ملاحظات على هوامش كتاب
محمد حسنين هيكل: «الطريق إلى رمضان»
لفت كتاب «الطريق إلى رمضان» للصحفي السياسي العربي البارز محمد
حسنين هيكل عن الحدث الأكبر الذي وقع مؤخرًا في العالم العربي، والذي
تمثَّل في العمليات العسكرية المصرية والسورية ضد إسرائيل في أكتوبر من
عام ١٩٧٣م. لفت الانتباه إليه في العالم العربي وفي خارجه.
١
لقد أتاحت أحداث أكتوبر التي وقعت في الشرق الأوسط عام ١٩٧٣م الفرصة
لظهور الجوانب المختلفة لسياسة الدول العربية، وإسرائيل، والولايات
المتحدة الأمريكية، ودول غرب أوروبا. كما ألقت الضوء أيضًا على الدور
الكبير للاتحاد السوفييتي وعلى سياسته الدولية، وأظهرت دور الانفراج في
العلاقات وفضله على قضية السلام والظواهر الجانبية التي نتجت
عنه.
استمرَّت العمليات العسكرية في الشرق الأوسط حوالي عشرين يومًا، لكنها
أظهرت الكثير وكشفت عن مختلِف جوانب حياة وسياسة العديد من الدول. وقد
تباينت الآراء حول هذه الأحداث. والإسرائيليون، الذين سلَّموا بأنهم
ارتكبوا «أخطاءً» في الفترة الأولى من الحرب، عندما أخذ العرب بزمام
المبادرة، راحوا يرفعون عقيرتهم مُعلنين انتصارهم العسكري في الفترة
الأخيرة، مؤكِّدين على أنه لولا اتخاذ مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة
قراره بوقف إطلاق النار، لألحقت إسرائيل بالعرب هزيمةً عسكرية
ساحقة.
أعلن المصريون افتخارهم بانتصارهم العسكري وبالإعداد العسكري الرائع
لقواتهم المسلحة، لكنهم صمتوا في خجل عن أنهم كانوا قاب قوسَين أو أدنى
من تلقي هزيمة عسكرية كاملة؛ إذ إنهم لم يأخذوا على عاتقهم، بوعي أو
لأي سبب آخر، اتخاذ الإجراءات اللازمة للقضاء على الثغرة التي أحدثها
الإسرائيليون ليصلوا منها إلى الشاطئ الغربي لقناة السويس في
أفريقيا.
أمَّا السوريون، الذين تكبَّدوا خسائر أكثر فداحة، فقد أكَّدوا أن سوريا
كانت مستعدةً للبدء في هجوم مضاد هائل في اليوم التالي مباشرةً لإعلان
وقف إطلاق النار، الذي وافق عليه السادات دون تشاور معها.
وهنا راح الأمريكيون يؤكِّدون في نفاق، كعادتهم، أن اهتمامهم الأول كان
منصبًّا على حقن الدماء وتحقيق السلام والهدوء في الشرق الأوسط،
وفضَّلوا السكوت عن ذكر الصفقات السريعة الهائلة لإمداد إسرائيل بأحدث
الأسلحة القادمة مباشرةً من مخازن السلاح الأمريكية، بل وبأطقمها باتجاه
الأراضي المصرية التي يحتلها الإسرائيليون (في العريش بسيناء)، ناهِيَك
عن الدعم السياسي الصريح لإسرائيل.
أمَّا عن الموقف الحقيقي للاتحاد السوفييتي فيتلخَّص في أنه قدَّم المساعدة
والدعم للعرب لكي يحقِّقوا ظهورًا مؤثِّرًا مهيبًا لقدراتهم الكامنة؛ أي
الانتصار بالمعنى السياسي العسكري، ولإنقاذ العرب عندما تحوَّلت دفة الحرب
لغير صالحهم. وقد سعى الاتحاد السوفييتي بروح الانفراج للتعاون مع
الولايات المتحدة الأمريكية في قضية حل النزاع في الشرق الأوسط، بل إنه
لم يخشَ المخاطرة بالدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة عندما بدا أن
هناك تهديدًا بهزيمة ساحقة للعرب بسبب الإمدادات الهائلة من جانب
الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل.
يحتوي كتاب هيكل على تقديرات وعلى حقائق، ومن ثم فإننا سوف نولي
اهتمامنا الأساسي، من خلال تعليقاتنا للحقائق، ومع ذلك سيكون علينا أن
نتحدَّث أيضًا عن بعض التقديرات التي أوردها الكاتب في كتابه، وخاصةً أن
هذه التقديرات تنطلق في كثير من الأحيان إمَّا عن إحاطة بالوقائع، وإمَّا
نتيجةً لطرحها طرحًا غير دقیق (التعليقات مطابقة لترتيب نص
الكتاب).
المقدمة
ص٨:
يبدأ الكاتب عمله بالتأكيد على
حتمية نشوب حرب جديدة في الشرق الأوسط.
الأرجح أن الأمر لم يكن يستحق مثل هذا الحكم القاطع؛ إذ كان من
الممكن ألَّا تقع الحرب في المستقبل المنظور لمدة، لنقل من عشر إلى
خمس عشرة سنة. الأمر يتوقَّف على السياسة التي كانت ستنتهجها كل من
إسرائيل ومصر.
