محمد أنور السادات

رتوش على صورة

في وقتٍ ما من أوقات فراغي من العمل، رحت أحسب كم مرةً التقيت فيها بالسادات على مدى سنوات عملي في مصر في شتَّى المناسبات والمواقف. وقد تبيَّن لي أنني قابلته حوالي مائتَي مرة. أشار عليَّ أصدقائي أن أضع على الورق حصيلة انطباعاتي عن هذه اللقاءات، لا لكون السادات كان شخصيةً عظيمة، وإنما لكونه كان على سُدة الحكم في أكبر دولة عربية في فترة عصيبة للغاية من تاريخ هذه الدولة، وكذلك لأن علاقتنا بمصر لم تكن علاقات واسعة فحسب، وإنما كانت علاقات هائلة مُتعدِّدة الجوانب، وخاصةً أنه قد وقعت أحداث جسام في مسار هذه العلاقات بين بلدَينا في السنوات الأخيرة عقب وفاة ناصر مباشرة. وفي حالة وقوع أحداث مماثلة من هذا النوع يكون للأفراد، كما هو معروف، دور هائل في بلد ذي نظام استبدادي مثل مصر. إن فهم شخصية الحاكم هنا يكشف على نحو مُحدَّد ما يقوم عليه من تصرُّفات، ويكون لهذا الفهم أهمية كُبرى في تفسير السياسات الرسمية التي تنتهجها الدولة. وفي الواقع فإن قرارات رئيس الدولة كثيرًا ما تتطابق بشكل واضح مع شخصيته، وهذه القرارات تستند بطبيعة الحال على القوانين العامة لتطوُّر البلاد وعلى حركة التاريخ. ومن هنا يكون من المفيد أحيانًا، إلى جانب دراسة قوانين التطوُّر العام للمجتمع، وخاصةً في التطبيق المُحدَّد على هذا البلد أو ذاك، النظر في أسرار شخصية بعض الحكام، تلك الأسرار التي يتوقَّف عليها مصير الشعوب في كثير من الأحيان.

وبطبيعة الحال فإن قيمة هذه «الأسرار» المتاحة يتوقَّف على الملاحظات الشخصية.

١

لن أتناول هنا سيرة حياة الرئيس السادات؛ فهي معروفة بالطبع للجميع. لقد أصبح السادات رئيسًا للبلاد على إثر وفاة ناصر في الأيام الأخيرة من شهر سبتمبر ١٩٧٠م. وكان السادات في الأيام الأخيرة التي سبقت وفاة ناصر نائبًا للرئيس — النائب الوحيد — ولعل هذا الأمر من بين الأسباب التي لعبت دورًا حاسمًا في أن يكون هو وليس غيره رئيسًا لمصر.

سرعان ما دفع الموت المفاجئ لناصر بالمشكلة الأهم، وهي من الذي سيصبح رئيسًا للبلاد. وطبقًا للدستور المصري يُصبح نائب الرئيس في هذه الحالة هو الرئيس المؤقَّت للبلاد لمدة ستة أشهر. وفي السياق العادي للأحداث يكون من المنطقي أن يعتلي منصب الرئاسة الشخص الأقرب وفقًا لمنصبه الحكومي. وقد كان هذا الشخص هو السادات الذي سرعان ما بدأ الحديث في الدوائر الحاكمة عمن سيصبح رئيسًا بعد وفاة عبد الناصر، ذلك أن فكرة أن يصبح السادات هو الرئيس بدت للكثيرين (إن لم يكن للأغلبية) من الشخصيات البارزة أمرًا سخيفًا. وقد أعرب عن رغبتهم أو استعدادهم لتسليم مقاليد الحكم شخصيات من أمثال: زكريا محيي الدين وهو سياسي بارز ذو توجُّه رأسمالي، صاحب عقل راجح وأهداف واضحة، كما أن له خبرةً في مجال إدارة الدولة. حسين الشافعي، من أوائل أعضاء تنظيم «الضباط الأحرار»، ومن أنصار الرئيس ناصر في الثورة، غير أنه يتميَّز بفكر سياسي رجعي وأفق محدود. اهتمَّ بالإسلام بالدرجة الأولى، وإن ظلَّت لديه طموحات كبيرة، ومن بين الذين تطلَّعوا إلى كرسي الرئاسة علي صبري، أحد المقربين من ناصر، وهو مثقَّف تقدُّمي من أسرة ثرية، ولكنه كان يسعى في الوقت نفسه إلى تقدُّم مصر ودعم علاقاتها بالاتحاد السوفييتي. وبطبيعة الحال كان هناك النائب الوحيد للرئيس، الذي تسلَّم هذا المنصب منذ فترة غير بعيدة، ويمكن القول: إنه جاء إليه بالصدفة نتيجة نزوة «تغيير الكوادر» دوريًّا التي كان يُطبِّقها ناصر.

كان من الممكن أن يؤدِّي الصراع على السلطة إلى عواقب وخيمة على البلاد في تلك الفترة التي كان جثمان ناصر إبَّانها لا يزال في انتظار مواراته الثرى، وقد احتدم الجدل بين قادة البلاد حول كيفية حل مشكلة الرئاسة. كنت في القاهرة آنذاك ضمن الوفد السوفييتي الذي وصل لحضور مراسم جنازة ناصر. كان سؤال لمن ستئول السلطة في القاهرة يُثير اهتمامنا بطبيعة الحال؛ فقد كانت هناك أمور عديدة تتوقَّف على مَن بيده اتخاذ هذا القرار، ولعل من أهم تلك الأمور هو مصير مصر في القريب العاجل، ثم النهج السياسي الذي ستتبعه، والعلاقات مع الاتحاد السوفييتي، وكلها كانت تُشكِّل أمورًا جوهرية سواء لمصر نفسها، أو للاتحاد السوفييتي.

لم نتدخَّل بالطبع في الشئون الداخلية لمصر، على أنه نما إلى أسماعنا، إذا جاز القول، أصداء الصراع من أجل السلطة، فعلمنا، حتى من خلال الحديث أحيانًا مع رجال دولة أجانب من بين الذين وصلوا إلى القاهرة للمشاركة في الجنازة. لقد تناولت هذا الموضوع — على وجه الخصوص — في حديثي مع ألكسي كوسيجين ومع الأتاسي رئيس سوريا آنذاك، وكذلك مع الرئيس الجزائري بو مدين، ومع رئيس المجلس الثوري للسودان النميري. كان الأخير شديد القلق ألَّا يصل إلى السلطة في مصر الشخص المناسب، إلى حد أنه — بما كان يتميَّز به في تلك الفترة من سذاجة وسلامة طوية — راح يُلِح على ألكسي كوسيجين أن «يجمع كل رجال الدولة في مصر ومعهم النميري ليقترحوا من الذي ينبغي أن يكون هو الرئيس». وإلا، وفقًا لمخاوف النميري، تفرَّق شمل القادة المصريين أو اختاروا، دون تنسيق، رئيسًا رجعيًّا. بالنسبة للسودان، كانت العلاقة مع مصر تمثل أهمية قصوى. وكما علمنا بعد ذلك، فقد اقترح عزیز صدقي، رجل الدولة البارز والمؤيِّد لتطوير التعاون مع الاتحاد السوفييتي، حلًّا وسطًا. طرح صدقي فكرة أن يشغل منصب الرئيس الذي يبدو تعيينه أكثر منطقيةً ولو من الناحية الشكلية؛ فهذا الحل ذو الطابع الوسط يمكن أن يهدِّئ النفوس ولو مؤقَّتًا، ولا يسمح بخلق انطباع بوجود قلاقل سياسية في مصر. وجد هذا المبدأ قَبولًا، ولم يكن من الصعب أن نُخمِّن أن المرشَّح المناسب وفقًا لهذا المبدأ هو السادات وحده، باعتباره نائب الرئيس، والذي تسلَّم مقاليد السلطة رسميًّا، «ولو مُؤقَّتًا»، في يدَيه. وقد أبلَغَنا السادات بذلك وهو في غاية السرور بالطبع. وفي نفس لحظة تعيينه قام بما لديه من صلاحيات بتعيين كلٍّ من حسين الشافعي وعلي صبري نوابًا للرئيس. أمَّا الشافعي فلأنه كان يطمح إلى منصب رئيس الوزراء، عوضًا عن منصب الرئيس، والذي لم يكن أهلًا له على الإطلاق. وأمَّا علي صبري، فاختاره السادات لكي يخفِّف من حدة التناقضات معه، وهي تناقضات سرعان ما ظهرت على نحو درامي بالنسبة لعلي صبري نفسه. وجاء منصب رئيس الوزراء من نصيب محمود فوزي، أقدم رجال الدولة وأكثرهم خبرةً وصاحب التوجُّهات البرجوازية. على هذا النحو بدت كل القوى، التي كانت طامحةً للسلطة في البلاد، كما لو كانت قد ارتضت بالفعل بالوضع باعتباره وضعًا مؤقتًا، عدا تلك القوى اليمينية صراحةً مثل زكريا محيي الدين، ثم الدوائر الدينية اليمينية. وقد قَبِل الضباط الأحرار القدامى بتعيين الشافعي، وقبلت البرجوازية المصرية الكبيرة بتعيين فوزي، والجزء الأكثر تقدميةً من الناصريين بتعيين علي صبري. وقد تمَّ إعلان أن السادات سوف يشغل منصب الرئيس مؤقتًا لحين إجراء استفتاء شعبي عام. وهذا القرار كان يعكس في الواقع عدم الثقة في موقف السادات نفسه، وكان — على الأرجح — حلًّا وسطًا وافق عليه كل من كان طامحًا إلى هذا المنصب؛ إذ كان من الممكن إعلان السادات تلقائيًّا رئيسًا، باعتباره شاغلًا لمنصب نائب الرئيس ليظل في هذا المنصب لمدة طويلة، وليس فقط لسنوات ست كما ينص الدستور على ذلك، وإنما إلى أن يتم حل الصراع مع إسرائيل؛ فقد كان ناصر يمتلك هذه المهلة. تمَّ تعيين السادات رئيسًا بصفة مؤقتة، وقد قرَّر أن يسعى لتصفية حساباته فيما بعدُ مع الذين أصروا على الأرجح، على تعيينه «مؤقتًا» بصوت أعلى من الآخرين.

بعد برهة من الزمن، وفي ديسمبر عام ١٩٧٠م، وبعدما استطاع السادات أن يتكيَّف بعض الشيء مع وضعه الجديد، واستطاع أن يجذب إلى جانبه عددًا من الناصريين البارزين، الذين شغلوا مناصب مهمة (شعراوي جمعة، محمد فوزي، سامي شرف)، قرَّر إجراء استفتاء شعبي. وبمساعدة جهاز سياسي كبير يرأسه الأمين العام للاتحاد الاشتراكي العربي شعراوي جمعة، وبمشاركة فعَّالة من جهاز الشرطة الذي يرأسه شعراوي جمعة أيضًا، تمَّ اختيار السادات رئيسًا للجمهورية بأغلبية ساحقة لمدة ست سنوات، بينما حصل علي صبري على وعد بأن يحمل صفة «النائب الأول للرئيس»، الأمر الذي سرعان ما أثار حفيظة حسين الشافعي، الذي راح يتشبَّث بالصفة مدعيًا أنه هو النائب الأول للرئيس.

وعلى قمة السلطة، التي كانت ديكتاتوريةً في جوهرها بحكم التقاليد الممتدة في مصر، ربما من عصور الفراعنة، تربَّع السادات بمساعدة جماعة محدودة تمامًا من رجال الدولة والسياسة الذين عُيِّنوا في عهد ناصر، والذين كانوا يشغلون كل المناصب المهيمنة على مسيرة الدولة. هؤلاء كانوا: شعراوي جمعة أمين اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، ونائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية. محمد فوزي وزير الحربية. سامي شرف وزير شئون رئاسة الجمهورية، وهو الرجل الذي كانت تتجمَّع في يدَيه كل المعلومات العسكرية والاستخبارات السياسية. محمد فائق وزير الإعلام، المسيطر على الصحافة والإذاعة. لبيب شقير رئيس مجلس الأمة (السلطة التشريعية في البلاد). عبد المحسن أبو النور الأمين الأول الأسبق للاتحاد الاشتراكي العربي، إلى جانب مناصب أخرى. وقد ظلَّت اللجنة العليا للاتحاد الاشتراكي العربي، وهي هيئة استشارية تابعة للرئيس أسَّسها عبد الناصر، تمارس عملها وتضم كل القيادات المذكورة وكذلك قيادات أخرى. ومع ذلك كان السادات يشعر أنه لم يُحكم بعدُ قبضته على السلطة.

كان السادات مُحقًّا في ظنه في أن الشافعي لا يُمثِّل منافسًا حقيقيًّا له. كانت مثالب هذا الرجل واضحةً أمامه وضوح الشمس، ولم يكن باستطاعته الاعتماد عليه اعتمادًا جادًّا. ومن ناحية أخرى، فإن علي صبري كان يُعلِّق — على سبيل المثال — آمالًا كبارًا على أن السادات منحه للمرة الأولى لقب النائب «الأول» للرئيس، وهو — على حد قوله — كان له مغزًى كبير «لو أن أمرًا ما» وقع للسادات. الحس السياسي المحنك لم يخنِ السادات، وها هو يُقرِّر أن يكون أكثر حذرًا.

أثناء جنازة ناصر وقعت حادثة عجيبة؛ فبعدما تمَّ تجهيز الموكب كیفما اتفق، وكان يضم عددًا كبيرًا من مُمثِّلي الدول الأجنبية؛ رؤساء دول وحكومات، وكذلك قيادات مصرية بارزة، تحرَّكنا جميعًا في الطريق تحت شمس حامية الوطيس من باحة مبنى قيادة الثورة في الجزيرة، باتجاه موقع الدفن في المسجد المقام في هليوبوليس، وبعد برهة ظهر «موكب» آخر في مواجهة الصفوف الأولى. كانوا يحملون شخصًا على كرسي. تدلَّى رأسه، بينما راحت ساقاه تتأرجحان. كان الرجال الذين يحملون الكرسي يُهرولون وهم يشقون طريقهم عبر الزحام عكس سير الجماهير. كانوا يحملون السادات. بدا الأمر غريبًا وغير مألوف لي. شيء ما حدث، ولكن ما هو؟ بعد برهة أخرى، شاهدت كيف راحت الجموع التي سرعان ما ابتلعت الموكب. ولمَّا لم يكن باستطاعتي الخروج بعيدًا عن حدود المكان، الذي تقع فيه نقطة الانطلاق، إذا بكوسيجين يسير في ملاقاتي. لقد اختلط كل شيء، ولم يكن الحديث عن أي نظام من أي نوع ممكنًا. اضطُر جميع الضيوف الأجانب إلى مغادرة الموكب، وحول النعش كانت الجماهير الهادرة تزحف دون أن يستطيع أحد التحكُّم في اتجاهها.

أخبرت ألكسي كوسيجين أنني شاهدت السادات محمولًا على كرسي، وأعربت له عن فكرتي بضرورة ذهابه إليه والإعراب عن اهتمامه بأن يكون شيء ما خطير قد وقع، وعلى أية حال، فمن الواجب أن نعبِّر عن تعاطفنا.

في البداية أجاب المسئولون المصريون ردًّا على استفسارنا بأنهم لا يعرفون شيئًا، ثم «أسَرُّوا» لنا أن السادات في حالة نفسية سيئة، وأنه من غير الممكن مقابلته. راودتني فكرة أن يكون مكروه قد وقع له. وأخيرًا، وبعد جدال طويل، سمح المصريون لألكسي كوسيجين فقط ومعه مترجم واحد بالدخول إلى إحدى الغرف في المبنى، وهناك كان يرقد رجلان على سريرَين بسيطَين؛ السادات وعلي صبري. وقد اتضح أن صبري كانت حالته أسوأ، وقد جيء به إلى هنا قبل السادات بفترة طويلة. وعندما أبلغوا السادات بذلك ازدادت حالته سوءًا فأحضروه إلى نفس الغرفة. كلاهما ظل راقدًا، وفق شهود العِيان، في مظهر لا بأس به، ولكنهما كانا يتأوَّهان وكأنما يتنافسان فيما بينهما. وقد شرح لنا الأطباء أن ما بهما هو نتيجة لِمَا وقع عليهما من ضغط عصبي. أقولها صراحة، لقد تسرَّب الشك إلى نفسي من جرَّاء هذا المشهد. فيما بعد راودتني فكرة أخرى أوحت لي بها الأحداث ذاتها التي كان من المحتم أن تحدث في مصر في خضم الصراع على السلطة الذي تجلَّى فيما بعد.

من الممكن أن يكون السادات قد ذهبت به الظنون، بعد أن سمع ﺑ «مرض» علي صبري، منافسه المحتمل، إلى أن الرجل يُدبِّر شيئًا ما بحيث يُصبح هو الرئيس بعد دفن جثمان الرئيس وليس هو. وهنا ادَّعى السادات أن حالته «سيئة»، وأسرع ليكون بجواره حتى لا يغيب علي صبري عن ناظره. على أية حال، فقد دُفن ناصر دون حضور الرجلَين؛ السادات وعلي صبري، ودون حضور العديد من القيادات الأخرى. كان أبرز من رافقه حتى مثواه الأخير هم زكريا محيي الدين، وحسين الشافعي، والنميري، والمتطرِّف الشاب الزعيم الليبي العقيد القذافي. هؤلاء استطاعوا الصمود في خِضَم هذا الزحام الخارق للعادة للآلاف من الناس، وأن يتماسكوا على امتداد طريق يبلغ طوله عدة كيلومترات عبر شوارع القاهرة الملتهبة من شدة الحرارة. ومع ذلك فقد سرت شائعة بين الجماهير تزعم أن ناصرًا لم يُدفن في هذا المسجد حيث وُوري جثمانه أمام الجميع.

استقرَّت حالة الاضطراب التي صاحبت موت ناصر، وانتُخب السادات رئيسًا شرعيًّا للبلاد، وبدا أن كل شيء أصبح على ما يرام. لكن المجموعة التي تبقَّت منذ عهد ناصر والتي كانت تُمسك في الواقع بالسلطة، أحاطت بالسادات وأبدت ولاءها له. وسرعان ما بدا واضحًا أن هذه المجموعة من الناصريين أرادت بحصافة تامة أن يُنصت إلى رأيها وألَّا يضع إرادته على أية حال فوق إرادتها. كانوا يتطلَّعون إلى قيادة جماعية انطلاقًا من معرفتهم الجيدة بالدرجة الأولى بالصفات الشخصية. والطموحات السياسية التي لدى السادات. كانوا يفترضون، من حيث المبدأ، أن السادات سوف يأخذ بعين الاعتبار آراءهم، ليس فقط لأنهم جميعًا يشغلون مناصب حكوميةً واجتماعية رفيعة، ولأن كلًّا منهم يتولَّى مسئوليةً كبرى في مجاله، وإنما لأنهم كانوا يُريدون أيضًا أن يرَوا السادات شريكًا لهم من الناحية الفكرية، وخاصةً فيما يتعلَّق بحل النزاع العربي الإسرائيلي، وفي علاقات مصر بالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي.

كانت هذه المجموعة من رجال الدولة تنطلق من أن الولايات المتحدة الأمريكية هي العدو الرئيسي للوطنية المصرية، وأن الهدف الرئيسي للسياسة الأمريكية لا يتوقَّف عند مُجرَّد مساعدة إسرائيل على الاحتفاظ بالأراضي العربية المحتلة. وإنما في تغيير البنية الداخلية للبلاد العربية التقدمية وتحويلها إلى طريق التطوُّر الرأسمالي البحت، بحيث تصبح مصر وغيرها من الدول العربية مستقلةً ظاهريًّا وإن ظلَّت في واقع الأمر تابعةً للنظام الرأسمالي العالمي؛ أي للولايات المتحدة الأمريكية، من الناحيتَين الاقتصادية والسياسية. ومن ثم، تُصبح هناك إمكانية تبعيتها أيضًا من الناحية العسكرية. كان هذا المستقبل مخالفًا بطبيعة الحال للطموحات الأيديولوجية للقوميين المصريين الذين كانوا يُحيطون بناصر، فضلًا عن أن الانحراف عن الطريق الذي كان ناصر يقود مصر إليه بعد الثورة، كان يعني وصول أشخاص آخرين إلى السلطة الحقيقية والشكلية في مصر، وهو ما كان يُشكِّل تهديدًا شخصيًّا لهم. وكان أكثر ما يخشَونه هو تقلُّبات الرئيس الجديد ومتناقضاته. كانوا يخشَون ذلك لأنهم كانوا يعرفونه حق المعرفة.

منذ الأيام الأولى راح هؤلاء الناس جميعًا يخدمون بشرف رئيسهم الجديد. كانوا يرَون أن مهمتهم تنحصر في أن يكونوا أكثر اقترابًا من الرئيس. أن يجذبوه إليهم، ألَّا يُعطوا فرصةً لأي تأثير «خارجي» أن ينفذ إليه، أن يربطوه بخطوات جديدة سياسيًّا في المسار الناصري.

على أنهم سرعان ما اقتنعوا بعدم فعالية هذا النهج. لقد راح السادات يتخذ أكثر فأكثر قرارات منفردةً غاية في الأهمية دون أن يتشاور مع مَن كانوا يبدون أصدقاء مخلصين لنهجه السياسي، بل وصل الأمر إلى حد عدم إبلاغهم بما سوف يُقدم على عمله. والذي حدث أن هؤلاء لم يعرفوا بالعديد من القرارات إلا من خلال خطابات الرئيس أمام اجتماعات مجلس الأمة أو من خلال الإذاعة. حدث ذلك على سبيل المثال عندما أعلن السادات عام ١٩٧١م «عامًا للحسم» في الصراع العربي الإسرائيلي. وقد اتضح بعد ذلك القرار أن شيئًا لم يحدث، اللهم إلا طموح فارغ من جانب الرئيس نفسه. وهو ما حدث أيضًا مع ما أطلق عليه «مبادرة السادات» في فبراير ١٩٧١م، عندما اقترح انسحاب القوات الإسرائيلية لمسافة ما في عمق سيناء «مقابل» فتح قناة السويس أمام الملاحة، أو، على سبيل المثال، الموافقة على قَبول اقتراح الأمريكيين المعروف باسم «المفاوضات عن قرب» في نيويورك؛ أي المفاوضات المصرية الإسرائيلية المباشرة بوساطة أمريكية. وأحيانًا ما كان بعض المقرَّبين من السادات ينجحون في «الإمساك به» في اللحظة الأخيرة بالفعل، وإرغامه على تصحيح خطابه أو حتى قراره. وعندئذٍ كان جميع نُواب مجلس الأمة المجتمعين ومعهم السفراء الأجانب يعانون من الملل من جرَّاء الانتظار وعدم معرفة ما يحدث. كان الانتظار أحيانًا ما يصل إلى أربعين وخمس وأربعين دقيقة، وأثناء ذلك، كما اتضح فيما بعد، كان المقربون من السادات يسعَون «لإقناعه» أن يغيِّر خطابه أو قراره. وبطبيعة الحال كانت الشائعات والتخمينات تسري على الفور بين السفراء حول طبيعة ما يحدث. أمَّا أنا، فمن أين لي أن أعرف ما كان يحدث آنذاك (ولو عرفتُ فلم أكن لأتحدَّث).

لقد اعتبر الناصريون أن أخطر شيء في تصرفات السادات، هما قضيتا العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية من جانب، ومع الاتحاد السوفييتي من جانب آخر. وفي الحقيقة، فالمسألتان كانتا وثيقتَي الصلة كل منهما بالأخرى. كان الناصريون يخشَون أن يُقدِّم السادات تنازلات مهينةً للولايات المتحدة الأمريكية، لعلمهم بأنه ضعيف أمام التملُّق والإطراء، وأنه شديد الإعجاب بنفسه، اعتاد أن يثق في القوة، وأن تعليمه وفكره قاصران. كانوا يعلمون أيضًا أنه لا يحب الاتحاد السوفييتي، وأنه كان يخشى هذا التناول الصريح الصادق من جانب السوفييت للقضايا السياسية. لم تكن الأيديولوجية السوفييتية مقبولةً لديه، وكان كل ما يسعى إليه هو استغلال الاختلاف السياسي بين الدولتَين العظميَين — الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية — لصالح مصر، على قدر فهمه هو لهذه المصالح. كان السادات أساسًا رجلًا يمثِّل الفكر الريفي المتخلِّف، بينما كان الناصريون يمثِّلون أفكار «مثقفي الطبقة الوسطى» في مصر. كان السادات هدفًا للسخرية والنكات والنوادر الطريفة بسبب محدودية ثقافته بشكل أساسي، أمَّا الناصريون فهم أناس، وإن لم يحصلوا على تعليم رفيع، فهم على أية حال من «مثقفي المدن» الأكثر تعليمًا؛ إذ تلقَّى غالبهم تعلیمًا جامعيًّا.

كان أكثر ما أثار مشاعر الخوف لدى الناصريين هو تلك المراسلات التي جرت على نحو فردي بين السادات والرئيس الأمريكي، والتي لم يُحِط السادات الاتحاد السوفييتي علمًا بشأن ما جاء فيها من خطوات اتخذها في مسار علاقته بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما رأى فيه الناصريون سببًا لأن يشعر الاتحاد السوفييتي حتمًا بفقدان الثقة في السادات. وفي هذا الصدد تحديدًا كان الناصريون يقفون بشكل قاطع مع ضرورة الاعتماد على الاتحاد السوفييتي.

أربكت موافقة السادات على حضور وزير الخارجية الأمريكي روجرز إلى القاهرة في مطلع شهر مايو ١٩٧١م حساباتِ الناصريين، ومن ثم تحوَّلت مخاوفهم بشأن اتخاذ السادات خطوات محتملةً تجاه الولايات المتحدة الأمريكية إلى أمر واقع. وفي هذا الوقت اتسمت علاقات معظم رجال الدولة في مصر بالسادات بالكُلفة الشديدة والبرود نتيجة الفضيحة الخاصة بالقرار المنفرد الذي اتخذه السادات بشأن إقامة اتحاد فيدرالي بين كلٍّ من مصر وسوريا وليبيا، فضلًا عن أن شروط هذا الاتحاد قد صيغت على نحو بالغ السوء إلى حد يسمح بأن يكون لمصر رئيس ليبي أو سوري! لقد احتوت هذه الأفكار الضبابية على العديد من الأمور الغامضة غير المدروسة، والتي طُرحت على الورق بشكل مُتعجِّل على هيئة مشروع الدستور اتحاد مغلق. أتذكَّر كيف عرض ناصر في فبراير ١٩٧٠م، إبَّان ما عُرف باسم «الزيارة السرية» لموسكو أفكاره بشأن إقامة وحدة عربية، رأى أنها لا تزال في حاجة إلى النقاش والتشاور. وفي طرحه لهذا الموضوع بشكل ودي على القيادة السوفييتية آنذاك عبَّر ناصر عن رؤيته لضرورة التعامل مع مثل هذه الأمور بحرص بالغ؛ إذ إنها تمس ليس فقط حياة بعض الناس، وإنما أيضًا وجود دول بأكملها، وأن على المرء أن يزن المسألة بدقة، حتى لا تؤدِّي هذه الخطوة إلى التنافر بدلًا من دعم الوحدة. لم يُصِر ناصر على إقامة الوحدة، وطرح فكرته جانبًا ليلتقطها السادات ويُقيمها على نحو مفاجئ وعاجل، وقد كان مصيرها على النحو الذي تنبَّأنا به.

نجح السادات في إخماد فضيحة الوحدة، لكنه تلقَّى درسًا ملهمًا في الجلسة الختامية للَّجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي؛ حيث وجَّه له رجال الدولة المحنَّكون، باستثناء عددٍ من أذنابه من غير ذوي الثقل، نقدًا حادًّا للوحدة ولشروطها ولمجمل تصرُّفات الرئيس في هذا الشأن في واقع الأمر. هل كان من الممكن أن يمر الأمر دون أن ينتقم السادات لنفسه، وهو الذي كان يمتلك خصلةً بالغة السوء؛ عدم نسيان الإهانة؟

أوقعت زيارة روجرز الناصريين في اضطراب شديد. ومثل كابوس لیلي ثقیل تراءى لهم مستقبل المفاوضات المصرية الإسرائيلية المباشرة بوساطة أمريكية، ومن ثم تنبَّئوا بشكل واضح بإقصاء الاتحاد السوفييتي كواحد من تبعات هذه الخطوة. لقد توقَّعوا أيضًا أن يستغل الأمريكيون قدرتهم في الضغط على إسرائيل وإرغامها على تقديم بعض التنازلات حتى يستطيع السادات «ابتلاع» ما سوف يقترحونه عليه. أمَّا قضية إعادة الأراضي المصرية المحتلة فسوف تتحرَّك من سكونها بمساعدة أمريكية، وسوف تعود العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي قد يؤدِّي إلى زيادة النفوذ الأمريكي في كل أوجه الحياة في البلاد. وسوف يصعد مُمثِّلو الطبقات والدوائر الرجعية الذين حاربهم ناصر وأنصاره بعناد، وسوف يتم تغيير القيادات الحالية ويتغيَّر نهج البلاد حتمًا، وتُصاب العلاقات بين مصر والدول العربية بأبلغ الضرر، ويتم خيانة الأنظمة التقدُّمية، ويُصبح الرجعيون من أمثال فيصل هم أصدقاء مصر.

في محاولاتهم قطع زيارة روجرز، كان «المتآمرون»، كما باتوا يُعرفون بهذا الاسم، مستعدين حتى إلى القيام بعمليات عسكرية دون إذن ضد إسرائيل؛ من أجل أن يضعوا الرئيس أمام الأمر الواقع؛ ففي ظروف الحرب لن يجرؤ روجرز على المجيء لمصر، أمَّا اللجوء للعمليات العسكرية فيمكن لهم تبريره بأنه عمل وطني، والمنتصرون على حق دائمًا. عمومًا فقد سعى الناصريون في خططهم لاستخدام الاتحاد السوفييتي بقدر الإمكان، ولو أدَّى الأمر إلى المواجهة العسكرية المباشرة بينه وبين الولايات المتحدة الأمريكية؛ ولهذا راحوا يُلِحون على «التدخُّل السوفييتي» على نحو أكبر؛ أي بزيادة عدد المستشارين العسكريين السوفييت، والعاملين العسكريين في مصر بشكل عام.

