مصر: زمن الفتنة
في حياة الدول التي حصلَت على استقلالها منذ زمن غير بعيد نسبيًّا، هناك فترات صعود وهبوط، حركة سريعة على الطريق إلى أهداف مرسومة، ثم توقُّف، أو حتى خروج عن الطريق المرسوم. وأحيانًا، تتحرَّك الأحداث إلى الخلف بصورة مؤقَّتة. أمور كثيرة تتوقَّف على صلابة السياسة الداخلية للنظام، وعلى مدى تأثير القُوى الخارجية المختلفة، وفي بعض الأحيان على رجال الدولة الذين يجدون أنفسهم تحت ضغط الظروف أو بنزوة التاريخ على رأس الدولة. هؤلاء يحصلون على حقوق كثيرة في التأثير في سياسة الدولة.
وبسبب ذلك كله يتغيَّر أحيانًا منهج السياسة الخارجية تجاه الدول الأخرى.
وبالنسبة لعلاقتنا بمصر، الدولة الأكبر في الشرق العربي، كانت هناك فترات توقَّفت فيها هذه العلاقة على التغيُّرات الداخلية في مصر ذاتها.
لقد أصبح الشرق الأوسط، كما كان سابقًا، واحدًا من أكثر «النقاط الساخنة» على كوكبنا، وأصبحت أهم المهام السياسية على الساحة الدولية هي تسوية النزاع في الشرق الأوسط، و«تفكيك التكتلات»، إذا جاز القول، بالطرق السياسية السلمية وضمان حياة سلمية لكل سُكان المنطقة.
كانت فكرة حل الصراع بالطرق المنفردة بهدف فرض شروط غير متكافئة على الدول العربية (ومن أجل ذلك كان من الضروري إبعاد الاتحاد السوفييتي عن المشاركة في التسوية)، فكرةً غير واقعية رفضها المجتمع الدولي منذ زمن بعيد، حيث إنها لم تكن لتؤدِّي إلى سلام حقیقي.
لقد اتفقت الجمعية العامة للأمم المتحدة وأكَّدت من جديد بالإجماع على أن وسيلة حل الصراع في الشرق الأوسط تتمثَّل في ضرورة عقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط تشارك فيه الدول المعنية في المنطقة؛ الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب مصر وإسرائيل والدول الأعضاء في مجلس الأمن.
١
وصلت إلى بيتي عائدًا من وزارة الخارجية ذات مساءٍ بارد موحل يوم التاسع والعشرين من سبتمبر ١٩٧٠م. قالت زوجتي: لقد اتصلوا بك للتو يطلبون سرعة الاتصال بهم. اتصلت، وتبيَّن لي ضرورة العودة فورًا، لماذا؟ غير معروف. آنذاك، كنتُ أقوم بالإشراف على عمل قسمَي الشرق الأوسط والأدنى.
علمت في غرفة النائب فاسيلي فاسيليفيتش كوزنيتسوف، النائب الأول لوزير الخارجية، بالخبر الذي تلقَّاه على الفور من القائم بأعمال الاتحاد السوفييتي لدى مصر (كانت تُسمَّى آنذاك الجمهورية العربية المتحدة) فلاديمير بروفيرييفيتش بولياكوف. لقد تُوفِّي ناصر فجأة، رئيس مصر ورئيس وزرائها، زعيم الأمة المصرية، القائد التقدُّمي للعالم العربي، الصديق الكبير للاتحاد السوفييتي.
كان نبأً مفاجئًا ومُحبطًا، وقد جرى استدعاء بولياكوف على الفور إلى مقر رئيس الجمهورية. كانت حالة من الهرج تسود المكان، ولدهشة بولياكوف، لم يولِه أحد اهتمامًا تقريبًا، ثم أخبروه أنه «لا حاجة لوجوده». وعندما عاد إلى السفارة، علم أن ناصرًا قد تُوفي. في هذا اليوم، ودَّع ناصر رؤساء الدول العربية بعد مؤتمر ناجح أقامته القاهرة أوقف بفضله الصراع الدموي بين الأشقاء الفلسطينيين والسوريين من جانب، والأردن من جانب آخر. وقد شعر بوعكة صحية في المطار، وبعد أن عاد إلى المنزل، ازدادت حالته سوءًا.
لم أُصدِّق ما حدث. أحد الحاضرين في مكتب كوزنيتسوف رأى أن من المحتمل أن يكون الخبر غير صحيح. ولكن، إذا بهم يُحضرون لنا برقيةً تُؤكِّد رسميًّا أن الأمر قد وقع بالفعل، وأن ناصرًا لم يعد بيننا.
تذكَّرت لقاءاتي مع ناصر في موسكو، وفي القاهرة. كان يفيض قوةً وثقة، فضلًا عن ذلك حبًّا للصداقة.
لكن ذلك لم يكن سوى انطباعاتي الشخصية عنه؛ فما تزال هناك تصوُّرات أخرى تحجب الآن، على غير إرادة مني، تصوُّراتي السياسية عنه. لقد غادر الحياة القائد العظيم لأكبر أمة عربية، الرجل الذي قاد الثورة وقاد شعبه على طريق التقدُّم المستقل.
إن التحوُّلات التقدُّمية في مصر، سواء في الريف أو في المدن، ولصالح العُمَّال، ترتبط جميعها باسم ناصر. وهو الذي أنشأ المنظمة الجماهيرية المعروفة باسم الاتحاد الاشتراكي العربي، وكان يُفكِّر في تأسيس حزب أراد أن يُسمِّيه «طليعة الاشتراكيين».
لقد قاده منطق النضال المخلص من أجل مصالح شعبه، من أجل الاستقلال الوطني بالدرجة الأولى، قاده إلى الإيمان بضرورة عقد صداقة أخوية متينة بين الشعبَين المصري والسوفييتي، وبأهمية بناء علاقات قوية مخلصة بين مصر وبلادنا.
وبتأثير مصر التقدُّمية، تمَّ طرد الإمبريالية الأمريكية من منطقة الشرق الأوسط. كان العالم العربي، الذي استيقظ على الاستقلال، مفعمًا بالعزيمة على تحديد مصيره بنفسه دون مستشارين من الخارج اعتادوا على إدارة شئون الشرق الأوسط. وكان ناصر واحدًا من الذين أسَّسوا ما عُرف باسم «حركة عدم الانحياز». باختصار، كان ناصر رجلًا يمتلك سمعةً عالمية رفيعة.
لقد طرح رحيل ناصر قضايا عديدة، سواء فيما يتعلَّق بصمود النظام ومواصلة الخطط الداخلية، أو، من ثم، التطوير المستمر للسياسة الخارجية لمصر، والتي كانت قائمةً في ظروف إزالة آثار العدوان ضد الشعوب العربية من الفلسطينيين والمصريين والسوريين والأردنيين واللبنانيين وغيرهم.
في الحقيقة، كانت سياسة إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية من ورائها، ضد مصر، وبالتالي ضد ناصر. كان ذلك، إذا جاز لنا القول، «عدوانًا خارجيًّا على الثورة» مُوجَّهًا ضد مصر باعتبارها القوة الأساسية والأكبر والأكثر تأثيرًا وتقدُّميةً للشعوب العربية ككل؛ ولذلك فإن أمورًا كثيرة في نهاية سبتمبر عام ١٩٧٠م أصبحت، برحيل ناصر، مُتوقِّفةً على مواصلة منهج مصر، أو بتعبير أدق، على من سيرأس البلاد بعد رحيل ناصر.
واصلنا العمل طويلًا في مكتب ف. ف. كوزنيتسوف، وتفرَّقنا بعد منتصف الليل بكثير.
في صباح الثلاثين من سبتمبر، غادرَت مطار فنوكوفو-٢ طائرةٌ خاصة من طراز إيل-٦٨ تحمل على متنها وفدًا سوفييتيًّا لحضور جنازة ناصر، كان على رأس الوفد ألكسي نيكولايفيتش كوسيجين، عضو المكتب السياسي للَّجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي، رئيس مجلس وزراء الاتحاد السوفييتي. وضمَّ الوفد قائد الأركان العامة للاتحاد السوفیيتي، مارشال الاتحاد السوفييتي م. ف. زاخاروف وأنا، بصفتي نائبًا لوزير خارجية الاتحاد السوفييتي، وكذلك الجنرال ف. ف. أوكونيف، كبير المستشارين العسكريين السوفييت، الذي كان قد عُين لتوِّه في هذا المنصب. وف. ب. بولياكوف القائم بأعمال الاتحاد السوفييتي لدى جمهورية مصر العربية والذي كان موجودًا آنذاك في القاهرة. وفي صباح نفس اليوم، تمَّ اتخاذ قرار بطلب موافقة حكومة جمهورية مصر العربية على تعييني سفيرًا للاتحاد السوفييتي لدى القاهرة. وكان القائم بالأعمال المؤقَّت برأس السفارة لمدة تزيد على شهر بعد وفاة سفيرنا الدبلوماسي المُحنَّك سيرجي ألكسندروفيتش فينوجرادوف.
هبطت بنا الطائرة وسرعان ما بدأ الظلام يزداد حلكة. جمهور غفير أحاط بالطائرة، لم يكن باستطاعتنا أن نتبيَّن مَن هُم. هبطنا سُلَّم الطائرة كيفما اتفق نحو ظلام دامس. لم يكن هناك من ضوء سوى شعاع يصدر من هنا أو هناك من أجهزة الإضاءة الخاصة بمصوِّري السينما والتليفزيون، عندئذٍ كانت تتراءى لنا ظلال رءوس الجمهور القلق. وعلى الفور انتقلت إلينا مشاعر الاضطراب والعصبية التي اكتنفت ليل القاهرة.
استطعنا ونحن على سُلَّم الطائرة رؤية السادات وهو يستقبل الوفد السوفييتي (كان نائبًا للرئيس آنذاك) وبصحبته محمد فوزي وزير الحربية وعلي صبري وشخص آخر. غرق ألكسي كوسيجين في أحضان المصريين الباكين، ثم بدأ الحُرَّاس يُهرولون إلى الأمام باتجاه ما (لعلهم اتجهوا نحو السيارات). مرةً أخرى، وجدنا أنفسنا وسط الزحام في الظلام. رحت أُساعد ماتفي فاسيليفيتش زاخاروف على التماسك. دلفنا إلى سيارة ما كبيرة على زجاجها الأمامي أرقام. جلسنا ثم انحشر شخص ما إلى جوارنا.
– إلى أين؟
– خلف الآخرين، إلى حيث يذهبون.
شقَّت السيارات طريقها وسط الزحام، واحدةً تلو الأخرى، مُغادِرةً المطار لتتخذ طريقها نحو المدينة.
خُيِّل إليَّ أن القاهرة خرجت عن بكرة أبيها إلى الشوارع. إلى أين هم ذاهبون. كان الناس يلتصقون بالحافلات وعربات الترام. كانوا يصيحون ويهتفون بقوة مُعبِّرين عن مشاعرهم بإشارات ما. العديد منهم كانوا يبكون ويرفعون أيديهم إلى السماء. كان الجو حارًّا ورطبًا وخانقًا. كانت كل هذه المشاهد والأصوات معًا تخلق انطباعًا بأن شيئًا ما غير طبیعي يحدث.
أنزلونا، كوسيجين وزاخاروف وأنا في محل إقامة السفير السوفييتي على شاطئ النيل، غير بعيد عن السفارة، بينما نزل باقي الرفاق في فندق «هيلتون» على الضفة الأخرى للنهر.
وفي نفس الليلة التقى ألكسي كوسيجين بالسادات، بعدها توجَّه لتقديم واجب العزاء لأرملة ناصر. ولدى عودة ألكسي كوسيجين تساءل، وقد استغرق في التفكير، عمَّا يعنيه هتاف الجماهير المُتكرِّر: «ما تسيبناش.» ماذا كانوا يعنون بذلك؛ أسرة الراحل، الدولة، أم الشعب المصري؟ لماذا انفجر هذا الرجاء؟
ذهبتُ إلى وزير الخارجية محمود ریاض، ثم إلى رئيس تحرير جريدة «الأهرام»، وهو في نفس الوقت وزير الإرشاد القومي محمد حسنين هيكل، الصحفي الشهير، وكانت تربطني به علاقة قديمة.
كان رياض يبكي. ماذا سيبقى لنا بعد ناصر؟ تعاليمه، حزبه، رفاقه في الفكر؟ هل سيتحمَّل الناصريون الخسارة، وهل سننتظر إلى أن يقوم خصوم ناصر ونهجه السياسي بامتلاك زمام الأمور في الداخل والخارج.
قال هيكل وعيناه مغرورقتان بالدموع: «لا أصدق، لا أصدق. أنتم الأصدقاء الأوفياء لناصر ما زلتم هنا، بينما هو تُوفي لتوه. أمر جيد أن يكون أول من وصل هم أفضل أصدقائه. لقد كان ناصر يُفكِّر منذ فترة قريبة أن يلتقي بك، حتى إنه أعرب عن رغبته في أن يتم تعيينك سفيرًا لدى القاهرة.» انتفض جسدي دون رغبة مني. لقد حان الوقت لأن أُخبر هيكل بشأن تعييني، كنت أعلم أن كوسيجين موجود الآن لدى السادات وسوف يحدِّثه في ذلك.
حضر الجنازة رؤساء الدول ورؤساء الوزراء والشخصيات الحكومية البارزة، وقد طلب معظمهم أن يلتقوا برئيس الوفد السوفييتي، وأخبرني ألكسي كوسيجين أن السادات وافق على الفور على تعييني سفيرًا، وأنه قد بات عليَّ منذ اللحظة أن أحضر المباحثات جميعًا بوصفي السفير السوفييتي الجديد. كانت الفكرة الرئيسية التي راحت تُؤرِّق كل الشخصيات العربية كما قالوا لنا: إن مصر ينبغي ألَّا تفقد دورها القيادي أيًّا كان من سيصبح رئيسًا لها، وإن مصر يجب أن تظل زعيمًا للعالم العربي؛ ولهذا فإن على المصريين أن يختاروا رئيسًا يمكنه أن يواصل قضية ناصر، وفي هذه الحالة فقط لن تسقط الراية العربية المشتركة من يد مصر. فكرة صائبة، ولكن من بخلاف المصريين أنفسهم بمقدوره أن يحل هذه المسألة؟
تلقَّينا أنباءً تُفيد بأن الطامحين لمنصب الرئيس هم السادات في المقام الأول وكذلك حسين الشافعي، وهو واحد من القيادات الموجودة ومن ذوي الميول الإسلامية، وعلي صبري السياسي الشهير الذي تمَّ تصنيفه باعتباره «يساريًّا». كما تردَّد الحديث عن مرشحين آخرين مثل الدكتور محمود فوزي، أحد أقدم الدبلوماسيين المصريين وأكثرهم خبرة، وزكريا محيي الدين الذي يُعَد سياسيًّا برجوازيًّا من الجناح اليميني، وآخرون.
كان ناصر قد قام، قُبيل وفاته، بإدخال بعض التعديلات في المناصب القيادية، ويقال إنه لم يكن يحب أن يشغل المسئول مقعدًا واحدًا لمدة طويلة، ومن ثم يكتسب نفوذًا فائقًا. وقد عُيِّن السادات في منصب نائب الرئيس، بعد أن ظلَّ هذا الرجل «غير مَرضي عنه» لبعض الوقت. وهكذا شاءت الصدفة أن يكون أنور السادات في هذا المنصب عند وفاة ناصر.
من المعروف أن السادات لم يكن ينتمي إلى السياسيين الذين يتميَّزون بسعة الفكر. كان عضوًا بتنظيم «الضباط الأحرار» الذي كان يرأسه ناصر عند قيام انقلاب عام ١٩٥٢م، والذي انتهى بإزاحة الملكية، وهو الانقلاب الذي أيَّده الكادحون المصريون، والذي استحقَّ أن يُسمَّى بحق ثورة. وعلى الجانب الآخر، كان السادات هدفًا لسخرية الضباط نتيجة ثقافته المحدودة وتواضع معارفه؛ ولهذا فقد راح يحاول تعويض هذا النقص بالتكلف والاصطناع والتظاهر بالتديُّن. كان رجل مكائد من قمة رأسه إلى أخمص قدمه، ولم يكن شخصًا مستقيمًا صريحًا، وكان يرى الآخرين متآمرين. كان دساسًا ولم يكن ثوريًّا. هكذا رآه المصريون الذين كانوا يعرفونه جيدًا.
كان اختيار مرشح للرئاسة الأمرَ الأكثر مسئوليةً وخاصةً في ظل الظروف التي كانت تمر بها مصر، حيث تلعب شخصية الزعيم دورًا كبيرًا لا حدود له، وحيث حقوق الرئيس كثيرة وصلاحياته واسعة وفقًا للتقاليد، أوسع بكثير ممَّا في الدول الغربية على سبيل المثال. ولهذا فقد استمرَّت اجتماعات السياسيين المصريين مدةً طويلة؛ إذ كان من الضروري التوصُّل إلى حل يُرضي جميع الأطراف. كان الجميع يُدركون شيئًا واحدًا، وهو أنه ليس هناك نظير لناصر، وأن خليفته لا يمكن أن يطاوله. استمرَّ الصدام بين المرشحين، وسرعان ما وصلوا، كما أخبرونا، إلى أن القرار يجب أن يكون في الوقت الحالي قرارًا أقل ضررًا وأكثر منطقية. وقالوا إن التناول البراجماتي في هذا الأمر قد لعب فيه عزیز صدقي الدور الأكبر، وصدقي هو رجل اقتصاد موهوب يتمتَّع بالتفكير الواضح، وكان آنذاك هو الوزير الأسبق للصناعة والتجارة. كان أكثر الحلول بساطة، هو ترك الجدل بشأن ترشيح رئيس دائم، وليكن نائب الرئيس، أنور السادات، هو الرئيس ولو مؤقتًا، ثم لنبحث الأمر فيما بعد.
وقد أكَّد لنا السادات أن هذا هو بالفعل القرار الذي اجتمعت عليه القيادة؛ الرئيس هو أنور السادات، على أن يصبح الدكتور محمود فوزي رئيسًا للوزراء. كان فوزي قد عمل مع ناصر (وهو يرضي مصالح القطاع البرجوازي في المجتمع)، ويكون نواب الرئيس هم علي صبري (المجموعة اليسارية) وحسين الشافعي (المجموعة الإسلامية). وهكذا تمَّ إرضاء الجميع.
كانت الشمس تصب نارها بلا رحمة من سماء مصر الزرقاء الخالدة. بدأت الحرارة في الازدياد منذ الصباح. الأول من أكتوبر هو يوم الدفن. سوف يتم نقل النعش وبداخله ناصر بطائرة مروحية إلى جزيرة الزمالك، حيث مقر مجلس قيادة الثورة السابق الواقع مباشرةً على النيل. كان الأمر رمزيًّا. سوف تصل إلى هنا الوفود الأجنبية، وسوف يسيرون في موكب يعبر الجسر إلى الجانب الأيمن من النيل وحتی مبنى اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، ثم يتجه الموكب إلى الجزء الشرقي من المدينة؛ هليوبوليس، إلى مكان الدفن في مسجد شُيِّد حديثًا، ويقع بالقرب من البيت الذي عاش فيه ناصر. على هذا النحو تحدَّدت المراسم.
كانت الظروف المرعبة التي مرَّت بها القاهرة في الأيام السابقة ماتزال محسوسةً وعلى نحو أقوى من ذي قبل. زحام، جماهير غفيرة تملأ الشوارع. كانت المدينة تعج بضجيج لا يهدأ بسبب الملايين من الحناجر الغاضبة. كان تعداد القاهرة وضواحيها يبلغ ثمانية ملايين نسمة، أُضيف إليهم مليونان من البشر جاءت بهم قطارات مزدحمة (اعتلى الناس أسطح العربات والجرارات ودرجات السلم).
اصطفَّ في محيط سفارتنا خارج السياج جنود يحملون دروعًا من الخشب ويُمسكون بعصي في أيديهم (في حالة وقوع هجوم من الجماهير). فكَّرت، ولماذا يهاجموننا؟ ومَن الذي سيهاجمنا؟
كان من المفترض أن يكون الجسر بدءًا من ناحيتنا وحتى جزيرة الزمالك معزولًا ومفتوحًا للمرور للضيوف الأجانب فقط، لكنه كان مكتظًّا بالناس، الذين كادوا يتدلَّون من أسوار الجسر. لم يكن من الممكن فعل أي شيء تجاههم، لا صراخ جنود الشرطة ولا التلويح بالعصي. كان البعض يضرب، والبعض الآخر يكتفي بالتهديد. أمَّا الزمالك فكانت تقع على مرمى حجر منا، عبر المجرى الضيق لنهر النيل الذي لا يزيد عرضه هنا على أكثر من ٤٠ إلى ٥٠ مترًا.
وصل هيكل ليلتقي بالوفد السوفييتي، وكان مُكلَّفًا بمرافقتنا، لكن وفدنا كان معزولًا.
كان الجسر الفاصل بيننا وبين الزمالك مقطوعًا حتى يُبعدوا الجمهور عن الجانب الأيسر للنيل. ظلَّ هيكل والمصريون المرافقون له يواصلون الاتصال تليفونيًّا دون انقطاع، وفي النهاية، أبلغونا أنهم سيُرسلون لنا زورقًا وإلا فإننا لن نصل أبدًا. قطعنا ما لا يزيد على مائتَي متر بواسطة الزورق حتى وصلنا إلى مَرْسى الزمالك أمام المبنى مباشرة، حيث تقرَّر أن تبدأ الجنازة منه. خصَّصوا لنا غرفةً مستقلة، ثم جاءنا السادات وعلي صبري وظلُّوا معنا بالفعل طوال الوقت. ومن حينٍ لآخر كان رؤساء الوفود الأجنبية الأخرى من الرؤساء آنذاك؛ الأتاسي (رئيس سوريا)، مكاريوس (رئيس قبرص)، النميري (رئيس السودان)، بو مدين (رئيس الجزائر)، دیمیریل (رئيس وزراء تركيا)، هویدي (رئیس إيران)، إعتمادي (رئيس أفغانستان)، حسين (ملك الأردن)، ريتشاردسون (وزير الصحة في الولايات المتحدة الأمريكية)، عرفات (رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية)، جو مو-جو (مُمثِّل جمهورية الصين الشعبية) وآخرون، كانوا يأتون لتبادل التحية مع ألكسي كوسيجين.
كُنَّا نسمع أزيز المروحية المُحلِّقة فوق رءوسنا، وسرعان ما استدعَونا إلى الفناء الداخلي للمبنى، حيث وُضع في وسطه نعش خشبي بسيط مغلق وملفوف بعلم الدولة المصرية، وقد أحاط به عدد من الضباط الشبان راحوا يبكون وينشجون بحُرقة، وإلى جوارهم عددٌ من الأفراد في ملابس مدنية. حاول بعض العسكريين إبعادهم بلا جدوى. كان هناك شخص ما يحاول إعادة انضباطهم مُصدِّرًا إليهم أوامر ما، لكنهم لم يستجيبوا.
في نهاية الأمر، تلقَّت الوفود الأجنبية الدعوة للخروج من المبنى إلى الشارع، وهنا سار الجميع فيما يُشبه الطابور، لكن أحدًا لم يكن بإمكانه أن يلتزم بالنظام، فكان على الوفد أن يجد موطئ قدم. كان وفدنا في المقدمة.