كان من الممكن أن يبادر العرب بالحرب، لو أنهم تأكَّدوا أن مصر
ستشارك فيها بحزم؛ فبدون مشاركة مصر لَما خاضت الدول العربية الأخرى
غمار حرب ضد إسرائيل؛ لأنها كانت ستخشى من الأمر الواقع وهو تلقي
الهزيمة على يد إسرائيل. ولهذا فالدول العربية أغلب الظن، كانت
ستتعامل بواقعية تجاه إمكانية نشوب أعمال عسكرية دون مشاركة مصر
فيها. ومع وجود السادات في الحكم وانتهاجه لسياسة التعاون مع
الولايات المتحدة الأمريكية، لم تكن مصر لترغب في المستقبل القريب
في الدخول في حرب ضد إسرائيل، حيث إن ذلك يمثِّل تناقضًا مع نهجها في
التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية. فضلًا عن ذلك فمن الصعب أن
نتصوَّر قیام عمليات عسكرية إذا ما عادت قناة السويس للعمل. ليس من
قبيل الصدفة أن الإسرائيليين والأمريكيين كانوا كثيرًا ما يُعلنون
أن أفضل خط دفاع لإسرائيل هو قناة السويس في حالة عملها. على أية
حال، لا يمكن الحديث الآن عن انتظار إسرائيل لهجوم عربي
مفاجئ.
من غير المحتمل في الظروف الحالية أن تُظهر إسرائيل أي مبادرة أو
أن تبدأ حربًا واسعة ضد مصر؛ فإسرائيل يُهمها استمرار السادات في
تقديم التنازلات للولايات المتحدة الأمريكية. ومن الناحية العسكرية
الصرفة فإن هذه «الحملة العسكرية» لن تعود بالنفع على إسرائيل؛ لأن
الولايات المتحدة ليست مهتمةً بقيام حرب في الشرق الأوسط؛ لأن ذلك
يعوق من ممارستها لمنهجها العام في النفاذ إلى الدول
العربية.
كان الأرجح هو قيام إسرائيل بمهاجمة سوريا تحت أي مُبرِّر، ولكن على
إسرائيل عندئذٍ ألَّا تنسى علاقات التضامن التي لا تزال موجودةً بين
الدول العربية، حتى ولو كانت هذه العلاقات قد أصابها الضعف، وهو ما
يعني احتمال دخول دول عربية أخرى في الحرب، ولو ضد إرادتها (مثل
مصر على سبيل المثال)، وهو ما يمكن أن يتنافى في نهاية الأمر مع
المصالح الحالية للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
ولهذا فمن الصعب، من وجهة نظرنا، القول على هذا النحو القاطع
«بحتمية» نشوب حرب جديدة في الشرق الأوسط في المستقبل القريب. ولكن
لا يمكن من الناحية التاريخية، بطبيعة الحال، التنبؤ بما سيحدث،
كما أن من الجائز أيضًا أن تتغيَّر طبائع الدول العربية، بل وإسرائيل
نفسها، كما تتغيَّر سياسة الولايات المتحدة الأمريكية. وأخيرًا، فمن
الممكن أيضًا وقوع ما لم يكن في الحسبان.
إن ملاحظة الكاتب بشأن حتمية نشوب حرب جديدة أمر ينبغي النظر
إليه باعتباره تعبيرًا عن الأسى لأن حرب أكتوبر لم تؤدِّ إلى حل
النزاع، بل إنها أرجأته أيضًا، وباعتبار أن الشرق الأوسط قد بات في
الواقع محلًّا لتجمُّع قدر كبير من القضايا القابلة للاشتعال.
عرفان من الكاتب
ص٩:
لم يكن الكاتب بحاجة إلى توجيه
الشكر إلى المدعو جون باري على «التصحيح النهائي للحقائق
والأرقام»؛ إذ إن الكتاب يحتوي على عدد كبير من المعلومات غير
الدقيقة، فضلًا عن الأخطاء الجسيمة فيما يختص بالوقائع.
الفصل الأول: المفاجأة
ص١٥:
يبدو إعلان مدير المخابرات
الحربية المصرية أن إسرائيل سوف تعرف بموعد العمليات المصرية ضد
إسرائيل قبل بدايتها بخمسة عشر يومًا؛ أي فور بدء الاستعدادات لها
أمرًا معقولًا. ومن الناحية العملية فإن إخفاء هذه الاستعدادات
الجادة في الظروف المصرية أمر مستحيل. ليس فقط بسبب طبيعة الأرض
وجسامة هذه الاستعدادات، وإنما أيضًا نتيجةً لقدرة المخابرات
الإسرائيلية والتي تحدَّث عنها الكاتب نفسه بالمناسبة.
للأسف فإن الكاتب لم يطوِّر فكرته بشأن استحالة قيام المصريين
بهجوم «مفاجئ» وليته فعل؛ إذ لو تأكَّد على نحو صحيح أن الإسرائيليين
لم يكونوا ليُباغَتوا على حين غِرة، وأنهم كانوا سيعلمون بموعد قيام
الحرب قبلها بخمسة عشر يومًا (!)، لكان من الضروري وجود تقييم آخر
للأحداث، فضلًا عن إلقاء الضوء على الوقائع وعلى طريقة
تناولها.