كيف انتهت محاولة هذه الجماعة من القيادات الحكومية والشخصيات العامة التأثير على السادات والسيطرة عليه أو حتى العمل معه وخاصةً عند اتخاذه لقراراته أمر معروف جيدًا للجميع؛ لقد زجَّ السادات بهم في السجون لمدد طويلة. في مايو ١٩٧١م تمَّ اعتقال علي صبري نائب الرئيس (نصيره الأول كما كان السادات يعتبره)، شعراوي جمعة نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية وأمين اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي (كان جمعة «يستعد» ليقوم بدور رئيس الوزراء ثم الرئيس بعد ذلك)، محمد فوزي وزير الحربية (الوطني المخلص، الإنسان الجدير بالاحترام، الصديق الرائع للاتحاد السوفييتي)، سامي شرف («رئيس» كل أجهزة المخابرات ومحاربة التجسُّس)، لبيب شقير رئيس مجلس الأمة (اليساري الماركسي)، محمد فائق وزير الإعلام أحد أكبر المثقفين، عبد المحسن أبو النور الأمين الأول للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، رئيس المنظمة السياسية الوحيدة في البلاد، وغيرهم من القيادات. كان هؤلاء الرجال يتولَّون مناصب حساسة، وكانوا في الواقع هم مَن بيدهم مقادير الدولة، وفي لحظة واحدة إذا بهم خلف القضبان. هل كانت لديهم النية آنذاك في إزاحة السادات؟ لا أظن. وممَّا يؤكِّد ذلك أعمالهم التي سبقت اعتقالهم.

لقد قرَّر السادات أن يبدأ الضربة الأولى، وكانت ضربةً استفزازية.

في البداية أقال علي صبري نائب الرئيس من منصبه، وكان قد أبلغ السفير السوفييتي بهذه الخطوة قبل اتخاذها بثلاثة أيام. كانت حساباته في ذلك اختبار رد فعل الاتحاد السوفييتي؛ هل سيُبدي اعتراضه أم يكون له موقف آخر؟ هل يقف الاتحاد السوفييتي خلف علي صبري و«أصدقائه» في الداخل كما حاول الأمريكيون بإصرار أن يوحوا له بذلك؟ فإذا ما عبَّر الاتحاد السوفييتي عن استيائه فهذا هو البرهان. فضلًا عن ذلك فقد بدا أن يدَي السادات أصبحت طليقةً في اتصالاته المقبلة مع الأمريكيين، الذين سيجدون الذريعة إذا ما تصرَّف الاتحاد السوفييتي بشكل «سيئ». إبَّان لقائه بي شرح السادات لي نيته في عزل علي صبري؛ لأن العمل معه أصبح صعبًا، ولأنه يعارض الرئيس. وأضاف السادات أنه يُحيطني علمًا بقراره مسبقًا لأنه يتوقَّع أن تنتشر الشائعات حتمًا لتقول إن قراره يُعد بمثابة لفتة غير ودية تجاه الاتحاد السوفييتي.

وبعدما اقتنع السادات أنه لن يكون هناك أي اعتراض من الجانب السوفييتي (لم يكن من الممكن أن يحدث ذلك بطبيعة الحال نظرًا لأنها قضية مصرية داخلية، وقد اكتفيتُ بعدها بتقديم النصيحة بضرورة الحفاظ على وحدة القيادة في البلاد). اتخذ السادات خطوته. استدعی شعراوي جمعة وقال له إنه غير راضٍ عنه، واقترح عليه إمَّا أن يُقدِّم استقالته بنفسه وهو الأكثر كرامة، وإمَّا سيُضطر لعزله من منصبه. انتهى الحديث بأن قرَّر شعراوي جمعة أن يُقدِّم استقالته، وبعد أن غادر جمعة مقر الرئيس توجَّه ليُخبر رفاقه بما حدث، وكانت النتيجة أن اتخذوا قرارًا بتقديم استقالاتهم جميعًا. قرار غبي وسخيف لو أن «المتآمرين» كانوا يرغبون حقًّا في إزاحة السادات! فما الذي منعهم وقد كان الجيش والشرطة والاتحاد الاشتراكي العربي ومجلس الأمة ومنظمات الشباب والصحافة والإذاعة وهلم جرًّا رهن إشارتهم. أمَا كانت لديهم حسابات ساذجة في أن تُجبر الاستقالة الجماعية لقيادات الدولة السادات على أن يُغيِّر قراره بعزل شعراوي جمعة، أو على إجباره على تغيير النهج الذي اتخذه بأن يحكم منفردًا ويوافق على أن «يحكموا معًا» (؟). لقد تصرَّف السادات وفقًا لمنطقه هو؛ منطق التآمر الذي مارسه زمنًا طويلًا إبان عمله السري. لقد أدرك أن تنازله الآن سوف يكون وبالًا عليه في المستقبل.

لقد كشفت الاستقالة الجماعية له عن جوهر القضية؛ كانت الاستقالة تعني أن الناصريين كانوا يرَون أن طريقهم مختلف عن طريق السادات. وما دام الأمر كذلك، فهذا يعني أن من المستحيل مستقبلًا الاعتماد على خضوعهم لطاعته وولائهم لرئيسهم ومن ثم لقراراته. وحتى وهم بعيدون عن السلطة فسوف «يُعكِّرون المياه» لأنهم مشهورون، ولأنهم أذكياء، ولأنهم يتمتَّعون بالنفوذ والثقة وخاصةً من جانب الاتحاد السوفييتي، ولأنهم معروفون في البلاد الأخرى وخاصةً في الدول العربية. إذن فهم أعداؤه، إن لم يكن من ناحية الشكل، فمن الناحية النفسية؛ وهو ما يعني أنه إذا كان عليه أن يحكم منفردًا، فعليه بالضرورة أن يقوم بعزلهم عن المجتمع وعن الدولة، وأن يفعل ذلك بكل ثبات.

اعتقل السادات كلَّ من أشرنا إليهم من شخصيات، واضطُر بالطبع أن يضم إليهم العديد من الأشخاص جرت لهم محاكمة غير علنية صاخبة، وُجِّهت إليهم فيها تهمة الخيانة (!)، وصدر الحكم فيها بإعدامهم شنقًا، ثم تمَّ تعديل الحكم بقرار شخصي من الرئيس إلى السجن المؤبَّد بالنسبة «للمتهمين» الأساسيين. ولا يمكن أن نعزو هذا «الكرم» من الرئيس إلى خصاله الشخصية النفسية بطبيعة الحال. كان من الواضح أن السادات وضع في حسبانه ألَّا يقطع «شعرة معاوية» مع الاتحاد السوفييتي؛ إذ كان يعلم أن ما جرى من تنكيل لم يكن ليمر مرور الكرام؛ فالاستمرار في المناورة مع الاتحاد السوفييتي ما زال أمرًا واردًا في مُخطَّطات السادات.

وأخيرًا، وبدايةً من منتصف شهر مايو عام ١٩٧١م، دانت السلطة بأكملها لمحمد أنور السادات، ليس فقط اسميًّا وإنما فعليًّا أيضًا. الآن لم يعد أحد يُحيطه من الشخصيات ذات النفوذ، الشخصيات صاحبة الرأي، الشخصيات التي ارتبطت بالعمل مع الرئيس الراحل عبد الناصر. لم يبقَ سوى إصدار الأوامر والنظر إلى كيف ستُنَفذ التعليمات.

وفي أبريل عام ١٩٧٣م استخدم السادات «الاحتياطي» الأخير من السلطة؛ فقد أعلن نفسه «الحاكم الأعلى» للبلاد، وبهذا أصبح من ناحية الشكل أيضًا فوق السلطة التشريعية، كما استولی لنفسه على منصب رئيس الوزراء، أمَّا منصب رئيس الاتحاد الاشتراكي العربي فكان يشغله بالفعل من قبل. وفي سياق ذلك، قام بحل اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي العربي. وهكذا جمع في يدَيه كل شيء بما في ذلك لقب القائد الأعلى لاتحاد الجمهوريات العربية والقائد الأعلى للقوات المسلحة المصرية.

ليست بنيتنا أن نستمرَّ في الحديث عن «قائمة الوظائف» التي شغلها السادات؛ فالحياة قد كشفت لنا بعد ذلك أنه كان أحيانًا ما يُعطي جزءًا من سلطاته (من أجل مصالحه الشخصية) لآخرين. يُعطيها ليضع هؤلاء الآخرين تحت قبضته، حيث يمكن أن يُسقط آثامه في الحكم على رءوسهم. على هذا النحو كان يتصرَّف؛ قام بترقية الذين ساعدوه لأسباب مختلفة، وأحيانًا لدوافع وطنية شريفة، ثم أقالهم بعد ذلك؛ إذ لم يكن ليسمح بأن تكون هناك فرصة أمام أحد ليكتسب شعبيةً في بلاد لها رئيس قادر مهيمن. وكثيرًا ما كان يقيل هذا الشخص أو ذاك ليُلقي على رأسه بتبعات كل الأخطاء الممكنة وغير الممكنة. وكثيرًا ما دفع للأمام بأناس عديمي الموهبة، مفترضًا أن استخدام رجل عديم الكفاءة أفضل من رجل ذكي مُتمرِّد. وعندما تنهار الأمور يمكن فصل عديم الموهبة غير مأسوف عليه، بل ويمكن أيضًا إلصاق كل النقائص الممكنة به.

إن القصة الموجزة لانطلاق السادات إلى السلطة كانت أمرًا ضروريًّا لكي نفهم على نحو أفضل هذه الشخصية المتعدِّدة الأوجه؛ لأنه لا شيء يمكن أن يُحدِّد ملامح أي شخصية سوى ما تقوم به من أعمال.

٢

على أي نحو يبدو الوجه السياسي للسادات؟ مَن الذين يمثِّلهم؟ مَن الذين يعكس مصالحهم؟ مَن يقف وراءه؟ بالطبع يمكن طرح العديد من مثل هذه الأسئلة وكلها مشروعة تمامًا، على الرغم من أن إعطاء إجابة واحدة عليها أمر بالغ الصعوبة.

فإذا تحدَّثنا بشيء من التعميم، ومن ثم إمكانية وقوع أخطاء في هذا الجانب أو ذاك، فإنه يمكن تحديد الوجه السياسي للسادات بوصفه ممثِّلًا لمصالح هذا القطاع من البرجوازية الوطنية التي لا تحوز ممتلكات كبيرة، ولكنها تمتلك شيئًا ما على أية حال؛ برجوازية عرفت مذاق الملكية الخاصة، وهي ترى أن علاقات الملكية الخاصة تعني السعي نحو الثراء المالي وليس الروحاني بالضرورة.

هذا القطاع من البرجوازية، سواء أكان صغيرًا أم متوسطًا، يتصف بضيق الأفق؛ فهو ينظر بحسد إلى جوانب القوة في الدول الغربية، وهو معادٍ بطبيعته للمُثُل الاشتراكية، حيث إن المبادئ الاشتراكية تضع حدًّا واضحًا بين طبقات المجتمع، وبالنسبة لهؤلاء البرجوازيين الصغار، مثل السادات، لا توجد طبقات، وعلى أية حال، فهي غير موجودة في مصر. ربما توجد في مكان ما هناك، حيث توجد الماركسية، ولكن في مصر؟ أين هي الطبقات في مصر؟ هناك مصريون فقط، بل ولا يوجد عرب، مصريون يتميَّزون بتعدُّد اللهجات.

كان ناصر يتحدَّث بإصرار عن شعبه باعتباره شعبًا عربيًّا، أمَّا السادات فكان يُشدِّد في حديثه على المصريين. في عهد ناصر كانت الدولة تُسمَّى الجمهورية العربية المتحدة، وفي عهد السادات أصبحت تُسمَّى جمهورية مصر العربية. في عهد ناصر كان القوميون يسعَون «لإثبات» أن العرب جاءوا بثقافتهم إلى مصر، وفي عهد السادات راحوا يُثبتون أن الثقافة المصرية كانت حتى لحظة وصول العرب أكثر قوةً وعمقًا وتطوُّرًا، ومن ثم فإن القادمين العرب استوعبوا الثقافة المصرية المحلية.

إن السادات، خصم الرأسمال الضخم والبرجوازية الكبيرة، لا طاقة له من ناحية المبدأ، على مواجهة كل أشكال الملكية الخاصة، التي هي أساس استغلال الإنسان للإنسان؛ لأنه لم يكن ينتمي قط إلى البرجوازيين الكبار، وعلى الرغم من أنه كان يُكِن لهذه البرجوازية الاحترام في قرارة نفسه و… يخشاها.

نعم يخشاها؛ لأنه كان واثقًا أن البرجوازية ليست في حاجة إلى السادات، وأنها ستُلقي به في المكان المناسب. إن البرجوازية المصرية بحاجة إلى رجل ذكي مثقف، وإلى زعيم يعرف قضيتها جيدًا. والآن؟ الآن سوف يكون عليها أن تتحمَّله. ليس فقط تتحمَّله، بل وتساعده وتؤيِّده. لماذا؟ لأنها ترى السادات، ربما يسير، دون وعي منه، نحو إصلاح سلطة البرجوازية المصرية. وعلى أية حال، فإن مجمل سياساته في الشئون الداخلية والخارجية تُوفِّر ظروفًا مناسبة في هذا السياق، وهي لا تتعارض مع المصالح الجذرية للبرجوازية المصرية الكبيرة. الأمر الوحيد كيف ينبغي لفت نظره حتى يُسرع أكثر للعمل لصالح هذه البرجوازية بالإيقاع الذي تطمح إليه. لكن «الذنب» في ذلك ليس ذنبه؛ لقد مدَّت الإصلاحات الاجتماعية التي تمَّت في عهد عبد الناصر جذورًا عميقة، ولم يعد الشعب المصري شعبًا طيعًا لكي يُنفِّذ كل مطالب السادات. لقد ذكَّرَت الاضرابات والمظاهرات الجماهيرية القوية التي قادها العُمَّال بدعمٍ من الحركة الطلابية التقدمية، ذكَّرته مرارًا بضرورة وضع حد لصبره.

كانت النزعة البرجوازية لدى السادات تحمل طابعًا ريفيًّا نتيجة أصوله القروية. وكثيرًا ما كان يصوِّر في خطبه العلنية القرية المصرية باعتبارها مثالًا لمصر ونموذجًا للحياة الريفية الرغدة للمجتمع المصري كله. لم يتحدَّث السادات مرةً واحدة عن أن هذه القرية المصرية تحديدًا ذات أوجه متعدِّدة، هو لم يرَ أن فيها أغنياء وفقراء أصبحوا هكذا تحديدًا بسبب الظلم، فهو لم يرَ الاستغلال في القرية.

إن القرية بتقاليدها الريفية المسترشدة بالإسلام، والتي تعيش حياتها وفقًا لتعاليم الإسلام على مستوى الدولة كلها هي — بالنسبة للسادات — المثال «الاشتراكي»، هي الاشتراكية المصرية في فهمه، أو إن شئنا الدقة، على النحو الذي يُريده.

إن السادات، بقدر استطاعتي الحكم عليه من خلال خطبه وأحاديثي الشخصية معه، كان لديه تصوُّر مبهم للغاية في القضايا الاقتصادية، وفي هذا الشأن كان باستطاعة أي من رؤساء الوزراء أو من وزراء الاقتصاد أن يخدعه فيها بسهولة. كان السادات يولي ثقته لأي مقولة أو لأي رقم، إذا كان مصدره في ذلك شخصًا أهلًا للثقة في اللحظة الراهنة. كان باستطاعته، على سبيل المثال، أن يؤكِّد للأمريكيين بهدوء ودون أن يبدو عليه أي قدر من الارتباك أن رواتب المستشارين العسكريين السوفييت تُكلِّفه مبالغ باهظة، وأن عليه أن يدفع هذه الرواتب بالعملة الصعبة! بالمناسبة، لم تدفع مصر أي رواتب للسوفييت، ناهِيَك عن أنه لم تكن هناك أي حسابات مع مصر يتم التعامل فيها بالعملة الصعبة.

ذات يوم وإبَّان حدیثي مع الرئيس السادات، وكان في حالة مزاجية رائعة، وهو أمر نادر الحدوث، طرحت عليه سؤالًا حول تصوُّره لتطوير الزراعة المصرية في المرحلة المقبلة؛ ففي مصر لا توجد أراضٍ فائضة، بمعنى احتياطي من الأراضي الزراعية يمكن استغلاله؛ فالسكان يعيشون على شريط ضيق من الأراضي يصل في بعض التقديرات إلى ٣٪ من المساحة الإجمالية للبلاد، بينما تُمثِّل باقي الأراضي صحاري قاحلةً يمكن استصلاح بعضها. وتشير الإحصاءات أيضًا إلى أنه حتى لو جرى ري كل هذه الأراضي القابلة للاستصلاح وجعلها أراضي خصبة، فإن الأراضي المصرية المأهولة والمُستخدَمة لن تزيد على ٤٪ من إجمالي مساحة البلاد.

باختصار، زيادة الإنتاج الزراعي بفضل زيادة الأراضي المستصلحة محدودة بشكل واضح، وعلاوةً على ذلك، فإن الزراعة هي التي تمثِّل الجزء الأكبر في الاقتصاد القومي للبلاد؛ ففي مصر لا توجد ثروات طبيعية، ومن ثم فإن ارتباطها بالاستيراد من الخارج كبير، وهي مضطرة لأن تسوِّي حساباتها من منتجاتها الزراعية الخام أو المُصنَّعة. من هنا يتضح لنا الدور الهائل للزراعة، التي يعمل فيها بالمناسبة غالبية السكان. إن تنمية الزراعة ليست قضيةً اقتصادية فحسب، وإنما هي قضية اجتماعية؛ ولهذا فإن زيادة الإنتاج الزراعي والطرق المستخدمة من أجل ذلك سوف يتوقَّفان لا على الوضع الاقتصادي للبلاد إجمالًا، ولا على رفاهية السكان كلهم فحسب، وإنما على التركيب الطبقي للمجتمع المصري، ومن ثم على الشكل الاجتماعي للبلاد وعلى طابع العلاقات الاجتماعية فيها.

حاولت أن أطرح كل هذه المشكلات على السادات وكنت شديد الاهتمام بالاستماع إلى رأيه. وهنا انعكس على وجهه شعور واضح بالملل، وأجاب بأن علينا أن نُفكِّر في هذه القضايا «بعد النصر».

حاولت مرةً أخرى أن أُطوِّر فكرتي في اتجاهٍ مختلِف بعض الشيء؛ إذ كنت أرى أنه في سياق الطريقة الحالية للإنتاج سرعان ما تُصبح المنتجات الزراعية غير كافية لإشباع حاجات الغذاء والتصنيع والتصدير، ناهِيَك عن أن مساحة الأراضي القابلة للزراعة محدودة أساسًا. بالطبع فإن جزءًا من الزيادة في الإنتاج الزراعي يمكن الحصول عليه من خلال تكثيف الإنتاج، سواء باستخدام الأسمدة والبذور الجيدة، إلى جانب استخدام الميكنة الزراعية وما إلى ذلك من وسائل. ولكن حتى هذه الأمور لها حدود قصوى. سرعان ما أصبحت قضية زيادة الإنتاج وثيقة الصلة بنظام استغلال الأراضي وخاصةً الأراضي الصغيرة نسبيًّا؛ فمن المعروف أن فعالية الإنتاج تكون أكبر في الأراضي الشاسعة، حيث يمكن استخدام الميكنة الزراعية. إذن كيف يمكن التعامل مع الملكيات الصغيرة؟ ستظهر على الفور مسألة ضم الأراضي، وهنا تختلف الوسيلة؛ فإمَّا يتم زيادة الملكيات الصغيرة الخاصة على حساب شراء أراضي الآخرين؛ أي بإفقار البعض وإثراء البعض الآخر، وإمَّا بضم الأراضي بالإرادة الطوعية للفلاحين في إطار نظام المزارع الجماعية. ما الطريق الذي ستسير فيه القرية المصرية؟

اعترف السادات صراحةً أنه لم يُفكِّر من قبلُ في هذا النوع من القضايا. الأمر الوحيد الذي يؤمن به هو حكمة الفلاحين، الذين هم ملح الأرض، والقادرون على اختيار أفضل الحلول دائمًا بأنفسهم.

لم يكن إعلان السادات عن بناء الاشتراكية في مصر سوى كلام يستخدمه في المناسبات. وكثيرًا ما تحدَّث السادات في حضوري عن أنه لا يعترف إلا بالاشتراكية العلمية، وأنه لا يوجد هناك ما يُسمَّى ﺑ «الاشتراكية الإسلامية» أو «الاشتراكية العربية». كان السادات يؤكِّد لأنصاره في خطبه العلنية أن «المجتمع الجديد» (كان يخشى أن يسمِّيه بالاشتراكي) يجب أن يُبنى على أساس «العلم والإيمان»، لم يكن يُلقي بالًا لِمَا في هاتَين الكلمتَين من تناقض في المعنى. لا توجد في اللغة العربية كلمة «اشتراكية» الأجنبية، التي تحمل مفهومًا علميًّا خالصًا، ومن هنا أمميتها. أمَّا العرب فيُعلنون أن Socialism هي «الاشتراكية»، وأن الكلمة تعني «تكافؤ الفرص» و«المساواة» لا أكثر. ومن هنا فإننا عندما نتحدَّث عن الاشتراكية نعني شيئًا محدَّدًا، بينما تعني الكلمة بالنسبة للعرب شيئًا آخر. وعندما يتحدَّث العرب عن مجتمع ما يسود فيه تكافؤ الفرص (والذي يعني بطبيعة الحال الاشتراكية)، فإن علينا عند ترجمتها إلى أي لغة أخرى، سواء الروسية أو الإنجليزية أو غيرها، أن ندرك أن إخواننا العرب يتحدَّثون عن «الاشتراكية»، ونحن ندرك كل ذلك كما لو كُنا نتحدَّث عن الشيء ذاته وعن المفاهيم ذاتها. وإن كُنا في الواقع نتحدث عن شيئَين مختلفَين. كيف يمكن بناء الاشتراكية إذا كان بِنِيتهم بناؤها بمساعدة العقيدة الدينية؟ إن الدين هو العدو الأول والأمكر للاشتراكية، وهو يُخرج علاقات الملكية بعيدًا عن التحليل، ويفصل بين علاقات الناس في سياق عملية الإنتاج. كيف يمكن أن تكون هناك اشتراكية إذا لم تتعامل مع قضية علاقة الملكية الخاصة بوسائل الإنتاج؟

على أية حال، فقد كان تديُّن السادات مصطنعًا، صحيح أنه كان يُحب أن تُلتقط له الصور أثناء الصلاة في المسجد أيام الجمعة، وكان كثيرًا ما يتردَّد على قريته خصوصًا من أجل ذلك، ولمجرَّد أن يقول إنه مع الناس. وفي هذه الصور كانت عيناه تظهران وهما ترتجفان في خشوع، أو على العكس فيسجد بحيث تغوص جبهته في الأرض وقد أمسك في يده بالمسبحة. كان هناك بقعة قاتمة اللون في جبهة السادات، وهي علامة تلقى احترام المؤمنين الذين يعتبرون ظهورها أثرًا من كثرة الصلاة والسجود. وقد انتشرت طرفة تقول: إنها ليست بقعةً «مقدسة»، وإنما جاءت نتيجة أن ناصرًا كان كثيرًا ما يدفع إصبعه في جبهة السادات قائلًا له: «لماذا تدس رأسك في أمور لا تفهمها؟!»

وقد قصَّ عليَّ السادات ذات مرة بنبرة رقيقة كيف يُحب الصيام في شهر رمضان، وكيف يكون في «حالة» مدهشة في هذا الشهر. ولكن كيف يمكن الجمع بين هذه الطقوس الدينية المثالية وبين سوء استخدامه للمشروبات الكحولية، المُحرَّمة قطعيًّا على المسلمين، وكذلك تدخين الحشيش؟!

ليس من المستغرب أن السادات كان يخشى الماركسية وكلَّ ما يرتبط بها بشدة. كان يؤكِّد دائمًا أن منطقة الشرق الأوسط ليست «ناضجة» بعدُ لتقبُّل الماركسية. كان يشعر بإحساس باطني أن الماركسية هي عدوه القوي؛ ولهذا كانت الماركسية محظورةً في مصر. لم يكن لها مكان باعتبارها مذهبًا شرعيًّا، ولكن كان من المستحيل أن تختفي الماركسية في مصر؛ لأنها كانت موجودةً على الأرض، ولأنها عقيدة راسخة. كان العُمال والطلبة يتطلَّعون إليها، وكان عدد قليل من الماركسيين يخاطرون بحياتهم ليحملوها إلى جماهير العُمال؛ ولهذا فقد كان من الصعب ملاحقتها، ولكن كان من الممكن أن يكونوا علامةً تشير إلى أن في مصر أيضًا مجتمع مستنير يسمح بعمل الماركسيين.

كان السادات يقول لي أحيانًا «ماركسيونا»، وكان يقصد بذلك بعض المثقفين الذين كانوا ينتمون سابقًا إلى منظمات ماركسية مصرية. وقد تمَّ حظرُ هذه المنظَّمات، وزجَّ ناصر بقاداتها وقتها في السجون، ثم أطلق سراحهم بعدما طرأت على أفكاره بعض التغيُّرات. لم يصبح ناصر ماركسیًّا مطلقًا، ولكنه أدرك أن الماركسيين ليسوا خصومًا للثورة الوطنية التحرُّرية. وقد عمل جزء من هؤلاء الماركسيين في المؤسسات الصحفية، بل إن بعضهم شغل منصب الوزير. لكن هذا لم ينقذهم من ملاحقة السادات؛ فعندما كان يشعر بحاجته لأن يصب جام غضبه على أحد ما نتيجة وقوع اضطرابات دورية في البلاد، أو عندما تكون هناك ضرورة لإيجاد «كبش فداء» للفوضى الاقتصادية في البلاد التي تقودها قوًى أخرى ذات نفوذ. وهذا ما حدث فعلًا مع فؤاد مرسي، أحد قادة التنظيمات الماركسية والاقتصادي البارز، الذي عيَّنه السادات وزيرًا للتموين في الحكومة. لقد بذل مرسي جهدًا خارقًا، ولكن هل كان باستطاعته أن يحل مشكلة نقص السلع التي خلقها منتجو هذه السلع نفسها، والذين قاموا بإخفائها. هل كان بإمكانه وحده مواجهة التناقض القائم في النظام الاقتصادي الذي وضعه نفس هؤلاء البرجوازيين، مثل عبد العزيز حجازي؟ ولهذا بدا مرسي مناسبًا تمامًا لكي يُسقط الرئيس على رأسه، باعتباره وزيرًا للتموين، كل خطايا نقص السلع وتوقُّف آلاف محال القطاع الخاص؛ ولهذا كانت التهمة بالدرجة الأولى هي التقصير في عمل نظام التوزيع.

استشاط السادات غضبًا لأن الاضطرابات التي نشبت في أكبر مؤسسة مصرية؛ مصنع الحديد والصلب في حلوان، قد تمَّت بشكل منظم، وأنه لم ينجح في العثور على مُحرِّضين، ولأنه اضطُر للانسحاب والتراجع أمام عُمال حلوان الماركسيين. كانت اضطرابات حلوان عملًا سياسيًّا منظمًا قامت به الطبقة العاملة المصرية. من هنا كان خوف السادات من حلوان وخوفه عمومًا من هذا الفلاح الصناعي غير المفهوم. بالمناسبة، لم يقم السادات مرةً واحدة بزيارة هذا الصرح الصناعي الأكبر في البلاد، ولم يحضر افتتاح المجمع الذي تمَّ بناؤه بالتعاون مع الاتحاد السوفييتي.

على أن السادات كان لديه شعور باطني يدفعه لاستخدام «ماركسييه» في العمل في الوقت المناسب؛ ففي صيف عام ١٩٧١م وقعت في السودان المجاور أحداث سياسية ضخمة تُعَد في جوهرها انقلابًا شارك فيه الماركسيون السودانيون أيضًا. كنت في ضيافة السادات في مقر إقامته في المعمورة بالقرب من الإسكندرية، كُنَّا نتحدَّث ونحن جلوس إلى المائدة المقامة في الهواء الطلق على شاطئ البحر، اقترب الياور منه ودسَّ في يده بورقة دون أن ينبس ببنت شفة. أطلق السادات صيحة دهشة قائلًا: «يبدو أن انقلابًا وقع في السودان.» سألته: «ومن الذي قام بالانقلاب؟» أجاب السادات: «غير معروف تمامًا حتى الآن، ولكن يبدو أن الماركسيين على مقربة مني.»

عند لقائي بالسادات في اليوم التالي أخبرني أنه اتخذ قرارًا أن يُرسل إلى السودان «بعضًا من ماركسيينا»، على حد تعبيره، بزعم أنهم سيستقبلونهم هناك أفضل من أي شخص آخر، بالإضافة إلى ذلك فسوف يكون باستطاعتهم أن يعرفوا على أي نحو تسير الأمور في السودان. وقد تبيَّن أن إرسال هؤلاء الماركسيين كان نوعًا من المناورة؛ فالسادات لم يكن متعاطفًا للحظة واحدة مع هؤلاء الذين استولَوا مؤقتًا على السلطة في السودان، وعلاوةً على ذلك فقد توفَّرت معلومات تشير إلى أن مصر كانت تؤيد هؤلاء الذين جرت الإطاحة بهم. وقد أثبتت الأحداث التالية بشكل واضح بعضًا ممَّا يتمتَّع به السادات من خصائص.

لقد وصلتني أنباء مؤكَّدة تفيد أن كتيبةً من المظليين «الصاعقة» تتجمَّع في مطار غرب القاهرة. وهي فرقة إنزال خاصة للنقل بسرعة إلى السودان. وقد تلقَّيت هذه المعلومة عند خروجي من السفارة متجهًا إلى السيارة لألحق بالسادات في عمل ما عاجل. لم يكن لديَّ متسع من الوقت للاتصال بموسكو فقرَّرت أن أُعالج الأمر بنفسي. كنت أرى أن من الضروري طرح موضوع تدخُّل مصر بحيث لا يتصوَّر السادات — من ناحية — أن هذا تدخُّل في الشئون الداخلية، ومن ناحية أخرى بحيث لا يتضح له مصدر المعلومات. رحت أُفكِّر في هاتَين المشكلتَين حتى وصلت إلى مقر السادات في منطقة القناطر، التي تقع على بعد ٣٥ كيلومترًا من القاهرة.

