛ أي ليسا عدميَّين، وإنما لهما واقعية في الخارج.
عندما نقول: الكتاب ممكن، فهل يوجد في الخارج أمران، كتاب زائد إمكان؟
الجواب: لا، بل إن نحو الوجود في الخارج للوجوب والإمكان ليس منحازًا، وإنما وجودهما بوجود موضوعاتهما عادة؛ فليس لهما وجودٌ مستقل.
إن الشيء الموجود في الخارج يتصف بالإمكان؛ لأن الإمكان معقولٌ ثانٍ فلسفي، الاتصاف به في الخارج، وليس صحيحًا ما ذهب إليه بعضهم من أن وجود الإمكان والوجوب في الخارج يكون منحازًا ومستقلًّا، بل هما موجودان بوجود الأمر الخارجي الثابتَين له، موجودان بوجود الموضوع؛ فالإمكان موجود بوجود الكتاب مثلًا.
وهذا الكلام بناءً على أن العقل يعتبر المفاهيم والماهيَّات هي الموضوعات للأحكام، وأمَّا إذا اعتبر العقل الوجود هو الموضوع، فيغدو معنى الوجوب هو صفة حقيقية خارجية، لكنها ليست زائدة على وجود الواجب، بل إن الوجوب هو وجود الواجب في غاية الشدة، وكذلك يغدو معنى الإمكان صفةً حقيقيةً وجودية، غير أنها ليست زائدةً على وجود الممكن، وإنما تعني أن وجود الممكن وجودٌ فقير ومقيَّد بقيودٍ عدمية، غير مستغنٍ عن غيره، وليس متقومًا بذاته.