لقاءات مع ناصر
لم يُبدِ غالب اندهاشًا. كان يعلم أن ناصرًا لا يُولي ثقةً لشفرة جهازه الدبلوماسي، ولعله لم يكن يوليها أيضًا لبعض العاملين في الجهاز. وبالفعل لقد طلب ناصر أن نُرتِّب الأمر بحيث لا يعرف بزيارته أحد من المصريين في موسكو عدا السفير وحده. ذهبتُ مع السفير إلى المطار وهناك شاهدت ناصرًا للمرة الأولى.
كانت المُباحثات في موسكو ناجحة. تمَّ تسليم مصر أسلحةً جديدة للدفاع الجوي، وكان من الضروري إرسال أطقم سوفييتية إلى مصر بصفة مؤقتة.
لم يُفكِّر ناصر بعد عودته إلى القاهرة أن يوقف ما عُرف باسم «حرب الاستنزاف». استمرَّ تبادل إطلاق النيران عبر القناة، بينما راح الإسرائيليون يُوجِّهون ضرباتهم الجوية إلى المناطق المصرية في العمق. لم يؤدِّ هذا الوضع إلى نتائج عملية في تغيير عناد إسرائيل، وإنما زادت الموقف توتُّرًا. أمَّا الضحايا من الجانب المصري فقد راحوا، بشكل رئیسي، هباءً.
لقد تراكم عدد من الأسئلة: إلى أي مدًى يمكن للمصريين أن يذهبوا في سبيل تسوية الوضع، الذي ينبغي أن يقوم على انسحاب القوات الإسرائيلية من جميع الأراضي العربية التي احتلَّتها عام ١٩٦٧م؟ وهل سيتفق الجانبان على «وقف حالة الحرب»، أم أنهما سيكونان على استعدادٍ للمضي قدمًا من أجل إقرار «حالة السلام»؟ ومتى يمكن لهذه الحالة أن تسود؟ كان من المفترض أن تتم جدولة خطة التسوية، بحيث يتم الانسحاب على مرحلتَين. فمتى يمكن أن تحل، فرضًا، حالة السلام عند انسحاب آخر جندي إسرائيلي من الأراضي المصرية، أم، ربما، بعد إتمام المرحلة الأولى من انسحاب هذه القوات؟ ثم ما الالتزامات التي ينبغي على الجانب المصري أن يؤديها بعد الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية، عند صياغة شروط السلام؟ هل يمكن، على سبيل المثال، أن يصل إلى التعهُّد بعدم السماح بقيام أعمال عدائية من أراضيها ضد إسرائيل؟ وأخيرًا، هل كان السؤال مطروحًا بشأن مواصلة «حرب الاستنزاف»؛ فهذه «الحرب» كانت تعوق محاولات التسوية، بل كانت تعوق، في الواقع، دخول وحدات الدفاع الجوي السوفييتية. فهل كان من الممكن وقفها ولو لفترة محدودة؟
كل هذه الأسئلة وغيرها كان من المُقرَّر مناقشتها مع ناصر، على الرغم من أن فكرتنا في السابق كانت تتلخَّص في محاولة التوصل أولًا إلى اتفاق مع الأمريكيين، ثم إبلاغ ناصر بعد ذلك للحصول منه على موافقته، أو على إجراء بعض التعديلات. كان ناصر يتعامل مع كل الصياغات التي كان يتصوَّر أن من شأنها إضعاف موقف مصر بشعور من الحسرة والألم. كان وزير خارجيتنا (أندريه جروميكو، المؤلف) يرفض الذهاب إلى مصر، حيث إنه اضطُر عدة مرات قبل ذلك للحديث مع ناصر بشأن هذه الموضوعات، ولكنها لم تسِر على ما يرام. وقد رشَّحني للذهاب إليه وهو ما تمَّت الموافقة عليه.
وهكذا، حصلتُ على تفويض بمحاولة الاتفاق مع ناصر على عدد من القضايا المهمة والدقيقة. وقبل أن تُحلِّق الطائرة بي قال لي وزير خارجيتي، إنه إذا نجح التفويض ولو بنسبة ١٠٪ فإن ذلك يُعتَبر نجاحًا. لم تكن الوصية ملهمةً كثيرًا! وها نحن ننطلق إلى ناصر.
استقبلنا ناصر في بيته في هليوبوليس المقام في منطقة عسكرية. وكان البيت من الداخل غايةً في البساطة والتواضع.