ص١٦:
إن التأكيد على أنه كان من الممكن
خفض فترة خداع الإسرائيليين من خمسة عشر يومًا إلى أربعة أو خمسة
أيام يبدو ساذجًا. وحتى لو افترضنا أن ذلك سينجح، لظلَّ الوضع على ما
هو عليه، لو تأكَّد أن الإسرائيليين كانوا على علم بموعد بدء الهجوم
العربي قبلها بأربعة أو خمسة أيام على أقل تقدير! فهذه الفترة كانت
كافيةً لأن يتخذ الإسرائيليون الإجراءات المضادة المناسِبة سياسيًّا
وعسكريًّا، هذا إذا ما أرادوا بالطبع اتخاذ هذه الإجراءات.
ص١٨:
التصريح بأن الأمريكيين كانوا
يعرفون خطة العمليات العسكرية المصرية منذ شهر مايو من عام ١٩٧٣م
أمر جدير بالاعتبار. وفي معرض طرحه للمعلومات الخاصة بخطط العمليات
العسكرية للعرب، بما في ذلك توقيت بدء هذه العمليات، وأنه كان
معروفًا من قِبل الأمريكيين، ومن ثم الإسرائيليين. يختلط الأمر على
هيكل على نحو ما عندما يقدِّم استنتاجاته. لماذا؟ لو أن هيكل التزم
التفكير المنطقي لَما فاتته الاستنتاجات المنطقية أيضًا حول أن
الأمور لم تكن جميعها على هذا النحو من الشفافية من الناحية
السياسية لهذه القضية. هنا حاول هيكل بشكل ساذج تمامًا أن يجد
مخرجًا من هذا الموقف استنادًا إلى تأكيدات الأمريكيين، على حد
قوله، أنهم لا يصدِّقون خطط المصريين! هل صحيح أنهم لم يكونوا
يصدِّقونها؟ أين هي إذن تلك الاتصالات الدائمة المزعومة بين أجهزة
المخابرات المصرية والأمريكية التي تحدَّث عنها الكاتب مِرارًا، والتي
لم تتوقَّف مطلقًا حتى في وقت الحرب؟ إنه لأمر غريب ألَّا يكون
الأمريكيون متأكِّدين آنذاك عبر هذه القنوات (وغيرها) من صحة «خطة
بدر»؟
ممَّا سبق نصل إلى ما يلي: كانت الولايات المتحدة الأمريكية على
علم بخطة العمليات العسكرية المحتملة، وأنها، على الأرجح، قد أبلغت
إسرائيل بها على أقل تقدير.
ص٢٢:
كان هيكل على صواب من الناحية
الشكلية؛ فقد أعلن السادات، بالفعل وبكل الوسائل، أن هذه «الحرب»
هي، على حد قوله، عمل احترافي يختص به العسكريون، مثل كل عمل
يمارسه أناس ملائمون للمهنة. وراء ذلك تواری مكر السادات البدائي؛
يتم إلقاء المسئولية على العسكريين في حالة فشل العملية، وقد كان
مؤمنًا بالفشل، ولم يكن السادات يتوقَّع مثل هذا النجاح العسكري الذي
تمَّ بالفعل، والذي كان مفاجأةً للسادات أكثر من أي شخص آخر. كل
الشواهد تؤكِّد ذلك. أمَّا النتائج الإيجابية، فالرئيس دائمًا لديه
القدرة على أن ينسبها لنفسه، وهو ما حدث في واقع الأمر. كان
السادات حريصًا على أن تُنسب إليه كل الإيجابيات التي أدَّت إليها
العمليات العسكرية، وأن يتم إبراز هذه المآثر العسكرية التي اجتُرحت
لتضاف إلى حسابه. أمَّا الفشل والأخطاء، وعلى وجه الدقة تلك الثغرة
التي أحدثها الإسرائيليون لينفذوا منها إلى الضفة الغربية للقناة،
فقد نُسبت إلى .. رئيس الأركان الشاذلي. والسبب، على ما يبدو، أنه
لم يكن مُطَّلعًا على دهاليز خطط السادات الفاسدة سياسيًّا؛ ولذلك فقد
قدَّم تقديرًا بالوضع الحقيقي فيما يخص الاختراق الذي قام به
الإسرائيليون. لقد كان هذا الرجل ببساطة هو الذي نقل خبر المصيبة؛
ولهذا كان من الطبيعي، من وجهة نظر السادات، أن يجعل الشاذلي «كبش
فداء»، وهو ما تمَّ بالفعل. فيما بعدُ تمَّ تعيين الشاذلي .. سفيرًا لمصر
لدى إنجلترا.
ص٢٤:
حُجج السادات الغريبة (كما صوَّرها
هيكل): هل يُبلغ السادات الاتحاد السوفييتي بموعد بدء العمليات
العسكرية أم لا؟ لماذا لم يأتِ هيكل هنا على ذكر أمر آخر ولو مرةً
واحدة، تلك التأكيدات العديدة التي أعلنها السادات للزعماء السوفييت
بأن مصر لن تبدأ الحرب دون تشاور مع الاتحاد السوفييتي (ناهِيَك عن
الالتزام بإبلاغه بذلك بموجب معاهدة الصداقة والتعاون الموقَّعة بين
البلدَين). يرجع قرار السادات بعدم إبلاغ الاتحاد السوفييتي لأسباب
بعيدة كل البعد عن السياسة النزيهة تجاه الاتحاد السوفييتي. يمكن أن
نفترض أن السادات كان يُدرك أنه بعدم إبلاغه الاتحاد السوفييتي فهو
لن يُحسِّن، على أية حال، من علاقاته به، بل على العكس من ذلك،
كان يعرف أن هذه الخطوة لن تجد ترحيبًا من جانب الاتحاد السوفييتي،
ومن الواضح أن السادات لم يكن ليعبأ برد الفعل السلبي للاتحاد
السوفييتي (مخالفة شروط معاهدة الصداقة، العواقب المجهولة بالنسبة
للعالم العربي، التسوية الشاملة، قضية الانفراج في العلاقات
السوفييتية الأمريكية، وهلم جرًّا).