عندما انتهى حديثنا في الموضوع الأساسي الذي جئت من أجله، سألت السادات عن الجديد الذي سمع عنه بشأن الأحداث في السودان، وعن التقرير الذي أحضره «ماركسيوه». تحاشى السادات الإجابة بعد أن قال لي إنه لم يتعرَّف بعدُ على التقرير. أبديت ملاحظتي أن الحديث قد اشتدَّ في الأوساط الدبلوماسية حول الزعم بأن مصر تنوي التدخُّل عسكريًّا في أحداث السودان، وأن مظليين يتم الإعداد لإنزالهم في السودان وهلم جرًّا، وأنني أجبت على تساؤلات مشابهة طرحها عليَّ سفراء أجانب بقولي إن هذه مجرَّد شائعات مغرضة، وإن مصر لن تسمح بالتدخُّل في الشئون الداخلية لدول أخرى، وإن هذا تحديدًا ما أخبرني به الرئيس السادات؛ لأن مصر تُدرك أن تدخُّلها في الشئون الداخلية للسودان سوف ينعكس سلبًا على علاقاتها بالدول الأخرى.

نظر لي السادات باهتمام، وبعد أن تريَّث في الرد قال لي إن السفير السوفييتي على العموم قد لخَّص موقف مصر على نحو صحیح.

وفي اليوم التالي أبلغني السادات أن كتيبة «الصاعقة» لن تذهب إلى أي مكان، وأنها ستعود إلى ثكناتها في وقت متأخِّر مساءً.

على أن قوة مناهضةً للانقلاب نجحت بمساندة صريحة — كما يزعمون — من العاملين المصريين في المدرسة العسكرية الموجودة في الخرطوم في التغلُّب على هذا الانقلاب. وبعد يومَين اتفق أن الْتقيت من جديد في حديث مع السادات. كان واضحًا أنه في حالة من القلق والإثارة الشديدَين، الأمر الذي يؤكِّده أيضًا أنه أمر بإحضار فودكا له. جدير بالذكر أن السادات لسبب ما كان يعتبرني ممَّا لا يُعاقرون الخمر مطلقًا، وكان يأسف لذلك. راح السادات يحتسي الفودكا وحده دون شعور بالحرج على الرغم من حرارة الجو. كانت درجة حرارة الجو في ظل هذه الشجرة الضخمة، حيث جلسنا، لا تقل عن ثلاثين درجةً مئوية. قدَّموا له زجاجة فودكا وعلبة سردين مفتوحة دون شوكة أو مناديل ورقية. قال عبارته المعتادة التي أعرب فيها عن أسفه أن السفير لا يشرب، ثم شرب كأسًا ﮐ «بداية». شعرت بالحرج فطلبت أن يحضروا لي ولو بعضًا من الويسكي مع الثلج. فرح السادات على الرغم من أنهم لم يجدوا ويسكي في المنزل. بحثوا هنا وهناك حتى أحضروا زجاجةً تبقَّى بقاعها بعض من الويسكي. شعرت برجفة في أعماقي، ولكن بات عليَّ الآن أن أشربها.

كان السادات طوال الحديث يضع زجاجة الفودكا بالقرب منه، بينما رحت أرتشف الويسكي المُقزِّز. دقَّ جرس التليفون الموضوع جانبًا. أنصت السادات ثم قال وقد لمعت عيناه: «لقد أذاعوا نبأ مصرع وفد عراقي خاص كان في طريقه إلى السودان. انفجرت طائرتهم فوق العربية السعودية! لقد علمت بهذا الخبر من قبل!» وعندما لمح الحيرة في عينَي بدأ في شرح نظريته القديمة التي تقول: إن «هذه المنطقة»، ويعني بها أفريقيا والشرق الأوسط، «لم تنضج بعد للماركسية»، وأنتم «الماركسيون، تقعون في خطأ وأنتم تحاولون القفز على درجات السلم. أنتم تحاولون أن تزرعوا الماركسية هناك، حيث لا يمكن أن ترسخ. أمَّا ما يمكن أن يرسخ هنا فهو الإسلام فقط، باعتباره العقيدة الاجتماعية الأعلى، وهو أوسع وأعمق من الاشتراكية. الإسلام يحمل قدرًا أعلى من العدالة الاجتماعية، وهلم جرًّا.» كان منتشيًا من أثر الخمر ولكن باتزان، وكان الدخول معه في جدل وخاصةً وهو في هذه الحالة أمرًا لا طائل من ورائه.

بعد مرور يومَين تلقَّيت تعليمات بضرورة زيارة السادات على وجه السرعة، وأن أطلب منه مساعدته في استخدام تأثيره على النميري لوقف هذا الإرهاب السافر الذي تفشَّى في السودان، والذي أصبح من ضحاياه ليس فقط الذين شاركوا في الانقلاب، وإنما أيضًا كل التقدميين في السودان. وقد وردت على وجه الخصوص أسماء عبد الخالق محجوب زعيم الماركسيين السودانيين، والشفيع أحمد الشيخ رئيس نقابة العمال في السودان، وهو واحد من قيادات الاتحاد العالمي لنقابات العمال والحاصل على جائزة لينين الدولية للسلام؛ وكذلك زوجة الشافعي.

استقبلني السادات على سطح اليخت البحري الفاخر للملك فاروق، وكان راسيًا على الشاطئ في إحدى قنوات النيل عند القناطر الخيرية، طرحت على السادات مطلب القيادة السوفييتية، فأبدى ملاحظةً تفيد أنه يعرف الشافعي جيدًا، وذكر أنه سوف يكون أمرًا مخزيًا لو لقي حتفه. ثم قال مجددًا إن المنطقة لم تنضج بعدُ لقَبول الماركسية، وإن علينا أن نُدرك ذلك. تحدَّث السادات على نحو يبدو من خلاله وكأن الاتحاد السوفييتي كان شريكًا في كل الأحداث الدراماتيكية التي وقعت في السودان، بالرغم من أن السادات كان يعلم جيدًا أننا لم نشارك فيها. وعدني السادات بالتباحث مع النميري، ونادی علی یاوره وأمره بأن يصله هاتفيًّا بالخرطوم. تأخَّر الاتصال طويلًا فانطلقت عائدًا إلى القاهرة. لدى وصولي إلى السفارة أبلغوني أن وزير الخارجية محمود رياض اتصل وطلب سرعة الاتصال به، وهو ما قمت به على الفور. أخبرني رياض أن يُبلغني نيابةً عن السادات أن طلبنا جاء متأخرًا للغاية، وأن محجوب والشافعي قد أُعدما. هل حاول السادات أن يفعل شيئًا أم لا، لا أعرف، على الرغم من أن هيكل أكَّد لي فيما بعدُ أنه تحدَّث مع نميري بنفسه بِناءً على طلب السادات.

كانت علاقة السادات أيضًا بالمنظمة السياسية الوحيدة في البلاد؛ الاتحاد الاشتراكي العربي، والتي كان على رأسها، علاقةً من أجل المظهر السياسي للسادات فقط. وقد ظلَّ الاتحاد الاشتراكي العربي منظمةً لا شكل لها على الإطلاق، ويمكن القول إنها كانت منظمةً سياسية محلية.

كان الفرق بين علاقة ناصر والسادات بالاتحاد الاشتراكي العربي يتمثَّل في أن ناصرًا أدرك ضرورة وجود منظمة في البلاد تضم أصحاب الفكر الواحد، وحزب يمكن أن يكون حاضنًا لفكرة ثورة التحرر الوطني، كما يمكن أن يكون مُنظِّمًا للجماهير تحت شعار القومية التقدمية، وحاملًا للأفكار القومية إلى الجماهير. كان الاتحاد الاشتراكي العربي بذرةً لهذا الحزب الذي يمكن أن ينمو من خلاله التنظيم الذي أطلق عليه ناصر اسم «طليعة الاشتراكيين».

كان السادات يشعر أن الاتحاد الاشتراكي العربي لن يُمثِّل له نقطة ارتكاز كما أراد ناصر لنفسه، وإنما سيكون منافسًا له ومراقبًا لتصرُّفاته باعتباره رئيسًا وقائدًا لمصر. في الاتحاد الاشتراكي العربي سيصبح بشكل أو بآخر «على نفس الدرجة» مع باقي رجال الدولة، وهو ما لم يكن السادات ليسمح به. كان السادات ينظر دائمًا بريبة تجاه أي نشاط اجتماعي وأيديولوجي. إنه «رجل الأفعال»، أمَّا الأيديولوجيا فهي للآخرين والمنظمات كذلك.

طوال شهور وجوده في منصب الرئيس زاد إيمان السادات بأن الاتحاد الاشتراكي العربي بالنسبة له هو مجرد عبء. صحيح أن اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي العربي قد عقدت اجتماعها تحت رئاسته، لكن الخطباء فيها تبارَوا في انتقاد تصرفاته وتحدثوا عن رفضهم لقراراته التي اتخذها، فهل يمكن أن يتكرَّر ذلك ثانية؟ نفس الشيء تقريبًا حدث في اجتماعات اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، وإن جاء النقد فيها أقل حدة. على العموم فقد بدا واضحًا أن باستطاعة اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي وكل المحافظات والمدن أن يتحوَّلوا بسهولة إلى «مراكز قوًى» تقف في مواجهته هو رئيس البلاد. ليس عبثًا أن «المتآمرين» الذين استطاع أن يضعهم في السجون لمدة طويلة كانوا يتخذون الاتحاد الاشتراكي العربي ومنظماته بمثابة نقطة ارتكاز قوية لهم.

على أن رفض الاتحاد الاشتراكي العربي رفضًا تامًّا كان أمرًا مستحيلًا، وهو ما كان السادات يُدركه جيدًا؛ فمصر سوف تصبح دولةً متخلِّفة أمام العالم أجمع، عندئذٍ ليبقَ الاتحاد الاشتراكي العربي قائمًا، أمَّا اللجنة التنفيذية العليا فلا ضرورة لها. سوف يجري حل هذه اللجنة. كان ناصر يريد أن يُحوِّل اللجنة التنفيذية العليا في عهده إلى مكتب سياسي، أن يُعطيه وظيفةً مماثلة للمكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي، الذي كان مُعجبًا بعمله.

في البداية وضع السادات عزيز صدقي على رأس الاتحاد الاشتراكي العربي، وهو الرجل الذي لم يعمل قبل ذلك مطلقًا بالسياسة، ثم جاء بعده عبد السلام الزيات، سكرتيره الأسبق، المثقف صاحب الهوى الماركسي. كانت حسابات السادات في ذلك أن يقول: انظروا جميعًا، إن مصر باعتقال الناصريين لم تنحرف يمينًا، إنها لا تزال تسير يسارًا. وعلى الرغم من حل اللجنة التنفيذية العليا، ظلَّ الأشخاص المعروفون للعالم أجمع بأنهم تقدُّميون يرأسون الاتحاد الاشتراكي العربي.

بوصولهما إلى الاتحاد الاشتراكي العربي، نجح كل من صدقي والزيات في الحصول على موافقة السادات على جذب الماركسيين المصريين للعمل في هيئات الاتحاد الاشتراكي العربي وفي غيرها من المنظمات الجماهيرية. كان الأمر شاقًّا آنذاك على السادات الذي قَبِل الأمر على مضض. اضطلع صدقي والزيات بالعمل في الاتحاد الاشتراكي العربي، ولكن ليس في هذا الاتجاه الذي تصوَّره السادات، فوضعا «برنامجًا للعمل» يربط بشكل جيد بين الشعارات الأيديولوجية التقدمية بأعمال محدَّدة تتمثَّل في خطط البناء الاقتصادي لمصر. كان برنامجًا متقنًا في الواقع استهدف إجراء إصلاحات اجتماعية واقتصادية في البلاد. واستند البرنامج لا على النيات الحسنة والأماني الطيبة، وإنما على حسابات اقتصادية رصينة جديرة بالاعتبار.

كان الأمر الواضح هنا هو التعاون بين النظرية التقدمية التي وفَّرها الزيات والاقتصاديون، كما لوحظ فيها إسهام الاقتصادي العملي الموهوب عزیز صدقي. وقد أسفر الجهد عن وثيقة تتميَّز بالجمع بين النظرية والتطبيق. وكان من الضروري الموافقة عليها في مؤتمر الاتحاد الاشتراكي العربي في يوليو ١٩٧١م.

تمثَّلت القيمة الكبرى للبرنامج الذي أعده صدقي والزيات في أن العمال في كل المجالات الاقتصادية للبلاد تسلَّموا بالفعل ما يمكن أن نعتبره مهمةً عملية مُحدَّدة لعملهم وحياتهم. وقد كشفت هذه المهمة بوضوح أن تحقيق هذا المستوى أو ذاك من الإنتاج في مجال مُحدَّد من مجالات الاقتصاد، ومن ثم في مصنع بعينه أو في أي مؤسسة، سوف يؤدِّي إلى خطوات ملموسة تتعلَّق بالضمان المادي والثقافي والمعيشي لهؤلاء العمال. وقد رسم البرنامج أيضًا خطوات محدَّدةً لتحجيم نفوذ القطاع الخاص واستخدامه لصالح العمال جميعًا. أتذكَّر أنه في سياق إعداد برنامج صدقي والزيات كانا كثيرًا ما يستفسران مني عن الخطط الخمسية السوفييتية الأولى وعن معناها التنظيمي وعن العمل السياسي الذي توسع في بلادنا في تلك السنوات حول الخطط الخمسية التي أصبحت بمثابة خطط لحياة كل عامل.

تمَّت الموافقة بطبيعة الحال على البرنامج في مؤتمر الاتحاد الاشتراكي العربي، على الرغم من أنني كنت على يقين أن السادات نفسه لم يقرأه كاملًا على الأرجح، فضلًا عن أن البرنامج كان كبيرًا للغاية من حيث حجمه. على أية حال فقد كنت أثناء لقاءاتي بالسادات أسأله عن الاتجاهات الأساسية في البرنامج، الذي ما زال في مرحلة الإعداد، ولكنه لم يكن باستطاعته أن يُعطيني إجابةً واضحة، لكنه استمع إليَّ بمزيد من الاهتمام عندما حدَّثته عن الإجراءات التي وردت في مشروع البرنامج.

عندما ألقى السادات تقريرًا في المؤتمر حول هذا البرنامج، تمَّ إعداد خطاب مناسب ليلقيه في هذه المناسبة. على أنه بدأ لا بالحديث عن القضايا الواردة في البرنامج، وإنما بالحديث في موضوعه المفضَّل وهو الوضع الدولي والصراع مع إسرائيل. وفي هذا الصدد لم يكن السادات بحاجة إلى ورق مكتوب، وحتى لو كان هناك شيء مُعَد لذلك؛ فإنه لم يكن ليعبأ به. كان من المُلاحَظ دائمًا كيف كان من الصعب قراءة شيء ما كتبه له آخرون. شيء لا يعبِّر عن تركيبة أفكاره ومزاجه، اللذَين يتشكلان لحظة إلقائه لخطابه. وقد كان هذا بالنسبة له، كإنسان مزاجي، أمرًا حاكمًا.

كان السادات مولعًا بالخروج عن الموضوع الرئيسي، وقد بدا أنه لا يستطيع التوقف عن الحديث في مجال العلاقات الدولية. لقد ظهر لديه الآن مزاج نفسي مختلف. كان من الصعب عليه العودة إلى الجزء العملي في خطابه والخاص ببرنامج العمل. على أية حال فقد توقف، ثم التزم الصمت طويلًا، محدقًا في الأوراق الموضوعة أمامه على المنصة، كأنما هو غير مدرك ما الذي جاء بكل هذه الأوراق إلى هنا. وبعد انقضاء فترة الصمت الطويلة، قال إن مشروع البرنامج قد تمَّ توزيعه على الأعضاء جميعًا؛ ولهذا فلا حاجة إلى عرضه. واصل السادات النظر في الأوراق ثم راح يقلِّبها على نحو آلي واضح، متظاهرًا بالاهتمام وكأنما يبحث عن شيء ما، ولكنه لا يجد ما يريد أن يركِّز عليه اهتمامه. جزء من الأوراق سقط على الأرض فلم يُعِره السادات اهتمامًا كأنما لم يلحظه مواصلًا فحص الأوراق واحدةً وراء الأخرى. عندئذٍ نهض الزيات عن مكانه كرئيس للمؤتمر واقترب من المنصة وراح يلملم الأوراق ويضعها أمام السادات، ثم ابتعد عائدًا إلى مكانه. وبدا أن السادات لم يلحظ أي شيء. تفحَّص جدولًا في الوثيقة، حيث كان يقلب الأوراق في الملف ثم قال: هاكم على سبيل المثال ما يجب أن يصل إليه إنتاج الطاقة الكهربائية، ثم ذكر رقمًا. فترة أخرى من الصمت، ومرةً أخرى تتطاير بعض الأوراق من على المنصة إلى الأرض والسادات لا يلاحظ شيئًا. ومرةً أخرى ينهض الزيات ويقترب ويرفع الورق ويضعه أمام السادات ثم يعود إلى مكانه ليتكرَّر الأمر مرةً أخرى. لم يعد الأمر مفهومًا. تُرى هل يسخر السادات من الوثيقة، أم تُراه ثملًا؛ إذ كان يتصرَّف عند وصوله إلى المنصة تصرُّف شخص في حالةٍ غير طبيعية. راحت القاعة الغارقة في الصمت والتي تحتوي ثلاثة آلاف عضو ينظرون ويتابعون هذه الحيلة الغريبة للرئيس. كان الجميع يشعرون بحرج شديد.

أنهى السادات خطابه كيفما اتفق بعد أن أعلن أنه ما دام كل شيء مكتوبًا في الوثيقة التي تمَّ توزيعها على الأعضاء، إذن فكل شيء واضح. تولَّد لديَّ انطباع أن السادات تعمَّد أن يقوم بتمثيل هذا المشهد. كان يشعر أنه ليس الشخص الرئيسي وراء هذا البرنامج، وأن البرنامج لا يمت إليه بصلة. وبالمناسبة فقد قام السادات فيما بعدُ بعزل صدقي، ومن بعده الزيات عن منصب الأمين الأول للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، وعيَّن فيه سيد مرعي — الإقطاعي — لسان حال المصالح البرجوازية المصرية الكبيرة. لم يكن هناك شيء أكثر إهانةً لفكرة وجود منظمة تقدمية في مصر من تعيين مرعي في هذا المنصب. علاوةً على ذلك فقد كان مرعي خصمًا شخصيًّا لصدقي من الناحية الأيديولوجية. كان صدقي يدافع عن تصنيع البلاد ويسعى لتنمية القطاع الحكومي بكل الوسائل، ويميل للاتحاد السوفييتي، أمَّا مرعي فكان يضع تركيزه على الزراعة وازدهار القطاع الخاص والتوجه ناحية الغرب.

بدأ مرعي بمباركةٍ من السادات في «إعادة تنظيم» الاتحاد الاشتراكي العربي؛ بدأت العديد من اللجان واللجان الفرعية في عقد الاجتماعات، تمَّ نسيان البرنامج الحيوي للإصلاحات الاجتماعية وتوقَّف العمل السياسي بين الجماهير. لكن صدقي والزيات واصلا العمل بطريقة أخرى؛ في تلك الفترة تمَّ تعيين صدقي رئيسًا للوزراء، والزيات نائبًا لرئيس الوزراء. بدأ الاثنان في عقد اجتماعات الحكومة خارج العاصمة، في المدن الكبرى والمحافظات. وهناك في القاعات المفتوحة راحوا يتدارسون القضايا المتعلِّقة بكل محافظة أو مدينة على حدة وبشكل مُحدَّد، وأثبتا بشكل واضح أن الحكومة تعكس مصالح الكادحين، وكشفا عن الطاقة الكامنة المخفية لدى المحافظين، وأظهرا النزعة البيروقراطية لدى السلطات المحلية … إلخ. وجدت هذه الاجتماعات الحكومية شعبيةً كبيرة في أوساط الكادحين، ولكنها أثارت — بطبيعة الحال — حفيظة وكراهية البيروقراطية المصرية التقليدية التي كان يستند عليها الرئيس نفسه بشكل كبير.

وعلى الفور، أُقيل صدقي من منصبه رئيسًا للوزراء ومعه الزيات في نفس الوقت، اللذَين أصبحت لهما شعبية كبيرة فاقت شعبية الرئيس، وأصبحت إنجازاتهما تقف حجر عثرة أمام مصالح البرجوازية المصرية الكبيرة التي راح السادات يعتمد عليها أكثر فأكثر. وهنا عيَّن السادات حافظ غانم أمينًا أول للاتحاد الاشتراكي العربي، وزير التعليم السابق، أحد المُخلصين من الحرس القديم، لا عقيدة له، باختصار، الشخص المُطيع الذي يفعل ما يؤمر به. بدأ غانم في «إعادة تنظيم» الاتحاد الاشتراكي العربي مرةً أخرى والعمل في إعداد ما عُرف باسم «وثيقة العمل»، وهي تُعد من الناحية العملية نفيًا لكل ما تمَّ التأكيد عليه منذ عامَين مضيا. كانت هذه الوثيقة تتضمَّن أحكامًا مغلوطة بشأن العلاقات الدولية وتزييفها لسياسة الاتحاد السوفييتي، فضلًا عن دعوتها للانفتاح أمام رأس المال الخاص. كان هذا هو الهدف الأساسي لهذه «الوثيقة». تحوَّل الاتحاد الاشتراكي العربي في الخطة التنظيمية له إلى مجرَّد منظمة «واجهة» تقوم بعقد اجتماعات جماهيرية لتُبلغ السلطات بالمزاج السائد في البلاد. كانت هذه بالطبع خطوةً إلى الخلف، لكنها كانت تناسب السادات ليصبح الاتحاد الاشتراكي العربي منظمةً تعمل لخدمة الرئيس. وبطبيعة الحال تمَّ إغلاق معهد الدراسات الاشتراكية، وهو مركز للدراسات العلمية كان تابعًا للاتحاد الاشتراكي العربي؛ إذ لم يعد السادات بحاجة إليه. هكذا أصبحت البلاد مرتعًا «للأفكار الحرة».

كان السادات يرى أن كل الوسائل صالحة من أجل تنفيذ سياسته المضمرة. وعدو اليوم يمكن أن يُعَد غدًا أفضل صديق، على الرغم من أن سلوك هذا العدو، أو الصديق الحديث العهد، لم يتغيَّر في جوهره قَيد أُنملة. وفي هذا السياق تكون المبادئ أمرًا غير ذي أهمية.

ولكن هل يمكن، على سبيل المثال، أن يتباهی شخص، أيًّا كان، لديه ولو قليل من الاحترام لذاته، بأنه كان يتعاون مع النازيين الفاشيين؟ بالطبع لا يوجد، لكن السادات بإمكانه أن يفعل ذلك. لزمن طويل راحت الأحاديث تدور أن السادات عمل في خدمة الألمان أو تعاون معهم إبَّان الحرب العالمية الثانية. لقد قدَّم الجيش السوفييتي ومعه جيوش الحلفاء في نضالهم ضد هتلر ملايين الأنفس ثمنًا باهظًا لإنقاذ العالم من هذا الطاعون الأسود الذي جاء لاستعباد كل شعوب العالم، ومن بينها شعوب أفريقيا والشرق العربي. أي وعي سیاسي يمكن أن يكون لدى إنسان يسعى للتعاون في تلك السنوات مع الألمان حتى لو كان المُبرِّر لديه هو النضال ضد الإنجليز، الذين كانوا يحكمون مصر آنذاك. لقد ظلَّت هذه الأحاديث مُجرَّد شائعات يمكن أن تُصدَّق ويمكن أن تُرفض. وقد كان معروفًا على أية حال أن السادات قد زُج به في السجن. ويمكن أن يُفسَّر ذلك بأنه كان عقابًا له لنشاطه المعادي للاحتلال، وأن اتهامه بالتعاون مع النازيين الفاشيين كان للنَّيل منه والحط من شأنه.

ولكن، ها هو فيلي برانت المستشار الأسبق لجمهورية ألمانيا الاتحادية يصل في عام ١٩٧٤م في زيارة للقاهرة. وقد جرى استقباله، بطبيعة الحال، أفضل استقبال، كما اعتادوا في مصر دائمًا باعتبار الألمان أعداءً للإنجليز، ومن ثم اعتبارهم حلفاء لحركة التحرر الوطني في مصر. عقد السادات مؤتمرًا صحفيًّا بدأه بإلقاء خطاب، باللغة الألمانية، بعد أن صرَّح للصحفيين، الذين أخذتهم الدهشة، أنه يفخر بأنه كان يتعاون مع الألمان إبَّان الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي دفع الإنجليز إلى اعتقاله، وأنه استطاع أن يتعلَّم اللغة الألمانية أثناء وجوده في السجن! لا أظن أن صراحة السادات هذه قد لاقت إعجابًا من جانب براندت، فالرجل كان عدوًّا للفاشية، وكان يقف على الجانب الآخر من المتاريس إبَّان الحرب.

تحوُّل آخر مميَّز للسادات حدث في علاقته بالأمريكيين؛ فبعد وصوله إلى سُدة السلطة راح ينهال على الأمريكيين بالشتائم بحدة وحماس. وأشار — وهو على حق في هذا — أن الولايات المتحدة الأمريكية هي في الواقع شريك لإسرائيل في العدوان على الدول العربية، وأن عليها أن تتحمَّل مسئولية ما قامت به من أعمال إجرامية.

لم يستوجب الأمر سوى أن يقوم نیكسون بالكتابة إلى السادات وبذل الوعود له وإطرائه على نحو لبق، وغرس بذور الشك عنده تجاه الاتحاد السوفييتي، وسرعان ما بدأ السادات في التغير عن موقفه، في البداية بينه وبين نفسه، ثم بعد ذلك بشكل واضح أمام الجميع. عمومًا، كان تملُّقه الذي كان بلا شك يعتبر نفسه واحدًا منه. كان السادات يتحدَّث معي أحيانًا بسرور واضح عن تلقيه رسالةً دورية من نیكسون، وعن ردوده بتلك النبرة الحذرة، كما لو كان يريد أن يقول إن هذه المراسلات لا قيمة لها بالنسبة له، وأنه يتحدث معه «ندًّا لند»، وهلم جرًّا. من المميَّز هنا أن السادات لم يطلعني مرةً واحدة ولو على نص وحيد من هذه الخطابات، وعادةً ما كان يكتفي بذكر بعض عبارات عامة. على أنه فيما بعد وإبَّان حديثه مع القادة السوفييت كان السادات يشير إلى أنه أطلع السفير السوفييتي على هذه الرسائل، وأنها معروفة بالطبع للقيادة السوفييتية؛ ولهذا فإنه لا يجد ضرورةً من أن يكرِّرها … إلخ.

سرعان ما أحسَّ الأمريكيون بنقطة الضعف هذه لدى رئيس مصر. وإليكم مثالًا واحدًا. بعد اللقاء الأول بريجينيف ونيكسون في يونيو عام ١٩٧٢م، أعد رفاقنا في موسكو بيانًا باللقاء تمَّ عرضه على السادات. وفي اليوم التالي أرسل نيكسون إلى السادات رسالةً خاصة لم تكن تحتوي في حقيقة الأمر على أية معلومات جوهرية. واكتفى نيكسون في رسالته بتعداد القضايا التي جرت مناقشتها في هذا اللقاء، كان ذلك بمثابة نوع من «التقرير الودي» عن اللقاء لا أكثر. والملاحظ في هذه الرسالة أنها لم تأتِ على ذكر مناقشة الوضع في الشرق الأوسط؛ أي الموضوع الذي كان يُهم السادات بالدرجة الأولى، لكنها تضمَّنت في الوقت نفسه آياتٍ من المديح والإطراء على القادة السوفييت، حتى يتولَّد انطباع أننا (نحن الأمريكيين) نستطيع، على الأرجح، أن نسوي أمورنا بشكل جيد مع الروس، في الوقت الذي يوحي فيه غياب الحديث عن قضية الشرق الأوسط، أن الروس قد اتفقوا معنا على ألَّا نعطي اهتمامًا كبيرًا لقضايا الشرق الأوسط. بطبيعة الحال فإن هذه المعلومات كانت تتناقض ووثيقتنا التي جاء فيها أن الجانب السوفييتي يساند المصالح العربية. على أن ذلك خلق لدى السادات انطباعًا أضعف؛ لأنها — على أقل تقدير — وصلته متأخِّرةً وفي صورة تقرير مُعد على نحو جاف، بينما أرسل نیكسون تقريره بنفسه إلى السادات (!) (جدير بالذكر أن سفارتنا كان لديها هاجس تجاه إمكانية أن يتلاعب الأمريكيون بالخصال الشخصية للسادات، الذي كان يولي أهميةً كُبرى للِّقاء السوفييتي الأمريكي في مصير منطقة الشرق الأوسط). على الأقل لأنه كان يستشعر بقوة فكرة إمكانية «التآمر» السوفييتي الأمريكي. كان يؤمن بهذه الأكذوبة؛ لأنه كان يرى أن هذا النوع من السلوك الخائن أمر جائز من جانبه، ومن ثم رأى أن هذه الخطوة أمر جائز من جانبنا. ولهذا اقترحت السفارة مجيء أحد ما من الذين شاركوا في المباحثات في موسكو إلى القاهرة، يكون باستطاعته أن يُبلغ السادات بما حدث بالضبط بوصفة شاهدًا مباشرًا، إن جاز القول، ويُطلعه ﺑ «تفاصيل» المباحثات، التي لم تولِ موسكو اهتمامًا بها.

كان السادات يشعر بالإطراء عندما يتوجه إليه أرنو دي بورتشجيريف رئيس مجلة «نيوزويك» الأمريكية، رجل المخابرات المشهور، والذي لم يكن إطلاقًا من المدافعين عن المصالح العربية، يطلب إجراء مقابلة صحفية معه. وقد أجرى السادات العديد من مثل هذه المقابلات مع بورتشجيريف، ولكنه لم يُجرِ مقابلةً واحدة مع أي صحفي سوفيیتي.

وعندما أقام وليم روجرز وزير الخارجية الأمريكي آنذاك بزيارة للقاهرة في مايو ١٩٧١م، أُعجِب السادات به كثيرًا، وفي خطبه التالية، بما فيها تلك التي ألقاها أمام جمع غفیر سواء في مجلس الأمة أو أمام اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، كان كثيرًا ما يطلق على روجرز، بنوع من التبسُّط، اسم بیل تدليلًا. «قلت لبيل …» «قال لي بيل …» وهلم جرًّا من العبارات المماثلة التي راح السادات يستخدمها في خطبه.