وأخيرًا، بدأ موكب الجنازة في السير من يسارنا، مجموعة صغيرة من الجنود يحملون أكاليل الزهور، خلفهم ستة خيول تجر عربة مدفع وُضع عليها النعش. كان الجنود السائرون يبكون مثلهم مثل رفاقهم فوق ظهور الخيل. راح الموقف يزداد اضطرابًا ومن ثم إثارةً للأعصاب حتى أصبح المشهد هستيريًّا.
كان من المفترض أن تسير الوفود الأجنبية خلف عربة المدفع، ولكن هيهات؛ لقد اندفعت الجماهير العارمة التي لا يعرف أحدٌ من أين جاءت. كان من المستحيل تدارُك الأمر. في الواقع، كُنَّا نندمج في الموكب بقوة، وسرعان ما ازداد الزحام. كان الناس يتدافعون وهم يخشَون السقوط على الأرض. إن سقوط المرء هنا معناه أن تسحقه الأقدام حتى الموت. حملت الجماهير ألكسي كوسيجين إلى مكان ما في الأمام بعيدًا عنَّا، أمَّا أنا فقد احتواني زحام أشبه ما يكون بالدُّوامة. وها أنا أرى ثلاثة وجوه شاحبة كساها الرعب أعرفها جيدًا هم رؤساء وزراء تركيا وإيران وأفغانستان؛ ديميريل وهویدي وإعتمادي، دفعت بهم الحشود بعيدًا تمامًا، تماسكت موليًا ظهري بقوة في مواجهة القادمين من خلفي مُفسحًا بمرفقي طريقًا لنفسي، مُتشبِّثًا بأقدامي في الأرض بكل قوة. كنت مدفوعًا من الخلف، وبفضل دفاعي توفَّرت أمامي مساحة صغيرة من الأرض اندفع إليها رؤساء الوزراء الثلاثة.
كان موكب الجنازة يتحرَّك على نحوٍ عشوائي؛ تارةً في هذا الاتجاه وتارةً في اتجاه آخر، تارةً تندفع إلى الأمام، وتارةً أخرى تتوقَّف تمامًا، وقد تعالى الصراخ والعويل. وفجأةً يتوقَّف الموكب من جديد. صيحات قوية. وإذا بنا أمام مجموعة من الأفراد قادمين من الاتجاه المعاكس. كانوا يُلوِّحون بأيديهم يطلبون أن نُفسح لهم الطريق. ومن ورائهم بدا جمع آخر يرفع كرسيًّا جلس عليه السادات مغمض العينَين دون حراك، وقد راحت ذراعاه تتأرجحان في الهواء. كان على الموكب أن يتوقَّف إذ كان التقدُّم أمرًا لا جدوى من ورائه. ضاع رفاقنا في الزحام. تلفَّت حولي؛ السادات حملوه إلى البيت. تُرى ما الذي حدث للرئيس الجديد؟ في الأمام، راحت الجموع الغفيرة الباكية في التراجع وسط عمود كثيف من التراب، أمَّا خلف الجسر فكان هناك ما يقرب من مليون من البشر لا يزالون يحتشدون.
أُبْعِد الضيوف الأجانب إلى مدخل الجزيرة ونصحوهم بعدم الاستمرار في السير لخطورة الموقف. أبلغت ألكسي كوسيجين بما حدث للسادات، فعبَّر عن دهشته وأرسل على الفور رئيس قسم المراسم في وزارة خارجيتنا ب. ل. كولوكولوف وكان ضمن الوفد، للاستعلام عمَّا حدث، لكن المصريين تكتَّموا الأمر، ثم أبلغونا «سرًّا» أن السادات في حالة سيئة، فضلًا عن علي صبري أيضًا الذي ساءت حالته قبل ذلك بمجرَّد وصول النعش وبداخله جثمان ناصر، وأن الأخير تحت الرعاية الطبية، وقد ازدادت حالة السادات سوءًا عندما اكتشف غياب نائب الرئيس. وقد أحضروا السادات إلى الغرفة التي يرقد فيها علي صبري. رقد الرجلان في غرفة واحدة وكان كل منهما يختلس النظر إلى رفيقه بين الفينة والأخرى، وتوجَّها بالشكر إلى الرفاق السوفييت على اهتمامهم.
عدنا بعد ذلك إلى السفارة على متن الزورق البخاري.
في اليوم التالي، الثاني من أكتوبر، عقدت القيادة المصرية لقاءات عمل مع الوفد السوفييتي. أود أن أطرح هنا بعض الملاحظات؛ فقد أكَّد الجانب السوفييتي من جديد أن خطنا في تطوير التعاون قائمٌ بيننا كما كان في عهد ناصر، قويًّا مخلصًا، وأن يكون قادرًا على الاستمرار، بطبيعة الحال، في إطار المصالح المتبادلة. وقد أعرب ألكسي كوسيجين عن إيمانه بأن القيادة الجديدة للبلاد سوف يكون باستطاعتها القضاء على الفكرة التي يُروِّجها أعداء مصر حول إمكانية حدوث فراغ في كل من السلطة والأفكار والحسم في اتخاذ القرار. إن النهج الثابت والمستمر لقضية ناصر، إلى جانب الْتفاف القيادة بأكملها حول هذا النهج الذي يؤيِّده الشعب، واحترام العالم أجمع لمصر والعمل المنسجم للقيادة، سوف يساعد بلا شك على تجاوز كل المصاعب بما فيها إزالة آثار العدوان الإسرائيلي عام ١٩٦٧م.
وفي معرض ردِّه على ألكسي كوسيجين أكَّد السادات أن ناصرًا هو صديقه وأخوه ومعلمه، وأن القيادة المصرية لن تسمح بوقوع أية صراعات، وأن الصداقة مع الاتحاد السوفييتي، وهي میراث ناصر، سوف تزداد قوةً ومَنَعة. وقد تناولَت اللقاءات أيضًا عددًا من القضايا العملية التي تمس العلاقات بين مصر والاتحاد السوفييتي، وقيام بلادنا بالمساعدة في حل عدد من المشكلات.
وفي اليوم التالي غادر الوفد السوفييتي مصر في طريقه إلى موسكو. عدتُ إلى القاهرة في الثالث عشر من أكتوبر بصحبة زوجتي بصفتي سفيرًا مُفوَّضًا فوق العادة للاتحاد السوفييتي لدى جمهورية مصر العربية. استقبلني في المطار معارفي القدامی الرفاق؛ المستشار السفير فلاديمير بولياكوف والمستشاران فاديم كيربيتشينكو، ألكسندر أرلوف، بافل أكوبوف، والمُلحق العسكري بحري نيكولاي إيفلييف. أود أن أذكر هنا أن هؤلاء الرفاق المخلصين كانوا جميعًا من المختصين البارزين، وإلى جانبهم كان هناك أيضًا عددٌ من الدبلوماسيين الشباب، ولكنهم كانوا هم أيضًا على درجة كبيرة من الكفاءة؛ مثل يوري كابرالوف، فافا جوليزادي، روبرت توردييف، شكَّلوا جميعًا العمود الفقري للسفارة، الذي حمل على عاتقه العبء الأكبر للعمل المضني على مدى السنوات التالية، عندما بات من الواضح تمامًا أن الرئيس السادات قد انتهج نهجًا مُخالِفًا للنهج الذي سار عليه ناصر، سواء في السياسة الداخلية أو الخارجية، فتحوَّل بمصر من معسكر المناضلين النشطاء ضد الإمبريالية إلى داعم لها وخاصةً للولايات المتحدة الأمريكية.
لكن إدراك هذا النهج واتخاذ الإجراءات المناسبة تجاهه في الوقت المناسب لم يكن أمرًا سهلًا. كان على السفارة أن تعاني كثيرًا من المواقف الصعبة لاحقًا.
٢
بعد عشرة أيام من وصولي إلى القاهرة، وبعد عدد من المُذكِّرات، أبلغَتنا وزارة الخارجية المصرية أن الرئيس السادات مستعد لقَبول أوراق اعتمادي. تمَّت المراسم آنذاك في جو غاية في البساطة، بل إنه لم يؤخذ في الاعتبار تبادل الكلمات على النحو التقليدي المتبع. على أن الحدث لفت انتباه وسائل الإعلام فامتلأت قاعة الاستقبال في قصر القبة — المقر الرسمي للرئيس المصري — بالمصوِّرين ومصوِّري السينما والتليفزيون. انتهزتُ هذه الفرصة لأُلقي كلمةً أوجزتُ فيها العلاقات الأخوية التي تربط الاتحاد السوفييتي بمصر، وعن تعاطفنا العميق تجاه الشعب المصري، وثقتنا في استمرار العلاقات بين بلدَينا على نفس النحو المثمر كما كانت على عهد الرئيس الراحل ناصر، وأكَّدتُ في كلمتي على استعداد بلادنا لدعم مصر وقيادتها في المجالات جميعًا، ودفع التعاون بين البلدَين قُدمًا. وقد ردَّ الرئيس السادات بكلمة مقتضبة أعرب فيها عن تأكيد متانة علاقات الصداقة المصرية السوفييتية.
وفي سياق الحديث الذي أعقب تسليم أوراق الاعتماد عبَّر الرئيس السادات عن رغبته في استمرار التعاون الوثيق بيننا وعقد لقاءات منتظمة معه.
بعد الانتهاء من تسليم أوراق الاعتماد توجَّهتُ بنفس ملابسي الرسمية إلى قبر ناصر في المسجد الجديد الجميل الواقع على مقربة من بيته الذي عاش فيه، وهناك كان بانتظاري طاقم دبلوماسيي السفارة بأكمله وقد أحضروا إكليلًا من الزهور عليه شريط كُتب عليه باللغتَين العربية والروسية: «إلى جمال عبد الناصر من سفارة الاتحاد السوفييتي لدى الجمهورية العربية المتحدة.» وقد أثار قيام السفير السوفييتي بوضع إكليل من الزهور على قبر ناصر على إثر قيامه بتسليم أوراق اعتماده للرئيس الجديد اهتمامًا كبيرًا من جانب الصحافة والتليفزيون، فضلًا عن تجمُّع العديد من سُكان الحي في المكان. كنتُ أود بذلك أن أُرسِّخ تقليدًا وأن أُؤكِّد على تواصل العصور.
وعلى الرغم من أن المصريين يعيشون على مساحة لا تتجاوز من ٣–٤٪ فقط من إجمالي مساحة البلاد، على شريط ضيق يمتد بمحاذاة النيل، فإن دلتا هذا النهر تشغل عدة مئات من الكيلومترات، بالإضافة إلى أراضٍ شاسعة تقع على تخوم البحر المتوسط مباشرة، فإن البلد ذاتها، شعبها، ماضيها، حاضرها، تترك في النفس، بطبيعة الحال، أثرًا هائلًا لا ينمحي. لقد بادت إنجازات الحضارتَين اليونانية والرومانية على نحو أو آخر، بينما بقيت الحضارة المصرية القديمة ظاهرةً في آثارها الخالدة. وعن هذه المُعجزات التاريخية خُطَّت مئات الكتب، ولا يزال بالإمكان كتابة مجلدات أخرى. ولهذا، وعلى الرغم من رغبتي في مشاركة الآخرين إعجابي بهذه الحضارة، فإنني لن أفعل ذلك، فهو أمر يدخل في اختصاص أناس آخرين. أُشير هنا إلى انطباع لشدة ما أبهرني مفاده أن المصريين المعاصرين لا يشعرون أنهم ورثة هذا الماضي التليد. إن الكثير منهم يفتخر وحسب أنه يعيش في هذا البلد الذي تصادف أن ظهرت فيه في زمن ما أشياء عجيبة من شأنها أن تجذب إليها الناس من شتَّى أنحاء العالم.
وفي نفس الوقت، كان هناك أمر آخر أثار إعجابي أيضًا وهو الإحساس الواضح بشعور المصريين، حتى البسطاء منهم، بأنهم سادة هذا البلد، وكان هذا الشعور يتجلَّى في الكثير من الأمور، سواء الكبيرة أو الصغيرة، وخاصةً في السلوك اليومي وفي الأحاديث العادية والحميمة وفي كرم الضيافة التلقائي البعيد عن التكلُّف، وكذلك في التفاؤل وعزة النفس، وأخيرًا في القدرة على تحمُّل المصائب بروح ساخرة. ليس من قبيل المصادفة أن شاعت هذه الطرفة الساخرة التي تقول إن نابليون هُزم في مصر بفضل النكات التي استهدفه بها المصريون. وفي هذا السياق، راح المصريون يلاحقون السادات بالنكات منذ أن تولَّى منصب الرئيس. واحدة منها ذات مغزًی خفي تقول: إن الرئيس السادات استقلَّ سيارة الرئيس الراحل ناصر، وعند مفترق الطرق سأله السائق: إلى أين نتجه؟ يمينًا أم يسارًا؟
فسأله السادات باهتمام: وفي أي اتجاه كان يسير ناصر؟
أجاب السائق: «يسارًا.»
عندئذٍ قال السادات: «حسنًا، أعط إشارة الدوران إلى اليسار، ثم .. انطلق يمينًا.»
كان ممَّا أثار دهشتي أيضًا هذه المشاعر الودية الجارفة التي يُكِنها المصريون للروس، وخاصةً تجاه الخبراء الذين كانوا يشاركونهم العمل في بناء محطة القوى الكهرومائية العملاقة في أسوان، وفي بناء مجمع الحديد والصلب في حلوان بالقرب من القاهرة، وفي المصانع الأخرى والمشروعات الزراعية، وفي الجيش بطبيعة الحال. كان سد أسوان يبدو من الطائرة على هيئة مشط نصف دائري مغروس وسط صحراء صفراء حارة مترامية الأطراف تتدفَّق المياه منه بلون الصلب الرمادي، ومن خلفه ترامت بحيرة عملاقة هي «بحيرة ناصر»، ومن الناحية الأخرى امتدَّ نهر النيل شريطًا قاتم اللون.
في فبراير عام ١٩٧١م، تمَّ الاحتفال رسميًّا بانتهاء العمل في السد ومحطة الكهرباء التي راحت تُعطي آنذاك نصف الطاقة الكهربائية التي تُنتجها أفريقيا كلها. عُزفت الأوركسترا ورفرفت الأعلام وعُلِّقت الملصقات وعُقدت اللقاءات الجماهيرية. انتهى بناء المشروع العملاق الذي حاولت الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا الاتحادية إفشاله؛ وذلك بفضل المساعدة النزيهة التي قدَّمها الاتحاد السوفييتي، الذي كان عليه القيام بحل المشكلات العلمية والفنية. لقد أقدم ناصر في شجاعة على التعاون الوثيق مع الاتحاد السوفييتي، وها هي أسوان وقد أصبحت تُمثِّل قمة هذا التعاون. لقد باتت أسوان رمزًا للحكمة الاقتصادية وإصرار ناصر، فضلًا عن أنها جسَّدت رؤيته السياسية.
لقد تسنَّى للسادات افتتاح السد ومحطة القوى الكهربائية. وعلى اللوحات التذكارية التي أُقيمت على السد ومحطة الكهرباء تخليدًا لهذا الحدث البارز اختفت أية إشارة للاتحاد السوفييتي ودوره في تشييدها؛ فقد كُتب: «بمشيئة الله ومساعدة أصدقائنا قمنا ببناء السد العالي الذي افتتحه الرئيس محمد أنور السادات.» من هؤلاء الأصدقاء؟ لعل أحفاد المصريين يبحثون بأنفسهم. لكننا رأينا مقدار الفرحة الصادقة التي حيَّا بها البُناة المصريون أصدقاءهم الروس أثناء الاحتفال. كان المصريون يعلمون جيدًا ما الذي قدَّمه الاتحاد السوفييتي؛ مصدرًا هائلًا للطاقة، ضوءًا في البيوت، أمانًا من الجفاف والفيضانات، وفرة في صيد الأسماك، آلاف الفرص للعمل …
وبنفس مشاعر الفرح الصادق، قابل المصريون السوفييت لحظة تدشين أول سفينة صيد بُنيت في مصر في ترسانة الإسكندرية التي أُنشئت بمساعدة الاتحاد السوفييتي، حتى إن المصريين قاموا بتسلُّق أبراج الأوناش والجلوس على الخطاطيف المتأرجحة.
وأمام الساحة الصغيرة التي جرت فيها مراسم تدشين السفينة ذبح المصريون وفقًا لتقاليدهم الشعبية، عجلًا، وراح العشرات من العُمال يغمسون أكفهم في الدم الطازج ابتهاجًا بهذا الحدث الكبير.
لعل المهمة الأولى التي يحرص كل سفير جديد على القيام بها هي إقامة العلاقات والروابط مع الشخصيات القيادية المحلية ورؤساء البعثات الدبلوماسية، وهؤلاء عددهم ليس بالقليل، وهو ما يعني في الواقع زيارات تتلوها زيارات، فضلًا عن ضرورة استقبالهم عندما يقومون برد الزيارة. إنه جهد غیر عادي، خاصةً عندما تقع أحداث أو تنفجر مشكلات لا تحتمل الانتظار، وهذه كانت تزداد يومًا بعد الآخر.
لقد نجحتُ في وقت قصير في التعرُّف، بالدرجة الأولى، على غالبية الشخصيات القيادية في البلاد، ومن بينهم علي صبري وحسين الشافعي، نائبا الرئيس، والدكتور محمود فوزي رئيس الوزراء (وهو واحد من أقدم السياسيين منذ عهد الملك السابق فاروق)، ومحمود ریاض وزير الخارجية، ومحمد فوزي وزير الحربية، ولبيب شقير رئيس مجلس الأمة، وشعراوي جمعة أمين اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي ووزير الداخلية، وسامي شرف وزير شئون رئاسة الجمهورية (وكان في الواقع المُنسِّق لنشاط المخابرات ومكافحة التجسس)، وعدد آخر من الشخصيات. كان هؤلاء هم المقربون من ناصر في سنواته الأخيرة.
كانوا أناسًا ودودين للغاية، بعث بهم ناصر عدة مرات إلى موسكو وكانوا يُشاركونه في المباحثات، وقد توطَّدت بيني وبينهم علاقات عمل جيدة.
لم يكن ذلك كافيًا، بطبيعة الحال؛ لكي أُحيط بالأوضاع في البلاد بشكل تام. لقد كانت معظم الأمور تتوقَّف على الرئيس نفسه. جدير بالذكر أن السادات أكَّد لألكسي كوسيجين ولي أيضًا أن العلاقات بين بلدَينا لن يمسَّها أي تغيير، بل إنها ستزداد قوةً ورسوخًا.
على أنه سرعان ما تراكمت السحب في الأفق. وفي لمح البصر اختفت لدى الرئيس الجديد الصراحة والثقة في علاقاته بنا، تلك الصفات التي ميَّزت ناصر ليحل محلهما الشك والسخط لسبب أو آخر.
كانت ظاهرةً غريبة استمرت لفترة ما دون تفسير؛ فالاتحاد السوفييتي آنذاك لم يُغيِّر سياسته الودية البَنَّاءة تجاه مصر، ولم يكن هناك تصرُّف واحد ملموس يمكن أن يعكس أي شكل من أشكال التغيُّر.
تُرى هل كان ذلك يعني تغيُّرًا في مزاج ونهج وسياسة الرئيس الجديد؟ لم يكن من السهل مطلقًا الإجابة آنذاك، بشعور بالمسئولية، على هذا السؤال البالغ الأهمية بل والحاسم إذا جاز التعبير. وتمثَّلت صعوبة الإجابة أيضًا في أن غالبية الشخصيات السياسية ورجال الدولة الذين ظلُّوا في مناصبهم بعد رحيل ناصر كانوا متمسكين بعلاقاتهم الودية تجاه الاتحاد السوفييتي. على أنه وبعد مرور شهرَين أو ثلاثة، بدأ جزء من هؤلاء المسئولين — وهو جزء ضئيل في الواقع — في ترديد أقاويل السادات المُتعسِّفة وافتراءاته على الاتحاد السوفييتي، وهي أقاويل لا تقوم على أساس، وخاصةً فيما يتعلق بالمسائل العسكرية. وفجأة، إذا بنا أمام مقال في صحيفة أو في إحدى المجلات، حيث يعمل نفر من أصدقاء السادات أو شركائه في الفكر، يتحدَّث عن نقص صفقات الأسلحة السوفييتية أو عن تدني المستوى الفني لها، ويَخلُص «الخبير المجهول» إلى أن أجهزة الكمبيوتر توصَّلت إلى أن «حالة اللاسلم واللاحرب» القائمة مع إسرائيل لا يستفيد من ورائها سوى الاتحاد السوفييتي. لم تكن هذه الحملات لتهدف إلا إلى بذر روح الهزيمة لدى المصريين وتشكيكهم في قواتهم المسلحة وإهالة التراب على أصدقائهم. كان هذا التوجُّه المُلَفَّق والمصطنع واضحًا تمام الوضوح؛ فالمصريون، فضلًا عن أعدائهم ذاتهم، كانوا يعلمون جيدًا قدر المساعدات الهائلة التي قدَّمتها بلادنا من أجل رفع القدرة الدفاعية للجيش المصري والمساهمة الحاسمة في دعمه والوصول بها إلى مستوًى قتالي رفيع.
على أن البعض لم يُدرك على الفور أن هذا التوجُّه قد بدأ مُبكِّرًا للغاية بهدف تبرير تراجع مصر عن نضالها ضد الإمبريالية والقيام بتلك التغييرات في السياسة الداخلية والخارجية التي أضمرها السادات ثم أقدم على تنفيذها مؤخرًا.
وفي الوقت نفسه، أصبح الخلاف واضحًا بين الرئيس والغالبية الكبرى من القيادات، التي كانت تشغل مناصب بارزةً في الحكومة وفي الاتحاد الاشتراكي العربي. وفي الشأن الداخلي، قاد الرئيس اتجاهًا يهدف إلى التقليص الحاد لنشاط ومهام الاتحاد الاشتراكي العربي، الذي كان هو المنظمة السياسية الجماهيرية الوحيدة في مصر، والتي كانت قائمةً على أُسس أيديولوجية تقدُّمية. وإذا كان ناصر يحلم بأن يُخرج من رحم هذه المنظمة تنظيمًا سیاسيًّا باسم «طليعة الاشتراكيين»، فإن السادات قد سعى إلى حلِّه.
أدرك السادات بسرعة أنه لن يستطيع أن يُخضِع بمفرده اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي العربي، فقد تشكَّلت داخل هذه اللجنة منذ ناصر ما يمكن اعتباره قيادةً سياسية جماعية. وعلى سبيل المثال، فقد انتهت واحدة من أفكار السادات الطموحة في اتخاذ خطوات عملية نحو إقامة وحدة فيدرالية تجمع كلًّا من مصر وسوريا وليبيا (الجمهوريات العربية الفيدرالية) تحت قيادة مصر، بطبيعة الحال، انتهت بالنسبة له في اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي بحالةٍ من الفوضى. كانت هذه الفكرة الفجة والتي طُرحت، علاوةً على ذلك، دون تشاور مع أي من قيادات البلاد، مثارًا للسخرية بين أعضاء هذه اللجنة، وهو ما أثار سخط السادات بالطبع الذي رأى أن على الجميع أن يمتثلوا لكل ما يقول.