ينبغي أيضًا أن نفترض أن السادات كان يُعوِّل على رد الفعل السلبي
من جانب الاتحاد السوفييتي، ومن ثم فقد كان السادات بحاجة إلى هذا
الأمر. لماذا؟ بالطبع ليس من أجل التقارب مع الاتحاد السوفييتي،
الذي كان على مصر أن تعتمد عليه إبَّان العمليات العسكرية. إن هذه
اللفتة العدائية تجاه الاتحاد السوفييتي كانت، في الوقت نفسه،
بمثابة لفتة ودية تجاه الولايات المتحدة الأمريكية (لنتذكَّر
الاتصالات المصرية الأمريكية المستمرة، وأن الولايات المتحدة
الأمريكية كانت على علم بخطة العمليات العسكرية المصرية).
من هنا كان قرار السادات عدم إبلاغ الاتحاد السوفييتي بموعد بدء
العمليات العسكرية استعراضًا وديًّا تجاه الولايات المتحدة
الأمريكية التي «قدَّرت» في حينه هذا النوع من «حسن
السلوك».
كان على هيكل أن يكتب تحديدًا عن هذا الأمر، بدلًا من الحديث عن
المُبرِّرات التي لا وزن لها، والتي زعم أن السادات عكف عليها وهو
يبحث مسألة هل عليه أن يُخبر الاتحاد السوفييتي أم لا يُخبره.
ومن غير المستبعد أن يكون السادات قد فعل ذلك أمام هيكل خصوصًا
ليدفع به إلى نوع من الضلال لعلمه ببعض أفكار هيكل المؤيِّدة للصداقة
مع الاتحاد السوفييتي، وهي أفكار كانت تقف آنذاك على النقيض من نيات
السادات نفسه.
ص٢٤:
انقطع حديث السفير السوفييتي مع
السادات عشية الحرب، وانقطعت معه على وجه الخصوص، آراؤه التي لم
يُسجِّلها بالمناسبة أحدٌ من المصريين في تلك الأمسية.
إن أي سفير سوفييتي لم يكن بإمكانه إطلاقًا أن يقول إنه كان يعرف
مسبقًا أي جواب سيعطيه القادة السوفييت على هذا الطلب أو ذاك من
جانب رئيس دولة أجنبية. جدير بالذكر أيضًا أن السادات في هذا
اللقاء لم يذكر أي كلمة «تنبؤية» حول أن الأيام القادمة سوف تكون
«اختبارًا حقيقيًّا وعمليًّا للمعاهدة السوفييتية المصرية». كل ذلك
يقودنا إلى فكرة أن قصة هذا الحديث (الذي أورده هيكل في كتابه، المترجم)
٢ قد أوحى بها السادات إلى هيكل، أو أن هيكل قد اختلقها
جزئيًّا.
في هذا الحديث اكتفى السادات بالحديث مغمغمًا حول عدم قدرة مصر
«تحمُّل» مثل هذا الوضع، وأنه لا يستبعد «انفجاره».
ص٢٦:
في اجتماع مجلس الأمن القومي في
الثاني من أكتوبر عام ١٩٧٣م، ألقى السادات تصريحًا مثيرًا للانتباه
حول أن الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية مستعدان، على
ما يبدو، للتوصل إلى اتفاق حول كل القضايا، بما في ذلك قضية الشرق
الأوسط؛ ولهذا فإن لدى مصر، على حد قوله، فرصةً أخيرة للقيام بأعمال
مؤثرة.
كان السادات يعلم جيدًا أن الاتحاد السوفييتي لا تربطه بالولايات
المتحدة الأمريكية أية معاهدات بشأن الشرق الأوسط، لكنه كان بحاجة
إلى أن يخلق انطباعًا فحسب بوجود مثل هذا الاتفاق في حالة إذا ما
اعتزم الانتقال إلى انتهاج سياسة موالية للأمريكيين.
ليس هناك أي شيء مخالف لسياق الأمور في زيارة الجنرال جونين إلى
المواقع الإسرائيلية في سيناء، والمصريون لم يلحظوا أية تغييرات في
توزيع القوات الإسرائيلية هناك بعد هذه الزيارة. والإسرائيليون
كانوا على استعداد، لو افترضنا أنهم عرفوا بهجوم مصري متوقَّع،
للتضحية بمقاتليهم على خط بارليف من أجل التوصُّل إلى «أهداف سياسية
عليا». وبالمناسبة، فقد تبيَّن لسبب ما، أن عددهم هناك كان قليلًا
للغاية؛ فقد تركَّزت القوات المسلحة الإسرائيلية في الشمال مستهدفةً
اجتياح السوريين على حدة، ما دامت مصر، بحسب توقعاتهم، لا نية
لديها لمساعدتهم.