كان السادات يُحب استقبال السيناتورات الأمريكيين حتى أكثرهم رجعية، وأثناء لقاءاته بهم لم يكن بطبيعة الحال يوجِّه أمامهم سهام النقد الحادة إلى السياسة الأمريكية التي كان يلجأ إليها في خطبه أمام المصريين. وهكذا ظلَّ جميع الأمريكيين راضين عن الحديث مع السادات؛ فقد وجدوا فيه — على حد قولهم — مُتحدِّثًا «ذكيًّا». وليت الأمر اقتصر على السيناتورات! فقد دأب السادات على استقبال صغار موظفي الخارجية الأمريكية، في الوقت الذي لم يتسن للعديد من السفراء الأجانب، ومن بينهم سفراء لدول كانت تُؤيِّد مصر تأييدًا كاملًا، أن يلتقوا على مدى وجودهم لسنوات طويلة في مصر بالسادات، على الرغم من أنه كانت لديهم تكليفات من حكوماتهم. كما كان السادات لا يميل إلى استقبال سفراء الدول الاشتراكية على وجه الخصوص، بل إنه كان يُحدِّد «أوقات» عدم رضاه بالنسبة لي فلا يستقبلني فيها.

من بين الذين جاءوا إلى مصر واستقبلهم السادات شخص نكرة يُدعى ستيرنر يعمل رئيسًا لقسم الشئون المصرية في وزارة الخارجية الأمريكية، وهو من النوع المستفز الوقح يميل بشدة إلى إسرائيل. وقد شرح السادات أن ستيرنر هو الذي كان يرافقه في زيارته للولايات المتحدة عندما كان رئيسًا لمجلس الأمة! زاعمًا أنه معرفة قديمة لا أكثر. وبالطبع كان آل روكفلر يزورون السادات كثيرًا خفيةً أو جهارًا.

أمَّا القفزة المميتة الأكثر غرابةً فهي التي أقدم عليها السادات في نهاية عام ١٩٧٣م بعدما عُرف ﺑ «حرب أكتوبر»؛ عندما لجأ إلى الولايات المتحدة سياسيًّا، ولم يكن قد تمَّ بعدُ دفن الشهداء المصريين، الذين سقطوا بنيران الأسلحة الأمريكية التي زوَّدت بها الولايات المتحدة إسرائيل بكرم بالغ. وقد ظلَّت الولايات المتحدة، كسابق عهدها، تقف دائمًا إلى جانب إسرائيل؛ العدو الرئيسي لمصر، وهو موضوع خاص بطبيعة الحال، لكن سلوك السادات كان ذا دلالة تمامًا لعلاقته بالأمريكيين.

سرعان ما أصبح کیسینجر ببساطة هو «هنري» بالنسبة للسادات، ولم يكن السادات يناديه بشيء آخر سوى «أفضل أصدقائي». وعندما وصل کیسینجر إلى القاهرة في زيارة من زياراته التي لا تُحصى تصحبه زوجته، قال له السادات مُرحِّبًا به بلطف مبالَغ فيه: «أنت بين أصدقائك يا هنري.» وقد ترك ذلك بالطبع أثرًا طيبًا على الصحفيين الأمريكيين.

وعندما نشر الاتحاد السوفييتي في ديسمبر عام ١٩٧٤م خطاب أندريه جرومیکو إلى كيسينجر، وكان قد أرسله إليه في أكتوبر عام ١٩٧٤م، حيث طرح فيه موقف الاتحاد السوفييتي من التدخُّل الأمريكي في شئون بلادنا، وكشف فيه — أقولها بلطف — الخطأ الذي وقع فيه الأمريكيون تجاه هذا الموقف، أعلن السادات في عنادٍ تصريحاته الصحفية الجديدة أنه مستمر في ثقته في كيسينجر. وهو أمر لا يثير الدهشة؛ فكيسينجر وَعَد السادات بشيء ما، وقد ظلَّ السادات ينتظر بفارغ الصبر اللحظة التي يتحقَّق فيها هذا الوعد. لم يشأ السادات نتيجة جهله السياسي أن يرى أن كيسينجر قد حقَّق بالفعل مهمته الأساسية، وهي ضمان البقاء الآمن لإسرائيل عن طريق التوصُّل إلى اتفاق يقضي بإقامة منطقة محايدة، منطقة مُقيدة من ناحية التسليح وانتشار القوات المسلحة وما إلى ذلك؛ أي عن طريق اتخاذ إجراءات تضمن وقف إطلاق النار واستحالة قيام الحرب بممارسة أية ضغوط عسكرية على إسرائيل.

أمَّا كون السادات قد انتقل إلى جانب الأمريكيين صراحة، بعد أن خان في الواقع، من الناحية السياسية، صديقه المخلص؛ الاتحاد السوفييتي، فإنه لم يرَ في ذلك غضاضةً أو مجافاة للمنطق. لقد رأى السادات أنه من أجل أن يُنفِّذ سياسته فإن كل الوسائل حسنة، وأن المهم هو النتائج التي اعتبرها مقبولةً من جانبه، أمَّا ما عدا ذلك فليس له قيمة.

في ربيع عام ١٩٧٤م أعلن السادات صراحةً أن تسوية الصراع في الشرق الأوسط تتوقَّف على الولايات المتحدة الأمريكية وليس الاتحاد السوفييتي، الأمر الذي أثار ضجةً هائلة في الصحافة العالمية. وقد أعد السادات استقبالًا حافلًا إبَّان الزيارة التي طال انتظارها لنيكسون، وهو استقبال لم يُسبق أن قام بإعداده لأي من الشخصيات الأجنبية التي زارت مصر من قبل، حيث بلغ عدد رجال الشرطة وأعضاء الاتحاد الاشتراكي العربي الذين استقبلوه في الطرقات حوالي مليونَي شخص! وتمَّ تقليده أعلى وسام حكومي في الدولة وهو «قلادة النيل» (هل لا تزال لهذه القلادة قيمة بعد ذلك؟ هذه قضية أخرى). وعندما وضع الأمريكيون نیكسون وظهره إلى الحائط وطالبوه بالاستقالة، كان السادات هو الأجنبي الوحيد الذي أعلن أن الإطاحة بنيكسون سوف تشكِّل مأساةً على الولايات المتحدة الأمريكية!

٣

بالنسبة لنا فإن علاقة السادات بالاتحاد السوفييتي كانت تمثِّل، بطبيعة الحال، مصالح مفهومة. يمكن القول إجمالًا، إن هذه العلاقة كانت على طرف النقيض من علاقة ناصر بنا. كان ناصر ينطلق من السعي لاستغلال سياسة الاتحاد السوفييتي المعادية للاستعمار لتحقيق أهداف النضال الوطني التحرُّري الذي قاده الناصريون، وإلى إدراك ضرورة أن يقف إلى جانب الاتحاد السوفييتي باعتباره حليفًا سياسيًّا. ومن المعروف أن ناصرًا كان يفكِّر في العام الأخير من حياته في إقامة علاقات أكثر اتساعًا وعمقًا مع بلادنا، والدخول في تحالف معه. وكما هو واضح الآن فإن السادات يتلخَّص في العودة إلى الخلف، إلى ما بدأ به ناصر؛ أي الابتعاد عن العلاقات العميقة والعودة إلى استخدام الاتحاد السوفييتي لتحقيق أغراضه. ومن ثم تركَّزت اهتماماته في قضيتَين؛ تصدير السلاح والمساعدات الاقتصادية، زد على ذلك أنه كان لديه بعض العلم بشكل أساسي في السلاح، أو كان يظن أن يعلم، أمَّا في الاقتصاد فلم يكن يعلم أي شيء.

وإذا ما افترضنا — مجرَّد فرض — أن السادات قد وجد في مكان ما مصدرًا لتصدير السلاح الحديث بنفس الشروط المُيسَّرة التي يقدِّمها الاتحاد السوفييتي، وكان لديه اختيار مصدر للتصدير، لم يكن ليتردَّد في اختيار المصدر الآخر، الذي لا يرتبط بتلك الأيديولوجيا التي يتبنَّاها الاتحاد السوفييتي، على الرغم من أن المسألة الأيديولوجية لم تظهر في علاقاتنا مطلقًا. لقد انحصرت القضية برمتها في أنه وبحكم طبيعة الأشياء، لم يكن من الممكن أن تكون هناك دولة أخرى في العالم باستطاعتها أن تتعامل مع حركة التحرُّر الوطني على النحو الذي يتعامل معها به الاتحاد السوفييتي. من هنا كانت الإمكانية أمام مصر في الحصول على السلاح والدعم الاقتصادي. وهو ما فهمه السادات بصعوبة. كان السادات يرى في عناد أن مصر هي التي تقدِّم للاتحاد السوفييتي الدعم الأكبر من أجل أغراضها السياسية والعسكرية!

لم يكن أمرًا غريبًا أن يبدأ السادات اتصالاته الأولى مع الاتحاد السوفييتي فور تسلُّمه منصب الرئيس بطرح قضية توريد السلاح. حدث ذلك في اللقاء الأول مع الوفد السوفييتي الذي جاء للمشاركة في جنازة ناصر برئاسة ألكسي كوسيجين. وقد جاء طرح الموضوع على النحو التالي تقريبًا؛ إن الاتحاد السوفييتي لا يرغب لأسباب ما في توريد السلاح لمصر، بمعنی تسلیح مصر لتكون على نفس المستوى مع إسرائيل. بعبارة أخرى، فالولايات المتحدة تمد إسرائيل بالسلاح على نحو جيد، بينما لا يقوم الاتحاد السوفييتي بإمداد مصر بالسلاح على نحو كافٍ. وفي هذا السياق، لم يتطرَّق السادات بطبيعة الحال للحديث عن المستوى المنخفض للإعداد الفني للكوادر المصرية، وعن النقص الكبير في عدد الطيارين، وإنما راح يُطالب طوال الوقت بالطائرات، الطائرات ثم الطائرات، وخاصةً الطائرات المتطوِّرة، بل وحتى طائرات التجارب والتي تحتاج إلى خبرة.

وقد تناول أول لقاء عملي لي مع السادات بعد وصولي إلى القاهرة باعتباري السفير السوفييتي الجديد، تناول أيضًا مسألة توريد السلاح. دعاني السادات لمقابلته وسلَّمني طلبًا «عاجلًا» بخصوص طلبات التوريد، على الرغم من أن الموقف آنذاك لم يكن يستدعي السرعة.

هكذا بدأت اتصالاتي بالسادات. جدير بالذكر أن الأمر لم يقتصر على مُجرَّد لقاء واحد، وإنما تجاوزه إلى ما لا يقل عن مائتَي لقاء بالمعنى الحرفي للكلمة، آنذاك لم يكن السادات يُدرك معنى مسألة توريد السلاح. كان يطرح نفس السؤال حتى بعد أن كُنا قد انتهينا للتو من عقد اتفاقيات جديدة بشأن شتَّى الموضوعات. أمَّا مسألة توريد السلاح فقد كانت تسير على أفضل ما يمكن.

لقد اختار السادات التسليح موضوعًا رئيسيًّا في مباحثاته مع القادة السوفييت. وكان هذا الموضوع ضروريًّا له لأنه كان يستطيع دائمًا أن يعبِّر من خلاله عن سخطه على الاتحاد السوفييتي، وما دام هناك سخط فإن هذا يعني أن هناك ما يُبرِّر اتخاذه لأي خطوات عدائية تجاه الاتحاد السوفييتي. وما أكثر هذه الخطوات التي اتخذها في هذا الاتجاه.

أمَّا إذا سارت أمور التوريدات العسكرية على خير ما يُرام، فإن السادات كان يبتدع على الفور مبرِّرات جديدة. على سبيل المثال، إذا شاع خبرٌ مفاده أن الاتحاد السوفييتي امتلك سلاحًا جديدًا، فإن السادات سرعان ما يطلب الحصول على هذا السلاح، مقتبسًا الخبر المنشور في أي مجلة أجنبية كانت باعتباره مصدرًا لمعلوماته، بل حدث أن طلب السادات ذات مرة .. قنبلةً ذرية. ويبدو أنه لم يعد هناك ما يطلبه أكثر من ذلك.

كنت في ضيافة السادات في تلك الليلة. استقبلني في قاعة الاستقبال بالدور الثاني، حيث مسكنه الخاص إذا جاز التعبير. وبعد أن تحدَّثنا في الموضوع الرئيسي، بدأ السادات في الحديث عن زيارته التي قام بها منذ فترة قريبة إلى ليبيا، وراح يتذكَّر هذا الأثر المنعش الذي «أعاد إليه شبابه» من جراء اللقاءات التي تمَّت بينه وبين الزعيم الليبي العقيد القذافي وما إلى ذلك. ذكر السادات أن القذافي لديه الكثير من المال، وأن ليبيا دولة غنية ولديها نفط بكميات هائلة، وأنها على استعداد لمساعدة مصر، وهلم جرًّا. ثم عاد من جديد للحديث عن صفقات السلاح، ثم سألني بشكل غير مباشر على أي نحو يمكن أن يتعامل الاتحاد السوفييتي مع مطلب مصر إمدادها بالتكنولوجيا اللازمة لإنتاج قنبلة ذرية. لم يطلب السادات أن يبيع له السوفييت قنبلة، على الرغم من أنه كان على استعداد لشرائها لو عُرضت عليه، واقتصر الحديث حول نقل بعض التكنولوجيا فحسب، وليس نقلها كاملة، وإنما جزء منها. وافترض السادات أن ينقُل الاتحاد السوفييتي لمصر نفس الحجم الذي نقله في حينه للصين، والذي على أساسه استطاعت الصين أن تصنع قنبلتها الذرية. وفي سياق ذلك راح السادات يؤكِّد — بالطبع — أنه لن يستخدم هذه القنبلة إلا إذا بدأت إسرائيل باستخدام سلاحها الذري أولًا. وأضاف أنه وفقًا لمعلومات المخابرات المصرية فإن إسرائيل، كما يبدو، تمتلك إمكانات صناعة قنبلتها الذرية، بل إنها تمتلكها بالفعل. بالطبع فقد رفضت طلب السادات على الفور بعد أن أشرت عليه بألَّا يطرح هذا الموضوع مرةً أخرى.

بعد أربع سنوات، عندما زار نیكسون مصر، جرى الإعلان عن عزم الولايات المتحدة الأمريكية مساعدة مصر في بناء مفاعل ذري ذي قدرة عالية. لم يكن هذا الإعلان بطبيعة الحال سوى خطوة سياسية من جانب نیکسون تهدف إلى مزيد من ربط السادات، الذي كان يحاول باستماتة أن يحصل على قنبلته الذرية، بالولايات المتحدة الأمريكية. كان واضحًا للعالم أجمع أن مصر ليست بحاجة إلى هذا المفاعل لأغراض الحصول على الطاقة؛ فطاقة محطة القوى الكهرومائية في أسوان سوف تظل لزمن طويل غير مستخدمة بكاملها. كان السادات يود بالطبع لو أنه «خدع» الأمريكيين وحصل على إمكانية صنع سلاح ذري.

لم يكن السادات يتصوَّر بطبيعة الحال ماذا يعني إنتاج قنبلة ذرية. كان يعلم قليلًا للغاية عن أية عمليات إنتاج على وجه العموم. وإذا كان دخول معظم العرب فجأةً إلى قرن تكنولوجي جديد يثير لديهم نوعًا من الصدمة النفسية، فإن ذلك يصدق أيضًا بحقٍّ على علاقة السادات بهذا العصر.

لقد جرى التعامل في بلادنا مع التصنيع واستخدام المعدات عبر معاناة ومعايشة طويلة إذا جاز التعبير؛ ولذلك فقد تمَّ استيعابها على نحو صحيح. أمَّا بالنسبة للعرب الذين ظلوا في مستوًى منخفض من التطور الثقافي، فقد انهالت على رءوسهم فجأةً التقنيات والمعدات الحديثة. ولم يكن باستطاعتهم الاعتياد عليها وفهمها، لماذا وكيف؟ فمعظم السائقين في مصر لا يستطيعون إصلاح الأعطال، كل ما يستطيعون فعله هو الضغط على البدَّلات فحسب. وهم يستخفون بالآلات استخفافهم بالبشر والحمير. فإذا تعطل شيء في المُعَدَّة يرجعونه إلى إرادة الله: «الله أعطى، الله أخذ.» يمكنهم التخلُّص من هذه المُعَدَّة بدلًا من البحث في أسباب تعطُّلها ثم إصلاحها. وفي الجيش — على سبيل المثال — كان هذا الأمر مصيبةً حقيقية، كم من الجهد بذله مستشارونا ليُعلِّموا العرب التعامل مع المُعَدَّات ويغرسوا فيهم الخبرات الضرورية ﻟ «ثقافة» التعامل مع الآلة. وكما يتعلَّم الأطفال تنظيف أسنانهم بانتظام، كان البعض يرى أنه يمكن العيش دون تنظيف الأسنان. وفي هذا السياق يمكن أن نحكي هذه الحكاية المعبِّرة لكي نضع تصوُّرًا عن السادات، وهي تتعلَّق بإنتاج الطائرات في مصر. آنذاك تولَّى الألمان الغربيون مهمة بناء مصنع لتجميع الطائرات، فأحضروا عددًا من المُعَدَّات، وأغرقوا المصريين بمختلِف الوعود البراقة، وقاموا بتجميع طائرة أو اثنتَين، وانتهى الأمر عند ذلك؛ ففي مصر لا توجد قاعدة للمواد الخام لإنتاج مختلِف أنواع المعادن المطلوبة للطائرات، كما لا توجد صناعات كيميائية متطوِّرة وأخرى لإنتاج الأجهزة وغيرها، وغياب كثير جدًّا من المجالات الضرورية للغاية لكي يكون لديك صناعة طائرات خاصة بك. ولمَّا كان السادات دائم التعبير عن سخطه على حالة توريد المُعَدَّات العسكرية من الاتحاد السوفييتي، فقد أوحى له بعضهم بفكرة التخلُّص من التبعية الأجنبية وامتلاك مصنع خاص لإنتاج الطائرات على بقايا المصنع الذي لم يكتمل بناؤه. لم يكن هناك بطبيعة الحال سوى الاتحاد السوفييتي هو من باستطاعته مساعدة مصر في هذا الأمر، سواء لأسباب سياسية، أو لأسباب اقتصادية؛ ومن ثم فقد لجأ السادات إلينا. لقد كان الأمر بالغ الصعوبة، وخاصةً أن عددًا من المجموعات المؤهَّلة من الخبراء السوفييت قام بدراسة المسألة بدقة على الطبيعة وأعد المعلومات الضرورية والبراهين من أجل اتخاذ القرار المناسب. كان الأمر يتطلَّب بالطبع مزيدًا من الوقت، لكن السادات أعرب عن استيائه البالغ من عمل الخبراء السوفييت، دون أن يفهم لماذا يعملون على هذا النحو من البطء. كانت إحدى حججه المفضَّلة عندما يشتكي إليَّ هي: «لقد قام الاتحاد السوفييتي إبَّان الحرب العالمية الثانية بتطوير إنتاج الطائرات في العراء تمامًا — في حقل — خلال بضعة أسابيع. لماذا لا تستطيعون ليس فقط إقامة، وإنما حتى دراسة موضوع إنتاج طائرات خلال أسبوع أو اثنَين.» وعندما كنت أشرح له ما يتعلَّق بمثل هذا العمل من ظروف، وأن من الضروري دراسة الأمر حتى قبل وضع تصوُّر عن الإمكانات، كان السادات يقاطعني نافد الصبر ليقول: «لا، الأمر يتوقف على اتخاذ قرار سياسي، لو أنكم اتخذتم هذا القرار، لقمتم بإنتاج الطائرات هنا.» ببساطة، كان السادات لا يثق في أن هذه الأمور غاية في التعقيد، وأن أي إنتاج جديد يتطلَّب، حتى في الاتحاد السوفييتي نفسه، جهودًا ضخمة، على الرغم من أن لدينا عمليًّا كل شيء لازم لذلك؛ قاعدة للمواد الخام وصناعة جبارة، وكذلك، وهو أمر على قدر كبير من الأهمية، كوادر جيدة الإعداد، وهو ما لا تمتلك مصر منه شيئًا في الواقع.

وفي هذا السياق، طلب السادات الإعداد لإنتاج ذلك الطراز من الطائرات التي كان الاتحاد السوفييتي قد انتهى من استيعابها لتوه، وهي طائرات الميج-٢٣! وقد ردَّ السوفييت على طلبه بأن استيعاب إنتاج الطائرة الميج-٢١ قد تطلَّب من الهند على سبيل المثال سبع سنوات. على أن السادات أصرَّ على طلبه، فضلًا عن أن عددًا من «مستشاريه»، الخبراء على شاكلته في المعدات والاقتصاد، عبَّئوه ضدنا، أمَّا الإنجليز والأمريكيون اليقظون فقد أوعزوا له بفكرة مفادها أنه يمكن إنتاج هذه الطائرات في مصر بسرعة وبتكاليف غير باهظة نسبيًّا، بل إنهم دفعوه إلى زيارة المصنع، حيث عرضوا عليه الطائرة التي لم يتم استكمالها، والتي زعموا أنها تستطيع الطيران بضعف سرعة الصوت. بعدها قال السادات لي: «ألم أقل لك إن باستطاعتنا بناء طائرات بهذه السرعة، ولماذا لا يمكننا أن نُنتج بمساعدة الاتحاد السوفييتي طائرات يمكنها الطيران أسرع ضعفَين أو ثلاثة؟ الأمر يتوقَّف على السياسة، أنتم لا تريدون مساعدتنا مساعدةً حقيقية، دائمًا ما تكتفون بإمدادنا بشحنات شحيحة. تريدون أن نظل دائمًا أدنى من إسرائيل بدرجة … وهلم جرًّا.»

عقدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي اجتماعًا مهمًّا شارك فيه عدد من المُصمِّمين والمنتجين البارزين، وكنتُ من بين الحضور أيضًا. وفي هذا الاجتماع تمَّ اتخاذ قرار تقديم مساعدة لإقامة صناعة الطائرات مع إعطاء قرض وتدريب الكوادر وما إلى ذلك. وفي هذا الصدد يستطيع المصنع البدء بجمع الطائرات فقط من الأجزاء التي يتم جلبها من الاتحاد السوفييتي. وقد تمَّ إعداد خطة شديدة الصعوبة بالنسبة لنا وضعت في الاعتبار إنتاج أول طائرات مُجمَّعة في مصر من طراز ميج-٢١ خلال عام (!) من بدء العمل.

وعندما أبلغنا السادات بذلك رفض ورأى أن هذا الطراز لا يناسبه لأنه أصبح قديمًا، كما لم يُعجبه زمن الإنتاج؛ لأن الإنجليز وعدوه ببدء إنتاج طائراتهم خلال ستة أشهر! لم يوافق السادات على مقترحنا، وبالطبع لم تكن هناك إمكانية لقَبوله مقترحاتنا الأخرى، ومن ثم ظلَّ المصنع عاطلًا عن العمل. ولو أن السادات وافق على اقتراحنا؛ لاستطاعت مصر بحلول حرب أكتوبر ١٩٧٣م — بعد عامَين — امتلاك قاذفاتها الخاصة من طراز ميج-٢١، ولوضعت أساسًا لصناعة حديثة للطائرات، ولأصبح بمقدور هذا المصنع التفكير في الانتقال إلى طراز آخر من الطائرات.

في كثير من هذه الأحوال، التي كان الحديث يدور فيها بيني وبين السادات في أي من القضايا المرتبطة بالاقتصاد أو التكنولوجيا، كان عزيز صدقي ينصحني بألَّا أُحاول أن أشرح للسادات هذه القضايا، وخصوصًا إذا كان النقاش سيؤدي إلى نتيجةٍ يرى السادات أنها غير مُرضية له، وطلب مني أن أُخبره عندئذٍ بكل ما يتعلق بالأمر، وقال لي إنه سيجد الوسيلة والطريقة المناسبة ليعرض المسألة على السادات بحيث يتجنب إثارة أي رد فعل سلبي سریع من جانبه لسنا بحاجة إليه، وطلب أن أُبلغ السادات في هذه الأحوال أن هذه القضايا سوف يتم عرضها على صدقي الذي سيقوم بدراستها.

وحتى في الأمور العسكرية كان كثيرًا ما يغلب عليها الارتباك؛ وذلك لأن السادات كان يعتبر نفسه خبيرًا في شئونها؛ فعلى سبيل المثال، طلب السادات، إبَّان حرب أكتوبر، أن يرسل الاتحاد السوفييتي لمصر دبابات من طراز تي-٦١ الثقيلة بالطائرات، كما طلب إرسال الجسور العائمة بالطائرات!

كثيرًا ما راح المُقرَّبون إليه يخدعونه ویدسون له معلومات خاطئةً حول وضع الإمدادات العسكرية، وكثيرًا ما راحوا «يؤكِّدون» له أن قطع الغيار العسكرية غير كافية لدى مصر، على الرغم من أنها كانت ضخمةً إلى حد أنه كان من الصعب أحيانًا تخزينها. كانوا يقترحون عليه التقدُّم بطلبات للحصول على معدات عسكرية تتجاوز الإنتاج السنوي لها في بلادنا؛ أي إنهم كانوا ببساطة جهلةً لا يفقهون شيئًا. أمَّا السادات فراح، مذعنًا لهم، يكرِّر ما يقولونه في اللقاءات التي كانت تتم على أعلى مستوًى، وعندما يقابَل بالرفض، يرفض تصديق ما يُقدَّم له من مبرِّرات، معتقدًا أن في ذلك إهانةً له، وأنهم لا يثقون فيه.

عمومًا فقد كانت قضية الثقة إلى جانب قضايا توريد المعدات العسكرية تشكِّل الموضوع الرئيسي في أحاديث السادات معي، ودائمًا ما كان يتناول في كل لقاء يجمعني به قضية التوريدات العسكرية، وكذلك اتخذ موضوعُ زعمه أنهم في الاتحاد السوفييتي لا يثقون فيه مكانةً بارزة في أحاديثنا. ويصعب القول هنا ما الذي كان يعنيه تمامًا بذلك؛ فقد كان هو نفسه يعرف تمامًا أننا نعلم بعض الشيء، إن لم نكن نعلم كثيرًا، عمَّا يدور في ذهنه بالنسبة لعلاقته بالاتحاد السوفييتي، وعن خطواته التي يتخذها تجاه الأمريكيين، وأخيرًا عن تصرفاته غير اللائقة تجاه الزعماء السوفييت. وكان هو يدرك بالطبع أن أحدًا في مثل هذه الظروف لا يمكنه الآن أو في المستقبل أن يوليه ثقته. وعلى أية حال، إذا كانت هناك أزمة ثقة في هذا النوع من العلاقات، فإنها لم تكن بطبيعة الحال على هذا النحو الدراماتيكي الذي كان السادات يحاول طول الوقت أن يصوِّرها عليه.

كان السادات نفسه يُدرك أنه ليس مُخلصًا في علاقته بالاتحاد السوفييتي، وفي هذا الظرف تحديدًا كان دائم الشكوى كونهم في الاتحاد السوفييتي لا يثقون فيه، مستندًا إلى أن الاتحاد السوفييتي سوف يرد على طلباته بطبيعة الحال بالرفض، وهو ما كان يسعی إليه فحسب. يرى السادات أنه سوف يتلقَّى «تأكيدًا» أنهم «يثقون» فيه، وهو ما يعني أنه يستطيع مرةً أخرى أن يتهمنا بأننا لا نثق فيه. يبدو الأمر غريبًا، لكن هذا هو المنطق الخاص بسلوكه الذي يُعرف، إذا جاز التعبير، باسم «المنطق الشرقي».

وبالإضافة إلى ذلك، كان هذا الرجل الشكَّاك متآمرًا بطبعه. وقد كان السادات يُظهر هذه السِّمة فيه كاملةً تجاه الاتحاد السوفييتي، ولم يكن يتصوَّر أن الاتحاد السوفييتي يمكنه أن يفي بشرف بالتزاماته مهما كانت صعوبتها عليه. لم يكن ليثق أن الاتحاد السوفييتي لن يلجأ «للتآمر» مع الولايات المتحدة الأمريكية، إذا ما وعدته بسرعة حلول عصر عدم المواجهة معه. لم يكن يصدِّقنا في شيء. لم يكن السادات نفسه يثق فيَّ، فضلًا عن أن يصدقني، مؤكِّدًا على شكوك الاتحاد السوفييتي تجاهه هو.

كان سعيدًا دون شك أن وفدًا سوفييتيًّا جاء لتمثيل بلادنا في جنازة ناصر، وأن الاتحاد السوفييتي فعليًّا أيَّده عندما حُسمت قضية من هو رئيس مصر. في تلك الأيام كان الرئيس صريحًا وأعلن صداقته علنًا أمام الجميع. وبالمناسبة فقد أعرب في نفس هذه الفترة عن رضائه التام لتعييني سفيرًا لدى القاهرة، وأسرع مؤكِّدًا على رغبته في مقابلتي مرةً كل أسبوع على الأقل على نحو منتظم «أيام الإثنَين» (!). في تلك المناسبة لم يبتعد السادات دقيقةً واحدة عن ألكسي كوسيجين إبَّان الجنازة، متأبطًا ذراعه أثناء سيرهما في الصف الأول للمشاركين في مراسم العزاء.

وها هو يقوم بزيارته الأولى إلى موسكو في مطلع أبريل ١٩٧١م، والتي عُرفت باسم «الزيارة السرية». وهذه الزيارة تستحق أن نتحدث عنها تفصيلًا؛ إذ حدَّدت شكل علاقة السادات بالاتحاد السوفييتي.

بحلول ربيع عام ١٩٧١م، أصبح السادات أكثر إلحاحًا في طلب السلاح، فضلًا عن أنه كان دائمًا ما يصف الوضع العسكري للجيش المصري بشكل سلبي، فكان يقول إنه لا يملك كذا وكذا، وإنه ليس لديه قطع غيار، وهلم جرًّا. كان كل شيء يبدو وكأن ناصرًا خلَّف وراءه جيشًا غير مُجهَّز، وهو أمر لا يتفق بالطبع والواقع. لقد جرت المبالغة في هذا الأمر، الذي وجد مُناخًا مهيَّأً له بشكل جيد؛ إذ كان السادات قد قرَّر أن يجعل من هذا الأمر قضيته الأساسية في علاقاته بالاتحاد السوفييتي، ومن أجل أن يمارس ضغطًا أكبر، ويُضفي على الموقف وضعًا دراميًّا، إذا جاز التعبير. توجَّه إلينا بطلب استضافته في موسكو في «زيارة سرية». لا أعرف لماذا كان بحاجة إلى زيارة سرية، ربما لتُصبح «زيارته السرية» معادلًا للزيارة السرية التي قام بها ناصر إلى الاتحاد السوفييتي في فبراير عام ١٩٧٠م، وهي الزيارة التي أسفرت عن حصول مصر بالفعل على منصات صواريخ مضادة للطائرات. آنذاك نجح ناصر بصعوبة بالغة في الحصول على هذه المنصات، لكن الأكثر صعوبةً كان إقناع القيادة السوفييتية بإرسال أطقم سوفييتية لفترة مؤقتة إلى مصر للعمل على منصات الصواريخ المضادة للطائرات، والتي كان من الضرورة بمكان أن تكون موجودةً على الجبهة لحين إعداد الصفقات التي تعاقدت عليها مصر مع الاتحاد السوفييتي.