استقبلنا ناصر بكل بشاشة وترحاب. أجلسني إلى جواره على أريكة وقال لي إنه قرأ الملف الذي أعطاه إياه ریاض بشأن المباحثات التي أجراها معي. وأعرب عن موافقته على طرحنا للقضية وأوضح أننا على حق؛ فإننا إذا تحدَّثنا عن السلام، فيجب علينا أن نتحدَّث عنه بصوت مسموع وليس همسًا. إنه رجل سلام، وليرَ الجميع ذلك، ومن ثم فليس لديه مانع أن يعتبر مصر، في حالة إذا ما انسحبت القوات الإسرائيلية من الأراضي المحتلة، ليست فقط في حالة إنهاء حالة الحرب، وإنما في «حالة سلام» مع إسرائيل. وكان يعلم أن قراره هذا لن يلقى، على أقل تقدير، قَبولًا جماهيريًّا لدى البلاد العربية، فضلًا عن مصر نفسها. ربما يظهر هناك رافضون، لكن الرجل كان على يقين من صحة رأيه، فضلًا عن صلابة موقفه. وقال إن وضع مصر ومكانة رئيسها يتوقَّفان على قدرتي على السماح لنفسي باتخاذ حتى هذه القرارات التي قد تبدو غير مفهومة للوهلة الأولى من جانب الشعب، ومن ثم لا تجد لديه قَبولًا.
وقال ناصر إنه بالنسبة لفرض حالة السلام فإنني أتفهَّم قلق الأصدقاء السوفييت جرَّاء إحساسهم برغبة مصر في سحب البساط من تحت أقدام خصومنا المشتركين، وطموحها في التسلح ورغبتها في تدمير إسرائيل. في الواقع فإن البعض يمكنه أن يؤكِّد أن على إسرائيل ألَّا تسحب قواتها؛ لأنها لن تعرف ما سيكون عليه الوضع بعد انسحابها؛ سلام أم شيء ما آخر. ولكي يزول هذا الشك، فإنه على أتم استعداد للموافقة معنا على أن يحل السلام فورًا بعد إنجاز المرحلة الأولى من انسحاب القوات الإسرائيلية، بشرط ألَّا تستمر المرحلة الثانية من الانسحاب النهائي لفترة طويلة، عندئذٍ سيكون بإمكان الإسرائيليين أن يسحبوا، بشكل نهائي، قواتهم في ظروف سلمية بالفعل، وهو تنازل كبير من جانب العرب؛ إذ يعني نظريًّا أن مصر ستوافق على أن تكون في حالة سلام مع إسرائيل، على الرغم من أن القوات الإسرائيلية سوف تكون موجودةً لبعض الوقت على الأراضي المصرية، ولكنها ستكون في حالة انسحاب.
أمَّا بالنسبة لمسألة الْتزامات الجانبَين في حالة قيام السلام، فكان ناصر يدرك أن من الضروري هنا حرمان العدو من استخدام ورقة عدوانية مصر؛ ولذلك فهو يوافق على تسجيل هذه النقطة، من بين نقاط أخرى، تُفيد أن البلدَين سوف لن يسمحا بأية أعمال عدوانية من أراضي أيٍّ منهما ضد أراضي الآخر. وقال ناصر إن من المحتمل أن يهاجمني الفلسطينيون لهذا السبب، ولكني لا أخشى ذلك، ما دام الحديث سوف يدور حول «الشروط النهائية للسلام»، والذي سيتضمَّن الحديث أيضًا عن حل مسألة الفلسطينيين.
أعربت عن امتناني لناصر على قراره وأخبرته أنه سوف يساعدنا في نضالنا المقبل من أجل مصالح البلاد العربية.
بعد ذلك قلت إن لديَّ تكليفًا حساسًا آخر، لم يكن بإمكاني مناقشته مع محمود ریاض. وهنا، عرضت عليه حججنا وتقديراتنا بشأن «حرب الاستنزاف»، وكانت هذه أصعب لحظة واجهتها. كان ناصر يربط هذه «الحرب» بالعديد من شعاراته السياسية، التي كان يستخدمها لتحقيق أهدافه السياسية سواء داخل البلاد أو خارجها.
أنصت ناصر إلى حججي جميعًا باهتمام، وكنتُ قد أعددتها مسبقًا بطبيعة الحال. وفي نهاية حديثي أخبرته أيضًا بقرب وصول وحدات عسكرية سوفييتية.