ص٢٧:
اعتراف صيغ على نحو بليغ يُفيد أن
إسرائيل كانت، على أقل تقدير، على علم بالاستعدادات الواضحة للقوات
المسلحة المصرية على الأرض. وقد وصف هيكل سلوك الإسرائيليين بأنه
سلوك «غريب»، لم يكن هناك شيء «غريب»، إذا ما افترضنا أن
الإسرائيليين لم يريدوا ما كان ظاهرًا للعِيان، بما أن كل شيء كان
يسير حتى الآن وفقًا لخطة مُعدة سلفًا. باختصار، لا ينبغي أن نعتبر
أن الإسرائيليين هم أناس حمقى، بينما المصريون إلى هذا الحد من
العبقرية والدهاء.
ص٢٨:
مرةً أخرى يعود هيكل ليفسِّر على نحو
ساذج سلوك الإسرائيليين الذين «ألغَوا التعبئة دفعةً واحدة، ثم أولوا
اهتمامًا أقل بما يجري من تطوُّرات على الجانب الآخر من القناة.» هذا
«التفسير» السطحي يمكن أن يكون مناسبًا للقُراء قليلي الخبرة في
العالم العربي، الذين يطالعون مقالات هيكل. هؤلاء الذين غرقوا في
موجة «تحيا الوطنية».
إن الحقائق تقول إن إسرائيل لم توقف نشاطها الاستخباراتي في مصر
مطلقًا، وقد تحدَّث هيكل بنفسه عن ذلك مرارًا.
ص٢٨:
لم يكن ما نشرته وكالة أنباء
الشرق الأوسط في الثاني من أكتوبر عام ١٩٧٣م بشان أن الجيشَين الثاني
والثالث قد وُضعا في حالة تأهُّب من قبيل «الصدفة» بطبيعة الحال، ولم
يكن من الممكن ألَّا تلاحظ إسرائيل هذا الخبر. فإذا كانت إسرائيل لم
تتخذ أية إجراءات حيال هذا الخبر، فإن ذلك يعني أن ذلك كان قرارًا
واعيًا من جانب القيادة الإسرائيلية.
ص٢٩:
من المثير للانتباه هذه التفاصيل
التي أوردها هيكل بشأن البرنامج المعد مسبقًا لتهيئة الرأي العام
لبدء العمليات العسكرية بمبادرة من مصر؛ إذ تمَّ إعداد الأمر بحيث
يتم التذرُّع بأن إسرائيل هي التي بادرت بالقيام بعمليات
عسكرية!
ص٣٠:
اعتراض السوريين على الحل المنفرد
من جانب المصريين، الذين لم يراعوا مصالحهم، المهمة تمامًا، كان
اعتراضًا منطقيًّا. فيما بعد، وبعد مرور نصف عام صرَّح الزعماء
السوريون في أحاديثهم الشخصية علانيةً أن مصر «استغلَّت» سوريا لتحقيق
مصالحها أكثر من مرة. إن كون المصريين لم يولوا اهتمامًا إلى طلب
السوريين أن يمنحوهم فسحةً من الوقت لتفريغ خزانات الوقود في حمص،
يُعد مثالًا على مثل هذا السلوك. وبالفعل فقد أشعل الإسرائيليون
النيران في مصنع لتكرير النفط وفي الاحتياطات في أحد الأيام الأولى
للعمليات العسكرية. وفي الوقت نفسه، بالمناسبة، لم تقم القوات
الجوية الإسرائيلية بشن أي غارة على أي من المنشآت الصناعية
المصرية، على الرغم من أن مرکز الصناعة الحربية العربية موجود في
القاهرة تحديدًا. أليس أمرًا غريبًا؟!
ص٣٠:
لو أن المصريين قاموا بالفعل
إقناع السوريين بشأن موعد بدء العمليات العسكرية على النحو الذي
أورده هيكل، فإن حُججه في هذا الشأن تكون ساذجةً تمامًا. آنذاك كان
هناك أمر واحد شديد الوضوح؛ لم يكن المصريون على اتفاق حتى في هذا
الأمر المهم مع السوريين، بل إنهم أصروا على موقفهم، الذي من شأنه
إيقاع الضرر بالقرار السوري، هذا على الرغم من أن المصريين كانوا
يعلمون أن الجيش الإسرائيلي كله متمرکز ضد سوريا، وأنه كان على
السوريين تحديدًا أن يحملوا عبء الاتفاقات الإسرائيلية، ولو في
بداية الحرب.
ص٣٢:
إن التأكيد على أن الإسرائيليين
في الثالث من أكتوبر استبعدوا إمكانية شن حرب من جانب المصريين
والسوريين يتناقض مع تأكيد مضاد آخر لهيكل. ينبغي ألَّا ننسى أيضًا
أنه بحلول تلك الفترة كان الأمريكيون يملكون بين أيديهم، كما يؤكِّد
الكتاب، الخطة المصرية. وعلاوةً على ذلك، فقد كانت القوات المسلحة
المصرية قد أجرت بالفعل «مناورات»، وحتى الضباط في أركان الحرب
أصبحوا يرتدون ملابس الميدان وأُغلقت الكليات العسكرية في مصر، كما
تمَّ رفع كباري العبور من مواقع التدريب في النيل. وهناك حقيقة أخرى
بالغة الأهمية وهي البدء في الإخلاء الجماعي لأفراد عائلات
العاملين السوفييت في كل من مصر وسوريا. كما ينبغي ألَّا ننسى
التصريحات الواردة في الكتاب، والتي أدلى بها العسكريون المصريون
بشأن أن إسرائيل سوف تعرف حتمًا بموعد بدء العمليات العسكرية قبلها
بأربعة أو خمسة أيام! الحديث هنا يدور عمَّا جرى من أحداث وقعت في
الثالث من أكتوبر؛ أي قُبيل بدء الهجوم بثلاثة أيام. وعليه
فالإسرائيليون إمَّا تظاهروا بأنهم لا يعرفون شيئًا عن استعدادات
المصريين الواضحة والملموسة، وإمَّا أن تقرير لجنة أجرانات ببساطة
أخفى الحقائق؛ أي إنه كان تقريرًا مزيفًا.