تمَّت الموافقة على قيام السادات بهذه الرحلة «السرية». ومن جانبنا اتخذتُ كل الإجراءات لكي تكون الزيارة ذات طابع «سري» بالفعل (على أنه بعد شهر أو شهرَين اتضح أن السادات قد أضرَّ الجميع بهذه «الزيارة السرية»).

أرسلنا إلى مصر طائرةً من طائرات شركة أيروفلوت السوفييتية بناءً على طلب السادات هبطت في مطار غرب القاهرة الحربي. كان موعد الإقلاع مُحدَّدًا له الخامسة صباحًا. وقد وصل السادات في سيارة يقودها سامي شرف، وعلى المقعد الخلفي جلس محمد فوزي وزير الحربية وإلى جواره شعراوي جمعة. كانت هيئة السادات هزليةً تمامًا ومزرية. كان يرتدي بالطو خفيفًا وقبعةً لم يعتد ارتداءها إطلاقًا، وكان يضع، علاوةً على ذلك، نظارةً سوداء. ومثله كان كلٌّ من سامي شرف وشعراوي جمعة يضعان نظارات سوداء أيضًا حتى لا يُعرَفا، كما أخبرني بذلك سامي شرف همسًا.

جرى قطر الطائرة لتقف في مكان بعيد مخفي عن الأنظار الفضولية وراء تلال ما. وبالطبع لم يفكِّر أحد في «أمور بسيطة» مثل كيفية الصعود إلى الطائرة في مطار حربي لا توجد به سلالم لصعود الركاب، ومن ثم فقد جرى إعداد ما يُشبه السلم من عدد من الصناديق حتى لم يتبقَّ إلى باب الطائرة سوى أربعين سنتيمترًا، وهنا اضطُروا لمساعدة الرئيس بجذبه إلى الطائرة. كان الوضع بصراحة مُضحكًا ومؤسفًا في الوقت ذاته؛ فما الداعي لكل هذه التصرفات الصبيانية؟

بعدما حلَّقت الطائرة في الجو طلب السادات إفطارًا، وهنا اتضح أن أحدًا لم يُحضر له جبنه المُفضَّل ولا حتى اللبن، واضطُر الحضور لمشاركة طاقم الضيافة كل ما كان لديهم على الطائرة من طعام مثَّل بالكاد إفطارًا لائقًا أخلد السادات بعده إلى النوم.

في الثالثة ظهرًا وصلت الطائرة إلى موسكو ومنها اتجه الجميع إلى الكرملين دون مراسم استقبال رسمية، وهناك بدأت المباحثات، التي يتطلَّب الأمر وقتًا وجهدًا كبيرَين لوصف ما جرى خلالها. باختصار، كان السادات منحرف المزاج. لم يكن يستجيب لأي نوع من الدعابة. كان سريع الانفعال لأتفه سبب. لم يكن هناك شيء صالح يُقال حول عزمه التمسُّك بشعاره حول كون عام ١٩٧١م سيكون عام «الحسم» في الصراع الدائر في الشرق الأوسط، وعمومًا عمَّا تعنيه تحديدًا عبارة «عام الحسم» هذه. راح يتحدَّث عن استحالة تحمُّل الوضع، وطلب إمداده بأحدث الأسلحة لشن ضربات في عمق إسرائيل، ومع هذا لم تكن لديه أي خطط جادة في هذا الصدد. لم يكن لديه سوى التأكيد على أن أي خطط عسكرية هي أمر سهل ما دام قد تمَّ اتخاذ «القرار السياسي»، وهلم جرًّا. وقد كان على القادة السوفييت أن يُديروا الحوار بحذر بالغ والتوجُّه بدفته نحو الجانب العملي.

وفي النهاية بدا أن الأمر قد تمَّ حسمه. وافق الجانب السوفييتي على إرسال قاذفات تو-١٦ إلى مصر بأطقم سوفييتية، على أن تكون، بطبيعة الحال، بقيادة سوفييتية. وهذا الشرط، الذي هو منطقي بكل المقاييس، أثار ثورة غضب عارمةً لدى السادات لسبب ما، وليرفض بشكل قاطع قَبول هذه القاذفات. وقد حاولوا أن يشرحوا له أن كل العسكريين السوفييت في مصر يعملون تحت القيادة السوفييتية وليسوا جنودًا مصريين، كما أنهم ليسوا مرتزقةً أو متطوِّعين. لكن السادات سدَّ أذنَيه عن كل ذلك، وأعلن أنه سيعود على الفور من الكرملين إلى القاهرة مباشرة، وأنه يرفض قَبول الدعوة على طعام الغداء الودي، وسوف يتناول طعامه في الطائرة، وهلم جرًّا. كان يُعلن بشكل واضح عن إحساسه بالإهانة، وهي شيء، أقولها بصراحة، لا مُبرِّر له، وأمر لم يفهم سره أغلبية الحضور. عضَّ السادات غليونه، وبدا أنهم نجحوا على أية حال في إقناعه بالكاد بتناول طعام الغداء بصحبة القادة السوفييت. وقد لطَّف الطعامُ بعضَ الشيء من مزاجه، ولكن ظاهريًّا فحسب. راح مراد غالب السفير المصري، الذي كان يجلس إلى جواري، يضرب كفًّا بكف ويسأل: «فلاديمير! ما الذي يحدث؟ وما الذي أغاظه؟ كيف يمكن التصرف على هذا النحو؟» لقد رأى غالب في حياته الكثير، ولكنه لم يرَ مثل ذلك.

وبالفعل اضطُررنا للسفر من الكرملين مباشرةً بالفعل عائدين إلى القاهرة. وبعد الفضيحة التي أثرتُها ضد أيروفلوت لسوء إعدادها للطعام في الرحلة من القاهرة إلى موسكو، تمَّ إعداد كل شيء إبَّان رحلة العودة على أعلى مستوى. وبالطبع فقد كنتُ قد قرَّرت أن أُحاول استيضاح ولو قدر ضئيل من الأسباب التي دفعت السادات إلى أن يستشيط غضبًا، وما الذي جعله يُفسد الخطط الممتازة بالنسبة له لتنتهي المباحثات على هذا النحو وقد كانت مُبشرةً له.

ما إن دخل السادات إلى صالون الطائرة حتى عاد إلى طبيعته. بعدها اقترب مني كلٌّ من شعراوي جمعة ومحمد فوزي وراحا من جديد يتأكدان ما إذا كان السادات قد رفض بالفعل قَبول قاذفات القنابل، وعلى الرغم من أن كليهما ألحَّا أمامي على ضرورة إرسال الاتحاد السوفييتي للقاذفات، فقد حاولا تصوير الأمر كما لو أنه قد انتهى بالاتفاق على إرسالها. كنت مضطرًّا أن أُبدِّد آمالهما وأن أُذكِّرهما أن الرئيس لن يقبل القاذفات كما أعلن ذلك بنفسه على نحو قاطع.

بعد برهة من الوقت دعا السادات الجميع إليه في صالون الطائرة لكي نتناول معًا طعام العشاء. كانت لديه، كما كانت لدي، الرغبة في التحدث من أجل أن يتضح الموقف بعض الشيء. ولمَّا كان الموقف يسوده التوتر فقد اقترحت أن نشرب بعض الفودكا حتى نُضفي بعضًا من الانتعاش بطبيعة الحال.

بعد طعام طیب صاحبه بعض الخمر نجحنا في إدارة حديث تطرَّقنا فيه إلى نتائج الزيارة. وهنا عاد السادات من جديد ليؤكِّد أنه لن يتحوَّل عن رأيه، ولن يوافق إطلاقًا على وجود عسكريين سوفييت في مصر لا ينصاعون له، وإذا كان ناصر قد قَبِل ذلك سابقًا، فإن ذلك كان صفحةً من الماضي وطُويت.

وبعد أن شرب كميةً غير قليلة التفت إليَّ فجأةً قائلًا كلامًا منقطع الصلة بحديثنا، قائلًا: «لقد ذهبتُ إليهم! ذهبت بوصفي رئيسًا! ما زلتُ أذكرُ جيدًا كيف كنت بصحبة ناصر ذات مرة في موسكو، وكنت أشغل آنذاك منصب نائب الرئيس. آنذاك وعلى مائدة الإفطار في الكرملين بدأ زعماؤكم يسألون ناصرًا على نحو استعراضي عن الشخص الثاني بعد الرئيس في مصر، وكنت أجلس في هذه اللحظة إلى جانب الرئيس، ولم يستطيعوا معرفة أنني أنا الشخص الثاني. والآن ذهبت إليهم باعتباري الشخص الأول، باعتباري الرئيس!» كم من الإحساس بالضيم في هذه الكلمات! لقد انطلقت الكلمات من أعماقه، الكلمات التي كان يشعر أنه لا بد أن يُخبرني بها. ها هو يُعلن انتصاره بعد أن أصبح رئيسًا، كما يُعلن كراهيته أيضا للزعماء السوفييت، ويرد لهم ما توهَّم آنذاك أنها إهانة اتخذها ذريعةً لِمَا فعله إبَّان المُباحثات.

حاولت بكل قوتي بطبيعة الحال أن أُقنع السادات أن الأمر لم يكن كذلك، لكن جهودي ذهبت سدًی. راح يكرِّر ويكرِّر ضاحكًا وقد وجَّه ناظرَيه إلى نقطة مُحدَّدة هناك في الفضاء وهو يقول: «ها قد جئتُ إليكم.» منذ هذه الرحلة تولَّد لدى السادات إيمان عميق بأنهم في موسكو «لا يثقون فيه».

لقد حدَّدت تصرفات السادات في موسكو بالطبع علاقاته بالناصريين، وخاصةً أن هؤلاء كانت توجُّهاتهم تتركَّز في جر الاتحاد السوفييتي قدر الإمكان أكثر فأكثر إلى قضية الشرق الأوسط، ولو كان الثمن في ذلك وقوع مواجهة بينه وبين الولايات المتحدة الأمريكية. بينما كان السادات يسير بخطًى حثيثة نحو التخلُّص من الإرث الناصري. وفي عام ١٩٧١م وقعت أحداث مايو الشهيرة التي عكست أيضًا علاقة السادات بالاتحاد السوفييتي.

ليس لديَّ أدنى شك، على سبيل المثال، وإن كنت لا أملك أدلةً مباشرة على ذلك، أن إحدى نتائج هذا العمل من جانب السادات كان الإساءة إلى سُمعة الاتحاد السوفييتي، بزعم أنه يقف وراء «المتآمرين». ما الذي يمكن قوله في هذا الصدد؟

لم يكن عبثًا أن السادات أرسل شعراوي جمعة أيضًا إلى موسكو في «زيارة سرية»، كما أرسل وفدًا لحضور المؤتمر الرابع والعشرين للحزب الشيوعي السوفييتي يضم في عضويته كلًّا من عبد المحسن أبو النور، الأمين الأول للَّجنة المركزية للاتحاد الاشتراکي العربي؛ وسامي شرف. وقد أصرَّ على أن يستقبلهما ليونيد بريجنيف في «سرية» تامة. كانت القضايا التي طرحها جمعة وشرف هي نفس القضايا الخاصة بالحصول على قاذفات قنابل بعيدة المدى من أجل توجيه ضربات في عمق إسرائيل. كان الهدف من هذه الزيارات عنده هو خلق انطباع عن وجود صِلات دائمة بين موسكو وعدد من المقرَّبين إليه. وكما هو معروف فقد تمَّ اعتقال كل هذه الشخصيات، إلى جانب آخرين، في منتصف شهر مايو، وحُكم عليهم بالإعدام شنقًا، ثم استُبدل بالحكم الأشغال الشاقة لمدة خمسة وعشرين عامًا.

لسبب أو لآخر تحضرني هنا واقعة أخرى ينبغي عليَّ أن أذكرها بكل تفاصيلها. بعدما سلَّمت الرئيس السادات أوراق اعتمادي، وإبَّان حديثي معه باعتباري سفيرًا للاتحاد السوفييتي، ذكَّرته برغبته في عقد لقاءات أسبوعية معي، وأشرت إلى أن القيادة السوفييتية تُشاركه هذه الرغبة، ومن ثم فإنني على استعداد دائمًا لعقد هذه اللقاءات، وإنني في انتظار تعليمات الرئيس. في الواقع لم أستمع لأي رد من السادات على هذا الحوار. وقد عدت للتطرق إلى هذا الموضوع بصورة أخرى بعد فترة من الزمن لعلمي بأنهم في موسكو ينتظرون هذه اللقاءات بعد أن أبلغ ألكسي كوسيجين المكتب السياسي بهذا الاتفاق الذي تمَّ بيني وبين السادات. لكن السادات لم يَرُد أيضًا في هذه المرة، وعندئذٍ قرَّرت ألَّا أُزعجه.

بعد عدة أيام دعاني سامي شرف الذي كان آنذاك الرئيس الفعلي للمخابرات العامة والحربية، وأخبرني بأنه على علم بالفكرة التي طرحها عليَّ السادات بشأن اللقاء مع السفير السوفييتي أسبوعيًّا، ولكن الرئيس فوَّضه أن يُعرِّفني ببعض القضايا، وأن يحيطني علمًا ببعض المشكلات، إذا جاز التعبير، قبل أن تبدأ هذه اللقاءات.

وبعد ذلك ذكر لي سامي شرف أن الرئيس ناصر قُبيل وفاته بفترة قصيرة دعا إليه السادات وسامي شرف وشعراوي جمعة ومحمد فوزي، وقال لهم إن هذه المجموعة منوط بها إدارة الدولة في حالة وقوع أي ظروف طارئة، وإنهم جميعًا مُكلَّفون بالاهتمام بتوطيد أواصر الصداقة مع الاتحاد السوفييتي باعتباره الحلقة الرئيسية لكل العلاقات السياسية الخارجية للبلاد. وأردف سامي شرف قائلًا إن هذه المجموعة تُمسك بقوة بزمام السلطة، وراح يحكي عن أن لديه معلومات حصل عليها من التنصُّت على كثير من المصريين، وأن هناك أيادٍ كثيرةً داخل مصر تود لو أطبقت على رقبته (سامي شرف). كل ذلك أثارني. كانت هذه «الصراحة» غير مفهومة في بعضٍ من جوانبها بالنسبة لي، والأمر الأساسي الذي لم أفهمه هو لماذا وجب عليه أن يخبرني بكل ذلك. خُيِّل إليَّ آنذاك أن هؤلاء الناس يغالون ببساطة في قيمة أنفسهم.

تكرَّرت هذه الأحاديث مع سامي شرف ثلاث أو أربع مرات. كانت نوعًا من المحاضرات، إذا جاز التعبير. أمَّا اللقاءات مع السادات فلم تتم على أية حال. وأخيرًا، عندما حان موعد اللقاء الأول، نجحت في أن ألفت انتباه السادات أنني مواظب على الاستماع إلى محاضرات سامي شرف بكل اجتهاد، فقال لي إنه يعرف ذلك.

تأزَّم الوضع في البلاد، وبات واضحًا للعِيان الخلاف القائم بين السادات وبين من حوله من الناصريين. وقد أثار هذا الوضع قلقي؛ لأن السادات توقَّف عن أن يلتقي بي من جهة، ولأن شخصيات حكوميةً أخرى راحت تدعوني لتبادل الحديث معها. لم يكن بوسعي أن أتحاشى هذه اللقاءات لأنها كانت لقاءات عمل. لكن تفاصيلها كلها كانت كما لو أنها تصب في خانة معارضة الرئيس. كان عليَّ أن أبذل جهودًا مضنية لكي أحظى بلقاء جديد مع السادات. كان اللقاء يتطلَّب بطبيعة الحال أن يقع أمرٌ جلل، وفور لقائي به طرحت على الرئيس سؤالًا مباشرًا حول من هم أفضل أصدقائه الذين باستطاعتي أن أتحدث معهم بصراحة كما أتحدث مع الرئيس؟

نظر إليَّ السادات باهتمام، وقال إن أفضل أصدقائه هم شعراوي جمعة ومحمد فوزي وسامي شرف.

في الحادي عشر من مايو ولدى مقابلتي مع السادات، عندما كان ثمة شعور بأن أمرًا ما، كما يقولون، يلوح في الأفق، وبسبب هذا الأمر الوشيك، عدت من جديد لأطرح على الرئيس سؤالي حول من هم أقرب أصدقائه الذين أستطيع أن أتحدث معهم بصراحة وكأني أتحدث مع الرئيس. عاد السادات ليردِّد على مسامعي أسماء جمعة وفوزي وسامي شرف، على أن هذه المرة سألني لماذا أكرِّر عليه هذا السؤال. أجبته أنني أريد أن أكون واثقًا وحذرًا، فضلًا عن أن عدد المقرَّبين من السادات، كما بات معروفًا، راح يتناقص، فقال لي السادات إنه لا يخشی من شيء.

وبعد يومَين، وفي الثالث عشر من مايو، اعتقل السادات جمعة وفوزي وسامي شرف وغيرهم من الناصريين بتهمة الخيانة!

في صيف ذلك العام، التقيت صدفةً بالصحفي الشهير محمد حسنين هيكل، الذي كان يبدو أنه لا يخفى عليه سر من أسرار الدولة. وكانت قد سرت معلومات في هذه الفترة تزعم أن سامي شرف أرسل من السجن خطابات إلى السادات ضمَّنها اعترافات تؤكِّد على أن الذي حرَّضه على الرئيس هم محمود ریاض وزير الخارجية والسفير السوفييتي وكبير المستشارين العسكريين السوفييت! أعربت عن استيائي لهيكل وأخبرته عن تصرفاتي عشية هذه الأحداث الدراماتيكية. اهتمَّ هيكل بحديثي، واقترح عليَّ أن أستمع لديه إلى شريط مسجَّل عليه حديث لي مع سامي شرف في التاسع من مايو، وهو اللقاء الأخير لي مع سامي شرف، وكنت قد أعطيته إبَّان هذا اللقاء صورًا فوتوغرافية التُقطت له في المؤتمر الرابع والعشرين للحزب الشيوعي السوفييتي عند لقائه بليونيد بريجينيف. ذكَّرت هيكل بأنني حكيت للسادات عن هذا اللقاء، ولكنني كنت أشك فيما إذا كان هذا اللقاء قد تمَّ تسجيله بالفعل.

تحدَّث هيكل عن مضمون الحديث الذي دار بيني وبين سامي شرف، وأشار إلى أن الأخير أكَّد أنه لا يثق في تصرفات الرئيس تجاه الأمريكيين وتجاههم هم أنفسهم، وأن سامي شرف قال: «لم نعد نعرف ما الذي سوف يُقدِم عليه السادات بعد ساعة أو نصف ساعة.» وقد أكَّدت لهيكل أن هذا ما قاله سامي شرف بالفعل.

أضاف هيكل قائلًا: «وبعد ذلك سألك سامي شرف عمَّا ينبغي عمله مع الرئيس.» وبالفعل كان سامي شرف قد طرح عليَّ هذا السؤال المستفز. أذكر جيدًا أنني كنت منتبهًا تمامًا. عندئذٍ سألت هيكل وكلي رغبة أن أتيقن على نحو نهائي إذا كانت حكايته هذه حقيقيةً من عدمها، وما إذا كانت كل أحاديثي مسجلةً على شرائط.

قال هيكل: «قلتَ له ما يلي: هذا رئيسكم وعليكم الالتفاف حوله وتأييده.»

صحيح. هذا ما قلتُه بالفعل.

واصل هيكل حديثه قائلًا: «عندما استمع السادات إلى هذا المقطع من التسجيل ضرب كفًّا بكف من الإحباط صائحًا: أخ! لقد أفلت السفير وكان على شفا هاوية!»

أدهشني هذا الرد للغاية، فسألت هيكل: «وماذا كان الرئيس يتوقَّع؟ ما الذي كان يود أن يسمعه؟»

قال هيكل: «لا أعرف. لقد تولَّد لديَّ انطباع أنه كان يتوقَّع أن يستمع منك إلى ما يدعم المتآمرين.»

صحت قائلًا: «ولكن هذا لم يكن من الممكن أن يصدر عني.»

أجاب هيكل: «أنت على حق، لكن معرفتك بالسادات قليلة. لقد كان يود أن يرى فيك متآمرًا، عندئذٍ كان الأمر سيبدو له مفهومًا، بالإضافة إلى أن خطاب سامي شرف، على الرغم من عبثية ما به من اتهامات، قد ترك أثرًا في مكان ما من تفكير الرئيس.»

عندما أذعت فيما بعدُ هذه القصة بكلمات أخرى، مضيفًا إليها، إذا جاز التعبير، بعض التصرُّف. أدركت أن السادات كان بحاجة ماسة إلى معلومات تُسيء إلى سمعة الاتحاد السوفييتي. كان عليه أن يثبت بأي وسيلة من الوسائل أن الاتحاد السوفييتي يقف ضده، بينما يقف وراء «المتآمرين»، بحيث تُصبح يداه مطلقةً عندئذٍ للدخول في أي مناورات مع الأمريكيين.

بعد اعتقال «المتآمرين» كان السادات حريصًا بشكل واضح على بقاء العلاقات مع الاتحاد السوفييتي فاترة، وكانت هذه الفترة تمثِّل بداية اتصالاته مع الرئيس الأمريكي، وتقدُّم الأمريكيين النشط بطلب إبعاد «الوجود السوفييتي» باعتباره «ثمنًا» للخطوات الممكنة للولايات المتحدة الأمريكية في مجال تسوية قضية الشرق الأوسط.

على أن الاتحاد السوفييتي كان قد قطع شوطًا مهمًّا في مسيرته الدبلوماسية والسياسية الصحيحة. ولم يعد السادات هو قضيته، وإنما مصير مصر — أكبر دولة عربية — ومصير شعبها، وما تمَّ إنجازه من إصلاحات تقدمية. كانت القوى الرجعية الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية تترقَّب أن يصيب الضعف والوهن الاتحاد السوفييتي بمصر.

بعد أحداث مايو، أكَّد لي السادات إبَّان أحاديثه معي على رغبته في التشاور مع أحد الزعماء السوفييت، على أن تجرى المباحثات في القاهرة، ولم يكن ذلك إلا بهدف التمويه على مخططاته. كان السادات يعتمد، بشكل واضح، على أن الزعماء السوفييت، بعد الأحداث التي اعتبرها العالم أعمالًا عدائية للاتحاد السوفييتي، سوف يُحجمون عن الحضور إلى القاهرة انطلاقًا من إحساسهم بالإهانة. لم يكن بمقدوري بالطبع سوى أن أكتفي بأن أعده بنقل رغبته إلى موسكو، وفي هذا السياق نوَّهت إلى أنه سيكون من الصعوبة بمكان، بطبيعة الحال، اتخاذ قرار سريع في هذه القضية، وأن الأمر سيتطلَّب بعض الوقت للتفكير. ولمَّا كان السادات يتوقع أن موسكو لن ترد على طلبه على الفور، بدأ في الحديث معي مُبديًا اقتناعه بصحة حساباتي، ثم قال إنه لا مانع لديه من عقد معاهدة الصداقة التي كان ناصر قد طرحها، وكان ناصر قد طلب آنذاك قَبول مصر كما لو كانت إحدى دول معاهدة حلف وارسو، وأن يتعامل الاتحاد السوفييتي مع مصر باعتبارها من الدول الاشتراكية، وهنا أيضًا كان السادات يعوِّل على رفضنا.

لكن القرار الذي اتخذته موسكو جاء على عكس ما توقع السادات. لقد جاء إلى القاهرة أندريه جروميكو ليُبلغ السادات أن رغباته في عقد معاهدة للصداقة والتعاون قد تمَّت الاستجابة لها! كانت ضربةً للسادات الذي لم يكن يتوقع مثل هذه الخطوة. في البداية بدأ في الحديث عن أن من الأفضل الانتظار بعض الوقت، ولكنه حين أدرك أن مناوراته باتت مكشوفةً تظاهر وكأن «شيئًا لم يحدث»، وطلب فسحةً من الوقت للتشاور مع رفاقه الجدد، ثم وافق. أذكر جيدًا عندما رافقته بعد المباحثات هبطنا بالمصعد الصغير أنا وهو بعد المقابلة مع الوفد السوفييتي. كان السادات ممسكًا بمشروع المعاهدة الذي تسلَّمه للتو، وكانت الوثيقة مطويةً على هيئة أُنبوب. كانت عيناه تنظران إلى بعيد وكأنما تريان شيئًا لا نراه. لفتُّ انتباهه إلى الوثيقة إذ كان من الممكن أن يلتقي في الأسفل بالمراسلين، عندئذٍ سارع السادات على عجل بدسها في جيبه الداخلي.

وعلى الرغم من أن المعاهدة قد تمَّ عقدها بناءً على طلب السادات، بل وبإصرار منه في الواقع، فإن ذلك لم يمنعه من أن يُعلن فيما بعدُ أن المعاهدة فُرضت عليه مقابل وعده بإرسال قاذفات بعيدة المدى! بل تحدَّث على نحو مباشر قائلًا: إن الروس يزعمون أنهم يخشَون أن يلجأ للأمريكيين؛ ولهذا قرَّروا أن يربطوه بهذه المعاهدة. حسنًا، فليُفسِّروا الأمر كما يحلو لهم؛ فالمعاهدة مثَّلت على أية حال ضربةً كُبرى للخطط الأمريكية للاستحواذ على مصر في عام ١٩٧١م.

قُبيل نهاية عام ١٩٧١م تبيَّن استحالة تزويد مصر بكل الطائرات من طراز ميج-٢١ التي تمَّ الاتفاق عليها وذلك لأسباب فنية، وعلى الفور عاد السادات من جديد إلى النغمة القديمة حول عدم الثقة، واشتدَّ أُوار الشك لديه، وراح يبحث كسابق عهده عن حجة لإضعاف العلاقات. وهنا جرت وقائع عديدة تحمل طابعًا استفزازيًّا تجاه العسكريين السوفييت، وانتشرت الحملات الإعلامية وازدادت المماحكات فيما يتعلَّق بقضايا العلاقات الاقتصادية وفي غيرها من القضايا. كانت حياتنا في مصر يكتنفها دائمًا القلق والمخاوف، ممَّا يتطلب اتخاذ الحيطة واليقظة المستمرَّين؛ فكما نتوقع دائمًا استفزازات جديدة، كنا مضطرين طوال الوقت إلى التفكير في كيفية تلافي ما يمكن اتخاذه ذريعةً ضدنا، وفي هذا الوقت كان عدد ما يمكن أن نسميهم بالجالية السوفييتية قد بلغ ما يزيد على خمسة عشر ألف نسمة بما فيهم العسكريون.

في صيف عام ١٩٧٢م، كان قرار السادات بالاستغناء عن خدمات الخبراء العسكريين السوفييت، وقد تمَّ اتخاذ قرار إجلائهم على وجه السرعة بصورة مهينة بالنسبة لنا، وهو ما كان يتفق تمامًا وشخصية السادات. يمكن التأكيد بشجاعة أن ناصرًا لم يكن ليتخذ مثل هذا القرار إطلاقًا، وحتى إذا ما رأى في ذلك ضرورةً ما، لفعله كما ينبغي بین حليفَين وليس بين خصمَين. أمَّا السادات فقد تعامل مع الأمر كما لو كُنا نحن الذين فرضنا العسكريين السوفييت على مصر قسرًا، على الرغم من أن السادات كان يعلم جيدًا كم من الجهد بذله ناصر من أجل إقناع الزعماء السوفييت باتخاذ قرار إرسال الخبراء العسكريين السوفييت إلى مصر في فبراير عام ١٩٧٠م.

حدَّد السادات أسبوعًا واحدًا لمغادرة الخبراء السوفييت وعائلاتهم. أمَّا الأمر الأكثر أهميةً فتمثَّل بطبيعة الحال في الظروف التي اتخذ فيها السادات هذا القرار، فضلًا عن أن قراره، الذي أبلغني به مباشرة، قد ألحق — بطبيعة الحال — ضررًا بالغًا بالعلاقات السوفييتية المصرية. لقد أثبت السادات بذلك عمليًّا أنه لا يمكن الوثوق به بأي حال من الأحوال!

في يونيو من عام ١٩٧١م توجَّه السادات إلى القيادة السوفييتية بعدد من الأسئلة التي تمَّت صياغتها على نحو اتسم بالغموض والإبهام. على أنه كان من الممكن رؤية المغزى المستفز وراء الضباب الذي اكتنف هذه الأسئلة. كان السؤال تحديدًا: كيف ينظر الاتحاد السوفييتي إلى الموقف الذي يمكن أن يحدث بحلول الخريف، وإذا ما اندلعت العمليات العسكرية في الشرق الأوسط، فإلى أي درجة يمكن الاعتماد على الاتحاد السوفييتي، وبالإضافة إلى ذلك تضمَّنت الأسئلة طلبًا ﻟ «تعويض» مصر بالأسلحة، وهلم جرًّا. لم تكن الأسئلة مصاغةً بشكل محدَّد، ولم تُحدِّد موعدًا عاجلًا للرد عليها، ولكنها طُرحت علينا عشية زيارة نيكسون إلى الاتحاد السوفييتي، والأرجح أنها كانت تعوِّل على إحراج الاتحاد السوفييتي.

بدأ السادات يعبِّر عن اهتمامه بالأمر، فسألني عدة مرات ما إذا كنت قد تلقَّيت ردًّا، وكنت في كل مرة أُخبره بأنني سوف أُبلغ الرئيس فورًا فور تلقي الرد. وقد تسنَّى لي أن أتأكد على نحو عابر بسبب عجلة الرئيس بعد أن تبينت جوهر هذه الأسئلة. وأخيرًا تسلمتُ ردًّا على أسئلة الرئيس. بالطبع لم يكن الرد على النحو الذي كان السادات يتوقعه. كان ذلك انطباعي بعد قراءتي الأولى له، وهو ما أخبرت به رفاقي، لكنني كنت مُكلَّفًا على أية حال بإنجاز الأمر وإبلاغ الرد.

قمت بزيارة السادات هذه المرة في قصر الطاهرة. كان يبدو مكتئبًا. قام المترجم بعرض مضمون الرد على الرئيس. كانت هناك بالطبع جوانب لم يستطع تصوُّرها، مثل ما ورد بشأن الحملة المعادية للسوفييت التي يشنها الإعلام المصري، وعمَّا تقوم به الدوائر الرجعية ضد المنظومة التقدمية في مصر، وعن ضرورة دعم العلاقات عمليًّا وليس بمجرد الأحاديث وما إلى ذلك.