استغرق ناصر في التفكير، تريَّث ونظر إليَّ باهتمام مُقطِّبًا جبينه على نحو ما لبرهة لم تطُل، ثم قال بعدها: «حسنًا، موافق على وقف إطلاق النار على ألَّا يطول الأمر. فإذا لم يتخذ الإسرائيليون والأمريكيون خلال هذه الفترة خطواتٍ عمليةً في اتجاه التسوية، فسوف نبدأ الحرب من جديد. وبالطبع لا ينبغي أن يعرف الإسرائيليون والأمريكيون بما دار بيننا من حديث. يمكنك أن تقول لهم إنه إذا أوقفت إسرائيل غاراتها في عمق مصر فإنك ترى أن مصر قد تشرع في وقف حرب الاستنزاف. أمَّا إذا سُئِلتُ حول ما إذا كنتُ موافقًا على ذلك فسوف أُجيب بأننا لم نتحدَّث في هذا الأمر.» وهنا، انفرجت أسارير ناصر.
تنفَّست الصُّعَداء (بيني وبين نفسي بالطبع)، فقد نجح التفويض بنسبة ١٠٠٪.
وطوال الحديث الذي استمرَّ بيننا بعد ذلك راح ناصر يُطوِّر فكرة أن الصراع في الشرق الأوسط لا يُعد صراعًا بين الدول العربية وإسرائيل، وإنما هو في الواقع صراع بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية. وذكر ناصر أن الصراع العربي الإسرائيلي يبدو كما لو كان ناشئًا عن هذا الصراع الأساسي العالمي بين السوفييت وأمريكا.
كان من الممكن بالطبع أن يُؤدِّي قَبول هذه الفكرة إلى استنتاجات خاطئة على المستوى النظري، فضلًا عن المستوى العملي الخالص. وعلى الفور رحت أُفكِّر لماذا طرح ناصر هذه المسألة: تُرى هل طرحها لكي يختبر قناعاته الشخصية، وخاصةً أن هذه المسألة التي طرحها بنفسه كانت رائجةً رواجًا كبيرًا في الأوساط ذات النزعة القومية في مصر؟
قلت لناصر «إنني لا أتفق معه في أفكاره»، فنظر إليَّ دهشًا، وقال: «هكذا؟!» ثم عرض عليَّ أن أطرح وجهة نظري.
قلت إن الاتحاد السوفييتي ليس شريكًا، ولن يكون، في الصراع العربي الإسرائيلي، الذي هو صراع بين قوى التحرُّر الوطني، القوى التقدمية بقيادة مصر، والقوى الرجعية — إسرائيل — تدعمها الولايات المتحدة. وحيث إن الصراع العربي الإسرائيلي هو صراع بين قوى التقدُّم والرجعية، فليس من المستغرب أن الاتحاد السوفييتي يدعم القوى التقدُّمية، بينما تدعم الولايات المتحدة الأمريكية بحكم طبيعتها القوى الرجعية. استمع إليَّ ناصر بانتباه تام وحاول أن يطرح حججًا إضافية، ولكنه في النهاية وافق على ما قلته. وما زلت حتى الآن لا أعرف لماذا طرح ناصر هذه المسألة ليوافق في النهاية. صحيح أنه قال، في نهاية حديثنا، إن أحدًا في مصر لم يعارضه حتى الآن، ولعلني الأول الذي فعل ذلك. قال ذلك في سياق الدعابة، ولكن الواضح أن قوله لم يكن على سبيل المزاح.
فيما بعدُ كانوا يقولون لي إن ناصرًا كان راضيًا عمَّا دار بيننا من حديث وجدل. كان الرجل نفسه لا يحب أن يعارضه أحد بطبيعة الحال، لكن المحيطين به، وهم يعلمون عنه ذلك، اشتطوا في الأمر، فكانوا يردون دائمًا بالإيجاب وكان ذلك يثير غضبه.
بانتهاء الحوار، استدعى ناصر المصوِّرين الذين قاموا بالتقاط عدد من الصور للذكرى، ثم رافقني حتى مدخل البيت وودَّعني بحرارة، ثم وقف معنا مرةً أخرى أمام المُصوِّر. اقترح ناصر عليَّ البقاء ثلاثة أيام أخرى لزيارة الأقصر وأسوان لمشاهدة آثار البلاد، حيث إني أزور مصر للمرة الأولى، لكني كنت مضطرًّا للعودة إلى موسكو ووعدته بالحضور مرةً أخرى إلى القاهرة.