ص٣٣:
أمر غريب: يورد هيكل العديد من
الحقائق تؤدِّي مباشرةً إلى وجود استعدادات ملموسة من جانب المصريين
لبدء العمليات العسكرية، كما يتحدَّث في الوقت نفسه عن فعالية
المخابرات الإسرائيلية.
٣ كل ذلك يتناقض مع تأكيده بشأن مفاجأة الهجوم المصري.
ومع ذلك فإن الكاتب يعزو تقاعس الإسرائيليين (ومن ثم الأمريكيين)
إلى غطرسة الإسرائيليين، بزعم أنهم لم يكونوا راغبين في رؤية
وتصديق ما رأوه وما سمعوه! هل يمكن أن يكون هذا أمرًا
جادًّا؟
قلت لنفسي: أليست هذه اللغة التي يستخدمها الكاتب هي ذاتها لغة «إيزوب»؛
٤ يتحدَّث عن حقائق ولكنه يفسِّرها (يؤولها) على نحو آخر أو، ببساطة، لا يفسِّرها (لا
يؤولها)؟
ص٣٤:
الواضح أن السادات لم يُحِط هيكل
علمًا برسالة القيادة السوفييتية المؤرَّخة الرابع من أكتوبر. لم تطلب
هذه الرسالة على وجه الخصوص، السماح بإجلاء «المستشارين المدنيين
السوفييت وعائلاتهم» من مصر، وإنما تضمَّنت أنه نظرًا لصعوبة الوضع
فقد قرَّرنا السماح بمغادرة أفراد عائلات العاملين السوفييت في مصر.
تناول الحديث فقط أفراد عائلات العاملين؛ أي الزوجات والأطفال وليس
الخبراء. وبالمناسبة فقد بلغ عدد الزوجات والأطفال الذين تمَّ
إخلاؤهم خلال عدة أيام من مصر ما يزيد على ٢٧٠٠ فرد.
ص٣٥:
مرةً أخرى يعود هيكل للحديث عن
استدعاء المستشارين المدنيين السوفييت، وهو ما لم يحدث في الواقع.
من هنا يصبح واضحًا «المعاناة» المصطنعة للسادات تجاه ما يمكن أن
يعنيه ذلك بالنسبة لموقف الاتحاد السوفييتي. وهذه من بنات أفكار
هيكل. تضمَّنت رسالتنا ليس فقط الحديث عن دعم مصر، وإنما أيضًا
الإسراع بتوريد المعدات العسكرية! حتى إن السادات لم يكن بحاجة إلى
أن يشغل فكره بما إذا كان سيتلقَّى مساعدات أم لا.
يمكن تفسير هذه التناقضات العديدة مع الحقائق بجهل الكاتب بالوضع
الحقيقي للأمور، ومن هنا خياله ذو الطابع الأدبي حول ما عاناه
السادات من «عذاب الشك». وإمَّا أن السادات أوعز لهيكل برواية
الرسالة بهذه الصيغة وعن إجلاء المستشارين، وليس أفراد عائلاتهم
وعن «شكوکه»، بعد أن صمت، بالطبع، عن استعداد الاتحاد السوفييتي
لتقديم الدعم، وهو ما تمَّ التعبير عنه في الرسالة السوفييتية.
ص٣٦:
حسنًا. ها هو إثباتٌ آخر يأتي على
نحوٍ عَفْوي أن الإسرائيليين لاحظوا تمركز معدات العبور المصرية
ليس فقط في التاسعة والنصف من صباح السادس من أكتوبر، وإنما أيضًا
في الخامس من أكتوبر. وهل كان من الممكن ألَّا يُلاحَظ ذلك الأمر؟
وكيف يمكن الحديث عندئذٍ عن «مفاجأة» الهجوم المصري؟ كم مرةً يقع
الكاتب في تناقض مع نفسه!
ص٣٦:
دليل آخر يتمثَّل في أن
الإسرائيليين كان عليهم أن ينتبهوا على الأقل. هيكل الوحيد الذي لم
تكن لديه معلومات دقيقة؛ فالمستشارون السوفييت لم يجرِ إجلاؤهم،
وإنما أفراد عائلاتهم الذين وصلت لنقلهم طائرات إيليوشن، وليست
طائرات توبيلوف.
٥
ص٣٦:
مرةً أخرى يقدِّم هيكل تأكيدًا
بعيدًا عن الحقيقة مفاده أن القيادة الإسرائيلية لم تستطع أن تصدِّق
هذا السيل المتدفِّق من المعلومات الواردة عن تحرُّك القوات المصرية.
هكذا صوَّر هيكل الإسرائيليين باعتبارهم أناسًا شديدي
الحُمق!
ص٣٨:
لم يأتِ السادات في لقائه الذي تمَّ
معي في السادس من أكتوبر على ذكر إجلاء المدنيين السوفييت، ولم يعبِّر
عن استيائه بشأن توريد المعدات السوفييتية (يبدو أن ذلك، مرةً أخرى،
نتيجة لمعلومات موجهة صدرت عن السادات).