تسنَّى لي حضور مؤتمرَین عجيبَين عقدهما الاتحاد الاشتراكي العربي؛ الأول في نوفمبر عام ١٩٧٠م، حضره أعضاء اللجنة المركزية للاتحاد الذين تمَّ انتخابهم في عهد ناصر. امتلأت قاعة الاحتفالات الكبرى في جامعة القاهرة، حيث عُقد المؤتمر، بجمهور ارتدى غالبيته ملابس بسيطة راحوا يتصرَّفون بحرية ودون تكلُّف، بينما تصاعدت في القاعة أعمدة دخَان السجائر، وعبر هذا الدخَان وعلى نحو فني تسلَّلت أشعة المصابيح المصاحبة للكاميرات التي أخذت في التقاط الأفلام التسجيلية وصور الوجوه والشخصيات الحاضرة في المكان. كان الموقف بأكمله يخلق انطباعًا مباشرًا بأن الحضور هم بالفعل مُمثِّلو الشعب الذي نال استقلاله غير بعيد، وربما، لم يكونوا يُمثِّلونه بدقة كما كان ينبغي، ولكنهم كانوا أُناسًا واثقين من أنفسهم بعد أن أصبحوا سادةً في بلادهم، وأنهم ما داموا كذلك فسيجدون حتمًا الطريق الصحيح.
في يوليو من عام ١٩٧١م، كان الجمهور الذي حضر مؤتمر الاتحاد الاشتراكي العربي في قاعة الاحتفالات الكبرى مختلفًا تمامًا. كان أغلبهم من الذين يميلون في الواقع لنهج السادات المعادي لعبد الناصر. نفس القاعة تشهد الآن أناسًا يرتدون ملابس فاخرة، مُعتدِّين بأنفسهم على نحو ظاهر، على الرغم من حضور شخصيات أخرى في ملابسهم الشعبية، وتعكس ملامحهم روح البساطة، وإن كانوا هنا يُمثِّلون أقليةً لا تأثير لها. اتسمت كل الكلمات التي أُلقيت بالرتابة والسطحية واتفقت على تمجيد السادات، وبالطبع فقد جاءت خاليةً من كل مضمون، على الرغم من أن المؤتمر كان مُطالِبًا بتبني برنامج للعمل القومي، قام على إعداد وثيقته عزیز صدقي ومحمد حسن الزيات، وكلاهما كانا من قيادات الاتحاد الاشتراكي العربي.
ألقى السادات الخطاب الرئيسي. كان خطيبًا مُتكلِّفًا، قرأ الجزء الأكبر من خطابه بشكل استعراضي تمثیلي بارع، بينما راح يُلقي بكل ورقة جانبًا وإن لم يستطع أن يتلاعب بالبرنامج، حتى راحت الأوراق تقع من على المنصة إلى الأرض، ولم يكن السادات يلاحظ ذلك. ساد الصمت، وإذا به ينظر إلى الأوراق نظرةً بليدة ويُقلِّبها ذات اليمين وذات اليسار بطريقة توحي بوضوح أنه يسخر من البرنامج. كان من المعروف أن السادات غير راضٍ في قرارة نفسه عن هذا البرنامج الذي كان يستشرف دعم قدرات القطاع العام واتخاذ إجراءات إصلاحية وتقدمية أخرى. وفي النهاية غمغم قائلًا: «ما دام مشروع البرنامج موجودًا بين يدي الأعضاء فلا حاجة للحديث عنه.» وهكذا لاذ السادات بالصمت ولم يطرح أي رقم.
بالمناسبة، تمَّ استبدال «بالبرنامج» برنامجٍ آخر تمامًا عضَّده مساعدوه الجدد بشدة باعتباره الدواء الناجع والشامل، وهو برنامج «الانفتاح» أمام رأس المال الأجنبي والمحلي.
والآن لنعد إلى أحداث نهاية عام ١٩٧٠م ومطلع عام ١٩٧١م.
أشخاص بعينهم هم الذين يصنعون السياسة، وهم الذين يضعونها موضع التنفيذ؛ أي إن السياسة تنعكس من خلال تصرُّفات أشخاص مُحدَّدين، وكان من الواضح منذ الأيام الأولى لتولي السادات منصب الرئيس أن جماعةً من الذين كانوا يشغلون مناصب قياديةً في عهد عبد الناصر قد اتخذوا موقفًا مخالفًا لنهج السادات. وعلى رأس هؤلاء، علي صبري نائب الرئيس، وشعراوي جمعة وزير الداخلية، وأمين اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، ومحمد فوزي وزير الحربية، ولبيب شقير رئيس مجلس الأمة، وضياء الدين داود أمين الدعوة والفكر باللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، وسامي شرف وزير شئون رئاسة الجمهورية، ومحمد فايق وزير الإعلام، وآخرون من قيادات اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي وأمناء التنظيم في القاهرة والمدن الكبرى. وعلى الرغم من التباين والاختلاف تنظيميًّا بين كل هؤلاء، فإن المجموعة كانت تمثِّل عقبةً أمام طموحات الرئيس الشخصية والتي كان يخفيها حتى عن أقرب المقرَّبين له.
كان علي صبري يمثِّل الخطر الأكبر بالنسبة للسادات بسبب تفوُّقه الواضح عليه في الثقافة والتعليم والأفق السياسي. وفي ٢٨ مارس ١٩٧١م أصدر السادات قرارًا جمهوريًّا أزاح بموجبه ودون سبب واضح علي صبري من منصبه نائبًا للرئيس. وكان السادات قد أبلغني بهذا القرار قبل نشره بيومَين في محاولة منه لمعرفة رد فعلي تجاهه. وقد أخبرته أن «من الصعب عليَّ التعليق على قرار اتخذه الرئيس. الأمر الوحيد الذي وددت أن أفعله هو أن أُذكِّركم بالأمنيات الطيبة التي أبداها كوسيجين منذ نصف عام للقيادة المصرية عن ضرورة العمل بألفة وتضافر وتفادي الانشقاق في القيادة.» وعندها أخبرني السادات بلهجة حازمة أن القرار تمَّ اتخاذه بالفعل.
لم يُبدِ السادات أي اهتمام بالقضايا الداخلية، وعلى رأسها التنمية الصناعية والزراعية والنقل ورفاهية السكان وتطوير الثقافة. كانت القضايا الخارجية هي شاغله الشاغل، وأهمها قضية إزالة آثار العدوان الإسرائيلي وكل ما يرتبط بها من قضايا.
كان السادات يرى في نفسه خبيرًا عسكريًّا أيضًا، ولكنه كثيرًا ما كان يستخدم المعلومات الخاطئة التي كان جنرالاته يمدونه بها.
لم تتوقَّف حدة الخلافات بين السادات والقيادات الأخرى على القضايا الداخلية بقدر ما احتدَّ حول القضايا الخارجية؛ فعلى أثر توليه منصب الرئاسة طرح السادات شعار «ليكن عام ١٩٧١م عامًا للحسم». وقد فعل ذلك بصورة منفردة ودون تشاور مع أيٍّ من القيادات الأخرى. ويعني الحسم هنا إعادة شبه جزيرة سيناء، التي احتلَّتها إسرائيل نتيجةً لعدوان ١٩٦٧م، إلى مصر. وحيث إن الإسرائيليين لم ولن يفكِّروا في إعادة الأراضي التي احتلوها طواعية؛ فقد كان السبيل الوحيد هو إعلان الحرب على إسرائيل.
واقع الأمر أن ذلك كان بمثابة إعلان مسبق من السادات أن مصر ستخوض الحرب ضد إسرائيل عام ١٩٧١م. كان السادات يسعى من وراء هذا الشعار إلى ابتزازنا أيضًا: «لقد أعلنت هذا الشعار وعلى الاتحاد السوفييتي أن يساعدني في تحقيقه.» وعندما قلنا له: «إن الاتحاد السوفييتي صديق لمصر، ولكننا كُنَّا نود لو أن الرئيس قاسمنا الخطط المحدَّدة المُتعلِّقة (بعام الحسم)، وهل تمَّ وضع كل شيء في الحسبان؟ وما مستوى القدرات القتالية الذي وصلت إليه القوات المسلحة المصرية؟ وما إلى ذلك.» كان السادات يُجيب في ضيق وإيجاز: «هذا مُجرَّد شعار سیاسي، أمَّا باقي القضايا الأخرى فهي من اختصاص العسكريين المحترفين.» من المستحيل أن نَصف هذا التصرف من جانب الرئيس بالتصرف الجاد. وفي هذا السياق، قال لي هيكل في تلك الأيام: لم يحدث مطلقًا في التاريخ أن دولةً أعلنت أنها ستشن حربًا على دولة أخرى في العام الفلاني. إمَّا أن هذا الأمر من قبيل الهزل، وإمَّا أنه جريمة. أمَّا المصريون فقد صموا آذانهم عن الأمر؛ فكم من شعارات أُطلقت!
عندما وصل روجرز إلى القاهرة أصبح من الواضح أن السادات قد تعمَّد أن يُجري معه، على نحو استعراضي، محادثاتٍ منفصلة؛ ممَّا اضطرَّ وزير خارجية مصر آنذاك محمود رياض إلى الجلوس ما يقرب من ساعتَين في غرفة جانبية. ومن القاهرة توجَّه روجرز رأسًا إلى تل أبيب، بينما وصل منها في نفس الوقت إلى القاهرة سيسكو نائب وزير الخارجية الأمريكية وبصحبته موظف صغير في الخارجية الأمريكية يُدعى ستيرز، وقد التقى بهما السادات وعلى انفراد أيضًا. وقد نالت صيحةُ الدهشة التي أطلقها روجرز بعد أن أعلن الرئيس السادات موقفه من قضايا الشرق الأوسط شهرةً واسعة والتي قال فيها: «لا أستطيع أن أطلب المزيد من مصر!» وقد حملت هذه العبارة معنًی ملتبسًا.
كان السادات يُدرك أن «مغازلته» للأمريكيين لا يمكن أن تمر مرور الكرام؛ فقد طرح عليَّ السادات عدة مرات أثناء أحاديثه معي اقتراحًا بعقد اتفاقية صداقة وتعاون بين الاتحاد السوفييتي ومصر، وطلب مني أن أبلغ موسكو بهذا الاقتراح (بالمناسبة فقد ظهرت هذه الفكرة للمرة الأولى في عهد الرئيس عبد الناصر). على أن نبرة الرئيس آنذاك كانت تشي بأنه لا يعقد آمالًا كبارًا على الإطلاق على قَبول اقتراحه، وأنه لا يولي أهميةً لقَبول اقتراحه في ظل الوضع الراهن آنذاك. كان من الواضح أن الرجل يبني حساباته على الرفض؛ إذ كان الرفض يمثِّل له — لسبب ما — أهميةً ما.
في الحادي عشر من مايو ١٩٧١م، كنتُ في ضيافة السادات في مقر إقامته في الجيزة القائم على ضفة النيل بالقرب من سفارتنا. مكثت هناك لساعة متأخِّرة من الليل. رحنا نتبادل الحديث، بينما راحت رجال الرئيس المحبَّبة لديه تركض حولنا وتقفز على الأريكة حيث نجلس متلمسةً أطراف أقدامنا. كان السادات يقوم بإبعادها بكسل واضح وقد راح يشتكي من المصاعب والإجهاد اللذَين يعاني منهما، قائلًا لي إنه يحب الجلوس وحيدًا في الظلام ليلًا بالقرب من المياه مستسلمًا للتفكير. تطرَّقنا للحديث إلى موضوعات عديدة. عند نهاية اللقاء، طرحت عليه مرةً أخرى سؤالي السابق حول أصدقائه الثقات، فابتسم قائلًا: «يمكنك أن تضع ثقتك، مثلي تمامًا، في شعراوي جمعة، ومحمد فوزي وسامي شرف. هؤلاء «دائرتي المقربة».» حدث ذلك في الحادي عشر من مايو.
في الثالث عشر من مايو، وبِناءً على اتفاق مسبق مع سفير جمهورية ألمانيا الديمقراطية (الشرقية) مارتين بيرباخ، قمنا بتنظيم حفل مشترك تأكيدًا على الصداقة بين السفارتَين. أُقيم الحفل في سفارة ألمانيا الديمقراطية. كان الجو حارًّا وخانقًا، وقد بذل الرفاق الألمان جُلَّ اهتمامهم لعمل برنامج جيد يتسم بالمرح. على أن السفير لم يستطِع أن يُفلت من أفكاره وخاصةً أنه كان يستشعر (وكان هناك ما يوحي بذلك) أن أحداثًا جسامًا على وشك الوقوع، ولكن ملامحها لم تتضح كاملةً بعد.
في منتصف الحفل، تغيَّب السفير برهةً لاستدعائه لأمر ما، وعندما عاد همس في أذني قائلًا: «لقد أخبرني سائقي أنه كان يستمع للراديو، وأنهم أذاعوا نبأ استقالة أمين اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي ووزير الداخلية شعراوي جمعة!»
أعدت سؤال السفير: «استقالة؟! وما الأسباب؟ أجاب: غير معروف. لم يعلنوا أكثر من ذلك. إمَّا أنه هو الذي تقدَّم باستقالته، وإمَّا أنهم عرضوا عليه الرحيل، وربما يكون السائق أخطأ السمع.»
بالطبع كان الخبر يحمل في طياته أمورًا فائقة الأهمية.
اضطُررت لمغادرة الحفل، كان عليَّ أن أعود إلى البيت وأن أعرج بعد ذلك للأهمية على دار الأوبرا، حيث يعرض باليه «دون كيخوت» من إعداد المخرجين والأساتذة السوفييت. كانوا ينتظرونني هناك، وإذا لم أذهب فربما يتم تأويل الأمر وخاصةً في ضوء أحداث هذه الليلة. قرَّرنا الذهاب إلى المسرح مع بداية الحفل لمجرَّد الظهور إذا جاز التعبير. وبطبيعة الحال، لم نعِ شيئًا من العرض.
تعلَّمت من خبرتي الطويلة في العمل الدبلوماسي أن الحدس كثيرًا ما يؤدِّي دورًا مهمًّا. وهو أمر ليس بمستغرب؛ حيث إن الحدس يعكس على نحو غير واعٍ الخبرة المتراكمة. شعرت أن أمرًا جللًا سيقع حتمًا في هذه الليلة. غادرت الحفل مستترًا بالظلام.
كان الوقت متأخِّرًا، لكن رفاقي كانوا بانتظاري في السفارة. كانوا قد استمعوا من الإذاعة إلى خبر استقالة شعراوي جمعة. والآن، تبث الإذاعة المارشات والأغاني الوطنية، وهي إشارة على وقوع حدث ما مهم.
وما هي إلا بُرهة بعد إذاعة خبر قَبول الرئيس لاستقالة شعراوي جمعة، حتی توالت أنباء الاستقالات؛ فقد قدَّم استقالتَه وزيرُ الحربية محمد فوزي، ورئيس مجلس الأمة لبيب شقير، ووزير الإعلام محمد فائق، وأمناء اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي عبد المحسن أبو النور وضياء الدين داود وغيرهم. وقَبلَ السادات استقالة كل من تقدَّم ذكره، وقام على الفور بتعيين رئيس الأركان اللواء محمد صادق وزيرًا للحربية، كما عيَّن محافظَ الإسكندرية ممدوح سالم وزيرًا للداخلية.
بدأ الأمر في الوضوح، يبدو أن الاستقالة الجماعية كانت بالفعل محاولةً لممارسة الضغط على السادات حتى يعود للسير في خط القيادات المصرية. ويبدو أيضًا أن أحدًا من هذه القيادات لم يفكِّر في عواقب الأمور؛ فبعد أن عاد «المتآمرون»، كما أُطلق عليهم فيما بعد، إلى منازلهم بعد أن تقدَّموا باستقالتهم، خلدوا إلى النوم على أَسِرَّتهم. لم تكن هذه بالطبع، محاولة انقلاب؛ فالانقلابات لا تتم على هذا النحو مطلقًا.
لكن هذا السلوك أدهش السادات. كان كما لو أنه هو الذي قام بنفسه باستثارة كل من تستهويه طريقته في القيادة لتقديم استقالته. وها هو يجد على وجه السرعة بديلًا لقيادتَين ولقوتَين حاكمتَين؛ الجيش والشرطة. وهو ما يعني أن هذَين المرشحَين كانا مُعدَّين له سلفًا. عندئذٍ تذكَّرت الكلمات التي قالها السادات لي منذ أقل من يومَين فقط مَضَيَا: «يمكنك أن تضع ثقتك — مثلي تمامًا — في شعراوي جمعة، ومحمد فوزي وسامي شرف. هؤلاء دائرتي المقربة.» لماذا قال لي ذلك؟ ثم عدتُ أفكِّر: ألم يقل لي السادات هذا وهو يُضمر في نفسه فكرةً مُحدَّدة؟
هزَّت الأحداث في مصر العالم العربي بأسره، وشدَّت إليها انتباه العالم كله. وراحت صحافة الدول الغربية، لسبب ما، تُؤكِّد بشدة على أن ضربةً قاصمة أصابت العلاقات بين مصر والاتحاد السوفييتي. هذا ما كانت تتمنَّاه الدول الغربية، وكل من كان استقلال مصر استقلالًا حقيقيًّا على غير هواه.
بعد يوم من اعتقال «المتآمرين» (وهي الصفة التي أُطلقت عليهم رسميًّا) استقبلني السادات في قصر الطاهرة. كان السادات، خلافًا لعبد الناصر، يستقبل السفراء عادةً في أماكن مُتعدِّدة. لم يكن الرئيس الجديد يستقر في مكان أكثر من يوم واحد. كان يستقبلني تارةً في بيته في القاهرة، وتارةً في قصر الطاهرة، وفي المقر الرسمي لرئاسة الجمهورية الذي لا يفصل بينه وبين بيتي سوى شارع (كان السادات قد أصدر أمرًا بتحويل أحد المتاحف إلى بيت ضمه إلى بيته)، وفي مقراته المختلفة في هليوبوليس وحلوان والإسكندرية والمعمورة وبرج العرب، وفي بيته في قريته في مسقط رأسه، وفي مقر الاتحاد الاشتراكي العربي، بينما لم يكن ناصر يمتلك مسكنًا خاصًّا به. كان يعيش هو وأسرته في بيت متواضع تابع لإحدى الوحدات العسكرية. أمَّا السادات فقد استغل وضعه واشترى بثمن بخس منزلًا على شاطئ النيل وأثَّثه بأثاث فاخر باهظ الثمن ولكنه يفتقد إلى الذوق، ثم أغلق جزءًا كبيرًا من الكورنيش أمام عبور المواطنين.
لم تكن التفسيرات التي قدَّمها السادات مقنعةً على الإطلاق، وإنما كشفت النقاب أكثر عن نهجه. كان وجهه يبدو شاحبًا ضامرًا وقد أحاطت عينَيه هالات سوداء، وكان العرق يتصبَّب من وجهه طوال الوقت فلا يكاد يتمكَّن من تجفيفه بالورق. كان «تبريره» يتلخَّص في أن علي صبري والقيادات الأخرى «أساءوا إلى هيبة السلطة، وأنهم تدخَّلوا بشكل سافر في حقوق الرئيس»، وضرب مثالًا على ذلك بقيام الاتحاد الاشتراكي العربي بإحباط فكرة إنشاء اتحاد فيدرالي يضم الدول العربية (مصر، سوريا، ليبيا، السودان). هذا كل ما في الأمر! ثم حكى بعد ذلك القصة الوهمية التي دأبت أجهزة الإعلام على إذاعتها عن أن «شابًّا مجهولًا» حضر ذات يوم إلى بيته يحمل أشرطة تسجيل عليها تسجيلات للسادات وأحاديث لشعراوي جمعة مع علي صبري ومحمد فوزي وآخرين. وقد أدرك السادات من هذه التسجيلات مدى الشعور «العدائي» لديهم تجاهه. يقول السادات: «وعندما أردت أن أُخاطب الشعب بعد أن قبلت استقالة هذه المجموعة لم يسمحوا لي بدخول مبنى الإذاعة والتليفزيون.» وأكَّد السادات على أن الأحداث داخل القيادة المصرية لا يجب أن تنعكس بشكل سلبي على العلاقات مع الاتحاد السوفييتي.
كانت هذه إشارةً لتهدئة الاتحاد السوفييتي، والهدف هو تقديم الأمر على أن العلاقات مع الاتحاد السوفييتي تسير سيرًا حسنًا، وهو ما حرصت على إبرازه الصحف الكبرى في اليوم التالي حول مباحثات السادات مع السفير السوفييتي.
وفي محاولة منه لكسب تعاطف الشعب، جرى الترويج لقضية الشرائط باعتبارها واحدةً من الجرائم الأساسية «للمتآمرين» الذين قاموا بالتنصُّت على «الآلاف» من المصريين. وقد بثَّ التليفزيون مشهدًا للسادات وبصحبته وزير الداخلية الجديد ممدوح سالم، وقد بدت الجدية على وجهَيهما وهما يقفان في فناء وزارة الداخلية وقد راحا يُلقيان في النار بصناديق من أشرطة التسجيل. أمَّا المصريون الذين اشتهروا بميلهم للفكاهة فتساءلوا: ولماذا يتم حرق أشرطة تسجيل مستوردة؟ كان من الممكن مسح التسجيلات التي عليها، فضلًا عن ذلك فإن هذه الأشرطة تُمثِّل الأدلة المادية «للجرائم» التي ارتكبت.
وحتى انتهى من قصة التنصُّت، أذكر هنا واقعةً نادرًا ما تحدث في عالم الدبلوماسية. بعد شهرَين من حرق الشرائط التقيت صدفةً على أحد الشواطئ في الإسكندرية بالكاتب الصحفي هيكل. وبطبيعة الحال دار الحديث عن الأحداث التي وقعت مؤخَّرًا. لم يكن هيكل متعاطفًا مع «المتآمرين»، وكان يرى في تلك الفترة أن السادات يُوليه قدرًا من الثقة على نحو أو آخر. وذكر لي هيكل أن السادات حدَّثه عن اتصالاتي ﺑ «المتآمرين»، وكان أكثر ما أثار فضولي هو أن هيكل لم يُكمل حديثه في هذا الأمر حتى النهاية. أخبرت هيكل أنني كنت بالفعل ألتقي بهم في إطار أدائي لمهام عملي بطبيعة الحال، وقد كانوا جميعًا يشغلون مناصب حكوميةً رفيعة، بل إن السادات نفسه طلب مني مناقشة أمور معينة معهم، وهو الذي كان يقوم بتكليفهم بالذهاب إلى موسكو للتفاوض حول بعض القضايا المهمة، فما المدهش في الأمر. أضف إلى ذلك أنني كنت دائمًا أُحيط السادات علمًا بوجه عام بلقاءات العمل التي أعقدها معهم، وكان دائمًا ما يسارع بالقول بأنه يعلم بذلك. وبالمناسبة، فقد أخبرت هيكل أنني سألت الرئيس في شهرَي مارس وأبريل، ثم مؤخَّرًا قبل يومَين من واقعة إحراق الشرائط عن أكثر المقربين إليه الذين يمكنني التحدث إليهم بصراحة، وكان الرئيس يذكر لي في كل مرة أسماء هذه الشخصيات التي سرعان ما اتهمها بالتآمر، والذين زجَّ بهم خلف القضبان؛ لماذا أوصاني بهذه الأسماء تحديدًا؟
تردَّد هيكل في الحديث ولم يُجِب، ولكنه في الوقت نفسه قصَّ عليَّ أن السادات سمح له بالاستماع إلى شريط تسجيل لمحادثة تمَّت بيني وبين سامي شرف في التاسع من مايو ١٩٧١م.