لم أتوقَّع بالطبع أن يقول لي محمد حسنين هيكل، بعد مرور ثلاث سنوات ونصف، وهو يتأمَّل هذه الصورة التذكارية وعليها توقيع ناصر: «لقد قال ناصر عدة مرات بعد سفرك: لا أفهم لماذا قدَّمت تنازلات كثيرةً على هذا النحو لفينوجرادوف.» وأنا أيضًا لا أعرف. لقد كانت تنازلات بالفعل، ولكنها كانت لصالح مصر نفسها.
كنت مُعجَبًا بناصر بصورة واضحة. كان ثمة قوة ما وثقة تنبعثان منه. لم يكن الأمر هنا مُجرَّد كرم ضيافة نتيجةً للتربية أو لكونه رب البيت. كنت أشعر بالحماس يمور بداخله، بل والميل إلى الشجار في الحديث. كان على ما يبدو راغبًا في كسب مشاعر الصداقة، وربما اختبار مُحدِّثه بأن ينعطف بحدة أثناء الحديث، ثم يرى إن كان مُحدِّثه سوف يشعر بالارتباك والحيرة.
في صيف عام ١٩٧٠م، جاء ناصر إلى موسكو مرةً أخرى للعلاج، وعندما استقبلته في مطار فنوكوفو أصابتني هيئته التي تشي بالمرض بالدهشة. كان ناصر عريض المنكبَين، طویل القامة، متين البنية، لكن وجهه لم يكن بسمرته، وإنما كان شاحبًا بدرجة ما، معتلًّا، وفي عينَيه ألم دفين. كان عليه أن يبتسم وأن يصافح مستقبلِيه. لا أدري إن كان قد تعرف علَي، أظن أنه لم يعرفني. ألقى نظرةً علي، صحيح أنه صافحني، ابتسم، لكنه كان يبتسم للجميع.
إبَّان المباحثات التي جرت في الكرملين، كان ناصر يتصرَّف كما لو كان بين صحبة حميمة، بحرية وفي غير تكلُّف. كان يستجيب ببساطة للدعابة. كان يقظًا، بل كان شديد اليقظة عندما يستمع إلى ما يقوله القادة السوفييت. أمَّا عندما كان الأمر يتعلَّق بمطالبه فكان يستخدم المنهج التالي؛ كان يعرض في البداية الموقف الذي يُمثِّل الأساس لأسباب هذه المطالب، وكان في سياق ذلك يتحدَّث بإخلاص يأسر النفوس، فيقول على سبيل المثال: انتبهوا، ليس لديَّ أسرار أُخفيها عنكم. بعدها يكون الوضع على النحو التالي: لقد أخبرتكم عن الوضع برمته، والآن عليكم اتخاذ القرار. كان أسلوبًا مُرضيًا في كثير من الأحيان، ولكنه كان يؤدِّي إلى نتائج جيدة. وفي الواقع كان هو الأسلوب الضروري في سياق هذه العلاقات الودية التي سادت بين الاتحاد السوفييتي ومصر في تلك الفترة، الإخلاص الحقيقي، وليس الرغبة في الحصول على أي شيء وبأي وسيلة.
تسنَّى لي أثناء المباحثات أن أُرافقه في السيارة. كان الحوار معه شيقًا دائمًا، حيث يتيح الفرصة للتعرُّف عليه كإنسان. لقد سُرَّ سرورًا كبيرًا عندما علم أن كلَينا كان لديه في فترة الشباب نفس الولع برياضة كرة السلة، وأن لدينا في الوقت الحالي نفس الهواية وهي التصوير السينمائي. وقد اشتكى لي ناصر أنه لم يعد لديه وقت كافٍ لكي يقوم بتنظيم الأفلام التي التقطها، وهي المشكلة المشتركة التي يعاني منها كل هواة التصوير السينمائي.
ذات مرة، تطرَّق إلى الحديث عن إذاعتنا. قال: «لماذا تفتقد إذاعتكم المهارة في بث الأخبار الدولية؟ إنها تُذيعها متأخرةً وغير شيقة، والأهم أنها غير مؤثرة. كم تخسرون بسبب ذلك! إنني أحمل دائمًا معي رادیو ترانزستور مُوجَّه دائمًا على الخدمة الدولية لبي بي سي. الإنجليز يُذيعون الأخبار كل ساعة بإيجاز ووضوح لمدة من سبع إلى عشر دقائق؛ ولهذا فإن العالم بأسره يستمع إليهم. لماذا لا تُدبِّرون أمر هذه الإذاعة؟ سيكون الأمر أكثر أهميةً لو استمعنا إلى موسكو بدلًا من لندن.»