على العكس من ذلك، فقد بالغ السادات في هذا اللقاء في المجاملة،
بل إنه قال لي إن «أحداثًا» ستقع في الساعة الثانية ظهرًا. ما هي
هذه الأحداث؟ لم يقل، لكنه أعرب عن أمانيه أن يكون السفير السوفييتي
قريبًا منها، لكنه «استدرك» قائلًا إنه ينبغي على السفير السوفييتي
أن يُبلغ موسكو عن حديثنا، ومن ثم فإن عليه أن يذهب إلى السفارة.
باختصار، فالسادات ظلَّ «يناور» حتى اللحظة الأخيرة.
ص٣٩:
لم يُجرِ السفير السوفييتي في هذا
اليوم أي حديث مع حافظ إسماعيل؛ ولهذا لم يكن على الكاتب أن يستخرج
هذا الاستنتاج المتعدِّد المعاني حول «سرعة الاتصال» بين واشنطن
والقاهرة والقدس وموسكو. كان هذا «فرقعة» صحفية!
ص٤٠:
اتصل السادات بالسفير السوفييتي في
الساعة الثانية والنصف ظهرًا، وليس في الثالثة والنصف، وقد التقط
سماعة التليفون السكرتير وفاء جوليزادي، وليس «خادم» السفير، حيث
إن السفير ليس لديه خدم.
ص٤١:
لم يُبلغ أحمد إسماعيل السفير
السوفييتي بأية معلومات حول سير عملية عبور القناة، وإنما اكتفى
(وعلى نحو كئيب) بتكرار ما قاله السادات للسفير السوفييتي بفرح
وحماس بأن القوات المصرية قد عبرت القناة. وقد أجاب أحمد إسماعيل
بحزنٍ بالغٍ على تمنيات السفير المهذَّبة النمطية بقوله: «إن شاء
الله!»
ص٤١:
عبثًا تحدَّث هيكل باستخفاف عن حذر
المستشارين العسكريين السوفييت بشأن صعوبات عبور الحاجز المائي، القناة. وهو حَذرٌ في
واقع الأمر صحيح تمامًا، وقد بذل الخبراء
العسكريون السوفييت جهودًا فائقة في تدريب المصريين على تجاوز
الحواجز المائية.
لماذا عبر المصريون القناة بمثل هذه السهولة وبأقل قدر من
الخسائر (يُقال إن الخسائر إجمالًا بلغت حوالي مائةً وخمسين فردًا،
وهو ما يستطيع رامي رشاش واحد أن يحصد به عددًا أكبر بكثير من
الجنود). يمكن أن نجد إجابات كثيرةً على هذا السؤال. هنا يمكن أن
نتحدَّث عن التدريب العسكري الذي تحقَّق على يد المستشارين العسكريين
السوفييت، وعن النوعية الجيدة للسلاح السوفييتي والذي لم يكن كثير من
الناس في مصر يثقون فيه، وكذلك التعبئة النفسية الرفيعة للقوات
المصرية التي كان لديها هدف واضح انتظرت طويلًا لتُحقِّقه، وربما لكل
هذه الأسباب معًا.
ص٤١:
لم يعقد السفير السوفييتي أية
اجتماعات، ناهِيَك عن أن تكون «عاجلةً» مع «اثنَين من الجنرالات» من
أعضاء السفارة لمعاونته في إعداد تقرير يبعث به إلى موسكو. هذه
تُرَّهة محضة، قصة ابتدعها الكاتب.
ص٤٢:
لو أن كيسينجر أبلغ المصريين بعد
نشوب العمليات العسكرية أن عليهم أن ينتظروا هجومًا إسرائيليًّا
مضادًّا ومكثَّفًا، لكان ذلك معناه أن الأمريكيين كانوا على ثقة من
انتصار إسرائيل، لكنهم أعلنوا أنهم لن يسمحوا باحتلال إسرائيل
لأراضٍ جديدة، فما الذي يعنيه ذلك؟ لو أن الولايات المتحدة
الأمريكية كانت على يقين من أن مصر تتخذ موقفًا معاديًا
للأمريكيين، مهما كان شكل هذا الموقف ولو ظاهريًّا، فهل كان
باستطاعة الأمريكيين أن يخرجوا بهذا التصريح، في الوقت الذي كانت
«صديقتها وحليفتها» أو، إن شئنا الدقة، صنيعتها إسرائيل، تعاني من
الهزيمة (حتی حینه)؟! إن تصریح کیسینجر يمكن أن يكون تأكيدًا على
أنه كانت هناك «قواعد للعبة» مُخطَّط لها سلفًا في هذه الحرب، لا
يُسمح للمشاركين فيها — مصر وإسرائيل — بتخطيها. كانت الولايات
المتحدة الأمريكية هي قائد الأوركسترا، وهي المُخرج لهذه اللعبة
المخطَّطة، ومن هنا كانت شرعية هذا التصريح العجيب الذي قاله كيسينجر
للمصريين من أن إسرائيل سوف تُنزل بمصر ضربةً بقوة محسوبة مسبقًا؛ أي
إن الولايات المتحدة الأمريكية لن تسمح لإسرائيل باحتلال أراضٍ
جديدة.