راودني الشك في صحة الأمر، لكن هيكل اقترح عليَّ الذهاب إلى مكتبه حتى يسمعني الشريط. رفضت، بطبيعة الحال، لرغبتي في عدم التورُّط في هذه القصة، حتى إني لم أُبدِ أي اهتمام بها، على الرغم من أنني كنت على ثقة أن ما دار في تلك الأحاديث المسجَّلة لا يمكن أن يتضمَّن ما يمكن اعتباره إدانةً للسفير السوفييتي. على أية حال، فقد أردت أن أتحقَّق من هيكل فسألته: وماذا دار من حديث آنذاك؟
– أكَّد سامي شرف أن تصرُّفات السادات لم تعد مفهومة، وأنه ماضٍ في طريقه نحو التفاهم مع الأمريكيين، وأنه ليس من المعروف ما الذي سوف يُقدِم عليه بعد ساعة أو ساعتَين. ثم سألَ السفيرَ: ما الذي ينبغي علينا عمله معه الآن؟
– حسنًا، وماذا كان رد السفير؟
أجاب هيكل ضاحكًا: أجاب السفير أن هذه ليست قضيته، السادات رئيسكم وعليكم الالتفاف حول الرئيس حفاظًا على وحدة الإدارة داخل القيادة.
لقد ذكر هيكل ما حدث بالفعل.
ثم إذا بهيكل يضيف قائلًا: عند هذه الفقرة من التسجيل الذي كان السادات يستمع إليه باهتمام، ضرب كفًّا بكف على الطريقة العربية بأسف، ثم صاح قائلًا: «يا سلام! أفلت السفير وكان على شفا حفرة!»
– ماذا تعني كلمة «أفلت» هنا؟ وعلى أي نحو كان عليَّ أن أُجيب عن هذا السؤال؟
راوغ هيكل في الإجابة قائلًا: لا أعرف، أظن أن الرئيس كان يُعوِّل بشدة على أن يسمع إجابةً أخرى.
بعبارة أخرى: كان السادات يود لو استطاع أن يزج بالاتحاد السوفييتي في هذه القصة، وأن يربط بينه وبين «المتآمرين».
لم يحظَ السادات، استنادًا إلى مظاهر كثيرة، بالتأييد الواسع أو الشعبية الجارفة التي كان عبد الناصر يتمتَّع بها. لقد حقَّقت ثورة ١٩٥٢م بقيادة عبد الناصر كثيرًا من الإنجازات للكادحين، فقامت بالإصلاح الزراعي، وأتاحت إمكانية التعليم والتأمين الاجتماعي، وسنَّت قوانين للعمل وما إلى ذلك، لكنها لم تتمكَّن من القضاء على الفروق الاجتماعية … كما أن الغالبية العظمى من الشعب المصري بقيت على حالها من الأمية. والأُمي — بحسب تعبير لينين — خارج السياسة. ولهذا فإن غياب الجماهير عن المشاركة الفعَّالة في إعادة بناء البلاد، والسلبية تجاه ما يحدث في الشأن السياسي، كانا يُمثِّلان الخطر الأكبر المحدق بثورة ١٩٥٢م الوليدة، والتي إن لم يكتمل نموها لانتقلت السلطة بطريقة أو أخرى إلى الأقوى، والأقوى كان ولا يزال هو البرجوازية، وكان السادات هو التعبير الأمثل لمصالحها. لم تتخذ أغلبية الشعب موقفًا تجاه التصرفات التي اتخذها السادات ضد أنصار ناصر والتي وصلت إلى حد مطالبة النيابة بإعدامهم. على أن غالبيتهم صدرت ضدهم أحكام بالأشغال الشاقة، بينما حُكم على الباقين بالسجن لمدد طويلة.
ظلَّ كثير من المصريين لا يعرفون جوهر الخلافات بين السادات والقيادات السياسية التي تبقَّت من العصر الناصري، كما لم يعرفوا نياته في التوجه نحو التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتصالات السرية التي جرت بين الأمريكيين والرئيس السادات الذي نجح في إخفائها. وعلى عجل راح الأمريكيون يُفسحون المجال لقوى اليمين ويُضاعفون من ضغوطهم على السادات. كانت هاتان القوتان — اليمين المصري والأمريكيون — يستهدفان إبعاد مصر عن الصداقة والتعاون مع الاتحاد السوفييتي، ومن هنا ظهرت كل أشكال الشائعات المغرضة والافتراءات في حق بلادنا، كما جرت محاولات تدريجية من أجل خلق مُناخ معادٍ للسوفييت في البلاد. كان من الضروري، بطبيعة الحال، الحيلولة دون ذلك.
أستطيع أن أقول إن الشعب المصري لا يزال يُكِن مشاعر المودة العميقة للاتحاد السوفييتي وللمواطنين السوفييت. لقد أُتيحت لنا العديد من الفرص للاقتناع بأن «رشاش الوحل» العدائي الذي أطلقه السادات أو جزء من الصحافة المصرية على بلادنا لم يجد دعمًا كبيرًا أو حتى انتشارًا بين الطبقات العريضة من الشعب المصري. إن أهم ما يميِّز الشعب المصري هو حبُّه للعمل والحياة، وعلى الرغم ممَّا يكتنف حياته من مصاعب، وهو دائم الشك والسخرية من كل المسلَّمات التي تُفرض عليه من أعلى؛ فإنه شعب لا يحب البديهيات ولا يؤمن بها وإنما يتناولها بحذر وريبة. إن الغالبية العظمى من الشعب تعاني من الأمية، لكن السواد الأعظم يعلم جيدًا أن أصدقاءه السوفييت وأن الدولة السوفييتية وقفا بجانبه في أوقات الشدة.
ولا يزال المثال واضحًا بالنسبة للمصري البسيط الذي يتذكَّر الثري الإنجليزي المتعالي، والذي كان يتصرَّف في بلادهم تصرُّف صاحب البيت، وهو الآن يرى الخبير السوفييتي المتواضع وهو يعمل إلى جانبه في المصنع وموقع العمل، أو الضابط المستشار العسكري الرفيق الذي يقاسم الجنود المصريين متاعب الحياة العسكرية. كان على السادات أن يدرك الظرف الموضوعي المتمثِّل في مزاج المصريين وميولهم، وهو ما يفسِّر تصريحاته أحيانًا وكلماته الطيبة تجاه الاتحاد السوفييتي وإلحاحه بصورة استعراضية على توقيع اتفاق صداقة بين البلدَين ودعوة قيادات سوفييتية رفيعة لزيارة القاهرة.
كان توقيع مثل هذا الاتفاق يلبِّي على نحو موضوعي مصالح دعم العلاقات بين الشعبَين المصري والسوفييتي ووقف أعداء هذه العلاقة من توجيه ضربة قاصمة إليها.
وقد ردَّ الاتحاد السوفييتي على اقتراح السادات بشأن توقيع اتفاق الصداقة والتعاون بالموافقة. وتمَّت إبَّان المباحثات التي جرت في القاهرة الموافقة على المقترحات جميعًا التي تقدَّم بها الجانب المصري.
وفي السابع والعشرين من مايو ١٩٧١م، جرى توقيع الاتفاق في القاهرة، الأمر الذي أثار قلقًا واضطرابًا لدى الولايات المتحدة الأمريكية. وعلى الفور وصل إلى القاهرة المبعوث الأمريكي ستيرنر قادمًا من واشنطن. وكان على السادات أن يؤكِّد لهذا الموظَّف الصغير أنه لا ينوي إدخال أية تغييرات على علاقته بالولايات المتحدة الأمريكية.
بالنسبة للظروف التي تمَّ فيها عقد هذا الاتفاق فإنني أُذكِّر هنا بشكل خاص، بصفتي شاهد عِيان على الأحداث، أن السادات تحدَّث أكثر من مرة في خطبه أن الاتفاق كان «مفروضًا» عليه من الجانب السوفييتي، وأن نَصَّه لم يراعِ الملاحظات وما إلى ذلك. والحقيقة أن الأمر لم يجرِ على هذا النحو إطلاقًا.
لقد ظهرت هناك بوادر فتور في العلاقات المصرية الأمريكية، وكان السادات في حاجة إلى مزيد من الوقت ليجد حجةً ما يثبت بها للولايات المتحدة الأمريكية وفاءه للعهد الذي قطعه على نفسه. وقد وجد السادات هذه الحجة في مجموعةٍ من الخبراء العسكريين والفنيين السوفييت الذين كانوا يقومون على تدريب العسكريين المصريين وعلى إعداد وحدات الدفاع الجوي التي كانت مهمتها حماية الأجواء المصرية إبَّان الإعداد العاجل للأطقم المصرية، وهؤلاء جاءوا إلى مصر بناءً على طلب من ناصر والقيادة المصرية، التي كان السادات واحدًا منها. وهنا ظهرت سلسلة من الممارسات العدائية استهدفت إهالة التراب على النشاط المتفاني للعسكريين السوفييت الذين قاموا بنزاهة وشرف على إنجاز مهامهم العسكرية الأممية في ظروف استثنائية بالغة الشدة.
أُورد هنا بعض الأمثلة فحسب. في سبتمبر عام ١٩٧١م بدأت المخابرات الأمريكية التي كانت تعمل هي وعملاؤها على نحو سافر للغاية في العمل المكثَّف ضد القوات المسلحة المصرية، وانتهى الأمر باكتشاف القضية التي عُرفت باسم «قضية راندوبولو»، وهو مواطن مصري كان يعمل مقاولًا في تشييد بعض المنشآت العسكرية تمَّ تجنيده من قِبل الأمريكيين. وفي كتابه «الطريق إلى رمضان»، كتب هيكل يقول إن التي قامت بتجنيده فتاة اسمها «مس سوين»، كانت تعمل ضمن أعضاء بعثة رعاية المصالح الأمريكية التي ترفع العلم الإسباني. وقد ألقت المخابرات المصرية القبض على راندوبولو وسوين. وفي هذا الوقت قام الجانب المصري بإبلاغنا أن راندوبولو يعمل بالتجسُّس لصالح إسرائيل، وحاول المصريون اتهام العسكريين السوفييت بافتقاد اليقظة والحذر، ومن ثم، مساعدة الإسرائيليين! من ناحيتنا نفينا وبشكل منطقي هذه الادعاءات المضحكة، وأعلنَّا أن مكافحة التجسُّس تقع مسئولية الجانب المصري وحده. فيما بعد قرأت باهتمام بالغ ما ذكره هيكل في كتابه: أن يوجين ثرون رئيس المخابرات المركزية في مصر كتب خطابًا صريحًا، بعد أن تكشَّفت أبعاد القضية، إلى رئيس المخابرات المصرية ورئيس جهاز مكافحة التجسُّس آنذاك الفريق أحمد إسماعيل، يقول فيه: «إن أيًّا من المعلومات التي حصلنا عليها من هذه الفتاة لم تصل قط إلى يد الإسرائيليين، وإنها كانت لصالح الولايات المتحدة فقط، وبالمناسبة فربما تكون في صالح مصر أيضًا؛ إذ يمكن بفضلها للحكومة الأمريكية أن ترد على الحكومة الإسرائيلية التي تبالغ في تقديرها لحجم الأسلحة التي يُقدِّمها الاتحاد السوفييتي لمصر، والتي تتعلَّل بها لدى الولايات المتحدة الأمريكية لطلب صفقات جديدة من الأسلحة. وأود أن تعلموا أن مصر لم تكن هي الهدف من وراء عملية التجسُّس هذه؛ فكما تعرفون فإن الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي منغمسون في مواجهة شديدة، ونحن نتجسَّس عليهم لا عليكم.»
قرَّر السادات أن يطلق سراح الجاسوسة الأمريكية، وفي هذا السياق، أشار هيكل إلى أن ذلك كان بهدف مواصلة دعم هذه الفتاة للاتصال، والتي أصبحت تُمثِّل له (أي السادات) أمرًا غاية في الأهمية؛ السادات – المخابرات المصرية – المخابرات المركزية – المجلس الأمریكي وكیسینجر.
في مطلع عام ١٩٧٢م، تعرَّضت مجموعة كبيرة من الضباط السوفييت، كانوا في طريق عودتهم إلى الوطن، لتفتيش مهين في مطار القاهرة. وكان الهدف من وراء ذلك، كما صرَّح موظفو الجمارك المصريون، إثبات صحة الشائعات السائدة التي تقول إن الروس يقومون بتهريب كميات كبيرة من الذهب. وبالطبع لم يُسفر التفتيش عن وجود أي ذهب. كان علينا أن نتخذ إجراءات حاسمةً في هذا الشأن بما فيها مخاطبة الرئيس نفسه. وفي مساء نفس اليوم اتصل بي السادات وكنت وقتها في ضيافة رئيس الوزراء عزیز صدقي في بيته للتحدُّث في بعض الأمور، قال لي السادات عبر الهاتف: إنه يشعر بالخجل أن يقرِّر شخصٌ ما في مصر «مكافأة» العسكريين السوفييت على هذا النحو غير اللائق على ما بذلوه من جهد مخلص، وطلب اعتبار هذا الحادث منتهيًا وكأنه لم يكن؛ أي إنه بهذا قد قدَّم اعتذاره بالفعل.
وفي حديث صحفي أدلى به السادات لمجلة «نيوزويك» الأمريكية اشتكى من أن عليه أن يدفع مبالغ ماليةً هائلة بالعملة الصعبة للاتحاد السوفييتي تمثِّل مرتبات العسكريين السوفييت العاملين في الجيش المصري. ولمَّا كانت هذه المزاعم بعيدةً تمامًا عن الواقع، فقد قلت للسادات مداعبًا في أحد لقاءاتي به مستندًا إلى هذا الحديث: إن العسكريين السوفييت مندهشون لعدم حصولهم على العملة الصعبة حتى الآن. تجهَّم وجهه ثم قال في غضب مفتعل: هذه من بنات أفكار الصحفيين.
ومع ذلك، فقد صرَّح النائب الجديد لوزير الخارجية إسماعيل فهمي للصحافة أن الاتحاد السوفييتي حليف لا يركن إليه، وأنه لن يذهب مع مصر «حتى النهاية» (أي نهاية؟) وقد وصل الاستياء بوزير الخارجية المصري والسفير السابق لدى موسكو مراد غالب إلى حد أنه سعی لعزل إسماعيل فهمي من منصبه نائبًا لوزير الخارجية (الذي حدث أن مراد غالب هو الذي تمَّ عزله من منصبه ليُصبح إسماعيل فهمي وزيرًا للخارجية).
وأخيرًا حزم السادات أمره.
في يوليو عام ١٩٧٢م، تسلَّم السادات رسالةً من نيكسون. وعندما التقيت به بعد عدة أيام بِناءً على طلبه، طلب مني فجأة، وهو في حالة شديدة من الاضطراب، أن أُبلغ موسكو، دون إبداء أسباب، أنه ليس بحاجة إلى خدمات العسكريين السوفييت في مصر. هكذا دون كلمة شكر واحدة على ما قدَّموه من جهد متفانٍ وإنكار للذات، ودون كلمة عن أسباب هذا القرار المفاجئ، الذي لا يمكن تفسيره بصورة رسمية والذي ستكون له، دون أدنى شك، عواقب سياسية هائلة. لم تكن نبرة الرئيس تشوبها أدنى رغبة في التعاون، وقد شمل «قرارَه» بملاحظات لاذعة وحادَّة تمس العسكريين السوفييت، وهي ملاحظات لم أستطع، بطبيعة الحال، أن أرد عليها.
عندما أدركتُ أن الرئيس، على الرغم من كل محاولاتي، لا يريد أن يتطرَّق إلى لب الموضوع، كان عليَّ أن أُذكِّره أن العسكريين السوفييت جاءوا إلى مصر نتيجة الإلحاح والطلبات المتكرِّرة من الرئيس عبد الناصر، ومنه هو شخصيًّا فيما بعد وبأمر من الحكومة السوفييتية وأنهم، وبغض النظر عن المصاعب التي واجهوها، قد أدَّوا واجبهم الأممي بشرف وهم يضعون نصب أعينهم هدفًا واحدًا هو أن تكون مصر دولةً قوية، وأنهم لا يستحقون هذه الكلمات التي قالها عنهم الرئيس، وإنني لن أفهم هذه الكلمات. ولمَّا وجدت لديه الرغبة في الاستمرار مرةً أخرى في إهانة العسكريين السوفييت، قلت له إنه إذا لم يكن لديه شيء آخر يقوله، فسوف أبلغ موسكو بما أعلنه. ودَّعته بإيماءة من رأسي وأنا أُغادر المكان.
بعد خروجي، قام السادات، كما حكى لي هيكل فيما بعد، باستدعائه هو ورئيس الوزراء عزیز صدقي ووزير الحربية محمد صادق وأبلغهم ﺑ «قراره».
صاح هيكل: لماذا فعلت هذا؟ هل فكَّرت في عواقب ذلك على الجيش؟ على البلد؟ وقال هيكل إنه شعر بطعنة لأن ناصرًا هو الذي ألحَّ على القيادة السوفييتية في وجود السادات تحديدًا لإرسال عسكريين سوفييت إلى مصر، والآن يأتي السادات ليُلغي بمفرده ما عمل ناصر بدأب على تحقيقه. لم أكن على علم آنذاك، بطبيعة الحال، بما كتبه هيكل في كتابه «الطريق إلى رمضان» حول الرسالة السرية التي بعث بها رئيس الولايات المتحدة نيكسون إلى السادات، والتي يقول له فيها: الآن يمكنكم أن تنعموا بالراحة وأن تفعلوا ما يحلو لكم. ولكن عليكم أن تتذكَّروا أن مفتاح حل مشكلة الشرق الأوسط في يد الولايات المتحدة الأمريكية. ليس عبثًا أن كتب كيسينجر في مذكِّراته حول قرار السادات بإبعاد الخبراء العسكريين السوفييت: «لقد حصلنا منه على كل شيء ولم نعطِه شيئًا.»
بالطبع فقد غادر المستشارون العسكريون السوفييت ومعهم الفنيون مصر على نحو منظَّم، أمَّا مشاهد الوداع في الجيش المصري فكانت مؤثِّرةً للغاية. كثير من الضباط والجنود انخرطوا في البكاء واعترفوا بهول الشعور المفاجئ بالوحدة و… الخجل لِمَا أقدم عليه رئيسهم.
فكَّرت كثيرًا في ذلك القرار الذي اتخذه السادات. لا شك أن هذا القرار قد جرى اتخاذه قبل ذلك بكثير. ما الذي دفعه لاتخاذ هذه الخطوة التي أضعفت مصر سياسيًّا وعسكريًّا؟ لقد دَعَم وجود العسكريين السوفييت الجيش المصري حتى وصل به إلى المستوى المطلوب من الإعداد، فضلًا عن ردع إسرائيل عن القيام بعمليات عسكرية كبرى ضد مصر. يكفي أن نذكر التوقُّف الكامل للغارات الجوية التي كان الإسرائيليون يقومون بها على المناطق المأهولة بالسكان بعد أن أصبحت مُؤمَّنةً تمامًا.
بعد عدة أيام من إعلان قرار السادات بإبعاد العسكريين السوفييت أخبرني السفير البريطاني لدى مصر بصراحة مذهلة قائلًا: «كُنا في السابق نسعى بشكل أو آخر لتسوية أزمة الشرق الأوسط بسبب وجود العسكريين السوفييت في مصر، الذين كُنا نرى ضرورة مغادرتهم مصر. أمَّا الآن وقد غادرها عسكريوكم، فلم يعد لدينا الحافز بتسوية المشكلة.» وهكذا تخلَّى السادات عن ورقة الضغط التي كان العرب يملكونها، والتي كانت ستساعد على تسوية الصراع في الشرق الأوسط.
إذن، فقد كانت لدى السادات خطط ما في علاقته بالولايات المتحدة الأمريكية، وكانت تصرُّفاته هذه تلويحًا له يقول: «أنا معكم!» لكن التقارب بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية، والذي راحت إسرائيل تؤيِّده بنسبة ١٠٠٪ كان بحاجة إلى ما يدعمه ويبرِّره. لم يكن ذلك ممكنًا إلا في حالة ما إذا ظهرت الولايات المتحدة بمظهر مختلف تبدو فيه صانعةً للسلام أو — إذا جاز التعبير — «السمسار الشريف». لنتذكَّر: هنا مكمن الخطورة في تصرفات السادات، وهو ما رآه الناصريون تحديدًا.
كان عام ١٩٧٣م موعدًا لحدث ذي مغزًى عالمي وقع في الشرق الأوسط ألقى بالضوء على طريق ظهور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. لقد اشتعلت العمليات العسكرية الضخمة التي كان أطرافها مصر وسوريا وإسرائيل، والتي عُرفت باسم حرب أكتوبر أو حرب رمضان.
٣
كان التوصُّل إلى حل الصراع العربي الإسرائيلي، أو بتعبير أدق، استعادة الأراضي العربية التي احتلَّتها إسرائيل، بما فيها الأراضي المصرية، وكذلك ضمان حقوق الشعب العربي الفلسطيني هو القضيةَ الأساسية أمام السياسة الخارجية لمصر، فضلًا عن كونها القضية الكبرى التي حدَّدت مسار الوضع السياسي الداخلي للبلاد. لقد كان نفاد صبر الدوائر صاحبة التوجه الوطني الحقيقي تجاه تحقيق العدالة على وجه السرعة أمرًا له ما يُبرِّره؛ ولهذا السبب عمل ناصر على دعم الوضع الاقتصادي لمصر وإعادة بناء القوات المسلحة المصرية بمساعدة الاتحاد السوفييتي، واتخاذ خطوات سياسيةً كبرى على الساحة الدولية، واستطاع أن يكسب لمصر في مجال العلاقات الخارجية العديد من الأصدقاء المخلصين وعلى رأسهم الاتحاد السوفييتي.
بعد وفاة ناصر، كان من الواضح أن قضية إزالة آثار العدوان أصبحت موضوعًا للمضاربة السياسية الداخلية، والتي تجلَّت في صراع السادات مع خصومه. أمَّا فيما يتعلَّق بالسياسة الخارجية فقد أصبحت وسيلةً من وسائل الضغط، إمَّا على الاتحاد السوفييتي (بهدف إلقاء مسئولية عدم التوصُّل إلى تسوية على عاتقه، وفي نفس الوقت في السعي للمطالبة بالحصول على مساعدات مُتميِّزة)، وإمَّا على الولايات المتحدة الأمريكية (بهدف لفت الانتباه إلى نية السادات في تغيير النهج السياسي للبلاد والتلويح باتخاذ حليف له).