استمع السادات إلى الرسالة دون أن يصدر عنه أي تعليق. وبعدما انتهى العرض سألني على نحو لاذع: «أهذا كل ما في الأمر؟» شعرت على الفور أن العاصفة تقترب، وحيث إن الرسالة لم تتعرَّض للنظر في طلباته الخاصة بالتوريدات الجديدة للأسلحة، وإنما تعرَّضت لكونها رهن الدراسة، فقد قرَّرت أن أُحيط الرئيس علمًا بآخر المعلومات لديَّ عن التوريدات العسكرية والتي تشير إلى أن جزءًا من طلباته قد تمَّ إنجازه، وأن الجزء الآخر في طريقه للإعداد، وأن الأمور تسير على وجه العموم بصورة لا بأس بها في الواقع.

استمع السادات إلى ما قلته، ثم سألني مرةً أخرى بنبرة جافة: «أهذا كل ما في الأمر؟» كان هذا بالفعل كل ما في الأمر، وقد رددت بالإيجاب قائلًا إن هذا كل ما لديَّ للرئيس.

بعد فترة وجيزة من الصمت بدأ السادات في التحدث بشكل واضح وصارم. طلب مني أن أُبلغ موسكو أنه سوف يواصل نضاله ضد إسرائيل، وأنه سيظل صديقًا للاتحاد السوفييتي على الرغم من «تصرفاتنا»، وأنه قد اتخذ قراره بسرعة إنهاء عمل البعثة العسكرية السوفييتية في مصر؛ الخبراء والأفراد العاملين في الوحدات العسكرية.

كان إعلانه بمثابة الرعد على صفحة سماء صافية. كانت الفكرة الأولى التي راودتني عندئذ: أليس في هذا نوع من الابتزاز؟ وإذا لم يكن ابتزازًا، وإذا كان يطرح قراره على نحو جاد فمتى اتخذه؛ الآن أم قبل ذلك؟ وإذا لم يستطع أن يُدرك مضمون الرسالة التي سلَّمتها إليه توًّا، وإذا كان قد اتخذ قراره قبل ذلك، فكيف لم نستطع أن نعرف ذلك أو نخمِّنه على أي الأحوال؟ وإذا كان القرار قد تمَّ اتخاذه الآن فقط بعد أن تعرَّف على الرد، فأي زعيم دولة هذا؟ وهل يُدرك التبعات التي سوف تترتب على قراره؟ وكيف ستتلقی موسكو هذا القرار؟ وأخيرًا، كيف سيستقبله العالم أجمع؟ فالقرار لا يعني فقط إضعاف القوات المسلحة المصرية، وإنما هو ضربة قاصمة مُوجَّهة للعلاقات السوفييتية المصرية. إن هذا السلوك الطائش لا يمكن في حقيقة الأمر أن يمر دون حساب. مع من دبَّر كل ذلك؟ وهل يمكن أن يكون قد فعلها وحده؟

أجبتُ بأنني سوف أبلغ موسكو اقتراح الرئيس بالطبع، وإن كنت أود أن أنوِّه إلى أن العسكريين السوفييت موجودون في مصر لا بإرادتهم، وإنما جاءوا تلبيةً لرغبة ناصر المُلحة وبشكل استثنائي ومؤقت.

قاطعني السادات قائلًا إنه يقدِّم اقتراحًا للزعماء السوفييت بشأن إنهاء عمل الخبراء السوفييت في مصر، وإنما يبلغني قرار الإنهاء وهو قرار لا يقبل المناقشة. كان واضحًا أن الرئيس عاد «للتجاوز» مرةً أخرى.

حاولت بطريقة مختلفة أن أُنبِّه السادات إلى فكرة ضرورة إجراء مشاورات تمهيدية مع الزعماء السوفييت دون نفي، بطبيعة الحال، لحق مصر الذي لا يُنازَع في اتخاذ ما يراه من قرارات تمس استقلالها؛ فقد جاء وجود العسكريين السوفييت نتيجة قرار مشترك بين دولتَين، ونتيجةً للتنسيق بينهما وما إلى ذلك.

لكن السادات عاد من جديد ليؤكِّد أنه لا عودة للوضع السابق، وأنه قد أصدر قرارًا حاسمًا، ثم بدأ بعد ذلك في الحديث بلهجة ساخرة عن العسكريين السوفييت في مصر لكي يثير سخطي ويستفزني لاتخاذ رد فعل حاد. شعرت على نحو غريزي أن عليَّ الآن تحديدًا أن أكون أكثر هدوءًا وألَّا أبدو شخصًا أُثيرت مشاعره، وألَّا أستسلم للسادات في تلك الحالات التي يسخر فيها من بلادي وشعبها.

أجبته بكل أدب أن السوفييت لم يجيئوا إلى مصر بمحض إرادتهم، وإنما أُرسلوا إلى هنا وقاموا بواجبهم الأممي في مساعدة الشعب المصري في نضاله ضد عدو مشترك على التراب المصري، وقد فقد الكثير منهم صحته، ومع ذلك فقد أدَّى السوفييت جميعهم واجبهم بشرف أمام وطنهم وأمام الشعب المصري الشقيق، وبالطبع فهم لا يستحقون هذه الإهانات التي يوجِّهها الرئيس لهم الآن.

لكن السادات قرَّر أن يزيد الجو توترًا، فراح يتعرَّض للزعماء السوفييت ولي شخصيًّا ثم صاح قائلًا: «ما الذي كان عليَّ فعله عندما قدَّمتم لي هذه الورقة التي لا تصلح إلا أن أمسح بها الأرض؟»

أجبتُ الرئيس قائلًا إنني لم أُحضر له «ورقة» ليمسح بها الأرض، وإنما رسالة من الزعماء السوفييت، زعماء البلاد التي تمثِّل حليفًا لمصر وشعبها؛ ولذلك فإنني أرجوك ألَّا تتحدَّث عن هذه الأشياء التي يمكن اعتبارها إهانةً للشعب السوفييتي.

صاح السادات: «ماذا كان ستالين سيفعل برأيك لو أن السفير الإنجليزي أحضر له أثناء الحرب رسالةً شبيهة بهذه الرسالة التي أحضرتها إليَّ؟»

أدركت بالطبع أن أي حديث لن تكون له جدوى، وأن الرئيس قد تجاوز الحدود، وأنه قد يزداد تطاولًا في هذا الاتجاه، وأن الحديث بات عبثًا، وأن استمراره سيزيد الأمور تعقيدًا.

أجبتُ بقولي: «سيادة الرئيس، لست السفير الإنجليزي، ولم أُحضر لك رسالةً من الحكومة الإنجليزية. هل لديكم أسئلة نناقشها أو شيء آخر تودون إبلاغه إلى موسكو؟ إن لم يكن هناك شيء من ذلك فإنني أستطيع الذهاب.»

قال السادات إنه ليس لديه شيء. أدَّيت التحية وغادرت المكان.

أثار خبر القرار الذي اتخذه السادات القلق بطبيعة الحال لدى الدائرة المقربة من السادات بما فيها رئيس الوزراء عزیز صدقي. وقد استشعر قادة البلاد، الذين كانوا لا يزالون يُقدِّرون العلاقات مع الاتحاد السوفييتي، استشعروا على نحو جلي النتائج التي يمكن أن تؤدِّي إليها هذه الخطوة التي اتخذها السادات. لقد قدَّم السادات تنازلًا صريحًا للأمريكيين، الذين كانوا يُطالبون بإخراج «الوجود السوفييتي» من الشرق الأوسط، وخاصةً الوجود العسكري. وقد قدَّم السادات ما أرادوا عربونًا، وأبلغهم بأنه على استعداد أن يسير إلى أقصى مدًى في علاقته بالاتحاد السوفييتي.

فيما بعد، قام عزیز صدقي برحلة عاجلة إلى موسكو حاول فيها التخفيف من أثر الانطباع الذي ترکه قرار السادات، كما حاول إقناعنا بأن نعتبر أن قرار إنهاء عمل البعثة العسكرية كما لو أنه جاء نتيجةً لاتفاق ثنائي بين البلدَين، لكن محاولاته باءت بالفشل. لم يوافق السادات على أن يتم إنهاء عمل العسكريين السوفييت تدريجيًّا، وقد توصَّلنا إلى اتفاق يقضي بأن تكون المدة من شهرَين إلى ثلاثة أشهر تقريبًا. أمَّا حجتنا الأساسية في أن يتم الأمر تدريجيًّا فكانت أن نترك انطباعًا لصالح القرار يتمثَّل في ألَّا نترك للأعداء فرصةً للشماتة. أمَّا بالنسبة للسادات فكان من الواضح أنه كان يسعى من وراء قراره أن يلوِّح علنًا للأمريكيين أنه مستعد للتعاون معهم.

ما الذي كانت تمثِّله هذه الخطوة التي اتخذها السادات؛ إظهار عدم توازن شخصيته، أم أفعالًا مبنية على حسابات عميقة؟

أعتقد أن العاملَين كانا موجودَين. في المقام الأول، بالطبع، كان اتخاذ القرار مسبقًا بانسحاب العسكريين السوفييت من مصر؛ لأنه بدون ذلك لم يكن الأمريكيون ليعدوا بأي تدخل في قضية الشرق الأوسط. وقد أعلنوا مباشرة، بما فيهم كيسينجر وزير الخارجية الجديد، أن الهدف الأول للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط ينحصر في «طرد» الروس.

من جانب آخر، أظهرت أفعاله الصفات المميِّزة لشخصيته. لقد اعتبر السادات أن لحظة استلامه رد القيادة السوفييتية تحديدًا، هي اللحظة المناسبة تمامًا ليقوم بإبلاغنا بقراره الخاص بالعسكريين السوفييت؛ لأن ذلك من شأنه أن يجرح إحساس الزعماء السوفييت، وبالتالي فإن خطوته التي أحكم تدبيرها سوف يكون لها رد فعل بالغ القوة في الاتحاد السوفييتي، حتى إنهم سيحترمونه أكثر على هذه الشجاعة، إذا جاز التعبير.

كان السادات كثيرًا ما يستخدم تعبيرات فاحشةً للغاية دون خجل في حق الزعماء السوفييت في وجود أناس كانوا يحاولون إبلاغنا بها دون خطأ. أمَّا هو فكان يعلم جيدًا أن هذه التعبيرات سوف تصل حتمًا إلى موسكو.

بعد قراره الخاص بالعسكريين السوفييت، كان على السادات، بطبيعة الحال، أن يشرح على نحو ما تصرفه أمام مختلِف فئات المجتمع المصري، لكن خُطبه كانت تتضمَّن دائمًا شيئًا واحدًا؛ الاتحاد السوفييتي يتعامل مع مصر على نحو سيئ؛ فهو لا يحافظ، على سبيل المثال، على عهوده ويتآمر مع الأمريكيين، وهلم جرًّا. باختصار كان يُضفي على صورتنا أسوأ الصفات. وفي هذا السياق كان يلجأ إلى الإفصاح عن الرسائل السرية التي كان الزعماء السوفييت يُرسلونها إليه! لقد ضاع معنى الحفاظ على سرية هذه الاتصالات، وكأن الرجل يريد أن يقول لنا: إنني لا أُريد هذه الرسائل.

وفي تصرف على طريقة ملوك الشرق، أعلن السادات أنه لن يستقبل مجدَّدًا السفير السوفييتي، وإذا كان لدى السفير السوفييتي تفويض بتوصيل أية رسائل إلى الرئيس، فإن بإمكان هذا السفير تسليمها إلى رئيس الوزراء أو إلى وزير الخارجية. كان من الواضح أنه يريد أن يعطي انطباعًا أنه أُهين (ممن؟)، وأنه سوف يتوقف عن تبادل الرسائل السرية مع الزعماء السوفييت.

راحت العلاقات بين البلدَين تستقيم من جديد تدريجيًّا، وإن حدث ذلك ظاهريًّا فقط. عاد الرئيس من جديد يستقبل السفير السوفييتي ويرسل من خلاله الرسائل ويستقبلها. أمَّا تفسير ذلك الأمر فكان بسيطًا للغاية؛ لقد «التهم» الأمريكيون العربون الذي قدَّمه السادات لهم، والذي تمثَّل في إبعاد الخبراء السوفييت من مصر، وبدا أن هذا الثمن غير كافٍ، وكسابق عهدهم لم يقدِّموا شيئًا لحل الصراع العربي الإسرائيلي. كانت المشكلة في الحكومة التقدمية التي كان يرأسها آنذاك عزيز صدقي في مصر.

وفي الوقت نفسه سرعان ما شعرت القيادة العسكرية في البلاد أن خروج العسكريين السوفييت قد أدَّى إلى تردي الأوضاع داخل القوات المسلحة بشكل واضح. لقد تعرَّضت كمية كبيرة من السلاح الحديث المعقَّد للأعطال بسبب عدم اتخاذ إجراءات الصيانة اللازمة. وهنا وافق السادات، على كُره منه، على رأي قادته العسكريين الذين اقترحوا اللجوء مرةً أخرى إلى الاتحاد السوفييتي طلبًا للمساعدة.

في ربيع عام ١٩٧٣م أزاح السادات عزیز صدقي من منصب رئيس الوزراء، كما أُزيح عبد السلام الزيات من كل المناصب الحكومية التي كان يشغلها، وأصبح السادات هو رئيس الدولة ورئيس الحكومة، بل و«الحاكم الأعلى».

وفي نفس صيف هذا العام، إذا به «يطالب» فجأة، أقول يطالب؛ إذ لا توجد كلمة أخرى تصف تصرُّفه هذا، بحضور الرفيق أندروبوف رئيس لجنة الأمن القومي (کي. جي. بي) إلى القاهرة. لم يوضِّح لنا الأسباب، وإنما طالب بحضوره هكذا ببساطة، وكأنما يستدعيه ليقدِّم له تقريرًا، ولمَّا لم يصل رد، بدأ السادات في العصبية. دعاني أحمد إسماعيل علي وزير الحربية للقائه. كان مهتمًّا أيضًا بعدم وصول الرد. أجبته بأنني لا أعرف السبب، ولكنني لفت انتباهه إلى أن الدعوة لم تُرسَل لا عن طريق السفير السوفييتي لدى القاهرة، ولا عن طريق السفير المصري لدى موسكو، وإنما، كما نما إلى علمي، أُرسلت بخطاب شخصي من وزير الحربية، وقلت: إنه قد يكون من الضروري ربما إرسال استعجال، وقد يكون من المفيد أيضًا إحاطة الرفيق أندروبوف علمًا بسبب دعوته للحضور إلى القاهرة. قال الوزير إنه يفهم ذلك جيدًا، ولكن الرئيس مهتم بشدة بحضوره. وأضاف قائلًا إن أمرًا ما على جانب كبير من الأهمية سوف يقع قريبًا في مصر، وإنكم، أيها الشيوعيون في الاتحاد السوفييتي، لن تفهموه على وجهه الصحيح. وبالإضافة إلى ذلك، هناك عدد من القضايا المتعلِّقة بالوضع في مصر، وهي ذات صلة بعمل هذه المؤسسة التي يرأسها الرفيق أندروبوف. أبديت دهشتي بالطبع، لكن وزير الحربية أشار بأنه تحدَّث إليَّ أكثر ممَّا ينبغي له أن يتحدث في هذا الأمر. وانتهى الحديث.

لقد قرَّر السادات، بشكل واضح، أن يصل في استفزازه إلى أقصى درجة؛ يدعو زعيمًا سوفيتيًّا بارزًا، ثم يعلن له عن إقصائه عددًا من رجال الدولة التقدميين في مصر من مناصبهم، وفي نفس الوقت يقدِّم له «ادعاءاته» المختلفة حول زعمه بأن «رجال أندروبوف» هم الذين يقفون وراء العديد من مظاهرات العُمال والطلبة والمثقفين التقدميين، كما كان يحلو له أن يسميهم. كانت تصرفات السادات تجاه الفئات التقدمية تبدو كما لو كانت موجهةً للاتحاد السوفييتي، وكان باستطاعته دائمًا أن يستند إلى أنه قد أحاط الاتحاد السوفييتي بها علمًا.

لم يأتِ الرفيق أندروبوف بالطبع إلى القاهرة، لكن السادات ظلَّ يذكِّرني في كل مرة يلتقي بي فيها بأنه كان يريد أن يلتقي بواحدٍ من أعضاء المكتب السياسي للَّجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي بزعم ضرورة إجراء مشاورات مع الزعماء السوفييت، وأنه متعطش للمقابلة، ولكنهم رفضوا السماح بإجراء المقابلة. وراح السادات يؤكِّد أن كل ذلك يمثِّل خطًّا سياسيًّا عدوانيًّا جديدًا من جانب الاتحاد السوفييتي في علاقته بمصر، وهلم جرًّا.

تلقَّيت بعد عدة أيام تعليمات من موسكو تُفيد سفر نيكولاي بودجورني رئیس مجلس السوفييت الأعلى إلى مصر بِناءً على طلب السادات. ما إن تلقَّيت هذا الإعلان حتى شعرت لسبب ما أن أمرًا غير عادي لا بد وأن يحدث. وبينما أنا في طريقي إلى الرئيس لإبلاغه قلت مازحًا لرفاقي إنني أستطيع أن أزعم أن الرئيس سيرفض هذه الزيارة. ضحك الرفاق وبدا لهم أن هذه الفكرة مستحيلة؛ لأنها تخالف اللياقة، فضلًا عن خرقها للأعراف السياسية. المسألة أن هذه الزيارة جاءت بالمناسبة عشية زيارة ليونيد بريجينيف إلى واشنطن، وهو أمر من شأنه أن يدعم بقوة موقف مصر والاتحاد السوفييتي في النضال الذي يخوضانه من أجل تسوية الوضع في الشرق الأوسط، كما أن هذه الزيارة كان من شأنها أن تُعطي مثالًا للتقارب في العلاقات بين الاتحاد السوفييتي ومصر، وهو ما كان يمثِّل ضرورةً سواء لنا أو للمصريين قُبيل هذه المقابلة. باختصار فقد كانت هذه الزيارة من الناحية الشكلية بدعوة من السادات، وهي من ناحية الجوهر تأتي عشية لقاء القمة السوفييتي الأمريكي الجديد، وهي زيارة تعبِّر عن الاحترام (زيارة رئيس دولة) ممَّا لا يدع مجالًا للشك، أنها تأتي في وقت حاسم تمامًا، وأنها مبشرة بالنجاح. على أنني رحت أفكِّر طوال الطريق إلى القناطر، والذي يستغرق أربعين دقيقةً تقريبًا فيما لو أن السادات رفض فجأةً إتمام هذه الزيارة. أمر مستحيل، لكنني فكَّرت فيه، وكان حدسي يدعمني في ذلك.

بعد أن أبلغت السادات بالوصول المرتقب للضيف السوفييتي الكبير، راح السادات يتنفَّس بصعوبة، وبعد أن عرضت عليه مضمون الرسالة أضفت من عندي قائلًا: إن هذه الزيارة، من وجهة نظري، سوف تُعد ضربةً موفقةً لكل من يرغب في المماطلة في الوصول إلى حل لمشكلة الشرق الأوسط ولكل خصوم مصر، وخاصةً أنها تأتي عشية لقاء القمة السوفييتي الأمریکي.

راح السادات يعبِّر عن الألم بكل قسمات وجهه، وفي النهاية راح يثرثر، دون أن يُعرب عن امتنانه لهذا الخبر أو أن يشيد بقرار حكومتنا، وإنما قال لي دون مواربة إنه يطلب مني أن أُبلغ موسكو بأنه لن يستطيع استقبال الضيف السوفييتي الكبير لأنه مريض، ليس مريضًا تمامًا، وإنما يشعر بوعكة، وإنه منهك، وإنه لا بد أن يكون مستعدًّا تمامًا لكي يجري مباحثات مع الضيف السوفييتي. ثم أردف قائلًا: انظر إلى حالتي (محاوِلًا أن يتشكَّى، وقد رسم على شفتَيه ابتسامةً متكلفة).

كنت غير مستعد لهذا الانقلاب؛ فقد كان مفاجأةً لي على أية حال، ولكنها مفاجأة ليست من العيار الثقيل.

أعربت عن تعاطفي مع السادات، وقلت له إن عليه أن يعتني بصحته وأن يخضع للعلاج، والراحة وإنه بالنسبة لهذه الحالة من الإجهاد يكون لقاء أصدقاء طيبين أمرًا مفيدًا للغاية أحيانًا؛ فهم يُزيحون الهم عن صدره عند تبادل الحديث معهم، أمَّا حل القضايا المعقدة فيمكن الإعداد له تدريجيًّا مُقدَّمًا، إذا لزم الأمر بالطبع؛ إذ يمكن عقد اللقاء حتى دون الوصول إلى قرارات جبارة. مرةً أخرى أعود إلى أفكاري لأتخيَّل على أي نحو سوف يكون رد فعل موسكو على رسالتي التي سأُخبرهم فيها بأن السادات قد رفض الزيارة! وهل فكَّر السادات نفسه في هذا الرد مسبقًا، أم تُراه اتخذه في هذه اللحظة عفو الخاطر؟

مرةً أخرى يلتقط السادات أنفاسه في أسًى ويقول لي إنه يُحس بالضعف إلى حد أنه لن يكون باستطاعته استقبال الضيف الرفيع المقام.

عندئذٍ خطرت برأسي فكرة أخرى؛ قلت للسادات إن كان من الضروري أن يأتي البروفيسور تشازوف إلى مصر، وهو الطبيب الخبير بحالة الرئيس الصحية، وقد يكون بإمكانه تقديم المساعدة له.

هنا أحسَّ السادات أنه من غير اللائق أن يرفض هذه المرة وخاصةً أن الأمر يتعلَّق بصحته على أية حال. تمتم السادات قائلًا: حسنًا، سوف أكون ممتنًّا إذا ما سمحت الحكومة السوفييتية بإرسال البروفيسور تشازوف إليَّ. وأضاف: إنني مهتم بالأمر وسوف أكون مستعدًّا للقائه في أي وقت مناسب.

هذا مثال آخر على علاقة السادات بالاتحاد السوفييتي. على أي نحو يمكن حساب هذه العلاقة؟ الرجل لم يكن مريضًا بالفعل؛ فها هو يذهب في اليوم التالي على لقائنا سابق الذكر إلى الجبهة مباشرة، حيث دخل إلى الخنادق ثم عقد لقاءً مع الجنود والضباط. باختصار فقد أظهر من الصحة والعافية ما يُحسد عليهما. بالمناسبة، لم يجد البروفيسور تشازوف، الذي وصل إلى القاهرة، أي أعراض تشير إلى تدهورٍ حاد في صحة الرئيس بالطبع. وحتى هذا اللقاء جرى على نحو أشبه ما يكون بمشهد من مشاهد المسرحيات الهزلية.

لقد طلب السادات أن يحضر إليه تشازوف فور وصوله مباشرةً قادمًا من موسكو، ولم تكن الحالة الصحية للرئيس تستدعي أي عجلة، وإنما كان يريد أن ينتهي ببساطة من تبعات قراره الخاطئ باستدعاء الطبيب. عند وصول تشازوف لم يجد بانتظاره أية تحاليل أُجريت للرئيس على الرغم من أنه كان من الطبيعي أن يجري الرئيس ولو رسمًا للقلب أو تحليلات للدم وما إلى ذلك. قدَّموا لتشازوف رسمًا للقلب أُجري قبل ستة أشهر، وتحليلًا للدم أُجري قبل ثلاثة أشهر!

عندما قرَّر السادات البدء في العمليات العسكرية ضد إسرائيل في أكتوبر ١٩٧٣م، كان يعوِّل، في رأيي، على أن يتصرَّف الاتحاد السوفييتي على نحو غير الذي اتخذه الاتحاد السوفييتي فعلًا. كان يفترض أن الاتحاد السوفييتي على الأرجح سوف يسعى لدعم مصر بطبيعة الحال، ولكنه سيحاول أن يوقف العمليات العسكرية بأسرع ما يمكن بالطبع، وأن يتجه لعقد «صفقة» مع الولايات المتحدة الأمريكية، وعندئذٍ تكون يداه مطلقتَين في التعامل مع الأمريكيين، لكن الأمور سارت على نحو آخر. لقد كان موقف الاتحاد السوفييتي إبَّان هذه الحرب هو دعم القضية العادلة للعرب. واتضح، وهو ما أدهش السادات نفسه، أن القوات المسلحة المصرية وصلت إلى أعلى مستويات الإعداد بفضل الخبراء والفنيين، أمَّا المفاجأة الكبرى بالطبع فكانت في الكفاءة الرفيعة والقدرة العالية للمعدات العسكرية السوفييتية التي يتسلَّح بها الجيش المصري.

عندما بدأت العمليات العسكرية، لم يكن بِنية السادات على الإطلاق أن يحاول إنهاء الصراع في الشرق الأوسط، أو أن يُجبر إسرائيل على الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة. كلا، إنما كان هدفه أقل من ذلك بكثير وأكثر محدودية، وقد أخبرني بهذا الهدف بعد يومَين اثنَين من نشوب الحرب.

كان هدف العمليات العسكرية من الناحية السياسية يتلخَّص في، «أقولها مجازًا»، مجرَّد «تحريك الوضع» وجذب الانتباه إلى الصراع الذي طال أمده، وإجبار العالم على أن يتذكَّر الوضع المستعصي على التسوية في الشرق الأوسط ودفع القوتَين العظميَين، أولًا وقبل كل شيء، إلى التأثير في الأحداث. كانت هذه الخطوة تستهدف أساسًا جذب الولايات المتحدة الأمريكية إلى استخدام نفوذها.

كل الدلائل كانت تشير إلى أن السادات لم يكن ليتوقَّع هذا القدر من النجاح الذي أحرزته قواته في العمليات، والتي استطاعت بسرعة وبأقل الخسائر عبور قناة السويس، ثم لتتوقف دون أن تعرف ما الذي عليها أن تفعله بعد ذلك. وهكذا لم تواصل هذه القوات هجومها على الرغم من أنه لم يكن أمامها، لفترة من الزمن، عدو بالمعنى الحقيقي. كان الأمر يتلخَّص في أن السادات، كما شرح لي بنفسه، لم تكن لديه النية في استعادة الأراضي المحتلة؛ فالهدف من الناحية العسكرية كان ينحصر في مجرَّد إنزال ما يمكن إنزاله من خسائر مادية وبشرية بإسرائيل، والتلويح بما تملكه القوات المسلحة المصرية من قدرة اليوم، ومن ثم، إلى ما تستطيع فعله في المستقبل.

أمَّا الهدف من الناحية الإقليمية، إذا جاز القول، فكان الاستيلاء على ممرات سيناء (متلا والجدي)، وهو ما لم يتحقَّق، فضلًا عن أن المصريين في الأيام الأخيرة من العمليات العسكرية سمحوا بحدوث ثغرة نفذت منها القوات الإسرائيلية إلى الضفة الغربية للقناة، وأصبح النصر الذي حقَّقه المصريون معلقًّا بشعرة. ومثلما أسهمت مساعدات الاتحاد السوفييتي في نجاح القوات المصرية في الأيام الأولى للحرب، أنقذت الخطوات الحاسمة التي اتخذها السوفييت تحديدًا مصر من هزيمة وخيمة في تلك الأيام العصيبة التي مرَّت بها.

لقد تسنَّى لي أن ألتقي بالسادات إبَّان الحرب بصفة يومية، بل وكثيرًا ما كنت ألتقيه عدة مرات في اليوم الواحد وفي أوقات مختلفة نهارًا أو ليلًا، فجرًا أو في ساعة متأخِّرة من الليل.

لقد بدأ السادات الحرب، وعلى عكس وعوده المتكرِّرة، دون مشاورة مع الاتحاد السوفييتي، بل وحتى دون إنذار حقيقي، وإنما أخبرني بالأمر في صباح السادس من أكتوبر فقط، عندما أبلغني بأنه يود بشدة أن نلتقي خلال الساعات القليلة المقبلة؛ إذ «ربما تقع أحداث عظام». ولكنه استدرك قائلًا: ولكنك للأسف، قد تكون في السفارة على ما يبدو لكي تكون على اتصال بموسكو. بالمناسبة، كان السادات يتحدَّث معي قبل أيام قليلة عن قيام إسرائيل بعمليات استفزازية، وأنه من المحتمل وقوع أحداث ضخمة. عندئذٍ سألته إن كان يود أن يبلغ الزعماء السوفييت عن التطوُّرات المتوقَّعة للأوضاع، وعن تلك الأحداث التي قد تقع. هنا أجابني السادات بقوله: سوف أُخبرك بذلك «في حينه». ولكنه، كما رأينا، لم يخبرني بشيء.

في الثالثة من ظُهر السادس من أكتوبر اتصل بي السادات على الهاتف العادي المباشر في مقر السفارة. كان أمرًا غير معتاد. لم يتصل بي السادات مطلقًا من قبلُ هاتفيًّا، ناهِيَك عن أن يتصل على الهاتف العادي، حتى إنني ظننت في البداية أن في الأمر لغزًا ما. ولكن الأمر كان صحيحًا. كان الصوت الذي أسمعه عبر الهاتف صوتًا مألوفًا ولكنه كان صوتًا مفعمًا بالفرح والانتصار: «سفیر (قالها بالعربية)، قواتنا الآن على الضفة الشرقية للقناة! ورايتنا الآن منصوبة على الضفة الأخرى!» هكذا بدأت الحرب.

كان السادات قد أوصى بوضع هاتف خاص بي في السفارة للاتصال الحكومي من طراز ذي أرقام محدودة خاصة بالمقربين. ولم يكن لدي وزير الخارجية نفسه مثل هذا الهاتف. كان كثيرًا ما يتصل بي للتحدث في شئون العمل دون مراعاة للوقت، وأحيانًا ما كان يتحدَّث في الثالثة بعد منتصف الليل. وكنت أُبلغه بالأمور العاجلة والطارئة عبر هذا الهاتف. لكن معظم لقاءاتنا كانت ذات طابع شخصي بطبيعة الحال، وخاصةً في تلك الأيام التي كانت تتاح له الفرصة أن يلتقيني فيها وجهًا لوجه دون حاجة للانتظار.