وفي مناسبة أخرى طرح عليَّ سؤالًا، قال: «لماذا لا تريدوننا أن نتحدَّث علنًا عن المساعدات العسكرية السوفييتية لمصر؟ إن أعداءنا يعرفون ذلك، فلماذا إذن لا يعرف أصدقاؤنا وأصدقاؤكم بشأنها؟ ما دامت هذه المساعدات معروفةً لأعدائنا فمن الضروري أن يعرف أصدقاؤنا بها. أنا على يقين أننا نخسر سياسيًّا بسبب ذلك.»
أثناء وجوده في موسكو تلقَّی ناصر نبأ مصرع خمسة طيارين من بينهم طیارون سوفييت في مصر، أسقط الإسرائيليون طائراتهم. كان الأكثر إيلامًا بالنسبة له، أن الحادث جاء نتيجة استخدام الطيارين الإسرائيليين لأبسط أشكال المناورات. بعبارة أخرى، فإن طيارينا والطيارين المصريين وقعوا في فخ بدائي. وكانت المسئولية في ذلك تقع على عاتق التوجيه الأرضي. لقد شعر ناصر بالألم الشديد جرَّاء مصرع الطيارين. وكان يقول لي دائمًا إنه كان يعرفهم جميعًا شخصيًّا، وإن مصر لا تمتلك الكثير من مثل هؤلاء الطيارين الأكْفاء.
كان ناصر موجودًا في موسكو للعلاج عندما انتهى التحليق القياسي لرائدَي الفضاء نيكولايف وسيفوستيانوف في الفضاء الكوني. وقد تمَّت دعوة ناصر ومرافقيه إلى حفل استقبال كبير في قاعة جيورجيفسكي بقصر الكرملين الكبير. وفي هذا اليوم تلقَّيت اتصالًا هاتفيًّا يُفيد أن ناصرًا يود أن ينعم على نيكولايف وسيفوستيانوف بأعلى وسام مصري وهو «قلادة النيل»، وأن يُقلِّدهما هذه الأوسمة أثناء الحفل. وقد طُلب مني أن أشرح هذا الموقف. وقد حاولت أن أُرتِّب هذا الأمر مع المعنيين لكنهم جميعًا كانوا يقابلونه بالرفض. كانوا يزعمون أن التكريم أمر ممكن أن يكون مقبولًا، ولكن لا داعي لمنح الأوسمة في حفل يُقام في الكرملين. وقد أبلغنا ناصر بذلك، ولكنه غضب وقال إنه لن يذهب إلى حفل الكرملين لأنه مريض. وهنا اضطُررنا لإرسال سفيرنا سيرجي ألكسندروفيتش فينوجرادوف إلى بارفيخو، حيث يقيم ناصر؛ ليُخبره مباشرةً أن ذهابه أمر لا بد منه. وقد حضر ناصر حفل الاستقبال، والحقيقة أنه فعل ذلك بعد أن أمر ياوراه أن يحملا معهما الأوسمة على أية حال. وهكذا جاءا يحملان علبتَين كبيرتَين. حاولت أن أُقنع القيادة المنوطة بتنظيم الحفل نفسه، شارحًا لهم الموقف؛ إذ إن ناصرًا كان يقف مُتأهِّبًا في انتظار السماح له بتقليد الأوسمة للأبطال، وقد نجحت في ذلك، ولكنهم أخبروني أن الأمر سيتم بطبيعة الحال، ولكن بعد برهة.
منذ هذه اللحظة لم أرَ ناصرًا مطلقًا.
كان عليَّ فقط أن أقوم بمهمة حزينة؛ أن أُشارك في الوفد الرسمي الذي رأسه ألكسي كوسيجين لحضور جنازة ناصر، وفي نفس توقيت الوفاة تمَّ تعييني سفيرًا لدى مصر.
-
مستشار للشئون السياسية للرئيس جمال عبد الناصر ١٩٥٨–١٩٦٢م.
-
مندوب مصر الدائم في الأمم المتحدة ١٩٦٢م.
-
وزير الخارجية منذ أوائل ١٩٦٤م وحتی ١٩٧٢م.
-
مستشار للشئون السياسية للرئيس أنور السادات ١٩٧٢م.
-
أمين عام لجامعة الدول العربية يونيو ١٩٧٢م، استقال في مارس ١٩٧٩م. (المترجم)