كان الرئيس الجديد، شأنه شأن سلفه، يُدرك جيدًا أن التوصُّل إلى حلٍّ لقضية الصراع في الشرق الأوسط دون مصر، الدولة العربية الكبرى والأكثر تقدُّمًا والأقوى من الناحية العسكرية، أمر مستحيل. وأنه ما دامت إسرائيل تحظى بدعم مطلق من الولايات المتحدة الأمريكية، وأن لها اليد الطولى على الأراضي التي تحتلها، فإن التوصُّل إلى حل سلمي للصراع في الشرق الأوسط بالنسبة للعديد من الدول العربية وحكوماتها هو أمر يُجافي الواقع، وأنه لم يبقَ أمام هذه الدول سوى الاعتماد على القوة، التي يُعَد استخدامها شرعيًّا ما دام الحديث يدور عن استرداد ما أخذته إسرائيل بالقوة، وهي التي تعترف بذلك علنًا في كل مكان. لم يكن بمقدور الدول العربية الأخرى بطبيعة الحال، أن تخوض غمار الحرب ضد إسرائيل دون مشاركة مصر.
وممَّا لا شك فيه أن السادات شعر بتفرُّد وضع مصر، وخاصةً أن التوصل إلى عقد اتفاق تُعيد إسرائيل بمقتضاه الأراضي المصرية المحتلة في شبه جزيرة سيناء مقابل السلام كان أمرًا أكثر سهولةً بالنسبة لإسرائيل من إعادة حقوق الفلسطينيين، وإعطاء العرب قطاع غزة وتحرير الضفة الغربية لنهر الأردن وإعادة مرتفعات الجولان إلى سوريا والانسحاب من الأراضي اللبنانية. كان باستطاعة مصر دائمًا استعادة أراضيها مقابل الصلح المنفرد مع إسرائيل، ولكن هذا كان يعني خيانة المصالح العربية المشتركة وعلى رأسها مصالح الفلسطينيين وسوريا والأردن ولبنان. لم تراود ناصر مطلقًا فكرة هذه «الإمكانية»، بينما قرَّر السادات أن يُمضي قُدمًا في طريق الاستفادة من ورائها. فما إن يقف على هذا الطريق، حتى يمكنه الاعتماد على دعم الولايات المتحدة الأمريكية. كان عليه فقط أن يجد الوسيلة لظهور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط ظهورًا «منطقيًّا».
كانت العلاقات المتطوِّرة بين مصر والاتحاد السوفييتي هي التي تقف حجر عثرة أمام دعم العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية. وها هو السادات، كما رأينا، يعمل على إضعاف العلاقات مع الاتحاد السوفييتي، على الرغم من ذلك أدَّى إلى إضعاف مصر والصف العربي بأكمله، ومن ثَم فإن الاحتفاظ بالعلاقات السوفييتية المصرية ودعمها كانا ضروريَّين من أجل مساندة القضية العربية العادلة بوجه عام، ولصالح مواجهة ضغوط القوى الإمبريالية العالمية على الدول العربية.
تمثَّلت صعوبة اتخاذ الإجراءات العملية في علاقتنا بمصر في أنه كان علينا ونحن نُنفِّذ خطنا الثابت في سياستنا الخارجية العامة أن نراعي بلباقة التأثيرات التي كانت تتعرَّض لها مصر والحكمة تجاه التصرُّفات السلبية غير اللائقة والعدائية من جانبها تجاه الاتحاد السوفييتي، والتي أصبحت أمرًا مميزًا لسياستها الخارجية في عهد السادات.
كانت العلاقات بيننا وبين مصر كثيفةً للغاية، وهو ما شكَّل إحدى المهام الصعبة أمام عملنا الدبلوماسي الذي كانت السفارة السوفييتية جزءًا مهمًّا فيه. على سبيل المثال، فمنذ نهاية عام ١٩٧٠م وحتى نهاية عام ١٩٧٣م، زار الاتحاد السوفييتي ثمانية وفود مصرية رفيعة المستوى (ثلاثة منها كان على رأسها السادات نفسه)، بينما وصلت إلى مصر سبعة وفود سوفييتية رفيعة المستوى. وخلال هذه الفترة القصيرة تسنَّى لي بالمناسبة السفر من القاهرة إلى موسكو اثنتَي عشرة مرةً والعودة بطبيعة الحال.
بعد القرار الذي اتخذه السادات بإبعاد العسكريين السوفييت من مصر، وهو ما مَثَّل دليلًا على التحدي، سألني كثير من الرفاق فيما بعد، عندما أصبح سقوط السادات أكثر وضوحًا: ألم نكن نرى وجهه الحقيقي، ألم يكن توجُّهه معروفًا؟ بالطبع، لكن كثيرًا من التفاصيل، المهم منها تحديدًا، تمَّ إخفاؤها بإحكام ولم يتمَّ الكشف عنها إلا مُؤخَّرًا. لكن تصوُّراتنا عن الخط الجديد للقيادة المصرية كانت صائبة، وهو ما أكَّدته الأحداث التي جرت بعد ذلك. إن سياستنا لا تقف على هذا الشخص أو ذاك، وإنما على القضية الأساسية التي نعمل من أجلها. صحيح أننا نضع في اعتبارنا خصائص الشخصيات وتوجُّهاتهم عند اتخاذ الإجراءات العملية، لكن هذه الإجراءات تكون موجهةً بالدرجة الأولى بحيث نُحافظ من خلالها على نهجنا العام، آخذين في الاعتبار الظروف الموضوعية المحدَّدة.
لقد كان نهجنا الذي اتبعناه في الشرق الأوسط وسيبقى هو تحقيق السلام العادل لكل دول المنطقة، وهذا السلام لا يمكن تحقيقه دون عودة الأراضي العربية التي احتلَّتها إسرائيل، وضمان الحقوق المشروعة للفلسطينيين، بما في ذلك حقهم في إقامة دولتهم المستقلة، وضمان أمن وسلامة شعوب ودول المنطقة جميعًا، بما فيها إسرائيل. كل هذا لا يمكن تحقيقه إلا بالتخلُّص من تأثير القوى الإمبريالية التي تتمثَّل مصالحها في تحويل الشرق الأوسط إلى رأس جسر لها للاعتداء مستقبلًا على استقلال الدول الأخرى؛ لكي تصبح هذه الدول ذاتها رأس جسر ضد الاتحاد السوفييتي وعلى الحدود الجنوبية القريبة من بلادنا. إن نهجنا في الشرق الأوسط قائم من أجل الصداقة مع الدول العربية وغيرها من الدول والشعوب على أساس مبدأ التعاون المشترك معها.
منذ اللحظة الأولى على تقلُّده سُدة الحكم، وكما ذكرنا من قبل، أطلق السادات شعار: عام ١٩٧١م هو عام الحسم في الصراع العربي الإسرائيلي! كيف، ومتى، وبأي وسيلة، وعلى أي أساس؟ لم تكن هناك إجابة. «الحسم» وكفى. على الفور بات واضحًا أن الأمر مُجرَّد شعار وحسب، ومن ثم فهو غير قابل للتحقيق. فيما بعد اضطُر المحيطون بالسادات إلى تقديم تفسير على النحو التالي: إن عام ١٩٧١م هو عام «الحسم» بمعنی أنه ينبغي فيه اتخاذ القرار، الذي يجب اتخاذه لحسم المشكلة. لم يزِد الأمر على أن يكون مراوغةً لفظية. ثم جاء عام ١٩٧٢م ليُصبح أيضًا عام «الحسم»، وهنا أسقط السادات فشله على الاتحاد السوفييتي مُدَّعيًا أنه انشغل بتقديم الدعم … إلى الهند! ثم حلَّ العام ١٩٧٣م لتشهد كواليس الاتصالات بين السادات والأمريكيين تصاعدًا محمومًا.
تَمثَّل النهج الأمريكي في زيادة الضغط على مصر، أو بالأحرى على رئيسها وفي الإلحاح المستمر عليه بفكرة أن الولايات المتحدة الأمريكية وحدها هي القادرة على دفع قضية التسوية في الشرق الأوسط نحو التحرُّك؛ أي ﺑ «التأثير» على إسرائيل. ولكنهم راحوا يؤكِّدون في الوقت نفسه على أن الولايات المتحدة لن تنفِّذ ذلك «دون مقابل»، وأن الثمن يتلخَّص في تقليص، ثم القضاء الكامل على ما يعرف ﺑ «الوجود السوفييتي» في الشرق الأوسط، وفي مصر بالدرجة الأولى، وخاصةً الوجود العسكري. كان ذلك، بطبيعة الحال، مضاربةً بحتة تأكَّدت فيما بعد. لكن هذه المضاربة كان لها التأثير الأكبر على شخص الرئيس نفسه.
في نهاية عام ١٩٧٣م سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية مساعد الرئيس لشئون الأمن القومي حافظ إسماعيل، الذي أجرى عددًا من اللقاءات السرية مع نیكسون وكيسينجر، وللتمويه على هذه الزيارة قام حافظ إسماعيل بزيارة لندن وموسكو. وفي زيارته لواشنطن تمَّ الاتفاق على شيء ما.
وبحلول مايو عام ١٩٧٣م قام السادات بتركيز كل السلطات الممكنة في يدَيه. لم يكتفِ بأن يكون رئيسًا له كل الصلاحيات، وإنما شغل أيضًا مناصب رئيس الوزراء والقائد الأعلى للقوات المسلحة ورئيس الاتحاد الاشتراكي العربي، ولقب آخر هو الحاكم العسكري الأعلى. لا أظن أنه في تاريخ مصر الحديث والقديم كان هناك مَن تجمَّعت لديه كل هذه السلطات القوية.
تراجع التعاون بيننا وبين المصريين، كما تراجعت من جانبهم مشاعر الإخلاص والصراحة.
في الثاني والعشرين من سبتمبر عام ١٩٧٣م، وبعد عودتي من الإجازة، قمتُ بزيارة السادات. في هذه المرة أخبروني أنه سيستقبلني في برج العرب، وهو مكان يقع في قلب الصحراء غرب الإسكندرية.
كان من اللافت للنظر أن الساحة المحيطة بهذا البيت الصغير الضائع في الصحراء قد امتلأت بعدد من السيارات تحمل لوحات تُشير إلى أنها مُخصَّصة للشخصيات الحكومية الأجنبية الرفيعة المستوى. وقد اتضح أن السادات كان يستقبل نیلسون روكفلر وبعض الشخصيات الأمريكية الأخرى. رافقنا بعض الحراس إلى قاعة استقبال جانبية، وفيها كان يتناهى إلى أسماعنا صوت ضحكات الأمريكيين المجلجلة. مضت عشرون دقيقةً وأكثر على الموعد المحدَّد، وعندها أخبرْنا الضابط المكلَّف أنه إذا كان الرئيس مشغولًا اليوم إلى هذا الحد، فسوف نغادر المكان وليُحدِّد لنا موعدًا آخر. خرج الضابط إلى مكان ما، وبعد أن عاد أخبرَنا أن الرئيس مستعد للقائنا الآن.
كان الرئيس لا يزال واقعًا تحت تأثير الحديث الذي انتهى منه للتو. كان ينظر باتجاه ما بالقرب منا، وكان من الواضح أنه لم يستعِد تركيزه للتحدُّث معنا بعد. وفي النهاية بدأ حديثه متخيِّرًا كلماته بدقة قائلًا: إن الوضع المتعلِّق بتسوية قضية الشرق الأوسط بات «غير محتمل». ثم ماذا سيحدث لو أنه (السادات) «فجَّر الموقف»؟ ما الذي يمكن للآخرين أن يفكِّروا فيه؟
على الفور خطرت على بالي فكرة: هل يمكن أن يكون السادات قد قرَّر البدء في العمليات العسكرية؟ وأين ذهبت تأكيداته بأنه مرتبط ارتباطًا وثيقًا في هذا الشأن بالاتحاد السوفييتي، وأنه سوف يتبادل الرأي والمشورة معه؛ فالعمليات العسكرية هي الخطوة الأخيرة في السياسة، وفي الغالب لا يمكن التنبؤ بنتائجها. وفي سباق العمليات العسكرية دائمًا ما يؤمن كل طرف بأنه هو الذي سيحرز النصر، وفي النهاية ينتصر طرف واحد، بينما يخسر الآخر. وغالبًا ما يكون المهزوم هو من بدأ الحرب. لم يقدِّم لنا الرئيس أية تفسيرات، وإنما ظلَّ، كما يقولون، «يداور ویناور».
دفعني الحديث مع الرئيس دفعًا إلى أن أعاود النظر مليًّا في الموقف في البلاد مرةً أخرى. لم تكن هناك أية مؤشرات مباشِرة بشأن بدء العمليات العسكرية في القريب العاجل، لكن المؤشِّرات غير المباشرة كانت محسوسة، لكن ذلك لم يكن كافيًا للوصول إلى استنتاجات مُحدَّدة؛ فذات يوم توقَّف رتل من السيارات كان يسير في أحد شوارع القاهرة لمدة طويلة، وكانت السيارة التي تُقلني واحدةً من بين هذه السيارات. كان الهدف فتح الطريق لرتل آخر من سيارات النقل العسكرية تحمل زوارق مخصَّصةً لعبور الموانع المائية. فكَّرت أنه لو كانت هناك استعدادات تجري لخوض الحرب، فلماذا ينقُلون هذه المعدات على هذا النحو الاستعراضي ليُعلنوا عن عبور قناة السويس؟ ناهِيَك عن أن الضباط المصريين بدءوا في الظهور بملابس الميدان. وإذا كانت هناك استعدادات تمَّت ملاحظتها داخل القوات المسلحة، فإن شيئًا من الاستعدادات تجاه وقوع أية عمليات عسكرية لم يلاحَظ في العمق.
في الثالث من أكتوبر، كنتُ في زيارة للسادات في منزله الخاص القريب من السفارة. وفي سياق الحديث الذي دار بيننا، تحدَّث السادات عن الاستفزازات المستمرة التي تقوم بها إسرائيل، وعن إمكانية قيام المصريين برد عسكري ضدَّ ما أسماه «الاستفزاز الكبير»، وأردف قائلًا: «وليكن ما يكون.» وردًّا على سؤالي حول ما إذا كانت هناك تصورات بشأن موعد ومستويات هذا الرد، أكَّد السادات أنه سيخبرني حتمًا عندما تقتضي الحاجة ذلك «في حينه»، ومرةً أخرى لم يذكر شيئًا مُحدَّدًا، ولكنه طلب مني ألَّا أغادر القاهرة، وأن أظلَّ في انتظار مكالمة هاتفية منه.
في اليوم التالي أبلغت السادات بأن موسكو اتخذت قرارًا بنقل زوجات العاملين السوفييت وأطفالهم، وطلبتُ منه مساعدة السلطات المصرية في ذلك، وقد وافق السادات.
نجحنا في زمن قصير للغاية في نقل أكثر من ٢٧٠٠ امرأة وطفل، وكذلك حوالي ألف شخص من عائلات العاملين في السفارة وغيرهم من الخبراء من الدول الاشتراكية الأخرى. كان النقل يتم دائمًا ليلًا في حافلات إلى الإسكندرية ثم إلى السفن السوفييتية أو على رحلات جوية خاصة من القاهرة (في حالة ما إذا لم يكن المطار مغلقًا). وقد خصَّصنا في السفارة هيئةً خاصة للإخلاء. جدير بالذكر أن المستشار الاقتصادي ن. ل. لوباتين والممثل التجاري أ. إ. لوباتشيف والمستشار ب. س. أكوبوف والسكرتير الأول ف. ن. يودين، قد بذلوا جهودًا مضنية في هذا الصدد.
أسرعت عائدًا إلى السفارة حيث وصلتها ظهرًا تقريبًا. وبعد أن تعاملت مع المعلومات العاجلة، قرَّرت أن أتناول غداءً خفيفًا مُتوقِّعًا أن أوقات الطعام والنوم سوف تتضاءل فيما بعد. وفي الثانية ظهرًا تقريبًا دقَّ جرس الهاتف المنزلي العادي. طلبت من السكرتيرة فافا جوليزادي أن ترد، فإذا بها تعود لتخبرني: «الرئيس يريد التحدُّث معك.» راودني الشك. الرئيس يطلبني على الهاتف العادي؟ أمسكتُ بالسماعة فإذا بصوت السادات يأتيني مُتهلِّلًا: «سيادة السفير! .. نحن الآن على الضفة الشرقية للقناة! والعلم المصري يُرفرف عالیًا على الضفة الشرقية! لقد عبرنا القناة!»
هكذا بدأت حرب أكتوبر ١٩٧٣م، وهي حرب تستحق وصفًا مستقلًّا وتحليلًا تفصيليًّا وافيًا، بما في ذلك تلك الأحداث كما رآها شهود العِيان، الذين كنت من بينهم ومعي العاملون بالسفارة السوفييتية في القاهرة. ونظرًا لأن ما نُشر هنا في الوقت الحالي لا يسمح بذلك، فسوف أكتفي ببعض الجوانب العامة، التي بإمكانها، من وجهة نظري، أن تُلقي الضوء على نحو ساطع على ما وقع من أحداث، أو تعرض حقيقة عدد من الظواهر تمَّ تزييفها بعناية فيما بعد على يد الأمريكيين أو على يد السادات نفسه.
على مدى شهر أكتوبر ومطلع شهر نوفمبر، تسنَّى لي مقابلة الرئيس السادات عمليًّا مرةً كل أسبوع، وأحيانًا عدة مرات في الأسبوع الواحد. كما تعدَّدت أحاديثي معه بواسطة هاتف خاص مغلق بيننا، تمَّ تركيبه بأمر من السادات من طراز «بي. بي. إكس». كما استمرَّ الاتصال بيني وبين موسكو عبر خطوط الهاتف والراديو. اتخذت السفارة آنذاك كل إجراءات التعتيم والتمويه الصارمة، وأعدَّت مخبأً محصَّنًا، كما تمَّ تخزين احتياط كافٍ من المواد الغذائية ومياه الشرب وبطاريات الإضاءة والشموع والكبريت والأدوات المكتبية والأدوية والمهام الطبية. وبمساعدة مَن تبقى من النساء تمَّ تنظيم وجبات جماعيةً في مبنى المدرسة. باختصار، اتخذت حياتنا طابع المعسكرات. كُنَّا ننام من ثلاث إلى أربع ساعات في اليوم.
شهدت الأيام الأولى للحرب، كما هو معروف، نجاحًا مُطَّردًا لصالح المصريين؛ ففي خلال عدة ساعات تمكَّنوا من عبور قناة السويس على امتدادها، ليتمركزوا على الضفة الشرقية لها. كانت الخطة الموضوعة تقضي بأن يستغرق هذا الجزء من العملية لا أقل من يوم بأكمله، وتفترض أن تصل خسائر القوات المصرية المشاركة على نحو مباشر في عبور القناة إلى ثلث هذه القوات. على أن الخسائر تراوحت بالفعل ما بين ١٠ إلى ١٥٪. باء الهجوم المضاد الذي شنَّته القوات الإسرائيلية بالفشل، كما أن قوة المقاومة لدى الإسرائيليين لم تكن ذات أهمية. ظهرت منظومة الصواريخ المضادة للطائرات باعتبارها قوةً فعَّالة مثَّلت حاجزًا منيعًا تهاوت أمامه الطائرات الإسرائيلية، كما شكَّلت هذه المنظومة «مظلةً» واقية وفَّرت الحماية للقوات المصرية المقاتلة.
كان السادات في أوج سعادته من جرَّاء الكفاءة الرفيعة للأسلحة، وكان دائمًا في أحاديثه معي يُوجِّه الشكر للاتحاد السوفييتي بعبارات جزلة. وقد قال لي ذات مرة وقد أخذه الحماس: «سيأتي اليوم الذي أتحدَّث فيه عن المساعدة العظيمة التي قدَّمها لنا الأشقاء السوفييت!» لم يكن الأمر مُتوقِّفًا على مُجرَّد الكفاءة العالية للمعدات العسكرية السوفييتية التي أثبتت تفوُّقها على نظيرتها الأمريكية الموجودة في يد الإسرائيليين، وإنما بتأثير الجهد الطويل الدءوب الذي بذله المستشارون العسكريون السوفييت، وإلى جوارهم الخبراء الفنيون المختصون الذين عملوا على النهوض بالجيش المصري من كبوته التي مُني بها في عام ١٩٦٧م، وفي إعادة الثقة له ثم تدريبه تدريبًا رفيعًا تحت شعار «التدريب الشاق يجعل المعركة سهلة». وهو ما حدث بالفعل دون أدنى شك. لكن أمورًا كثيرة كانت مثارًا للحيرة. كيف عجز الإسرائيليون، وهم يملكون جهاز استخبارات ذي كفاءة عالية، عن ملاحظة تمركز القوات المصرية عند قناة السويس (لن أتحدَّث هنا عن المخابرات الأمريكية وما تملكه من أجهزة فنية مُتطوِّرة)، وهل كانت العمليات العسكرية التي قامت بها القوات المسلحة المصرية والسورية مفاجئةً إلى هذا الحد بالنسبة للقوات المسلحة الإسرائيلية؟ لماذا كانت القوات الأساسية الإسرائيلية متمركزةً في الشمال بالقرب من الحدود السورية، بينما كانت القوة الرئيسية العربية — القوات المسلحة المصرية — مرابطةً عند الجنوب؟ لماذا رفض السادات دخول الملك حسين ملك الأردن المعركة، وكان من الممكن أن تقوم القوات المسلحة الأردنية بتنفيذ مهمة غاية في الأهمية؛ وهي قطع الطريق أمام القوات الإسرائيلية القادمة من الشمال، من الجبهة السورية، متجهةً إلى الجنوب، إلى الجبهة المصرية؟ لماذا لم تُبدِ القوات الإسرائيلية المرابطة شرق قناة السويس مقاومةً حاسمة في مواجهة الهجوم المصري، بل وصدرت لها الأوامر بعد فترة قصيرة بالانسحاب وبحسب التقديرات التي يراها قادتها؟ كيف يمكن تفسير، على سبيل المثال، ما نشرته وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية في الثاني من أكتوبر عن إعلان حالة التأهُّب القصوى في الجيشَين الثاني والثالث اللذَين عبرا قناة السويس؟ ألم تنتبه وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى ذلك؟ مثلما لم تنتبِه إلى عملية الإخلاء الضخمة للنساء والأطفال الأجانب من مصر؟ إن العديد من الأسئلة المتعلِّقة بحرب أكتوبر لا تزال بلا إجابة حتى الآن، ومن ثم فإنه ليس من قبيل المصادفة أن كثيرًا من الباحثين في شئون حرب أكتوبر قد طرحوا سؤالًا يقول: «هل كانت العمليات العسكرية التي جرت بين مصر وإسرائيل «مُخطَّطًا» لها مسبقًا؟» إذا كان الرد بالإيجاب لوجدنا عندئذٍ كل الإجابات المنطقية للأسئلة التي طرحناها، وأصبحت المحصِّلة السياسية النهائية للحرب هي ما حدث مؤخَّرًا — إحباط مؤتمر جينيف الدولي للسلام ومعاهدة «كامب ديفيد» وغيرها — أمرًا أكثر وضوحًا.
لقد تسلَّلت هذه الأفكار، بطبيعة الحال، إلى رأسي. لكن الأمر العاجل في هذا الوقت كان مختلفًا تمامًا. لقد راحت العمليات العسكرية تتصاعد على نحو جاد، وفي لحظات الحرب كان من المهم أن تكون هذه العمليات واضحةً أكثر من أي وقت آخر.