ما إن بدأت العمليات العسكرية حتى انتقل السادات للإقامة في قصر الطاهرة بمنطقة هليوبوليس. وكنت أقطع إليه المسافة بالسيارة في حوالي ٢٥ دقيقة. كان السادات يرتدي آنذاك الزي العسكري، وكان يحاول أن يتحدَّث بشكل واضح وباقتضاب. عمومًا كان السادات يتميَّز بقدرته على صياغة أفكاره على نحو واضح ومُعبِّر، وكثيرًا ما كان ينتقل للحديث بالإنجليزية عندما يكون نافد الصبر، على الرغم من أنه كان عادةً ما يفضِّل الحديث معي باللغة العربية من خلال مترجم. وقد كان المترجمون دائمًا من السوفييت؛ إذ لم يكن من بين المصريين مترجمون ثقات يُجيدون اللغة الروسية. لم نكن بحاجة بطبيعة الحال إلى مترجمين عندما كُنا نتبادل الحديث بالإنجليزية. كان السادات ينطقها بشكل جيد لا بأس به، وعلى الرغم من أن مخزون الكلمات لديه كان محدودًا، إلا أنه كان يُوظِّفه بشكل سليم. كان الحديث بالإنجليزية لمدة نصف ساعة تقريبًا كافيًا جدًّا بالنسبة له وإلا يتسلَّل إليه الملل بسرعة.

في لقاءاتنا الأولى كان لدى السادات قدر كبير من التحفُّظ تجاهي. وعندما اقتنع بالدعم المخلص النزيه والملموس من جانب الاتحاد السوفييتي، أصبحت علاقته بي جيدةً للغاية، وأحيانًا ما كانت الأمور تبدو في الواقع وكان عصرًا جديدًا من العلاقات بين البلدَين قد تمَّ تدشينه، وأن الرئيس كما لو كان قد تغيَّر تمامًا. وقد أخبرني عدة مرات بنفسه أن صفحةً جديدة رائعة قد بدأت في العلاقات بين بلدَينا، وأن مصر مدينة لأبعد الحدود للاتحاد السوفييتي، وأنه «سيأتي اليوم» الذي سيحكي فيه عن هذه المواقف الشجاعة للاتحاد السوفييتي بملء فيه. الحقيقة أنني لم أتماسك عندئذٍ وسألته ولماذا لا يحكي الآن للجميع عن هذه المواقف التي اتخذها الاتحاد السوفييتي. لم يُجِب السادات وإنما نوَّه قائلًا: «لا يزال الوقت مبكرًا، ولكنه سيأتي.» من الواضح أن تصرفي كان غير متوقع بدرجة ما، حتى إنني أحسست أنه شوَّش على أفكاره بشكل أو بآخر، وإن كنت قد رأيت أن تصرفي قد حظي بإعجابه.

إبَّان العمليات العسكرية أحاطني السادات علمًا بالاتصالات التي قامت على الفور بينه وبين الأمريكيين. الحقيقة أن ما أمدني به من معلومات لم يكن مُوثَّقًا، وإنما كان يُقدِّم إليَّ من وجهة نظره فقط، أو بِناءً على عرض مساعديه لفحوى هذه الاتصالات، وعلى أي حال فقد كانت هذه المعلومات على قدر كبير من الأهمية. لم يكن السادات يتحدَّث إليَّ قبل ذلك بمثل هذه الصراحة، ومن بين المعلومات التي ذكرها أن الأمريكيين تقدَّموا إليه باقتراح أن يقوموا بخدمات الوساطة، على الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية، في واقع الأمر، كانت تحارب مصر!

وقد لفتُّ انتباه السادات إلى ذلك ونصحته بأن يقدِّم للأمريكيين اقتراحًا بالتشاور مع الاتحاد السوفييتي، حيث بات واضحًا في هذه الفترة إمكانية العمل السوفييتي الأمريكي المشترك فيما يتعلَّق بالصراع العسكري. لكن السادات لم يُجب بشيء.

أصبحت العلاقات مع السادات جيدةً إلى حد النجاح في الحصول على بعض المكاسب. بل إن السادات كان يطلب رأيي أحيانًا في هذه أو تلك من الخطوات السياسية. وكان عددٌ من المقربين منه ينقُلون إليَّ أن الرئيس «راضٍ» للغاية عن السفير السوفييتي، وهو ما كان ينقُله إليَّ أيضًا بعض الذين كانوا يتردَّدون عليه. كان ذلك في الواقع زمنًا طيبًا، على الرغم من أنني كنت أحصل على ساعات قليلة من النوم لا تتجاوز ثلاث أو أربع ساعات في اليوم، أمَّا باقي اليوم فكان مليئًا بالتوتر الشديد.

واستنادًا إلى آراء الجميع، كان السادات يعلم على أية حال القليل عمَّا كان يحدث في الواقع على الجبهة. وكثيرًا ما كان يجيبني، عندما كنت أسأله عن آخر المعلومات، بقوله إنه لا يعرف شيئًا حتى الآن، حيث إنه لم يتلقَّ مؤخَّرًا معلومات من مركز القيادة. في الواقع إنني كنت أخبره في بعض الأحيان بوقوع بعض الأحداث على الجبهة كان رفاقنا يحصلون عليها من الأركان العامة للجيش قبل أن تصل إلى السادات. لم يكن السادات يهتم أحيانًا بأن يكون على علم بكل التفاصيل. كان الاتجاه العام لديه أن الحرب لیست شأنًا عامًّا، وإنما هي، إذا جاز القول، مسألة احترافية، «عمل» يختص به العسكريون، وهؤلاء يعرفون ما يعملون وما الذي ينبغي عليهم عمله. وكثيرًا ما كان يرد على أسئلتي بشان تصوراته عن سير الأمور بأن هذا من عمل العسكريين، وأنهم هم الذين يضعون الخطط والذين يعرفون كيف ينبغي عليهم تنفيذها.

وهذا ما حدث تمامًا عندما أحدث الإسرائيليون الثغرة في نهاية أكتوبر. لفَتُّ انتباه الرئيس إلى الثغرة وطلبت منه حرفيًّا سرعة تدخل قوات كبيرة للقضاء على هذا الوضع الخطير حتى لا يتحوَّل إلى تهديد كبير، واستندت في ذلك إلى رأي الأصدقاء في موسكو. لكن جهودي راحت هباءً. راح السادات يهدئ من روعي متحدِّثًا بتلك النبرة الواثقة قائلًا: «لا تقلق، قل لهم في موسكو أن يناموا في هدوء، إن عسكريينا يعلمون ما الذي ينبغي عليهم عمله.»

ما زلتُ أذكر جيدًا كيف استدعاني السادات ليلة الحادي والعشرين من أكتوبر وتحدَّث إليَّ بالإنجليزية ليطلب مني أن أبلغ ليونید بریجینيف على الفور ضرورة العمل على وقف إطلاق النار وقال لي: «إنني أستطيع أن أحارب إسرائيل، ولكنني لا أستطيع أن أحارب الولايات المتحدة الأمريكية.» كانت هيئته مثيرةً للأسى، وكان زيه العسكري مكرمشًا. أين ذهب مظهره الواثق وأقواله الحصيفة ونبرته السلطوية؟ لقد حدث بداخله على الأرجح شيء لا يمكن تصديقه؛ فهو الآن يطلب!

لقد حاولت، بطبيعة الحال، أن أكون شديد الاهتمام، عطوفًا ولطيفًا تجاه السادات. أسرعت إلى السفارة حتى أستطيع أن أُبلغ موسكو على وجه السرعة بهذا الطلب. ومرةً أخرى كان عليَّ أن أعود سريعًا لمقابلة الرئيس لأشرح له عددًا من التفاصيل المهمة. عندما هاتفت الرئيس أجابوني بأنه نائم! كنتُ متوتِّرًا بشدة؛ إنهم مستيقظون الآن في موسكو والرئيس هنا ينام في هدوء! رفض الياور أن يوقظ الرئيس، لكنني كنُت مُصرًّا وأخبرتهم أن الأمر عاجل للغاية.

وصلتُ إليه مع خيوط الشمس الأولى. خرج إليَّ من غرفة نومه في روب وردي اللون. كان قد أخذ قسطًا وفيرًا من الراحة. بدا منتعشًا لا يبدو على وجهه أي أثر یشي بالكارثة التي تكبَّدها بالفعل. بل إنه كان مرحًا يفيض بحيوية. وافق على كل ما اقترحته عليه وما طلبته منه. كان من الواضح أن الحرب قد انتهت بالنسبة له، وأن على الآخرين أن يُصلحوا ما أفسده هو.

والآن، أعود بذاكرتي أيضًا إلى العناد الذي أبداه السادات عند لقائه بألكسي كوسيجين عندما حضر إلى القاهرة في السابع عشر من أكتوبر إبَّان العمليات العسكرية؛ لكي يقنع الرئيس بضرورة العمل على وقف إطلاق النار واستغلال الوضع العسكري والسياسي الجيد الذي تحقَّق بعد الأيام الأولى من الحرب. لكن السادات بحكم شخصيته، وربما، بِناءً على حساباته، عارض هذا الاقتراح، بل وقال بلهجة أكثر ثقةً إننا نريد أن نحرمه من النصر. باختصار، كان يتصرَّف كأن الثغرة التي أحدثها الإسرائيليون غير موجودة، وكأن القوات المصرية تقف عند حوائط القدس! لا شك أن السادات لا يتذكَّر الآن هذا الحديث الذي ظلَّ خلاله متشبِّثًا بطلب «ضمانات» سوفييتية أمريكية لانسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي المحتلة كافة.

لم ألتقِ بالسادات بعد ذلك. كانت المرة الأخيرة التي تقابلنا فيها في الحادي عشر من نوفمبر ١٩٧٣م، عندما راح يحاول أن يستكمل ما بدأه في علاقاته بالأمريكيين وانعطافه الحاد في اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية. كان واضحًا أنه قد أدرك أنه لن يجد لحظةً أكثر مؤاتاةً من هذه اللحظة، بعد أن بلغت هيبة الاتحاد السوفييتي في مصر وفي البلاد العربية الأخرى ذروتها، في تلك الظروف التي لم يُعلن فيها بعدُ عن الدور النبيل الذي قام به الاتحاد السوفييتي في الحرب التي خاضتها مصر في أكتوبر! ما الذي كان ينبغي أن يحدث بعد ذلك؟ كان عليه أن يذكر الحقيقة. لكن السادات قرَّر عمدًا أن يُهيل التراب على هذه العلاقة. ودون أن يحيط الاتحاد السوفييتي علمًا، حوَّل دفته باتجاه الولايات المتحدة. أرسل إسماعيل فهمي إلى واشنطن، ثم استقبل کیسینجر بكل حفاوة. وافق على الوساطة الأمريكية وأعاد العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة الأمريكية. امتنع عن إبلاغنا بالمعلومات الخاصة باتصالاته بالولايات المتحدة … وفي نفس الوقت راح يغرقنا بطلباته حول سرعة إرسال صفقة ضخمة من الطائرات، بل إنه توجَّه بهذا الطلب تحديدًا بعد أن وضعت الحرب أوزارها. ظلَّ يهاتفني يوميًّا، دون حاجة ماسة لذلك؛ ليكرِّر على مسامعي النغمة القديمة أن الاتحاد السوفييتي قد غيَّر سياسته نحو مصر، وهلم جرًّا. وعندما سألته عن السبب الذي يجعلنا نُغيِّر سياستنا وقد تفاقمت علاقتنا بالولايات المتحدة الأمريكية إلى حد أنها أعلنت حالة التأهب القصوى في جميع قواعدها في الخارج، لم يستطع السادات أن يرد. ببساطة، لم ينبس ببنت شفة.

جاءت بعد ذلك مرحلة التعاون بين السادات والولايات المتحدة الأمريكية. مرحلة التعاون العلني دون تحفُّظ أمام أعين الجميع، لتبدأ منذ هذه اللحظة الرحلات المكوكية لكيسينجر إلى القاهرة، ثم لتتلوها زيارة نيكسون. لم يكن الأمر ليمر بطبيعة الحال دون التشهير بالاتحاد السوفييتي، ودون سيل من الأكاذيب وأنصاف الحقائق اعتمادًا على أننا لم نكن لنخوض على الملأ في جدال مع رئيس مصر بشأن هذه القضايا. وفي هذا السياق، جاءت الافتراءات مباشِرةً في حق السفير الروسي، الذي زعموا أنه كان ينقُل للرئيس معلومات مغلوطةً حول الوضع في سوريا، وطلبات الرئيس السوري للقيادة السوفييتية. كان السادات يُوجِّه كل هذه الاتهامات معوِّلًا على أن الجماهير العريضة لن تُخمِّن أن أي سفير يقدِّم للرئيس المعلومات بِناءً على تفويض من حكومته، وأنه لا يمكنه أبدًا اختراع المعلومات. وقد وصل الأمر بعد ذلك إلى حد أن السادات أعلن صراحةً أن على مصر أن تعتمد على الولايات المتحدة لتسوية الصراع في الشرق الأوسط. وقد أخبرني دبلوماسيون يعملون في القاهرة أن الرئيس قرَّر «أن يضع البيض كله في سلة واحدة»، وأنه بات يتصرَّف مثل مقامر متهوِّر، وهو في كل ذلك لا يمتلك أي قدر من اللياقة.

على مدى وجودي في القاهرة لمدة أربعة أعوام، بوصفي سفیرًا، صادفت، بطبيعة الحال، مواقف شديدة الحرج. لقد تسنَّى لي أن أرى الرئيس تارةً سعيدًا وتارةً حزينًا، تارةً صادقًا وتارةً يقول بهتانًا واضحًا. رأيته منضبطًا، كما رأيته ثملًا. رأيته في أحوال شتی، وكنت شاهد عِيان على كل المباحثات التي أجراها مع الزعماء السوفييت، شهدت سياسته في تقريب الناس منه، ثم التنكيل بهم بعد ذلك. كان السادات يعرف أن سفارتنا على علم تام بالوضع في البلاد، وأنها على الأرجح تُبلغ موسكو بذلك. كان السادات يرى كفاءة السفارة في التعامل مع مختلِف القضايا، السياسية والاقتصادية والعسكرية أيضًا بدرجة لا تقل عن غيرها من القضايا. وانطلاقًا من ذلك كان من الصعب عليه أن يكذب عليَّ أو على الزعماء السوفييت. ولذلك، وبسبب شخصيته، لم تكن سفارتنا تعجبه.

لم تكن علاقته الشخصية بي سيئة، وما يكتبه الصحفيون الأمريكيون في هذا الصدد عني هو محض افتراء من وحي خيالهم، وباستثناء هذا الحديث، الذي دار بيننا عندما أبلغني بلهجة مُهينة عن قراره بطرد العسكريين السوفييت من مصر، واضطُررت آنذاك أن أرد على نحو حازم، وإن ظَلِلت محتفظًا بقدر كبير من التماسك وضبط النفس. كانت كل أحاديثي معه ودية، وإن لم يكن السادات، على الأرجح، سعيدًا بهذه الأحاديث؛ فالسادات لم يكن بإمكانه أن يبلغني بأية أكاذيب عن العلاقات السوفييتية المصرية أو عن أية قضايا أخرى. كان يشعر بذلك غريزيًّا. أزعم، باختصار، أنني كنت أعرف السادات على نحو جيد. بل أقول على نحو غير مسموح به بالنسبة لسفير. ولو كان الرئيس شخصًا آخر مختلفًا من ناحية التعليم والثقافة، وربما من ناحية الشخصية، لكان من الممكن أن يكون هذا التوصيف من جانب السفير السوفييتي، على العكس من ذلك، مناسبًا، ولكن ليس بالنسبة للسادات.

لم يكن السادات يجب التعامل مع السوفييت. ولم أنجح مطلقًا، على سبيل المثال، أن أُقنعه أن يستقبل ولو لمرة واحدة كبير المستشارين العسكريين السوفييت ليقدِّم له تقريره. بينما كان ناصر يستقبل العسكريين السوفييت كثيرًا، وكان يُقدِّر عن حق قيمة المعلومات التي يقدِّمونها بصورة ودية مستقلة عن الوضع داخل القوات المسلحة. لم يُدلِ السادات مرةً واحدة بحديث للصحفيين السوفييت، مع أنه كان يستقبل برضًا تام الصحفيين والمُراسلين الغربيين وخاصةً الأمريكيين.

سوف أتعرَّض فيما يلي بالحديث قليلًا عن الصفات الشخصية للرئيس. يتضح من محاولاتنا السابقة لرسم صورة السادات الرئيسية إلى أي حد من الصعوبة يمكن التعامل مع زعيم من هذا الطراز. كان السادات يتعامل مع الأمور بسطحية شديدة عندما يتحدَّث عن مصالح الشعب، بينما يتغاضى عن الحديث عن أعداء الشعب العُمال المُمَثَّلين في البرجوازية المصرية. وكان يحاول أن يجمع بين أمرَين متناقضَين في آنٍ واحد، وهو تصرُّف غير مأمون العواقب؛ ولذلك كان يسعى لتحقيق أمانه الشخصي قدر استطاعته.

٤

إن الصفات الشخصية لأي رجل دولة لها دور كبير، بطبيعة الحال، في تحديد أفعاله وتصرفاته. وهي تضفي عليه ظلالًا خاصة ينبغي وضعها أيضًا في الاعتبار. وحتى في وجود ديمقراطية برجوازية على نحو أو آخر، حيث نجد ما يشبه اتخاذ القرارات على نحو جماعي، وبهذه الصفات الشخصية لرجل الدولة يكون لها دور كبير عند اتخاذ هذه القرارات، حتى في وجود رجال دولة آخرين يُفترض أنهم يشاركون في تحمُّل جزء من مسئولية اتخاذ هذه القرارات بصورة ما.

وفي دولة ذات مكانة كبيرة مثل مصر الحديثة، يمتلك الرئيس في الواقع سلطات لا حدود لها، وهي سلطات لا يشاركه فيها عمليًّا أحد. فإذا سارت الأمور على نحو حسن تظهر هنا «حكمة» الرئيس المسئول عن القرارات التي اتخذها، أمَّا إذا كان الخطأ فادحًا فسيتم العثور على شخص ما آخر تُلقى على كاهله المسئولية. ومن ثم فإن الصفات الشخصية للرئيس المصري في دولة لم تتحوَّل بعدُ إلى حتى ما يشبه الديمقراطية، يكون لها دور مبالَغ فيه، سواء تشاور مع أحد ما أم لم يتشاور، فإذا لم يجد مناصًا من التشاور فإنه يختار بنفسه مَن يتشاور معه.

لا توجد بالطبع رقابة على تصرُّفات الرئيس سواء من البرلمان أو من الاتحاد الاشتراكي العربي. يكفي أن نتذكَّر في هذا السياق كيف تعامل السادات مع الناصريين الذين أرادوا تقديم النصح له والتأثير عليه. ووفقًا للقواعد المعمول بها في مصر، فإن توجيه النقد لتصرفات الرئيس يُعد خيانةً للدولة. ذات مرة، عندما أثارت التصرفات القمعية للرئيس تجاه الشباب اضطرابات كبيرةً في البلاد، ألقى السادات خطابًا تحدَّث فيه عن وجود .. ديمقراطية في البلاد. وقال، وقد ارتسمت على وجهه مظاهر الجدية دليلًا على صواب فكرته، إن التفكير في أي شيء أمر مسموح به في البلاد. وأضاف الرئيس أن أي عمل ينبغي أن يكون مؤيِّدًا للرئيس، أمَّا ما يجري التفكير فيه فينبغي أن يظل في رأس كل من لا يتفق مع السلطة! هذه هي الديمقراطية على الطريقة الساداتية.

لقد تحدَّثنا آنفًا عن العقيدة السياسية عند السادات، وهي الشيء الرئيسي الذي يحكم تصرفاته ومنهجه.

والآن نتحدث عن بعض السمات الشخصية المهمة للرئيس بوصفه رجل دولة.

لقد ترسَّخ لديَّ اقتناع عميق أن السادات قد تأثر بشدة من جراء تلك العلاقة التي عایشها مع «رفاقه» الآخرين أعضاء مجلس الثورة، إذا جاز التعبير. ومن المعروف أن معظم هؤلاء الرفاق كانوا يتعاملون معه دائمًا بشيء من التجاهل والسخرية، ربما في سياق علاقة الصداقة. لكن كثيرًا من الناس في مصر أخبروني أن السادات قد عانى بشدة بسبب هذه المعاملة تحديدًا. ومن الواضح أن هذا الأمر انعكس في هذه الرغبة النفسية لدى السادات أن يصبح دائمًا «أعلى من مُحدِّثه»، ما دام وضعه الحالي يسمح له بذلك.

لقد تولَّد لديه بسبب ذلك شعور هائل بالارتياب وعدم الثقة إلى حد الوسواس، حتى إنه يغضب بسرعة وعلى نحو عاصف عندما لا يدرك، على سبيل المثال، المغزى من وراء نكتة من النكت. عمومًا لم يكن السادات من الذين يحبون النكات أو يحكون المُلَح والنوادر. أنا نفسي، على سبيل المثال، لم أسمع منه مرةً واحدة حكايةً مضحكة أو مقارَنة ساخرة. ببساطة لم يحكِ نكتةً أمامي، كما أن ذلك لم يحدث أثناء لقاءاته بالزعماء السوفييت. عمليًّا لم يكن بمقدور السادات أن يضحك، وإنما كان يفتح فمه ويرفع صوته قائلًا: «ها، ها، ها!» وعندما يبتسم فإنه يحرِّك فمه مبتسمًا ويهز شاربه، أمَّا عيناه فلا تجد فيهما أثرًا للضحك أو الابتسام.

من هنا سعى السادات بكل طريقة لتجنب تلك المواقف التي قد يستشعر فيها أنه «ليس على القمة»، إذا جاز القول. وهنا تحديدًا ما يفسِّر خوفه من الأحاديث الصريحة مع الزعماء السوفييت، وخاصةً إذا كان هناك نفر آخرون يحضرون اللقاء. كان يتحفَّظ بشدة، بحيث يدرك المرء على الفور دون إرادة منه أحاسيسه، أحاسيس رجل في مرمى النيران. ولهذا كان السادات يفضِّل أن يتحدَّث مع الآخرين في الأمور المهمة على انفراد دون شهود لا حاجة له بهم.

في أحاديثي معه، والتي كان يرتِّبها لي بالطبع على نحو مختلف عن الأحاديث التي كانت تدور مع الزعماء السوفييت، كنت بالنسبة له مجرَّد سفير لا أكثر، شخص أقل رتبة. كان الرئيس يُحب أن يطرح فكرته من أعلى. أن يفرض رأيه قسرًا، وليس عن طريق الإقناع.

ولم يكن الرئيس يميل، على سبيل المثال، أن تساق إليه حجة مضادة، وقد لا تتعارض هذه الحجة كثيرًا مع حججه هو نفسه، وإنما تكون قد جاءت في سياق المناقشة على سبيل توضيح فكرته ذاتها على نحو أفضل. لم يكن يرغب إطلاقًا في الجدل ولو لتوضيح جوهر الأمر، ناهِيَك عن الاختلاف؛ ولهذا كان عنيدًا.

كان ناصر أيضًا لا يحب أن يعارضه أحد، لكنه كان يسمح بالجدل على نحو ودي. في مارس من عام ١٩٧٠م كُلِّفتُ بالذهاب لمقابلة ناصر في مهمة شديدة الحساسية؛ أن أحاول إقناعه بوقف إطلاق النار، الذي كان دائرًا بعنف من جانب المصريين في الفترة التي عُرفت آنذاك ﺑ «حرب الاستنزاف». لم يتكبَّد الإسرائيليون في الواقع أية خسائر من جرَّاء هذا الإسراف الهائل في قصف القنابل من جانب المصريين، في الوقت الذي كانوا يتعرَّضون فيه هم أنفسهم لضربات شديدة من الطيران الإسرائيلي في العمق، حيث كان المصريون قد بدءوا لتوهم بفضل الدعم السوفييتي في حمايته. وحتى يستمر العمل في بناء هذه المواقع الدفاعية، وكذلك لصالح الجيش المصري نفسه، كان من الأنسب وقف هذا القصف غير الرشيد. لكن أحدًا لم يكن بإمكانه أن يُبلغ ناصرًا بذلك. كذلك كانت لديَّ قضية أخرى معقَّدة للغاية تلخَّصت في محاولة إقناع ناصر بالموافقة على عدد من الصياغات الخاصة بالشروط النهائية لإحلال السلام عند التوصل إلى تسوية شاملة لمشكلة الشرق الأوسط، التي كُنا نتفاوض آنذاك بشأنها مع الأمريكيين، وهي صياغات كان من الصعوبة بمكان أن يقبلها ناصر. لم يكن من السهل على أندريه جروميكو أن يقول لي وهو يوصيني قبل السفر، إنني إذا أنجزت مهمتي ولو بنسبة ١٠٪ فإن ذلك يُعَد إنجازًا طيبًا.

ولقد أُنجِزَت المهمة على نحو تام. وافق ناصر على وقف إطلاق النار، فضلًا عن موافقته على الصياغات الخاصة بإحلال السلام عند تحقيق المرحلة الأولى من انسحاب القوات الإسرائيلية؛ أي بشرط انسحاب القوات الإسرائيلية، بطبيعة الحال، بصفة نهائية خلال مدة زمنية قصيرة نسبيًّا. وقد تضمَّنت صياغة الاتفاق النهائي للسلام عدم السماح بقيام مصر بأية عمليات عدوانية ضد إسرائيل في حالة التسوية النهائية مع التزام إسرائيل، بالطبع بنفس الشروط بالنسبة لمصر، وهلم جرًّا. كانت مباحثاتي مع ناصر على قدر كبير من الأهمية والصعوبة، لكنني لست بصدد الحديث عن هذا الأمر الآن.

إبَّان محادثاتي مع ناصر اضطُررت للدخول معه في جدال. لا أعرف إن كان هو الذي استفزَّني إلى ذلك أو أنه كان يسعى لعرض أفكاره الحقيقية. ظلَّ يطوِّر فكرته بشأن أن الصراع في الشرق الأوسط ليس صراعًا بين العرب وإسرائيل، وإنما هو في واقع الأمر صراع بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، وكأن الصراع العربي الإسرائيلي ما هو إلا نتاج لهذا الصراع الأساسي.

بطبيعة الحال فإن قَبول هذه الفكرة كان سينتهي بنا إلى استنتاجات خاطئة، ليس فقط على المستوى النظري، وإنما بشكل مضاعف من الناحية العملية. قلت لناصر إنني لا أتفق معه على هذا الرأي. نظر إليَّ ناصر بدهشة وقال: «كيف إذن؟!» واقترح عليَّ أن أُواصل التعبير عن فكرتي. أنصت باهتمام إلى حججي، وحاول أن يطرح بدوره بعض التصوُّرات الإضافية، ولكنه في نهاية الأمر وافق على أن الصراع العربي الإسرائيلي إنما يعكس الصراع بين التحرُّر الوطني والقوى الاستعمارية والاحتلال، وأن الاتحاد السوفييتي لا يستطيع إلا أن يقف في هذا الصراع إلى جانب قوي التحرُّر الوطني، بينما تقف الولايات المتحدة إلى جانب القوى الرجعية؛ إسرائيل.

أذكر أنني عارضت ناصرًا ذات مرة في موضوع آخر يتعلَّق بقيمة «حرب الاستنزاف» التي كانت تشنها مصر آنذاك. وعلى الرغم من أن مثل هذه الموضوعات كانت تجد معارضةً جذرية من جانبه، فإنه لم يكن ليرفض الدخول في جدل بشأنها، جدل ودي مع شخصية متواضعة١ مثلي. فيما بعدُ أخبرني بعض المقرَّبين من ناصر أنه كان راضيًا لكون الحديث بيننا اتخذ طابع الجدل. كان ناصر شخصيًّا لا يحب، بالطبع، أن يعارضه أحد، وإنما يعضِّده؛ فالمعارضة كانت تُثير استياءه.

كثيرًا ما أتذكَّر وأنا أتعامل مع السادات، كيف كان ناصر ذا طابع مختلف تمامًا.

هل يمكن اعتبار السادات رجلًا صريحًا؟ أظن أنه لم يكن كذلك. كان السادات يصوغ موقفه، أو مطالبه، أو آراءه بحيث تبدو صحيحة، ولكي تصبح مقبولة؛ ولهذا كان يولي اهتمامًا كبيرًا لصياغتها لكي تترك الانطباع المطلوب. كان باستطاعته أن يقول بطريقة مميَّزة: «والآن سأقول لكم ما لا تعرفونه.» وعلى الرغم أن ما سيقوله يمكن أن يكون معلومات سرية، فإنها تكون في الأغلب من النوع الذي يمكن معرفته بسهولة. وفي غالب هذه الحالات كنتُ على علم بهذه المعلومات، ولكنني لم أكن لأُفصح بطبيعة الحال عن ذلك.

ومن الأمور التي كانت تلفت انتباهي أيضًا بشدة، أن السادات كان يقيس تصرفاته أحيانًا بتصرفات «شخصيات فذة»، من بينها، من وجهة نظر السادات، ستالين وتشرشل. لا أعرف كيف كان يتصوَّر تشرشل، لكن معرفته بستالين كانت مغلوطةً ومحدودة. وكثيرًا ما كان يقول لي إن ستالين فعل كذا في الموقف الفلاني، ولم يفعل كذا في موقف آخر. كان معجبًا بموقف ستالين إبَّان معركة موسكو. وفي الوقت نفسه وفي اليوم التالي لاعتقاله الناصريين في مايو ١٩٧١م كان شاحبًا، مضطربًا بشكل كبير وهو يقص عليَّ حكايةً قالها لي من قبل، لكنه راح لسبب ما يؤكِّدها لي مرةً أخرى محاولًا إثبات صحة ما قام به تجاه الناصريين، وهي أن ستالين أعدم، من أجل «القضية»، نصف أعضاء اللجنة المركزية رميًا بالرصاص. كنت مضطرًّا أحيانًا لمقاطعة الرئيس وأن أطلب منه، بأسلوب لائق بالطبع، ألَّا يردِّد ما سمعه في مكان ما من شخص ما.

ذات مرة أخبرني هيكل على نحو عابر أن محاكاة السادات لستالين ترجع إلى حب السادات لمشاهدة الأفلام السينمائية في منزله ليلًا، وأن أكثر ما يثير إعجابه هو أفلام رعاة البقر الأمريكية وقصص الحب الميلودرامية. كان هيكل يقص عليَّ ذلك إبَّان العمليات العسكرية في أكتوبر متسائلًا في دهشة عن السبب الذي يدعو السادات أن يهدر وقته وصحته على مشاهدة الأفلام ليلًا، في الوقت الذي يحتاج فيه إلى جهد وتركيز عظيمَين، وخاصةً أن الوضع على الجبهة قد بات أكثر تعقيدًا. صاح هيكل قائلًا: «الإسرائيليون يتسلَّلون هناك، وهو يشاهد السينما! أين يحدث ذلك؟»

في الواقع، فإن كل مقار الرئاسة، على كثرتها، كانت مجهزةً بمعدات العرض السينمائي، فإذا ما توقَّف في أحد المقار التي نادرًا ما يزورها، فمن الضروري أن يُحضروا له جهاز عرض نقَّال. وقد رأيت ذلك، على سبيل المثال، عندما استقبلني السادات ذات مرة، لسبب لا أذكره، في استراحة حلوان.

أثناء حواره يحاول السادات التأثير في محدِّثه، مستعرضًا مشاعره، وهو محدِّث لبق، يصوغ أفكاره بشكل واضح ودقيق، ولكنه قادر في الوقت نفسه أن يُقنع مَن أمامه بشكل مباشر أنه تعرَّض للإساءة، مثله مثل طفل، وأن الذي أساء إليه يستحق العقاب الفوري.

في شهر أكتوبر وأثناء العمليات العسكرية تلقَّيت تكليفًا بالقيام بدور ما يشبه بالون الاختبار بأن أُبلغ السادات وعلى نحو عابر تمامًا أنني قُبيل قدومي مباشرةً للقائه استطعت على عجل أن أطَّلع على برقية لم «أستطع» قراءتها كاملة، وهي برقية وصلت إليَّ من أحد أقسام وزارة الخارجية وتتضمَّن أخبارًا من نيويورك تفيد بأن ممثِّلين عن مصر اتصلوا بالأمريكيين، وأنهم ألمحوا إلى إمكانية الوصول إلى حل وسط بخصوص وقف إطلاق النار، الذي اقترحه الأمريكيون (من المعروف أن السادات في الأيام الأولى للحرب رفض رفضًا قاطعًا أية صياغات بخصوص وقف إطلاق النار، مطالبًا بالانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من جميع الأراضي المحتلة باعتباره شرطًا أساسيًّا، وهو مطلب لم يكن واقعيًّا بالطبع). أدرك السادات أن حديثي لا يخلو من غرض، وأن الأمر يتعلَّق هنا بعدم الثقة: هل سيدير المصريون المباحثات مع الأمريكيين من وراء ظهورنا؟ لقد فهم السادات على الفور أنه أيًّا كانت الحقائق (الآن أرى، على سبيل المثال، أن هذه المعلومات لم تكن بعيدةً عن الحقيقة)، فإنه يجب عليه أن ينفيها وبصورة قاطعة. كم كان غضبه عندئذٍ شديدًا! لقد احمرَّ وجهه ولوَّح بيده تجاهي في غضب، كما لو كان يطرد عنه شيطانًا. رحت أعتذر بالطبع لكوني ذكرت له عمومًا مجرَّد مدخل الخطاب الذي أرسله فضلًا عن ذلك شخص «غير ذي صفة». عندئذٍ صاح السادات: «كلا، كلا! لستَ مخطئًا. لقد تصرَّفتَ على النحو الصحيح بأن تحدثت إليَّ عن كل ذلك، أمَّا هذا الذي أخبرك بذلك فيستحق العقاب. نعم. نعم، أقسی عقاب.» وقد أبلغت موسكو بذلك كله.

كان السادات رجلًا غريب الأطوار، رجلًا ذا عادات شرقية تمامًا، إذا جاز التعبير؛ فهو يعبِّر عن نفوره من ضيفه بالطريقة التي ينظِّم بها مجلسه في الغرفة التي يستقبله بها. وعندما تكون علاقتنا على ما يرام، كان يستقبلني عادةً في مكتبه الرسمي، في غرفة الاستقبال، أو في غرفة مكتبه في منزله. كان يجلس على كرسيه ويدعوني للجلوس إلى الأريكة المجاورة ويتعامل معي بأدب جم.

ذات مرة تسنَّى لي زيارته في وقت من تلك الأوقات التي كان الرئيس يعبِّر فيها عن شعوره بالغضب تجاه الاتحاد السوفييتي. اقتادونا إلى قاعة كبيرة صُفَّت فيها آرائك وكَراسٍ إلى الحوائط وأمامها وُضعت مناضد صغيرة. وفي وسط هذا المكان الرحب وُضع كرسي وحيد متوسط الحجم له ظهر مرتفع، وفي جانب آخر وُضع کرسیان عاديان. لم يكن هذا التنسيق يلائم قاعةً كبيرة ذات سقف مرتفع. قلت لرفیقي: «هل صحيح أنه سيستقبلنا رسميًّا على هذا النحو؟ وهل ينبغي علينا أن نخضع لذلك؟»

ثم ها هو الرئيس يدخل إلى القاعة. كان يسير وقد حمل ملفًّا تحت إبْطه. خمَّنت على الفور من ملامح وجهه أنه سوف يُجلسنا في هذه الأماكن التي تمَّ إعدادها خصوصًا لنا. وهو ما حدث بالفعل. جلس الرئيس على المقعد ذي الظهر المرتفع إلى جانب إحدى الموائد وقد كساه الوقار (أصدر الكرسي صريرًا عند جلوسه، كان كرسيًّا من طراز قديم للغاية، لم أرَ مثله في القدم)، وعلى الجانب الآخر للكرسي جلسنا أنا ورفيقي. وإذا بمصوِّر يظهر فجأةً من حيث لا ندري، الأمر الذي كان يُنذر بشيء لا يبعث على الاطمئنان. التقط لنا صورًا ظهرت في الصحف في اليوم التالي. تمدَّد الرئيس في كرسيه مزهوًّا بنفسه، عصاه إلى جواره وقد وضع ساقًا على ساق، وعلى الجانب الآخر جلس السفير ومستشاره على كرسيَّين وقد انتصب ظهراهما (لم يكن من طريقة أخرى). كان كل شيء يجري على نحو برجوازي مهيب للغاية.

واقعة مثيرة للفضول. جرى اللقاء التالي مع السادات في نفس المكان، ولكن بعد شهر تقريبًا، وعلى مدى هذا الشهر كانت المياه قد عادت لمجراها الطبيعي. استقبلنا السادات في نفس القاعة الكبيرة، على أنها هذه المرة كانت مُؤثَّثة تأثيثًا غاية في البساطة. اتخذت مقعدي إلى جوار الحائط، لكن الرئيس دعاني للجلوس على الأريكة. اختفى من وسط القاعة ذلك المقعد الوثير واختفت معه الكراسي والمنضدة التي تمَّ إعدادها في المرة السابقة.

كنتُ قد لاحظت سابقًا أن السادات شخص شديد الريبة، ممَّا يجعل بينه وبين الغدر خطوةً واحدة. وعلى مدى السنوات الأربع الماضية التي جمعت بيننا تراكمت لديَّ أمثلة كثيرة. لم يُبعد السادات من حياته دُولًا فقط، بل إنه ألقى في السجون بكل الذين أحاطوه، وخاصةً الذين ساعدوه على أن يصبح رئيسًا، كما أبعد أيضًا الذين شغلوا مناصب كبری من الناصريين. أُقصِي عزيز صدقي وعبد السلام الزيات ومحمود رياض ومحمد صادق وحافظ إسماعيل ومراد غالب وحتى هيكل وآخرين. وهؤلاء الذين دعموا السادات بإخلاص رئيسًا، لم تكن لديهم أية أفكار للحد من سُلطته، بل على العكس تمامًا، جميعهم كانوا يسعَون للعمل معه. لكنهم ظلوا على صراحتهم، وكانت لديهم آراؤهم المستقلة، ببساطة كانوا أُناسًا أذكياء. يمكننا ألَّا نشك أن الرئيس، عند الضرورة، لم يكن أيضًا ليأخذ بعين الاعتبار أولئك الذين كان يوليهم ثقته في الوقت الراهن ليتولَّوا مقاليد الأمور في مختلِف المجالات، والذين يسيرون الآن على نهجه بكل حماس؛ فالرجل سوف يُدير دفة الأمور إلى حيث يشاء، ثم يلقي بالمصيبة على رءوس من يُنفِّذون تعليماته طوال الوقت بمبدأ السمع والطاعة.

هل للسادات أصدقاء؟ إن كان هناك، فمن هم؟

هذا سؤال صعب، لعل أحدًا في مصر لا يملك الإجابة عليه. البعض يقول إن أصدقاءه هم الذين أنهَوا معه الكلية الحربية، وهم ليسوا ممن أصبحوا من المشاهير، وإنما الذين بقوا في الظل لسبب أو آخر. ربما، لكن انطباعًا تولَّد لديَّ مفاده أن السادات كان وحيدًا بالمعنى الإنساني. لعل ذلك يرجع، على الأرجح؛ لأنه كان شخصًا شديد المراس، ومن ثم يصعب التقرُّب منه؛ فأمثاله لا يحبُّون أن يتعاملوا مع الناس ببساطة وحسن طوية، وهو من الذين لا يكترثون بالآخرين ولا يعترفون لهم بحقهم الكامل في أن تكون لهم أفكارهم المستقلة، بقدر ما يخشَون أن يقوم أحدهم بالتآمر عليه أو تقويض نفوذه.

كان السادات شكاكًا ليس فقط تجاه الناس، وإنما أيضًا تجاه صحته. كان كثيرًا ما يشكو لي أن صحته ليست على ما يرام بسبب سوء حالة قلبه. وقد قاموا في موسكو بفحصه عدة مرات فلم يجدوا لديه أيًّا من تلك الأمراض التي من شأنها أن تكون سببًا بالفعل لاعتلال صحته.

لكن صحته لم تمنعه من تدخين الحشيش، وهذه المسألة لا تُعَد في مصر من الرذائل الكبيرة، وفي الوقت نفسه، كان المثقفون المصريون يأخذون موقفًا سلبيًّا تجاه هذه العادة التي يمارسها الرئيس. كان السادات يدخِّن الحشيش في وجودي دون خجل، فكان يحشو غليونه بشكل دوري بتلك الكرات البيضاء. وعندما جاء ألكسي كوسيجين إلى القاهرة أثناء العمليات العسكرية، كان السادات يدخِّن غليونه دون انقطاع إبَّان المباحثات دون أن يخجل من حشوه بالحشيش.

لاحظت أن الرئيس كان ينتابه التعب بسرعة إذا تطرَّق الحديث إلى موضوعات تثير انفعاله، وخاصةً إذا كان الحديث جادًّا، في الوقت الذي يكون الرئيس قد وضع نُصب عينَيه أن يخلق انطباعًا مُحدَّدًا لدى محدِّثه وإقناعه بوجهة نظره هو. وبسبب هذا الانفعال يشعر بالإجهاد وتصبح نظرته زائغة، ويصبح الحديث خاملًا. عندئذٍ يُخرج السادات غليونه ويحشوه بالحشيش، ثم يجذب بضعة أنفاس عميقة، وما هي إلا برهة حتى تتحوَّل الصورة. يعود الرئيس إلى نشاطه وتتلألأ عيناه ويصبح حديثه حيويًّا بهيجًا. إنه الآن في أفضل حالاته.

ومن المعروف أيضًا في مصر أنه كان محبًّا للشراب. عمومًا، فقد كان لقائي الأول بالسادات في موسكو، عندما جاء لزيارة الاتحاد السوفييتي باعتباره المبعوث الخاص لناصر، وذلك في شتاء عام ١٩٧٠م. كان ثملًا للغاية في السفارة المصرية، وكان يتبادل التحية والقبلات مع كل الموجودين تقريبًا بما فيهم أنا، مع أنني كنت ألتقي به للمرة الأولى. وإبَّان زيارته لموسكو في ربيع ١٩٧٢م، راح الرئيس المنتظر «يُسرف» في الشراب على مائدة الإفطار، ومن ثم كان يحاول بصعوبة الحفاظ على توازنه عند إجراء مراسم تقديم السفراء الأجانب، وهنا راح يخلط بين سفيرَي الهند وباكستان. كان الوضع هزليًّا وخصوصًا أنه في هذه الفترة كانت رحى الحرب دائرة بين الهند وباكستان!

كان الكحول يساعد السادات بشكل واضح على التخلص من الضغط النفسي فيصبح أكثر صراحةً وإخلاصًا.

في صيف عام ١٩٧١م، سافرت في إجازة إلى الاتحاد السوفييتي، وقد صادفت إجازتي وقوع أحداث غير سارة في مصر وفي السودان على وجه الخصوص. في هذه الفترة سرت شائعات عن ظهور «سحابة» في العلاقات السوفييتية المصرية، على الرغم من أنه لم يكن هناك من جانبنا أي شيء يمكن أن يكون مسوِّغًا لتأكيد ذلك. كانت خطوةً دورية اتخذها أعداؤنا وأعداء مصر كذلك، لكن الشائعات راحت تتضخَّم لتبدو للرئيس كأنها هي الحقيقة؛ فتور علاقة الاتحاد السوفييتي تجاه مصر. وعلى الرغم من أن الإجازة هي مسألة روتينية، فإن الرئيس ارتاب في غياب السفير السوفييتي لدى مصر. تمَّ إحاطة سفارتنا علمًا بأن الرئيس يرغب في مقابلة السفير، وتساءلوا عمَّا يعنيه هذا الغياب الطويل للسفير، وهلم جرًّا، وسرعان ما تلقَّيت تعليمات بسرعة عودتي إلى القاهرة.

كان اللقاء الأول فور عودتي مع الرئيس بطبيعة الحال. دعاني لمقابلته في استراحته بالمعمورة بالقرب من الإسكندرية. وصلت إلى هناك في الحادية عشرة صباحًا. لم أرَ مطلقًا شخصًا أكثر انشراحًا منه. وعلى الرغم من ارتفاع حرارة الجو فقد أمر بتقديم الفودكا والسردين، وهنا قال لي للمرة الأولى إنه آسف لأن السفير لا يشرب؛ ولهذا سوف يفعل هو ذلك وحده. لم أشأ أن أُغيِّر من رأي الرئيس. كان يومًا قائظًا، أمَّا هو فقد أكبَّ على الزجاجة وحده. اتسم حديثنا بالصراحة وإن شابه بعض الدهاء والمراوغة التي اعتاد عليهما الرئيس. قال الرئيس إنه مستعد لأن يُعطي الاتحاد السوفييتي كل شاطئ البحر المتوسط من أجل تحقيق أهدافنا المشتركة، وإنه مستعد لكذا وكذا وكذا، وهلم جرًّا. ثم أعرب عن عتابه على الاتحاد السوفييتي لعدم فهمه مصر وما يجري في البلاد العربية، وطرح على نحو واضح فكرته حول ضرورة أن نغيِّر من طريقتنا بمزيد من السماحة والكرم وما إلى ذلك. كثيرًا ممَّا قاله آنذاك، خمسون بالمائة منه تقريبًا، قاله، من وجهة نظري، بصراحة، عن اقتناع. أمَّا الخمسون بالمائة الأخرى فكان حديثًا مُنمَّقًا بطبيعة الحال لترك انطباع قوي.

ظلَّ الرئيس يشرب وحده حتى شعرت بالحرج وخشيت أن يقع أمرٌ ما، حتى إنني اقترحت عليه أن أُشاركه الشراب. أصبح حديثنا أكثر إمتاعًا لكلينا؛ لأنه كان صريحًا على نحو نادر، حتى إن الحديث امتدَّ بنا إلى ما يزيد على أربع ساعات.

بعدما تسلَّمت عملي سفيرًا لدى القاهرة، كان الرئيس يقول مازحًا للزعماء السوفييت إن الجميع مُعجبون بالسفير الجديد، وإنه لا يستطيع بأي شكل أن يُرضي الرئيس ويُرسل إليه الفودكا على سبيل الهدية. في البداية تعاملت مع هذا الكلام باعتباره مُزاحًا، لكن الرئيس ما فتئ يكرِّر مزاحه المعاتب مرةً بعد الأخرى، وعلى الرغم من أنني «حاولت»، فكنت أُرسل إليه في الظروف المناسبة من زجاجتَين إلى ست، فإنني عرفت من موظفينا القدامى بالسفارة أن السادات، قبل أن يصبح رئيسًا، كان ضيفًا بصفة غير رسمية على السفير الذي سبقني، وأن السفير كان يُضطر في كثير من الأحيان أن يساعده في العودة إلى المنزل. عندئذٍ قرَّرت أن أُرسل له صندوقًا من الفودكا، وسرعان ما توقفت «الشكوى»، بل على العكس تمامًا كان الرئيس يقول لي مازحًا إن الأمور على خير ما يرام؛ الغليون يعمل مع الفودكا.

لا أعرف عن الحياة المنزلية للرئيس كثيرًا. لم أكن أُستقبل في عائلته، على الرغم من أنني كنت معروفًا، بطبيعة الحال، لحرمه التي كانت، كما يقولون، ذات تأثير معروف عليه (الأمر الذي لا أُصدِّقه)، كما کنت معروفًا لأولاده. كانت بناته يحضرن إلينا في أرتك،٢ وقد زوَّجهن الرئيس من أنجال أثرياء مصريين. كانت زيجات لها حساباتها بالطبع. كان يُحب ابنته الصغرى جیهان بشكل خاص، وهي فتاة تتميَّز بالجمال والجاذبية، وقد دعوناها إلى السفارة للاحتفال مع الأطفال بمناسبة العام الجديد، وقد رقصت بكل سرور وحماس مع الأطفال العرب والسوفييت وشاركتهم الغناء واللعب. باختصار كانت تتصرَّف في غير تكلُّف وعلى سجيتها تمامًا. تُرى أي مصير ينتظرها؟
كان السادات فخورًا بجدارةٍ ببناته وأبنائه. كانوا بالفعل قد تلقَّوا تربيةً حسنة. كم من مرة استقبلني السادات في بيته عندما كان مزاجه طيبًا! كان يصفِّق بيدَيه فجأةً مستدعيًا الأطفال فيُهرعون إليه. يؤدون التحية ثم يأمرهم بالغناء فيغنون بالروسية «الأمسيات في ضواحي موسكو».٣ كان الأمر يبعث الرضا في نفوس الضيوف، فضلًا عن صاحب البيت.

كان السادات، مثله مثل أي رئيس، لديه بالطبع حشم كثير، يذهبون ويجيئون في البيت، ممَّا كان يجعل البيت مكانًا غير مريح، مفتقدًا إلى الجو العائلي، فيبدو مسكنًا حكوميًّا على نحو ما.

عمومًا لم يكن الرئيس يهوى البقاء في مكان واحد. كان كثيرًا، بلا انقطاع في الواقع، يُغيِّر من مكان إقامته. كان قصر القبة هو المقر الرسمي للرئاسة، وكان نادرًا ما ينزل فيه. كان يلتقي فيه برؤساء الدول وبالقرب من هليوبوليس. كان له مقر آخر هو قصر الطاهرة. كان كثيرًا ما يُقيم فيه عندما يكون مشغولًا بأمور الحرب.

وفي الجيزة أُقيم له مقر رسمي جديد في مبنًى كان يشغله متحف للفنون الجميلة، استخدم دیوانًا للرئاسة، وبذلك أُوقف العمل بهذا المبنى باعتباره مؤسَّسةً ثقافية. وأمام المبنى تمَّ على وجه السرعة، خلال عدة أشهر، إقامة مخبأ على عمق يعادل خمسة طوابق.

يُطل مقر الإقامة هذا على نهر النيل، وقد تمَّ اختياره في هذا المكان حيث يقع بالقرب منه عبر طريق صغير المنزل الخاص للرئيس، وكان قد اشتراه قبل أن يشغل منصبه الرفيع (خطر ببالي دون إرادة مني فكرة أن مقر الإقامة الرسمي يلائم مكان سكنه، وهذا يعني أن الرئيس ينوي شغل منصبه للأبد).

كان هذا الجزء من الكورنيش هو الأفضل والأنظف في الجيزة، وكان يجتذب الناس للتنزه فيه، والحقيقة أنه كان المكان الوحيد اللائق في القاهرة حيث يمكن للمرء أن يسير فيه. في الأشهر الأولى بعد تولي الرئيس منصبه، كان من الممكن للجمهور أن يتنزَّه هنا، ولكن بعد مايو من عام ١٩٧١م تمَّ إغلاق الكورنيش بالحواجز، كما أُغلق الممر بتحصينات قوية، وأمام مقر الرئاسة رسا على شاطئ النهر مركب كبير كان الرئيس يُحب أن يجلس فيه منفردًا بنفسه في المساء للتأمُّل.

وعلى بُعد ٣٥ دقيقةً من القاهرة تقع استراحة الرئيس الأخرى في القناطر عند تفرع نهر النيل. منزل جميل تعود ملكيته إلى إدارة الري، ويقع على جزيرة صغيرة خضراء وله حديقة صغيرة تتوسطها شجرة أثرية ضخمة ذات جذور هوائية تضرب في الأرض لتنمو مُكوِّنةً أعمدة. وإلى جوار البيت وفوق مجرى النهر يرسو اليخت الملكي للملك السابق فاروق يستخدمه الرئيس صيفًا للاستجمام.

وفي الصحراء وعلى بُعد مائة كيلومتر تقريبًا من الإسكندرية في اتجاه ليبيا تقع برج العرب، وهناك توجد أيضًا إحدى استراحات الرئيس. وقد تسنَّى لي الذهاب إلى هناك أيضًا عدة مرات، وهناك يوجد منزل منعزل تمامًا في الصحراء. المكان يُعد واحةً صغيرة ليس أكثر. هدوء مطلق وخاصةً بالليل.

وإلى الشرق من الإسكندرية يقع منتجع المعمورة، حيث توجد على شاطئ البحر استراحة أخرى للسادات تقع بجوار منزل كان قد بُني ذات يوم لناصر. حديقة جميلة من أشجار الدفلي تحيط بمنزل من طابقَين.

ويمتلك السادات أيضًا منزلًا في قريته التي وُلد فيها ويقع في دلتا النيل على بُعد مسيرة ساعة من القاهرة بالسيارة. وهناك يستقبل السادات ضيوفه المقرَّبين. وقد تسنَّی لي أيضًا الذهاب إلى هناك عدة مرات. في المرة الأولى كان المنزل متواضعًا مُكوَّنًا من دورَين تحيطه حديقة صغيرة وقد نمت حوله كثير من الأشجار جُلبت شتلاتها من الاتحاد السوفييتي. كل شيء كان متواضعًا، بل شديد التواضع مع شيء من الإهمال.

بعد عام تقريبًا، اضطُررت للذهاب إلى هناك مرةً أخرى. الآن تبدَّل الوضع تمامًا في الداخل؛ لا يوجد هنا سوى بريق الرخام والبرونز والزخارف الجصية والنقوش البارزة من النحاس. ظهرت الأحجار الفخمة الرائعة وإن تميَّزت بالضخامة، وانتشر الأثاث على الذوق المصري وما إلى ذلك. كل ذلك كان يبدو متناقضًا مع الشوارع الريفية القذرة التي ظلَّت على حالها هي وبيوت الجيران البائسة والماشية الهزيلة الهائمة في الطريق والتي تُشبه في مظهرها الفلاحين الكادحين.

استقبلني الرئيس مرَّتَين في هذه الأماكن التي لم أكن لأزورها؛ مرةً في استراحة حلوان الخاصة التي تمَّت مصادرتها، والأخرى في النادي الذي كان مُخصَّصًا سابقًا للضباط في هليوبوليس.

كان الأثاث في منزله في الجيزة، مثله مثل باقي الأماكن والاستراحات يفتقد، من وجهة نظري، إلى الذوق. كان هناك خلط بين العصور؛ فهذه قطع يعود طرازها إلى منتصف القرن التاسع عشر في فرنسا، وإلى جانبها أثاث آخر من طراز أوائل القرن العشرين في الولايات المتحدة. العديد من الزخارف الجصية والستائر والسجاد والجوبلات والأثاث الثقيل واللوحات مجهولة القيمة، والتي يبدو جليًّا أنها اختيرت بمحض الصدفة. كل شيء يفتقد إلى الأصالة فيبدو تقليدًا لشيء ما «حقيقي»؛ المهم أن يوحي «بالثراء». على أية حال لم أرَ في مصر عند أيٍّ من كبار المسئولين شقةً مجهَّزة بذوق رفيع. دائمًا ما ترى اندفاع أصحابها لإبهار الضيوف بثرائهم المزعوم الممثَّل في التماثيل الخزفية وبعض الهدايا الصينية ومن غيرها من بلدان الشرق في كل ركن من الأركان، باختصار كشكل من أشكال الاستعراض، وهو ما يعني أن كل شيء غير حقيقي.

كان السادات يرتدي ملابس تتسم بالبساطة والذوق الرفيع. كان واضحًا أنه يُحب الملابس المريحة الملائمة التي لا تعوق حركته وتتماشى في الوقت نفسه مع الموضة. كان يراقب وزنه مراقبةً دقيقة. كان ممشوق القوام، رشيقًا، أدخل عادة السير بالعصا تحت الإبْط. لعل ذلك كان محاكاةً لسلوك الضباط الإنجليز، الذين كانت أعدادهم كبيرةً في مصر. وهؤلاء كانوا يحملون تحت إبْطهم سوطًا قصيرًا، وقد ألغى ناصر هذه العادة.

ومن الفضائل المميزة للسادات قدرته على الخطابة في الاجتماعات واللقاءات الجماهيرية. كان لديه إحساس بالجمهور العربي، المصري إن شئنا الدقة، فيتحدَّث أمامه بالعامية المصرية وباللهجة المحلية. كان يبني خطبه بمهارة وتركيز. يبدأ فيطرح جوهر الموضوع ولو على نحو موجز، ولكنه يعود إليه مرةً أخرى، بل وربما يكرِّره، ولا عيب في هذا؛ فهو يبدو وكأنه يتبادل الحديث مع الشعب. تجري عملية الإبداع عنده على نحو علني، عملية خلق الخطاب وطرح الفكرة، وهذه الطريقة تؤثِّر دائمًا في أي جمهور؛ ولذلك يصل مضمون الخطاب على نحو منطقي. لا يُجبر السادات المستمع على التفكير فيما يقوله. يطرح الفكرة باعتبارها حقيقةً ثابتة؛ أي موجودة، لا يفعل شيئًا سوى أن يجعلها أكثر وضوحًا، ملائمةً لنقلها إلى المستمع.

لم يقرأ خطبه إطلاقًا من ورقة، على الرغم من أنه في كثير من الأحيان، كان لديه نص مكتوب، وما يقرؤه منه، يقرؤه على نحو مُعبِّر تمامًا.

كان السادات يمتلك قدرةً ممتازة على الإلقاء، يمكن القول إنها كانت مثالية. ليس من قبيل المصادفة أن «الضباط الأحرار» عندما قاموا بثورة ١٩٥٢م بقيادة ناصر، كلَّفوه بإعلان الثورة عبر الإذاعة. كان ذلك، بالمناسبة، تعويضًا له على عدم مشاركته في الثورة التي «تأخَّر» عليها لوجوده في دار السينما مع ابنه، ولم يتلقَّ في الوقت المناسب تحذيرًا من ناصر عن بدء الانتفاضة.

على أن الخطب الجماهيرية كانت تُنهكه بشدة؛ كان يتصبَّب عرقًا فيُضطر طوال الوقت لاستخدام منديل يجفِّف به عرقه. كان يبدو بعد الانتهاء من إلقاء خطابه متعبًا للغاية. لكن الأمر كان ينتهي دائمًا على نحو رائع لا شك في ذلك. كان خطيبًا مفوَّهًا بالنسبة للجمهور العربي.

•••

إلى هنا كان من الممكن أن نصل إلى الخاتمة، على أنني أود أن أُضيف أمرًا آخر على جانب كبير من الأهمية.

كان السادات يمتلك حدسًا فذًّا، كأنه يمتلك شعورًا باطنيًّا يُرشده في هذه اللحظة أو غيرها انطلاقًا من التوجه العام الذي كان ينتهجه إلى ما يراه في مصلحته، وهو الذي يمتلك السلطة في أكبر دولة عربية وأقدمها، في مصر. كان توجهه التكتيكي الرئيسي يتلخَّص في أن تظل يداه طليقتَين سواء في علاقته بأصدقائه أو مع أعداء مصر.

لم يشأ أن يكون مرتبطًا بأية التزامات مع أحد، ومن هنا كان سعيه لاستغلال التناقض بين شركائه إلى أقصى درجة ممكنة؛ ولهذا كان يؤمن بأن الآخرين، مثلهم مثله، سوف يتصرَّفون بنفس الطريقة. والمثال الأعلى هنا هو ذلك الانقلاب الحاد نحو الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم الابتعاد عن الاتحاد السوفييتي فور انتهاء العمليات العسكرية في عام ١٩٧٣م، عندما كانت هيبة الاتحاد السوفييتي، على ما بدا، في أوجها. لقد تحوَّل نحو الولايات المتحدة الأمريكية لأنه كان يُدرك أيضًا، بسبب تركيبه الذهني، أن المواقف الصادقة النزيهة التي اتخذها الاتحاد السوفييتي ستجلب لكل مواطن سوفييتي سمعةً رفيعة، أمَّا ما بدا له غير مقبول أن يبدو هو نفسه كما لو سقط في التبعية للاتحاد السوفييتي. لقد شعر السادات أنه سيكون عليه أن يكون إلى جانب الاتحاد السوفييتي. ولمَّا كان منهجه هو سياسة الأيدي الطليقة، فقد عوَّل على التحوُّل الحاد والمفاجئ لكثير من الناس. وهو ما كان يتسق تمامًا مع شخصيته ويناسب سماته التي جُبل عليها بوصفه فردًا وباعتباره رئيسًا وحاكمًا ديكتاتورًا.

هل باستطاعة السادات أن يقوم بسهولة وعلى نحو مفاجئ بعمل انقلاب عكسي؟ يستطيع بالطبع تبعًا للظروف. ولكن ليس هذا هو المهم. بالنسبة لنا المهم أن نعرف دائمًا لماذا قام بهذا الانقلاب؟ ما هي الحسابات التي تقف وراء هذا الانقلاب؟ فالانقلاب لا يعني أن السادات قد تغيَّر بوصفه إنسانًا ورئيسًا. سوف يكون انقلابه خطوةً تكتيكية أملتها عليه الظروف. وإذا ما أضفت هذه الظروف التي تقوده إلى اتخاذ هذه الخطوة، فينبغي أن ننتظر من الرئيس خطوات أخرى نحو اتجاهات جديدة.

هذا إذا ما استمرَّ السادات رئيسًا بالطبع، وإذا ما شعر أنه يستطيع أن يخدعنا كما حدث من قبل.

إذا …

يناير ١٩٧٥م
موسكو
١  فلاديمير ميخايلوفيتش فينوجرادف كان يشغل آنذاك منصب نائب وزیر خارجية الاتحاد السوفييتي.
٢  أرتك: معسكر للرواد يقع في منطقة القرم على شواطئ البحر الأسود، وهو منتجع للاستجمام ويستقبل سنويًّا ما يزيد على ثلاثين ألف طفل. (المترجم)
٣  من أشهر الأغاني الروسية. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