لقد شنَّ الجيش السوري هجومه الناجح في نفس الوقت مع الجيش المصري، واستطاع استرداد مرتفعات الجولان من أيدي القوات الإسرائيلية. وبينما كان المصريون يُطوِّرون هجومهم إلى الأمام، إذا بهم .. يتوقَّفون. وهنا ركَّزت القوات المسلحة الإسرائيلية كل جهودها على الجبهة السورية، وسرعان ما استردَّت الأراضي التي حرَّرها السوريون لتتقدَّم باتجاه دمشق، ولتبدأ في شن غارات جوية مُكثَّفة على المدن والموانئ السورية. وهكذا أوقف الجيش المصري عملياته القتالية، على الرغم من أنه بات واضحًا أن المناورة الاستراتيجية للإسرائيليين تمثَّلت في تفتيت خصومها إلى جزءين؛ سوريا أولًا، ثم مصر من بعدها. كان من المنطقي — من وجهة النظر العسكرية — أن يواصل المصريون تقدُّمهم؛ إذ كان من الصعب على إسرائيل أن تعيد الإمساك بزمام الأمور لو أن الحرب جرت بصورة فعلية على الجبهتَين المصرية والسورية معًا. لو أن .. كل القضية كانت مُعلَّقةً بهذه اﻟ «لو أن».
وردًّا على سؤال حول الخطط العامة للعمليات العسكرية، أجاب السادات بعصبية بالغة قائلًا إنه «لا ينوي الجري في سيناء»، وإن تكتيكه يتلخَّص في إنزال أكبر خسائر ممكنة بالإسرائيليين وليس في «الاستيلاء» على الأرض، وإنه سوف ينتظر قدوم قواتهم المسلحة الرئيسية (!) ليطحنها. إنه لمنطق عسكري وتكتيك غريبَين بعد أن أوشك المصريون على الاقتراب من ممرَّي «الجدي» و«متلا» في سيناء، وأصبح الطريق مفتوحًا ومُمهَّدًا إليهما. ومن المعروف أن مَن يمتلك هذَين الممرَّين يمتلك بالفعل سيناء بأكملها.
في التاسع والعاشر من أكتوبر بدأ السوريون في التراجع، بينما توقَّفت القوات المصرية عن الحركة تمامًا. كانت هذه هي السياسة، وهي سياسة خلقت انطباعًا لا إراديًّا أن القوات المصرية كما لو كانت قد «نفَّذت» ما كُلِّفت بفعله، وأن هذه القوات ليس لديها خطط أكثر. في الواقع لم تكن هناك، ربما، أية خطط، ولكن كانت هناك خطط أخرى سياسية.
منذ اندلاع الصراع والنشاط السياسي العاصف يزداد أُواره بين جدران الأمم المتحدة وفي عواصم معظم دول العالم. وانشغل مجلس الأمن بهذا الصراع، عندما طرح عليه مشروع القرار الأمريكي، الذي يطالب بسرعة وقف إطلاق النار وانسحاب القوات المتحاربة إلى مواقعها التي كانت عليها قبل السادس من أكتوبر. كان من الواضح أن الولايات المتحدة نفسها كانت تدرك عدم الشرعية السياسية في طلب عودة القوات إلى مواقعها التي كانت عليها قبل نشوب الحرب، يعني موافقة العرب على «شرعية» احتلال إسرائيل لأراضيهم؛ فالعرب إنما قاموا بتحرير أراضيهم ولم يحتلوا أراضي غيرهم. وبطبيعة الحال فقد رفض العرب وأصدقاؤهم المشروع الأمريكي. وقد اتضح أن المشروع قد تمَّ تقديمه على هذا النحو كسبًا للوقت اللازم حتى تتمكَّن الولايات المتحدة من إرسال صفقات كبيرة من الأسلحة إلى إسرائيل. وهو ما تحدَّث عنه هنري كیسینجر بعد ذلك في مذكراته.
وقت طويل استغرقناه أنا والسادات في بحث القرار الأفضل لمجلس الأمن بالنسبة لمصر وسوريا. كان الصمت يُخيِّم على الجبهة المصرية في تلك الفترة، بينما راحت إسرائيل مستندةً إلى الجسر الجوي الأمريكي وعلى القواعد الأمريكية في أوروبا في الحصول على صفقات عسكرية ضخمة توجِّه آلتها العسكرية بكل ضراوة نحو سوريا. وكان السادات يرد قائلًا: إذا كانت سوريا عاجزةً عن الهجوم، فلتأخذ موقف الدفاع (وكأن اتخاذ موقف الدفاع أمر سهل)، أو فلتشن حربًا شعبية فلديها أراضٍ واسعة … وهلم جرًّا. لم يكن الوضع على الجبهة السورية يهمه في قليل أو كثير. كان من الواضح أنه كان يمط الزمن منتظرًا أمرًا ما. ما هذا الأمر؟ ها هم الإسرائيليون يبدءون في قصف المعابر المصرية على القناة.
في السادس عشر من أكتوبر وردت إلينا أخبار مفاجئة تُفيد بعبور خمس أو ست دبابات إسرائيلية إلى الضفة الغربية لقناة السويس!
وقبل هذا اليوم بأسبوع تقريبًا، وبعدما أصبح خط الجبهة على الضفة الشرقية واضحًا، لفَتنا انتباه القيادة المصرية على الفور بوجود فاصل كبير بين الجناح الأول للجيش الثاني والجناح الأيسر للجيش الثالث عند البحيرات المرة خلف القناة. كان هذا معناه أن جناحَي الجيش عرضة لهجوم الإسرائيليين الذين يستطيعون فصل الجيشَين عن القناة. ومن المعروف أنه لم يكن هناك في هذه الفترة مستشارون عسكريون سوفييت في الجيش المصري. وقد أجاب العسكريون المصريون على أسئلتنا بأنها من «مُتطلَّبات تنظيم القتال». وهكذا تسلَّلت الدبابات الإسرائيلية تحت جنح الليل لتعبر القناة إلى الشاطئ المصري الأفريقي لتتمركز تحديدًا عند هذا الفاصل، عند حلق مدخل القناة في البحيرات المرة.
وقد شرح لنا السادات الموقف بقوله: إن هذه الدبابات ما هي إلا «مجموعة تخريبية»، وإن مصيرها «الهلاك». ثم أردف قائلًا لسبب ما أن هذه مناورات «سياسية» (؟) من جانب الإسرائيليين.
وفي مساء السادس عشر من أكتوبر وصل إلى القاهرة ألكسي كوسيجين للتشاور مع السادات. وبينما كُنا في انتظار هبوط الطائرة في المطار سألت حافظ إسماعيل مستشار الرئيس لشئون الأمن القومي عن الدبابات الإسرائيلية التي تسلَّلت إلى غرب القناة، فأجاب بأنها «حكاية سخيفة» يتعامل معها العسكريون على النحو المطلوب، وأنه لا داعي للقلق. وقد اتضح فيما بعد أن «العسكريين» لم يتخذوا في الواقع أي إجراءات للتخلُّص من الثغرة بأوامر من «أعلى». وهكذا، أصبح الموقف الآن على الجبهتَين لغير صالح العرب. فالمصريون لم يعد باستطاعتهم — حتى وإن أرادوا — تقديم أي دعم للجبهة السورية، حيث تمَّ إيقاف هجوم الإسرائيليين على مقربة من دمشق بصعوبة بالغة.
راح ألكسي كوسيجين ينظر باهتمام شديد من خلال نافذة السيارة إلى القاهرة في الليل، والتي من المُفترض أنها تعيش، إذا جاز التعبير، «حالة حرب». وقد لاحظ الإهمال في التعتيم على مصادر الإضاءة، كما شاهد عددًا كبيرًا من الشباب يتسكَّع، وغيابًا كاملًا، في رأیي، لِمَا يمكن أن نُسمِّيه «حالة حرب». كانت الحرب بالنسبة لكثير من المصريين البسطاء تبدو وكأنها تجري بعيدًا في مكان ما بالقرب من القناة، يُديرها عسكريون محترفون، أمَّا لماذا تدور وما هي أهدافها، فهو ما لا يعرف عنه المصري البسيط الأمي إلا قليلًا. لم تكن أسماء أبطال الحرب معروفة (وهؤلاء لم يكن عددهم بالقليل)، ولم تكن هناك إشارة واحدة في الصحافة أو الإذاعة والتليفزيون حول موقف الاتحاد السوفييتي (أبلغني السادات أن كل ذلك كان مُتعمَّدًا إخفاؤه «لأسباب أمنية»). يا لها من رُحَب غريبة!
اجتمع السادات وكوسيجين لتبادل الرأي على انفراد، وأحيانًا في حضور السفير السوفييتي ومستشار الرئيس للأمن القومي. وكان السادات يُعبِّر «ظاهريًّا» عن مشاعر الود، لكنه نفى بعناد حدوث أية تغييرات سلبية في الموقف العسكري وطلب «ضمانات» ما في حالة استمرار العمليات الحربية الإسرائيلية. ومرةً أخرى يعود ليصف الثغرة التي أحدثها الإسرائيليون ووصولهم إلى الضفة الغربية للقناة بأنها أمر تافه لا قيمة له، وأنها مُجرَّد «مناورة سياسية».
وبعد نقاش طويل مستفيض استهدف استيضاح الوضع السياسي المصري بدقة، أعلن السادات أنه قد وافق على وقف إطلاق النار، إذا ما قامت إسرائيل بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم ٢٤٢ الصادر في الثاني والعشرين من نوفمبر ١٩٦٧م الخاص بانسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي العربية المحتلة. وإلى أن يتم الانسحاب الإسرائيلي طلب السادات وضع قوات سوفييتية وأمريكية «عازلة»، من قبيل الضمان، بين القوات الإسرائيلية والمصرية، وأن يتم عقد مؤتمر دولي لتسوية مشكلة الشرق الأوسط (ومشكلة الفلسطينيين ومصير الضفة الغربية لنهر الأردن وقطاع غزة وغيرها من المشكلات).
بعد مغادرة كوسيجين القاهرة تلقَّينا أخبارًا أخرى مزعجة: لقد عبرت ما بين ٣٠ إلى ٤٠ دبابةً إسرائيلية إلى الضفة الغربية لقناة السويس، ثم تزايدت أعدادها إلى أن وصلت إلى ١٥٠ دبابةً احتلوا مطارًا عسكريًّا ميدانيًّا، وسرعان ما أقاموا رأس جسر وخاصةً نحو الجنوب، ودمَّروا نقطةً مهمة من شبكة الدفاع الجوي تُغطِّي الجيش المرابط في الضفة الشرقية للقناة دون مقاومة تُذكر. لم يتحرَّك الجيشان الثاني والثالث على الضفة الشرقية واللذان كان يتمركز في مؤخرتهما على الضفة الغربية الجيش الأول أيضًا.
في سياق مباحثاتي مع السادات والتي جرت يومَي ١٩ و٢٠ من أكتوبر سألته بإلحاح عن الثغرة، إذا كان الإسرائيليون قد بدءوا بالفعل في بناء جسر ترابي عبر القناة سرعان ما عبرته وحدات إسرائيلية جديدة إلى مصر، إلى أفريقيا، وهو ما أكَّدته الصور الجوية التي التُقطت. ما الذي ينوي الرئيس اتخاذه من إجراءات عسكرية وسياسية في هذا الصدد؟
تملَّص السادات من السؤال في ضجر، وقال: إن الثغرة التي فتحها الإسرائيليون لا تساوي شيئًا من وجهة النظر العسكرية، وإنما هي ذات مغزًى سیاسي وحسب (مرةً أخرى!) وعلى أصدقائنا السوفييت «ألَّا يشعروا بالقلق من ذلك، فالقيادة العسكرية المصرية تقوم باتخاذ الإجراءات اللازمة»!
انطلاقًا من هذا التصرُّف الغامض أصبح الأمر برمته أكثر وضوحًا؛ فالسادات قد عقد العزم على المُضي في أمور لا يُفصح عنها، وهي أمور تتناقض مع منطق تصرفاته الغامضة على المستويَين السياسي والعسكري؛ أي مع إعلانه أن مصر لا تزال تواصل تمسُّكها بمواقفها السابقة المناهضة للإمبريالية. وهو ما يعكس حدوث تغييرات جذرية؛ فها هو الرئيس يُضحِّي من أجلها بحياة الآلاف من الجنود والضباط المصريين.
في ليلة الحادي والعشرين من أكتوبر، وكان الجو حارًّا مشبعًا بالرطوبة، وفي حوالي الساعة الواحدة وخمس وأربعين دقيقة، أيقظني من نومي رنين الهاتف. طلب مني الرئيس سرعة التوجه إليه في قصر الطاهرة.
انطلقت في ليل القاهرة وبصحبتي ف. جوليزادي، وكُنَّا نتبادل الحديث بشأن ما يمكن أن يكون الرئيس قد أعَدَّه لنا هذه المرة. صادفنا في الطريق عددًا من طوابير السيارات العسكرية دُهنت مصابيحها باللون الأزرق، وعلى ضوء القمر كانت سيارات بيضاء تمرق كالأشباح وعلى أسطحها لمبات زرقاء دوَّارة. كانت سيارات إسعاف قادمةً من الجبهة مُحمَّلةً بالجرحى. كثير منهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة. من أجل ماذا؟
دلفنا إلى القصر الغارق في الظلام. اصطحبنا بعضهم إلى إحدى قاعات الاستقبال كما جرت العادة، وإنما إلى شرفة في الدور الأول لها درابزين من الرخام على جانبها بعض التماثيل. لم تكن هناك إضاءة في الشرفة على الإطلاق، بينما كان القمر يُلقي بضوئه على الجزء الأمامي من الشرفة المطل على حديقة صغيرة لتفرش أشعته الممرات الخالية بين الأشجار. وعلى الأرضية الرخامية شعاع آخر مائل من ضوء أخضر آتٍ من خلال باب مغلق إلا قليلًا.
كان السادات يجلس خلف منضدة صغيرة بالقرب من الدرابزين وإلى جواره جلس عبد الله عبد الفتاح وزير الإنتاج الحربي ممسكًا كعادته بدفتر كبير، وقد استعدَّ لتسجيل الحديث. أمَّا حافظ إسماعيل فقد وقف إلى جوار الدرابزين يُدخِّن بعصبية وقد أدار ظهره للحديقة.
لم يكن الرئيس مهتمًّا بمظهره، كان يرتدي سترةً عسكرية فاتحة اللون مكرمشة، كثيرة الثنيات وقد فتح ياقتها وترك زُرارَيها العلويَّين مفتوحَين، أمَّا ملامحه فكانت تشي بأنه يبذل جهدًا ليبدو متماسكًا بل وشديد الثقة بنفسه.
بدأ حديثه معي بالإنجليزية قائلًا: «عند منتصف الليل دعاني العسكريون إلى مركز القيادة وأبلغوني بالموقف وبعدها قرَّرت استدعاءكم على الفور.»
توقف برهةً ثم جذب نفسًا من غليونه وواصل حديثه: «أستطيع أن أُحارب إسرائيل، ولكني لا أستطيع محاربة الولايات المتحدة الأمريكية. مصر لا تستطيع مواجهة الولايات المتحدة.»
وكعادته عندما يتحدَّث بالإنجليزية، كان السادات ينطق بالكلمات على نحو واضح مستخدمًا التراكيب اللغوية السهلة. كان صوته في البداية معتدلًا، ثم إذا به يتحدَّث وقد غلب عليه التأثر الظاهري.
«لا أستطيع التغلُّب على هذا السيل المتدفِّق من الطائرات والدبابات الأمريكية. إننا نعمل على تدمير هذا الكم الهائل، ولكن، يبدو لي، أن هذا السيل لا ينتهي. بالأمس فقط دمَّرنا مائتَي دبابة، ولكن دبابات أخرى تظهر من جديد. إنني لا أستطيع مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية …»
ومرةً أخرى يجذب نفسًا من غليونه ويُطلق دخانه.
ثم أردف قائلًا: «أرجوكم أن تبلغوا موسكو فورًا بضرورة العمل على وقف إطلاق النار بأقصى سرعة ممكنة. إن لديكم علاقات مع الأمريكيين. أرجو أن تتصرَّفوا بأسرع ما يمكن.»
أمَّا حافظ إسماعيل فعاد للتدخين مُجدَّدًا بعصبية مبتعدًا قليلًا عن الدرابزين.
قلتُ للسادات بقدر ما استطعت من هدوء: «مفهوم» (يا لها من نهاية مفاجئة!) «أود أن أُكرِّر: أنتم تطلبون وقفًا فوريًّا لإطلاق النار بأقصى سرعة ممكنة مع بقاء القوات المتحاربة في مواقعها الحالية.»
أومأ السادات برأسه: «نعم.»
عدت أتحدَّث مُدقِّقًا: «وكيف ستتصرَّفون مع المجموعة الإسرائيلية التي تسلَّلت إلى الضفة الغربية للقناة؟ وهل ستبقى في مواقعها هناك؟»
أجاب السادات: «نعم، على الرغم من اعتبارها «متسلِّلة»، فإنه لم يعد هناك خيار آخر.»
أسرعتُ عائدًا إلى السفارة.
في تلك الليلة لم يغمض لي جفن بطبيعة الحال، وسرعان ما اضطُررت للانطلاق مرةً أخرى بعد ساعتَين عائدًا إلى الرئيس لتدقيق بعض القضايا حول موقف مصر المقبل، على الرغم من علمي أن الرئيس لا بد وأنه استغرق في النوم (!) أحسَّ الياور بالفزع من جرَّاء إصراري على إيقاظ الرئيس، ولكنه استجاب في النهاية لطلبي. استقبلني السادات مرتديًا «روب» فوق البيجامة في غرفة مجاورة لغرفة نومه. جلس مُتربِّعًا على الأريكة. كان وجهه مُتورِّدًا يفيض بالصحة، وكانت عيناه متألِّقتَين. ابتسم، ولم يكن هناك ما يشي بإدراكه لخطورة القرار التاريخي الذي اتخذه، ولا بالساعات الحاسمة التي تمر الآن، أو بالذين يُستشهدون. كان مظهره وكأنه يقول إن الحرب قد انتهت بالنسبة له.
بعد مُباحثات سوفييتية أمريكية مُعقَّدة، حاول فيها الأمريكيون أن يُطيلوها عن عمد حتى يعطوا الفرصة للقوات الإسرائيلية أن تتوغَّل أكثر في الأراضي المصرية، ومن ثم وضع مصر في موقف أكثر صعوبة. صدر في الثاني والعشرين من أكتوبر قرار مجلس الأمن رقم ٣٣٨ بشأن وقف إطلاق النار في خلال مدة لا تتجاوز ١٢ ساعة (كان كيسينجر يُصِر أثناء المباحثات على أن يتم إقرار وقف إطلاق النار خلال ٤٨ ساعة، خفضها نتيجة إصرارنا إلى ٢٤ ساعة، ثم وافق في النهاية على أن تكون ١٢ ساعة). وقد تضمَّن القرار أيضًا الدعوة إلى ضرورة الإسراع الفعلي لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم ٢٤٢، وتقرَّر إجراء مباحثات لإقرار السلام في الشرق الأوسط. وطوال فترة المباحثات كنتُ على اتصال دائم بالسادات، الذي أعرب عن رضائه التام بنتائجها.
إنني أود هنا أن أُذكِّر بهذه الأحداث من حرب أكتوبر حتى أكشف الأكاذيب التي راح السادات وعدد من المُقرَّبين منه في ترويجها في وقت لاحق حول موقف الاتحاد السوفييتي. لقد راح هؤلاء يُؤكِّدون أن الاتحاد السوفييتي لم يُقدِّم أي مساعدة لمصر، وإنه كان «يضغط» عليها ليضطرَّها لوقف العمليات العسكرية «الناجحة»، و«فرض» موقف إطلاق النار عن طريق اتخاذ مجلس الأمن قرار رقم ٣٣٨، الذي «أضاع» على مصر انتصارها.
والآن لنعد إلى لحظة اتخاذ القرار رقم ٣٣٨، الداعي لوقف إطلاق النار. لقد قرَّر الإسرائيليون، كما اتضح، بمباركة الأمريكيين أن يضربوا عرض الحائط بهذا القرار، واستمرَّ تدفُّق قواتهم إلى الضفة الغربية، وخاصةً باتجاه الجنوب، حيث نجحوا في اختراق الجيش المصري الثالث الذي يزيد قوامه على أربعين ألف فرد على الضفة الشرقية. وهنا ازداد الوضع العسكري والسياسي تأزمًا، وأعلنت إسرائيل تحديها للعالم بأسره.
في الثالث والعشرين من أكتوبر اتصل بي السادات تليفونيًّا مرتَين يطلب رسميًّا سرعة «تدخُّل القوات السوفييتية عسكريًّا» حتى يُجبر إسرائيل على تنفيذ قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار.
أدَّت المُباحثات الصعبة بين موسكو وواشنطن إلى قيام مجلس الأمن في الرابع والعشرين من أكتوبر بإصدار القرار رقم ٣٣٩، والذي يُطالب بسرعة وقف إطلاق النار وعودة القوات المتحاربة إلى خطوط ٢٢ أكتوبر. كان قرارًا مهمًّا للغاية. ومع ذلك فقد استمرَّ الإسرائيليون في تجاهلهم له حتى وصلت وحداتهم المتقدِّمة إلى حدود مدينة السويس. ومرةً أخرى يعود الرئيس ليؤكِّد في حديث تليفوني معي أنه يصر رسميًّا مرةً أخرى على أن يقوم الاتحاد السوفييتي هذه الليلة بإرسال قواته أو مراقبيه. كما توجَّه بنفس الطلب إلى نيكسون. وقد بثَّت إذاعة القاهرة هذَين الطلبَين صراحة.
وفي سياق المباحثات المُكثَّفة التي دارت بين موسكو وواشنطن، كما اتضح من المواد المنشورة مُؤخَّرًا، تحايل الأمريكيون في إعطاء ردود واضحة مستخدمين في ذلك شتَّى الحجج، بينما أظهر السادات نفاد صبره ووصف الأمريكيين بالكذابين بعد أن تبيَّن له على نحو واضح أنهم تلاعبوا به، أو راحوا «يعاقبون» مصر على العمليات العسكرية الناجحة للغاية التي قام بها جيشها. ومرةً ثالثة وبعد أن حاصرت القوات الإسرائيلية مدينة السويس تمامًا واتخذت موقعًا جنوب هذا الميناء المهم، يتوجَّه السادات إلى الاتحاد السوفييتي بطلب إرسال قوات سوفييتية أمريكية مشتركة عاجلة لتأمين تنفيذ قرارات مجلس الأمن، وفي حالة رفض الولايات المتحدة الأمريكية التدخُّل، فإن الرئيس يطلب من الاتحاد السوفييتي العمل منفردًا.
كان الوضع حرجًا للغاية. وقد أعلن الجانب السوفييتي بشكل واضح وقاطع للإدارة الأمريكية عن استعداد الاتحاد السوفييتي تنفيذ طلب مصر فورًا. ومن الواضح أن واشنطن وتل أبيب أدركتا أن الاتحاد السوفييتي لا يهزل في مثل هذه المواقف. وبعد هذا الإعلان الحازم قام الإسرائيليون على الفور بوقف عملياتهم العسكرية. وهكذا قدَّم الاتحاد السوفييتي مرةً أخرى مساعدةً لا تُقدَّر بثمن لمصر لتضع الحرب أوزارها.
ولكي تُغطِّي الولايات المتحدة على فشلها أعلنت، بعد فوات الأوان، حالة التأهُّب القصوى في جميع قواعدها العسكرية في الخارج دون التشاور أو حتى إحاطة حكومات الدول التي أُقيمت على أراضيها هذه القواعد علمًا. وفي لقائي به في الخامس والعشرين من أكتوبر سخر السادات من هذا التصرُّف الذي قام به الأمريكيون واعتبره نوعًا من الابتزاز. قليلون — سواء في مصر أو في غيرها من الدول — هم الذين أخذوا هذا «التأهُّب» مأخذ الجد. وعلى ضوء الحقائق فإن تأكيدات كيسينجر الدرامية المتكلفة التي قصد بها أن حالة «التأهُّب القصوى» هذه هي التي أجبرت السوفييت على «التراجع» لم تعنِ لأحد شيئًا. عن أي تراجع يتحدَّث؟ لا نعرف؛ فنحن، كما هو معروف، لم نتراجع إلى أي مكان. فيما بعد جاء كيسينجر إلى القاهرة عدة مرات، وفي أحد لقاءاتنا سألته: على أي أساس أعلنتم «حالة التأهُّب» في القواعد الأمريكية في الخارج، بينما لم يكن هناك من يُهدِّد الولايات المتحدة الأمريكية وقد ضحك الناس هنا في القاهرة على هذه الخطوة؟ فأجاب كیسینجر في تثاقل: «لقد فقد نيكسون أعصابه آنذاك.»
في السابع والعشرين من أكتوبر أبلغني حافظ إسماعيل بأن وزير الخارجية الأمریكي كیسینجر بعث إليه برسالة يدعو فيها مصر لزيارة الولايات المتحدة الأمريكية. على هذا النحو بدأت الولايات المتحدة دون مواربة في فرض دورها بوصفها وسيطًا. وكان إبلاغي بهذه المعلومات یعني بشكل واضح معرفة رد فعل الاتحاد السوفييتي تجاهها.
قلتُ لحافظ إسماعيل: إذا كانت مصر ستتخلَّى في المستقبل عن الاعتماد على الاتفاق السوفييتي-الأمريكي بشأن ضمان وقف إطلاق النار، فإن موقف مصر سيُصبح ضعيفًا بدرجة كبيرة؛ فالولايات المتحدة ملتزمة أمام الاتحاد السوفييتي وليس أمام مصر. ولسبب ما راح حافظ إسماعيل يُؤكِّد بحرارة على ضرورة منع محاولات الأمريكيين أن يُصبحوا وسطاء بين مصر وإسرائيل.
في هذا الوقت تحديدًا أرسل السادات إلى واشنطن على وجه السرعة إسماعيل فهمي، الذي جرى تعيينه توًّا قائمًا بأعمال وزير الخارجية، ولم يكن وزير الخارجية المصري محمد حسن الزيات، الموجود في الولايات المتحدة آنذاك، قد غادر منصبه بعد! كان من الواضح أن «الدبلوماسية المزدوجة» التي بدأ السادات في انتهاجها قد راحت تتعاظم في هذه الفترة. وبالطبع لم يكن ليفكِّر في الدخول في العديد من التفاصيل، التي من بينها وجود وزيرَين للخارجية في وقت واحد!
في الأيام الأولى من شهر نوفمبر وصل إلى القاهرة ف. كوزنيتسوف، النائب الأول الأسبق لوزير خارجية الاتحاد السوفييتي في زيارة تستهدف التشاور بشأن الدعوة لعقد المؤتمر الدولي للشرق الأوسط. وقد أكَّد السادات أكثر من مرة على ضرورة قيام مصر بالتنسيق مع الاتحاد السوفييتي في هذا الشأن، وأعرب عن رغبة بلاده في مشاركة ممثلي الدولتَين العُظميَين — الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة — في كل مستويات المباحثات المنتظرة. وهكذا أعلن السادات، قولًا، ضرورة وجود الاتحاد السوفييتي في هذه العملية.
أمَّا ما حدث فعلًا؛ فقد ظلت مباحثات إسماعيل فهمي في واشنطن طي الكتمان.
وفجأةً يُذاع الخبر التالي: إلى القاهرة يصل كيسينجر في السابع من نوفمبر! وفي نفس اليوم يلتقي السادات بكيسينجر مرتَين على انفراد، وفي المساء تُعلن إذاعة القاهرة نبأ التوصُّل إلى اتفاق بشأن إعادة العلاقات الدبلوماسية بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية. هل هذه إذن مُحصِّلة الحرب؟! هل هذا هو ثمن حياة آلاف المصريين والسوريين والإسرائيليين الذين سقطوا في المعارك من أجل المناورات السياسية للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط؟!
وفي نفس اليوم أقام إسماعيل فهمي مأدبة غداء تكريمًا لكيسينجر حضرها كل أعضاء الحكومة المصرية تقريبًا. كما دعا فهمي أيضًا سفراء كل من الاتحاد السوفييتي وإسبانيا (التي كانت ترعى مصالح الولايات المتحدة) وبريطانيا وفرنسا ومحمد حسنين هيكل. الحقيقة لم تكن لديَّ الرغبة في الذهاب إلى هذا الغداء، على الرغم من أن الأمريكيين أبلغوني أن كيسينجر يود التحدث معي؛ فقد تعامل المصريون معنا في الأيام الأخيرة بصلف وعلى نحو عدائي بما فيهم إسماعيل فهمي نفسه.
لهذا السبب كنتُ آخر من حضر إلى الحفل. وعندما دخلت إلى القاعة الصغيرة في شقة إسماعيل فهمي، رأيت الضيوف واقفين بجوار الجدران وقد علا الملل وجوههم وبأيديهم كئوس الويسكي وقد أصبح دافئًا من طول الانتظار. في وسط هذه القاعة الصغيرة وقف كیسینجر وقد راح يتبادل الحديث مع السفير الإسباني في فتور. قدَّموني إلى كيسينجر فإذا به ينتعش وتدب فيه الحيوية، وبعد عبارات الترحيب أبدى اهتمامه بتقديري للوضع في منطقة الشرق الأوسط.
أجبته بأنه، وعلى الرغم من وقف إطلاق النار، فإن الوضع لا يزال مُعقَّدًا وقابلًا للانفجار، ومن ثم فإن من الضروري اتخاذ إجراءات عاجلة وأخرى على المدى الطويل. أمَّا الآن فمن الحتمي أن تتوقَّف إسرائيل عن ادعاء «البلاهة»، مُؤكِّدًا على أن «أحدًا لا يعرف مواقع القوات المتحاربة في الثاني والعشرين من أكتوبر؛ أي إلى أين يجب أن تنسحب القوات الإسرائيلية طبقًا لقرارَي مجلس الأمن رقمَي ٣٣٨ و٣٣٩. وهذه الحدود يمكن تحديدها بدقة على الخريطة. وعندما يسحب الإسرائيليون قواتهم إلى حيث كانت يوم الثاني والعشرين من أكتوبر، عندئذٍ تنتهي تلقائيًّا مشكلة إمداد الجيش الثالث المصري والسويس. وينبغي أن يتم ذلك على وجه السرعة.
أمَّا عن الخطة الطويلة المدى، فالفرصة مهيأة الآن لبذل كل الجهود من أجل تسوية شاملة حقيقية لمشكلة الشرق الأوسط برمتها.»
سألني كيسينجر باهتمام بالغ: «ولماذا تعتبرون أن الآن تحديدًا هو الوقت الأنسب لبذل الجهود للتسوية الشاملة في الشرق الأوسط؟»
- (١)
لقد باتت إسرائيل مقتنعةً أن مقولة «جيش إسرائيلي لا يُهزَم» هي مُجرَّد خرافة، وأنه جيش يمكن هزيمته. ولهذا فإن على القيادة الإسرائيلية أن تُغيِّر من نهجها، إذا كانت مهتمةً بمصير شعبها ومستقبلها. لقد أصبح واضحًا للجميع أن العرب لن يستسلموا مطلقًا، وهو ما تُقيم إسرائيل حساباتها عليه. قد يفشل العرب ولكنهم لن يستسلموا. وقد بات الأمر واضحًا لإسرائيل.
- (٢)
لقد أدرك العرب أنهم أقوياء وهو ما يُعطيهم الآن إمكانية الدخول في مفاوضات سياسية، بعد أن كانوا في السابق لا يملكون مُبرِّرًا.
- (٣)
لقد استعاد العرب وحدتهم، التي لم تكن موجودةً من قبل، وأكبر دليل على ذلك هو قرارهم بحظر تصدير النفط إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها.
- (٤)
في الواقع فإن الرأي العام العالمي يقف الآن إلى جانب العرب ولا أحد يتهمهم بالعدوان على إسرائيل، على الرغم من أنهم هم الذين بدءوا بالعمليات الحربية الواسعة.
- (٥)
إن طابع العلاقات الحالي بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة يسمح لنا، على الرغم من وجود خلافات في وجهات النظر، بمناقشة أية قضايا مطروحة والتعاون بدلًا من المواجهة.
وفي الختام قلت له: إن كل هذه العوامل المؤثرة إيجابًا ذات طابع مؤقت وقد يطرأ عليها، أو على بعضها، بمرور الوقت، تغيير يُفقدها أهميتها؛ ولهذا يُصبح عنصر الوقت عنصرًا حاسمًا. لا يزال من الممكن تسوية مشكلة الشرق الأوسط على نحو عادل للجميع، إذا ما أخذنا على عاتقنا بشرف حلها، وإلا فسوف تنشب الحرب من جديد.
كان عليَّ أن أُجيبه هنا بحِدَّة مُذكِّرًا إياه بأن ذلك ليس من شيمتنا، وإنما هي الولايات المتحدة الأمريكية تحديدًا، التي تؤازر المعتدي، بينما نقوم نحن علنًا بمساندة قضية عادلة وهي إعادة أراضٍ احتلَّها المعتدون.
وعندها أسرع إسماعيل فهمي يدعو الجميع إلى المائدة.
وفي اليوم التالي نشرت الصحف عددًا من عناصر الاتفاق التي تمَّ التوصُّل إليها بين السادات وكيسينجر، وخاصةً ما يتعلَّق منها بانسحاب القوات الإسرائيلية إلى مواقع الثاني والعشرين من أكتوبر وذلك في إطار «اتفاق شامل» حول «فك الاشتباك» بين القوات المصرية والإسرائيلية. ولم يكن هناك ثمة شيء جديد في ذلك؛ فبدلًا من تنفيذ قرار سحب القوات دون قيد أو شرط، تمَّ الاتفاق على مفاوضات في إطار اتفاق ما حول «فك الاشتباك». وبذلك دخلت المفاوضات بل والتسوية أيضًا في طريق موحل ملتوٍ، إلى هاوية لا يسبر غورها.
لم يُبلغنا المصريون بشيء عن جوهر هذا الاتفاق. وبعد مرور أربعة أيام بعدما نشرته الصحف المصرية لبعض ما تضمَّنه الاتفاق في هذا الشأن، دعاني إسماعيل فهمي وقدَّم لي ورقةً تحتوي على نفس ما نشرته الصحف. تناولتها وبعد أن قرأتها، قلتُ له دون اهتمام: إنني علمت بكل ذلك منذ فترة بعيدة من الصحف. وقد استشاط فهمي غضبًا من ردي.
بدأت المفاوضات الصعبة الخاصة بالإعداد الفعلي لمؤتمر السلام العالمي، التي دارت حلقاتها بين موسكو وواشنطن ونيويورك والقاهرة ودمشق وتل أبيب. وكان عليَّ في هذه المدة أن أُواصل الاتصالات بشكل مستمر، ليس فقط مع إسماعيل فهمي، وإنما مع السفير الأمريكي لدى القاهرة هيومان إيلتس الذي وصل إلى العاصمة المصرية على وجه السرعة. وذات يوم من أيام ديسمبر هاتفني إيلتس قائلًا: إن كيسينجر سيصل مرةً أخرى إلى القاهرة وهو يود أن يلتقي بكم سواء عند وصوله إلى المطار أو عند مغادرته.
كانت اللعبة مكشوفة؛ فوزير الخارجية الأمريكي يُريد أن يخلق انطباعًا مفاده أن السفير السوفييتي يستقبل كیسینجر أو يودِّعه في المطار.
أجبت إيلتس أن «فرصة» لقائي بوزير الخارجية لا تناسبني، لا من حيث المضمون ولا من حيث الشكل. فما الذي يمكن مناقشته بجدية في المطار؟ إن كيسينجر قادم لزيارة الحكومة المصرية، فما علاقة السفير السوفييتي بلقائه أو تودیعه. ارتبك إيلتس وأجاب قائلًا: إنه هو نفسه قد أدرك مدى ما في هذا الاقتراح من فجاجة، وأنه سوف يسعی للاتصال بكيسينجر مرةً أخرى والاتفاق معه على مكان ما آخر. وبعد أربع ساعات أخبرني إيلتس أن كيسينجر يقترح أن نلتقي في مقر إقامته في فندق «هيلتون» على أن يتم اللقاء عند منتصف الليل تقريبًا بعد انتهاء مباحثاته مع السادات. أجبت بالموافقة فلا فرق عند الدبلوماسيين بين ساعات الليل أو النهار.
في تلك الفترة، راحت وسائل الإعلام في كل مكان تكيل آيات المديح والثناء لكيسينجر على وساطته الناجحة، بل إنها عقدت مقارنةً بينه وبين ميتيرنيخ. ويبدو أن ذلك أعجبه، وأن اللقاء مع السفير الروسي قد تمَّ إعداده لمجرَّد الاستعراض، وكرسالة للصحافة لخلق انطباع بأن هناك «عملًا مشتركًا».
في لقائي معه، لم يذكر كيسينجر شيئًا عن مباحثاته مع المصريين. لم يُقلِع «ميتيرنيخ زماننا» عن عادته غير الدبلوماسية في تسليك أسنانه بإصبعه بعد تناول الطعام، وانهمك في التحدُّث بشكل عام حول ضرورة التعاون السوفييتي الأمريكي في الشرق الأوسط والتنسيق طبقًا للاتفاقات، وهلم جرًّا. انتظرت حتى انتهى من حديثه ليمسح إصبعه ثم سألته: كيف يمكن الجمع بين هذه الأفكار الصحيحة واستبدال «اتفاق الكيلو ١٠١»، الذي أعطى عمليًّا إسرائيل حل كل القضايا من جانب واحد، بقرارات الأمم المتحدة التي جرى إعدادها بالتشاور بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة خاصةً القرارَين ٣٣٨ و٣٣٩. أين التعاون هنا مع الاتحاد السوفييتي؟ وأين أهميته التي تحدَّث عنها للتو وزير الخارجية؟ وعمومًا ما «اتفاق الكيلو ١٠١» هذا؟
توقَّف كيسينجر عن لعق إصبعه ونظر باهتمام إلي، ثم راح يتبادل النظر مع مساعده سيسكو الذي كان حاضرًا اللقاء ثم .. قال مراوغًا وهو يشير بيده: «كل هذا من ابتكار سیسكو .. اسأله هو، أمَّا أنا فلا أفقه في هذه الأمور شيئًا.» وهنا أغمض سيسكو عينَيه من فرط السرور.
كان عليَّ أن أعمل ليل نهار في الأيام التي تلت زيارة كيسينجر في الشرق الأوسط، والذي تقرَّر أن يُشارك فيه ممثِّلون عن الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، وقد تمَّ اختیاري رئیسًا لوفد الاتحاد السوفييتي.
٤
لم تكن الدعوة لعقد مؤتمر للسلام في الشرق الأوسط بالأمر الهين. وقد اكتسب كل موضوع من موضوعات المؤتمر: المباحثات، المشاركون، جدول أعمال المؤتمر وتوقيتاته مغزًی سیاسیًّا مهمًّا ومحدَّدًا تمامًا. وكانت القضايا المزمع مناقشتها في المؤتمر قد تمَّ إعدادها في سياق المفاوضات التي جرت بين موسكو وواشنطن بمشاركة الأمين العام للأمم المتحدة، وبعدها تمَّ عرض الاتفاق الذي تمَّ التوصُّل إليه على القاهرة للتنسيق مع المصريين. وفي هذا المجال كان على السفيرَين السوفييتي والأمريكي أن يعرضا موقفهما المشترك على وزير الخارجية المصري إسماعيل فهمي، وبعدها يدافعان، بطبيعة الحال، عن هذا الموقف المشترك، على الرغم من أنه يُعَد نتيجةً للحل الوسط الذي توصَّل إليه الجانبان السوفييتي والأمريكي.
كثيرًا ما كان الجانب الأمريكي يقوم بإبلاغ الجانب المصري بآراء لم يتم الاتفاق عليها بناءً على المفاوضات السوفييتية الأمريكية، وإنما بالصيغة الأولية التي طُرحت علينا في موسكو أو واشنطن والتي كنا نرفضها. كان المصريون يوافقون الأمريكيين، عندما كان هؤلاء يطرحون علينا إعادة النظر في الموقف الذي تمَّت الموافقة عليه بزعم أنها «طلبات» المصريين. كان علينا أن نفضح هذه الألاعيب الأمريكية. لا يطيب لي هنا أن أذكر أن وزير الخارجية الجديد كان يعلِّق في بيته صورةً فوتوغرافية كبيرة له مع نیكسون في البيت الأبيض، ويبدو فيها راضيًا عن نفسه كل الرضا، بعد أن تعاون بشكل واضح مع الأمريكيين، وليس معنا، في الإعداد للمؤتمر. وكان خنوعه لهم بلا حدود. كم كان الأمر مختلفًا عندما كانت العمليات الحربية لا تزال مشتعلةً منذ فترة غير بعيدة!
كان موقف المصريين مدهشًا، عندما بدأ الحديث عن مشاركة الفلسطينيين في المؤتمر. ومن المعروف أن مصير الشعب العربي الفلسطيني، الذي فقد وطنه قسرًا، هو جوهر الصراع في الشرق الأوسط. وقد سمعت من العرب مقولةً تقول: «لا يمكن للعرب أن يحاربوا بدون مصر، ولا يمكن للسلام أن يسود بدون الفلسطينيين.» كان الاتحاد السوفييتي ينطلق دائمًا من أن الفلسطينيين ينبغي حتمًا أن يشاركوا في المؤتمر. أمَّا إسرائيل فكانت تتعمَّد أن تغلق عينَيها عن رؤية وجود الشعب العربي الفلسطيني. وبطبيعة الحال كانت تعارض مشاركته في المؤتمر، بينما راحت الولايات المتحدة الأمريكية تؤيِّدها في هذا الصدد. لم تكن الدول العربية حتى هذا الوقت قد اتخذت قرارًا بشأن مشاركة منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثِّل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. وقد أُشير في الوثيقة التي جاءت نتيجةً للمفاوضات إلى ضرورة إشراك ممثِّلي الشعب الفلسطيني في المؤتمر في الوقت المناسب. كان المصريون يشاركوننا الرأي في الموافقة، إلا أنهم بدءوا، تحت ضغط الولايات المتحدة الأمريكية، في المطالبة بصيغة أخرى اتفقوا بشأنها، كما أخبرونا، مع الأمريكيين: «مسألة وقت. مشاركة الفلسطينيين في المؤتمر سوف يتم دراستها في المرحلة الأولى من أعمال المؤتمر.» وقد قَبِل الفلسطينيون هذه الصيغة، ومن ثم قبلناها نحن أيضًا، وهو ما أثار قلق الأمريكيين.
ذات يوم دعاني إسماعيل فهمي للقائه، وعندما ذهبت إليه وجدت السفير الأمريكي إيلتس قد سبقني إليه. كان أمرًا خاليًا تمامًا من اللياقة من جانب إسماعيل فهمي الذي لم يخبرني بذلك، والأهم أنه لم يطلب مني مسبقًا موافقتي على هذا اللقاء الثلاثي.
ناولني إسماعيل فهمي ورقةً نُسخ نصُّها على آلة كاتبة، كما لاحظت، في السفارة الأمريكية، بعد أن قال لي إن هذه هي الصيغة الجديدة التي وافقت عليها الولايات المتحدة الأمريكية. قرأت الورقة وكانت تتضمَّن «أن مسألة مشاركة الفلسطينيين سوف يتم مناقشتها في المرحلة الأولى من أعمال المؤتمر.» كانت صيغةً مختلفة، محتوًى آخر، أغنيةً أخرى. كانت الصياغات القديمة تتحدَّث عن مشاركة الفلسطينيين، كحقيقة واقعة لا يتطرَّق إليها الشك. أمَّا الصيغة الجديدة فكانت مبهمةً تمامًا، لا يُعرَف منها هل سيكون للفلسطينيين الحق في المشاركة أم لا (فيما بعد ظهرت صيغة أخرى أقل تمييزًا، لم يُذكر فيها الفلسطينيون عمومًا: «مسألة مشاركة ممثِّلين عن بُلدان المنطقة سوف تُبحث في المرحلة الأولى من أعمال المؤتمر»).
قلت لفهمي إن الصيغة الجديدة تُغيِّر جوهر القضية، وإنني لا أستطيع الموافقة عليها. وأكَّدت له أن من الضروري، أولًا وقبل كل شيء، أن أعرف رأي الفلسطينيين فيها.
راح إسماعيل فهمي يؤكِّد بحماس أنه اتفق شخصيًّا مع الفلسطينيين بشأنها ومع المشاركين الآخرين في المؤتمر. كانت هذه هي المسألة الأخيرة التي تأخَّر بسببها إرسال الدعوة الرسمية للدول المشاركة في المؤتمر (فيما بعدُ أخبرني الفلسطينيون أن المصريين لم يعقدوا معهم أي اتفاق).
كان من المقرَّر أن يُعقد المؤتمر في الحادي والعشرين من ديسمبر عام ١٩٧٣م في قصر الأمم بجينيف، وقد تمَّت دعوة الدول المشاركة في الصراع: مصر، سوريا، الأردن، إسرائيل، ورأَس المؤتمر كلٌّ من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، وعُقِد تحت رعاية منظمة الأمم المتحدة التي ساعدت في تنظيمه وتمويله.
فوجئتُ عشية مغادرتي للقاهرة بخبر امتناع سوريا عن المشاركة في المؤتمر، وذلك بعد زيارة كيسينجر مباشرةً لدمشق. وقد تعامل إسماعيل فهمي مع هذا الخبر بلا مبالاة. كثيرًا ما تراودني فكرة كيف أمكن أن يحدث ذلك، وفي هذا السياق أتساءل لماذا راح كیسینجر يردِّد مرارًا (على مسامع نفس الأشخاص على نحو ساخر)، كيف أن الرئيس الأسد أخبره فجأةً أثناء حديثه معه أن سوريا، ودون إبداء الأسباب، لن تشارك في المؤتمر. كما أن كيسينجر نفسه لم يوضِّح موقفه من هذا الأمر، وإن لم يلقِ باللوم على أية حال على السوريين، وكان واضحًا أنه سعيد بذلك.
في التاسع عشر من ديسمبر سافرنا من القاهرة إلى جينيف على طائرة شركة مصر للطيران بدعوةٍ من إسماعيل فهمي بصحبة الوفد المصري كاملًا، بالإضافة إلى مجموعة من المراسلين الأجانب المُعتَمَدين.
شد انتباهنا في مطار جينيف ما رأيناه من إجراءات أمنية صارمة شملت دوريات عسكرية ومئات من أفراد الشرطة مُسلَّحين بالرشاشات، فضلًا عن وجود الاستحكامات حول المطار والتصاريح الخاصة. وفي نفس هذا اليوم وصل إلى جينيف وزير خارجية الاتحاد السوفييتي أندريه جروميكو. وبعده وصل الأمين العام للأمم المتحدة كورت فالدهايم، ثم وزير الخارجية الأمريكي هنري كیسینجر ووزير خارجية إسرائيل أبا إيبان ورئيس وزراء الأردن زيد الرفاعي.
في مساء اليوم التالي، التقيت كيسينجر الذي أفاد بأن لديه «خطة» لخَّصها على النحو التالي: حيث إن انتخابات الكنيست ستجري في إسرائيل في الحادي والثلاثين من ديسمبر، فسيكون من «الصعب» على الإسرائيليين الدخول في مفاوضات قُبيل تشكيل الحكومة الجديدة، ومن ثم يمكن افتتاح أعمال المؤتمر في الحادي والعشرين من ديسمبر ثم يتفرَّق الجميع عائدين إلى بلادهم، على أن يعود رؤساء المؤتمر المشاركون (السفيران فينوجرادوف والأمریكي بانكر) إلى جينيف في السابع من يناير، وعندئذٍ يمكن العودة لأعمال المؤتمر في الخامس عشر من يناير.
اعترض أندريه جروميكو على كيسينجر قائلًا إننا اجتمعنا في جينيف لا للاحتفال وإنما للعمل. ينبغي على المؤتمر ألَّا يقطع أعماله، وإنما عليه أن يواصلها، فإذا لم يحدث ذلك على مستوى الجلسات العامة، فليكن على مستوى مجموعات العمل. باختصار، على المؤتمر أن يواصل العمل سياسيًّا وقانونيًّا. ومع هذا لم يوافق كیسینجر. وقد اتضح فيما بعد أن الأمر كله كان حيلة.
جاء الحادي والعشرون من ديسمبر، موعد افتتاح المؤتمر، يومًا تاريخيًّا. للمرة الأولى يجتمع مُمثِّلو هذه البلاد في مؤتمر واحد، مؤتمر بإمكانه أن يحمل السلام إلى الشرق الأوسط، وهو ما كُنَّا نتمناه بشدة. كان الوضع مُبشِّرًا أكثر من أي وقت مضى. ها هم العرب والإسرائيليون يلتقون معًا أخيرًا خلف طاولة المفاوضات، على الرغم من أن لدى كل منهما وجهةَ نظر تختلف عن الآخر. لكنَّ هذه الصعوبة يمكن التغلُّب عليها من ناحية المبدأ إذا وُجدت الرغبة في تحقيق السلام، وإذا صدقت النية في تقديم الدعم لتحقيقها، وهي إحدى المهام التي تقع على عاتق الدولتَين العظميَين، والتي ترتفع إلى مستوى المسئولية التاريخية الكبرى. تُرى هل يفكِّر المشاركون في المؤتمر جميعهم على هذا النحو الذي يفكِّر به ممثِّلو الاتحاد السوفييتي؟ هل يُريد الجميع الوصول في نهاية المؤتمر إلى سلام عادل؟
وصل كورت فالدهايم قبل افتتاح المؤتمر. تناقشنا معه بخصوص ترتیب جلوس المشاركين حول طاولة المفاوضات في قاعة الاجتماعات، واتفقنا على طريقتَين؛ الأولى وتخضع للتسلسل الأبجدي، فيجلس الأمين العام للأمم المتحدة في المنتصف وعلى يمينه الاتحاد السوفييتي، وعلى يساره الولايات المتحدة، ومن عندها في اتجاه عقارب الساعة سوريا، إسرائيل، الأردن، مصر. أمَّا الطريقة الثانية فسياسية وفي اتجاه عقارب الساعة أيضًا، فيلي الولاياتِ المتحدة إسرائيل، الأردن، سوريا ثم مصر.
اعتلى الحراس سطح قصر الأمم، بينما ضجَّت القاعة بأصوات الصحفيين الذين يمثِّلون كل الدول. كان الإرسال من هنا مباشرًا إلى كل أنحاء العالم، حيث يشاهده الناس في القاهرة وتل أبيب، في موسكو وواشنطن، في دمشق وعمان، في بيروت ولندن، في باريس وطوكيو. في كل مكان تقريبًا كان الجميع بانتظار لحظة افتتاح المؤتمر.
وفجأةً دخل فالدهايم إلى الغرفة المخصَّصة للوفد السوفييتي. كانت لديه مشكلة في ترتيب جلوس المشاركين؛ فالأردنيون يرفضون الجلوس إلى جانب الإسرائيليين، ومن ناحية أخرى سوف تكون هناك أماكن شاغرة كانت مخصَّصةً للسوريين الذين رفضوا الحضور. وعند تطبيق الطريقة الثانية رفض الإسرائيليون أن تكون الأماكن التي بجوارهم شاغرة. وهنا اقترح فالدهايم «أن تجلس إسرائيل إلى جانب الأمين العام للأمم المتحدة ثم وباتجاه عقارب الساعة، يجلس الاتحاد السوفييتي ثم سوريا والأردن والولايات المتحدة ومصر». كانت هذه في الواقع رغبة الأمريكيين.
أجاب أندريه جروميكو قائلًا: «لسنا أطفالًا. موافقون. وأضاف ساخرًا: على أن نستبدل أماكن الرؤساء المشاركين.»
على هذا الأساس اتخذ المشاركون أماكنهم على النحو التالي؛ الأمين العام للأمم المتحدة، إسرائيل، الولايات المتحدة الأمريكية، سوريا، الأردن، الاتحاد السوفييتي، مصر. وافق فالدهايم بسرور ثم غادر الحجرة مسرعًا. لم تمضِ بضع دقائق وإذا بكيسينجر يدخل إلى غرفتنا مضطربًا ممتقع الوجه، وخلفه مباشرةً دخل فالدهایم. تقدَّم كیسینجر ممسكًا بورقة توزيع الأماكن متوجِّهًا بالحديث إلى أندريه جرومیكو بصوت غليظ متهدِّج قليلًا: إن الولايات المتحدة ترجو بشدة من الوفد السوفييتي أن يتبادل مقاعده مع الوفد الأمريكي، وإلا سيصبح هذا الجانب إسرائيليًّا بحتًا (إسرائيل، الولايات المتحدة). كانت عينا وزير الخارجية الأمريكي مليئةً بالتوسل وكأن أمرًا جللًا سوف يقع.
تعمَّد أندريه جروميكو أن يتحدَّث بصوت يسمعه الجميع، وإن بدا واضحًا أنه يمزح قائلًا: «إنني أطلب من الأمين العام للأمم المتحدة تسجيل رفض الولايات المتحدة الأمريكية الجلوس بجانب الإسرائيليين.»
انفجر الجميع في القاعة ضاحكين، ثم أضاف أندريه جرومیكو قائلًا وقد راح الجميع يصفِّقون: «الأمر بالنسبة لنا سیان؛ فقد جئنا إلى هنا للعمل لا للعب.» راح فالدهايم يجفِّف عرقه، بينما علت الحمرة وجه كيسينجر الذي ابتسم بصعوبة متوجِّهًا بالشكر إلى جروميكو.
توجَّهنا جميعًا إلى قاعة الاجتماعات. كان اليوم يوافق بلوغ فالدهايم الخامسة والخمسين من العمر. وفي كلمته قال الأمين العام: «يا لها من مصادفة! هل سيصبح هذا اليوم يومًا تاريخيًّا نبدأ فيه بناء السلام في الشرق الأوسط؟» دخل الجميع إلى القاعة وقد أضاءها هنا وهناك وميض لمبات آلات التصوير والمصابيح المصاحبة لكاميرات السينما والتليفزيون.
اتخذت الوفود أماكنها. كان لكل وفد مائدة تتسع لثلاثة أشخاص ومقعدان في الخلف للمستشارين. أمامنا جلس الوفد الأمريكي وعن يميننا الوفد الإسرائيلي، وعلى يسارنا الوفد السوري.
ألقى فالدهايم كلمةً موجزة حيَّا فيها الحضور، ثم تبعه أندريه جروميكو.
تضمَّن خطاب وزير الخارجية السوفييتي تقديرًا موضوعيًّا للموقف في الشرق الأوسط دعا فيه إلى إيجاد حل عادل للمشكلات التي تراكمت في المنطقة. كان لخطابه أثر إيجابي؛ حيث أعرب عن استعداد الاتحاد السوفييتي للتعاون بشكل عملي مع جميع الحضور في هذا المؤتمر من أجل إخراج شعوب وبلدان الشرق الأوسط من آتون الصراعات الحربية وإحلال السلام العادل.
لم يستحسن الكثيرون خطاب كیسینجر الذي تحدَّث فيه عن السلام بشكل عام، مستشهدًا بعدد من الأمثلة الشعبية اليهودية والعربية نطقها بعبرية وعربية ركيكتَين للغاية.
أمَّا إسماعيل فهمي وأبا إيبان فقد جاءت كلماتهما بمثابة معركة كلامية بينهما. كان فهمي حادًّا وبدا أنه يحاول اللعب على مشاعر الجماهير في رده على إيبان.
وفي اليوم التالي، في الاجتماع المغلق للمؤتمر تمَّ تشكيل لجنة عمل عسكرية كانت مهمتها العمل على وجه السرعة على فض الاشتباك على الجبهة المصرية الإسرائيلية. بعدها أعلن فالدهايم فترةً للراحة.
إلى مقر إقامتنا حضر كیسینجر وبصحبته السفير بانكر، العضو الأمريكي المشارك في المؤتمر. كان بانكر رجلًا تخطَّى الثمانين من العمر، طويل القامة، نحيف، على قدر من الوسامة.
توجَّه كيسينجر إلى أندريه جروميكو قائلًا: «هل تعرفون لماذا اخترنا السفير بانكر عضوًا في الوفد؟ لأنه لم يستكمل أية مفاوضات شارك فيها قبل ثمانية أعوام.» ثم ضحك مظهرًا قدرًا كبيرًا من الرضا عن نفسه. كان كيسينجر يقصد بهذه الإشارة ما كان من أمر بانكر الذي كان رئيسًا، شكليًّا، للوفد الأمريكي في المفاوضات الأمريكية البنمية لعدة سنوات حول وضع قناة بنما، ومن ثم حقوق الأمريكيين في هذه الدولة. وقد أدهشني هذا التلميح الذي جاء على لسان كیسینجر في مثل هذه الظروف.
تظاهر كیسینجر بالحزن، ثم أردف قائلًا: «إن لإيلسفورت (بانكر) أطفالًا وأحفادًا وهو يرغب أن يمضي أعياد الميلاد بصحبتهم؛ ولهذا فسوف يطير إلى الولايات المتحدة لمدة يومَين»، يعود بعدها في السادس والعشرين، أو السابع والعشرين إلى جينيف. بدا هذا الوعد عمليًّا، والحقيقة أنني لم أصادف في حياتي أمريكيًّا يخلف وعده وخاصةً إذا ما تعلَّق الأمر بالتواريخ والمواعيد والوقت؛ ولهذا فقد استقبلت إعلان كیسینجر بهدوء تام.
في اليوم التالي، دعانا بانكر على مائدة الإفطار. آنذاك راح ستيرنر الموظف بوزارة الخارجية الأمريكية، بحذر شديد، في تطوير مفهومة «المبتكر» حول السير المحتمل للمفاوضات. أكَّد ستيرنر أن المصريين لا يريدون أن يشارك ممثِّلو الدولتَين العظميَين في أعمال لجنة العمل العسكرية؛ ولهذا يجب علينا أن نعمل «في الكواليس». وبحذر مماثل طرح بانكر فكرةً مفادها أنه قد يكون من الملائم أن تتخلَّل المفاوضات فترات راحة طويلة تسمح «بترطيب الأجواء» بين الجانبَين.
لم يكن من العسير علينا أن ندرك على الفور جوهر أفكار الأمريكيين: هل سنوافق نحن السوفييت على الاستمرار في القضية سنوات وسنوات حتى نصل إلى حلول جزئية (أي ليست ذات طابع شامل) عن طريق المفاوضات الثنائية للدول العربية في جينيف دون مشاركة الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. وإن شئنا الدقة، دون مشاركة الاتحاد السوفييتي تحديدًا، ما دامت الولايات المتحدة سوف تظل موجودةً هناك «في الكواليس» خلف إسرائيل، وكما شاهدنا، خلف الوفد المصري أيضًا. وبهذا تكون فكرة المؤتمر كلها قد تمَّ تشويهها.
اعترضنا بشدة بعد أن كشفنا خطورة هذا الطريق، الذي لن يؤدِّي إلى السلام في الشرق الأوسط، بل سوف يضع الدول العربية في وضع أسوأ مقارنةً بإسرائيل.
وفي مساء نفس اليوم، التقى أندريه جروميكو بإسماعيل فهمي. واستنادًا إلى ما وصل إلينا من معلومات نتيجة المحادثات التي دارت بيننا وبين بانكر وستيرنر، سأل جروميكو فهمي عن رأيه بشأن الأعمال اللاحقة بالمؤتمر، وخاصةً حول دور ممثلي الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية. لكن إجابات فهمي جاءت لتذكِّرنا بلعبة الأطفال الشهيرة: «لن أقول لا ولن أقول نعم. لن أقول أسود ولن أقول أبيض»، وهلم جرًّا. ولمدة نصف ساعة راح فهمي يتملَّص دون أن يعطينا إجابةً واحدة مباشرة، موجِّهًا اللوم للمترجمين زاعمًا أنهم لم ينقلوا أفكاره ﺑ «دقة». وهكذا، راح يتأكَّد لنا أكثر فأكثر فكرة وجود مؤامرة بين المصريين والأمريكيين.
بعد مرور يوم واحد على مغادرة أندريه جروميكو جینیف، جاءني ستيرنر يحمل دفترًا سجَّل فيه الصيغة الجديدة التي قدَّمها المصريون ونصها: «لسنا ضد مشاركة الاتحاد السوفييتي.» ثم صاح في عصبية: انظر! إنهم لم يقولوا «نحن مع المشاركة السوفييتية.» كان عليَّ عندئذٍ أن ألقِّنه درسًا.
سألت مساعد وزير الخارجية المصري محمد رياض عن صحة ما ذكره ستيرنر، فانفجر غاضبًا: «الأمريكيون مخادعون، أمَّا ستيرنر فهو رجل مستفز!» في المساء، دعاني فهمي إلى مائدة العشاء مُبديًا حفاوةً مصطنعة، وراح يعاملني بكرم زائد، ثم بدأ يكشف شيئًا فشيئًا عن أفكاره على نحو أكثر صراحة: إن الاتحاد السوفييتي ليس مضطرًّا للإصرار على المشاركة في المفاوضات؛ فلن تتم الموافقة على أيٍّ من القضايا المطروحة دون موافقته (موافقة فهمي). هذا هو الأمر إذن. وهو نفسه قال لجروميكو بالأمس كلامًا منافيًا تمامًا لِمَا يقوله الآن! كان عليَّ عندئذٍ أن أخبر فهمي بأن لديَّ قيادتي، وأن لدينا أفكارنا ومفاهيمنا، وأن من المؤسف أن المصريين ينحَون منحًی مختلفًا تمامًا في كثير من الأمور، التي سبق وأن اتفقنا بشأنها سابقًا، وأن هذا المنحى لن يكون في صالح مصر والفلسطينيين والعرب جميعهم.
أكَّدت الأحداث اللاحقة صدق تقديراتنا؛ فالمباحثات داخل لجنة العمل العسكرية لم تتحرَّك قيد أنملة، وانتقل المصريون والإسرائيليون والأمريكيون بعيدًا عن جينيف، ولم يبقَ فيها سوى وفدنا.
وقبل مغادرتنا مقر إقامتنا، حضر لزيارتنا الوفد الإسرائيلي برئاسة السفير إيفرون والذي أخبرنا أن اهتمام الإسرائيليين بالمؤتمر كان عظيمًا منذ اللحظة الأولى لانفتاحه، وأن الجميع في إسرائيل تابعوه باهتمام بالغ على شاشات التليفزيون وقد تأثَّروا بشدة عندما سمعوا بأنفسهم خطاب وزير الخارجية السوفييتي بعد أن رأوا فيه موقفًا عادلًا مناهِضًا للحرب وداعيًا لإقامة السلام في المنطقة.
تحدَّثنا معهم طويلًا وبلا كُلفة، وحاولنا أن ننقل لهم فكرة ضرورة إقامة سلام حقیقي؛ حيث إن الفرصة مواتية الآن لذلك. أبدى أعضاء الوفد الإسرائيلي موافقتهم، وأكَّدوا على أنه بدون مشاركة الاتحاد السوفييتي ومساعدته لن تقوم للسلام قائمة في الشرق الأوسط.
وقُبيل رحيله أفضى إليَّ إيفرون بسؤال شخصي حول ما إذا كان المصريون يدركون أن الاتحاد السوفييتي وحده هو الذي أنقذهم من الهزيمة في الأيام الأخيرة من حرب أكتوبر؟
هزَّني من الأعماق هذا التساؤل، الذي يعني أن الإسرائيليين يُقدِّرون على نحو صحیح الموقف الذي اتخذته بلادنا ودورها الحاسم الذي قامت به في هذه الحرب.
لم يعد بانكر للأسف إلى جينيف في السادس والعشرين من ديسمبر، وإنما عاد .. بعد شهر، في الحادي والعشرين من يناير، وبعد أيام قليلة سافر من جديد معلنًا أنه لن يعود قُبيل النصف الثاني من فبراير (!) على هذا النحو يفي المسئول الأمريكي بوعده!
فيما بعد وقَّعت مصر وإسرائيل اتفاقية «فك الاشتباك» الشهيرة بين القوات، وإنما خارج إطار المؤتمر. كانت هذه بداية الصفقات المنفردة بين مصر وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية. أدارت مصر ظهرها للقضية العربية المشتركة ولحليفها السابق؛ سوريا، ونفضت يدَيها تمامًا عن القضية الفلسطينية. أتذكَّر جيدًا البيان الذي نشره الفلسطينيون في الصحف والذي يقول: «إن المصريين يساعدون الولايات المتحدة الأمريكية في التسلُّل إلى الشرق الأوسط!» ومن جديد يدهشني توارد الخواطر.
•••
لقد بدأ تسلسل هذه الأحداث منذ زمن بعيد؛ منذ وفاة ناصر، ومنذ وصول السادات إلى سدة الحكم. بدأت التغيُّرات الضخمة في الحياة الداخلية؛ الابتعاد عن الناصرية، وفي السياسة الخارجية عقد العلاقات المكثفة سرًّا مع الولايات المتحدة الأمريكية بعيدًا عن شعبه، واتباع منهج الابتعاد عن التعاون مع الاتحاد السوفييتي وغيرها من بلدان المعسكر الاشتراكي والدول التقدُّمية. لم يتم الإعداد لحرب أكتوبر ١٩٧٣م باعتبارها خطوةً نحو تحرير الأراضي المحتلة وإقامة السلام العادل في الشرق الأوسط، وإنما وسيلة لنفاذ الولايات المتحدة الأمريكية مرةً أخرى إلى المنطقة، وتحت قناع صُنَّاع السلام و«وسطاء الخير». لقد مَثَّلت النوعية الجيدة من الأسلحة والتجهيز العالي للقوات المسلحة المصرية وروحها المعنوية المرتفعة مفاجأةً حتى للسادات نفسه، وكادت هذه القوات أن تُنزل بإسرائيل هزيمةً حقيقية، وهو ما لم يكن «مُخطَّطًا» له، في جميع الأحوال، من قبل. كانت «السيطرة» على هزيمة الإسرائيليين ضروريةً للأمريكيين حتى يظهروا في صورة «المنقذين» لإسرائيل، كما كان من الضروري بالنسبة لهم أيضًا أن تقع مصر في وضع حرج حتى يقوم الأمريكيون بدور مماثل معها. وقد حقَّق تسلُّل القوات الإسرائيلية الغريب عبر قناة السويس إلى الجانب الأفريقي من مصر لتقف على بُعد مائة كيلومتر من القاهرة هذا الهدف المزدوج. لقد كانت الثغرة التي أحدثها الإسرائيليون بمثابة عقاب لمصر للحماس المفرط لقواتها المسلحة، التي قامت على نحو واضح ﺑ «تجاوز تنفيذ»، إذا جاز القول، «مهمتها».
لقد كانت الدعوة لعقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط انتصارًا كبيرًا لكل القوى المحبة للسلام، وللدبلوماسية السوفييتية، ودبلوماسية السلام، بالدرجة الأولى، والتي كان من نتائجها أيضًا زيادة هيبة الاتحاد السوفييتي على نحو ملحوظ على الساحة الدولية.
لقد هيَّأت حرب أكتوبر ١٩٧٣م الظروف الموضوعية الملائمة لتسوية سلمية شاملة في الشرق الأوسط، وأتاحت فرصًا واقعية لإقرار سلام حقیقي وعادل ومضمون لكل دول المنطقة. وكان من الممكن أن تتوقَّف هذه المنطقة عن أن تظل هدفًا للحرب والاستغلال السياسي والعسكري من جانب القوى الإمبريالية، لكن هذا السلام لم يكن ليناسب الولايات المتحدة الأمريكية.
سعت الولايات المتحدة الأمريكية بمساعدة السادات وتنكُّرها لجميع تعهُّداتها السابقة لإعادة مؤتمر جينيف الدولي وتوظيفه لصالحها وجعله طريقًا للتغطية على مخططاتها في الشرق الأوسط، وهي تعلم أن التسوية الشاملة لا يمكن أن تتحقَّق — بطبيعة الحال — دون مصر. لم يحدث من قبلُ أن انكشف على هذا النحو من الوضوح نفاق الدبلوماسية الأمريكية التي تكيل بمكيالَين.
لقد كشف الاتحاد السوفييتي النقاب عن هذه المحاولات وأظهر أمام العالم كله الوجه الحقيقي للولايات المتحدة وأعوانها.
لقد جاء عقد ما سُمي فيما بعد «باتفاقيات كامب ديفيد» تتويجًا لسياسة السادات المنفردة التابعة لأمريكا، قد أدَّت إلى النهاية التراجيدية للسادات نفسه.
إن نهاية أي ظاهرة قديمة إنما یعني میلاد ظاهرة جديدة، والشعب المصري الذي أحسَّ بشكل تام بالنتائج الوخيمة لسياسة التبعية للأمريكيين، سواء في مجال الاقتصاد الداخلي أو في مجال العلاقات مع الدول الأخرى، وخاصةً مع الدول العربية. إن الشعب المصري الطيب الصامد في كل الظروف، لا يزال يجد في نفسه القدرة على العودة إلى الطريق الصحيح، طريق وجوده المستقل الذي يؤدِّي به إلى التقدُّم والازدهار، وهو ما يؤمن به أصدقاء مصر المخلصون، الذين يثقون على نحو كامل بمصر المتجدِّدة التي حنَّكتها هذه التجرِبة المريرة.