ص٤٣:
عبارة كيسينجر التي وجَّهها
للمصريين: «آمل ألَّا تتصرَّفوا على هذا النحو حتى لا تخرج الأمور من
أيديكم.» قيلت بعد بدء العمليات العسكرية، ولو أنها قيلت قبلها
لكانت تحمل ربما معنًى آخر. وكونها قيلت بعد أن اندفع آلاف الجنود
المصريين ومعهم أسلحتهم ودباباتهم إلى الضفة الشرقية لا يعني سوى
التذكير بالقواعد التي وُضِعت سلفًا ودعوتهم إلى الالتزام بها.
باختصار فقد طَلَب كيسينجر السيطرة على العمليات العسكرية. إن هذه
العبارة التي أوردها هيكل في كتابه تؤكِّد أفضل من أي شيء آخر تداول
فكرة الاتفاق الذي عُقد سلفًا بين الجانبَين المتحاربَين والولايات
المتحدة الأمريكية كحقيقة في حد ذاتها، فضلًا عن أنها تؤكِّد على
طابع العمليات العسكرية التي جرت في أكتوبر ١٩٧٣م.
ص٤٣:
يطرح هيكل هنا سؤالًا منطقيًّا:
كيف حدث على أية حال أن الإسرائيليين فوجئوا تمامًا سواء من
الناحية الاستراتيجية أو التكتيكية؟ على أنه يعطينا إجابةً ساذجة:
إن الإسرائيليين، على حد قوله، أساءوا فهم مسيرة التاريخ. إجابة
سطحية، لا تليق به، أم تُراه، ربما لم يشأ أن يذكر الإجابة
الصحيحة؟
ص٤٤:
غير صحيح ما أكَّده هيكل أن
الإسرائيليين كانوا مستعدين لإغراق قناة السويس .. بالنابالم! لقد
سرت شائعات حول إمكانية صبِّ مازوت أو وقود الديزل أو أي نوع آخر من
المشتقات البترولية، التي يمكنها أن تُشعل القناة. على أنه قد تبيَّن
أن هذه المعلومات غير مؤكَّدة.
الفصل الثاني «الأيام الأخيرة لناصر»
ص٤٨:
قام هيكل بتشويه طابع المباحثات
التي دارت مع ناصر على نحو فظ؛ فالاتحاد السوفييتي لم يطلب مطلقًا
أية تسهيلات في مصر، بما فيها الأراضي. أمَّا ما ورد بشأن طلب
السوفييت رفع «الراية الحمراء»، فمن الواضح تمامًا أنه قيل من قبيل
الاستظراف.
لسبب ما يخشى هيكل أن يذكر الحقيقة حول موقف الاتحاد السوفييتي،
وأحيانًا يتظاهر عن قصد بالشجاعة؛ انظروا إنني لا أدافع عن الاتحاد
السوفييتي. إنه يستخدم هذا الأسلوب وكأنه يسعى ليُضفي الاحترام على
صحة ما يقول.
ص٤٩:
حسنًا فعل هيكل عندما لم يخشَ أن
يذكر مآثر محمد فوزي وزير الحربية الأسبق، الذي أدانه السادات
بتهمة سخيفة هي «خيانة الدولة»، وفي حقيقة الأمر فالذين جاءوا بعده
هم الذين حصدوا نتاج غرسه.
ص٥٠:
عبثًا ألصق هيكل بالمارشال
زاخاروف خِصالًا ليست فيه، وخاصةً القسوة الشديدة. وها هو يعود بعد
ذلك ليُقيِّمه تقييمًا جيدًا وعادلًا على هذا العمل الذي أداره لإعادة
بناء الجيش المصري بِناءً كاملًا تقريبًا بعد هزيمة مادية ومعنوية
مُني بها في عام ١٩٦٧م.
ص٥٤:
عبارة سيسكو حول أن مصر لا يمكنها
أن تُعوِّل على عودة كل الأراضي المحتلة وإقامة السلام، هي من
العبارات المميزة لسيسكو. والأفضل الحديث عن موقف الولايات المتحدة
المدافع المخلص عن المصالح الإسرائيلية، حتى إن السادات قال ذات
مرة للسفير السوفييتي إن المصريين لن يسمحوا بدخول سيسكو إلى
الأراضي المصرية. على أن ذلك لم يمنع السادات فيما بعدُ من أن يعتبر
سيسكو «صديقه».
ص٥٤:
لا يزال هيكل مولعًا بأساليب
البلاغة الأنيقة في كتابته، والتي لا يكون لها مغزًى أحيانًا؛ فنجده
يضع على لسان ناصر عبارات تبدو جميلة، لكنها في الواقع كانت تُسيء
للرجل في كل الأحوال، بل كانت تصوِّر ناصر نفسه في صورة غير جادة.
كيف لناصر أن يقول إنه طلب من الاتحاد السوفييتي معدات للعبور مع
ضرورة إعادتها على الفور بعد عبور قناة السويس إلى الضفة الغربية
حتى لا يتمكَّن مَن عبر إلى الضفة الشرقية من العودة مرةً أخرى؟
إذا افترضنا أن ناصرًا استطاع أن يقول ذلك في فورة حماسه باعتبارها
جملةً بليغة، فلم يكن على هيكل أن يقتبس هذه الجملة بالضرورة من
ناصر على هذا النحو من الجدية. من المدهش أن نجد هيكل يوائم كثيرًا
بين الذوق الرديء والموهبة في وصف الأحداث.
ص٥٦: يرى هيكل، وهو على حق في
ذلك، أن هدف ناصر تمثَّل في جر الاتحاد السوفييتي أكثر فأكثر بقدر
الإمكان إلى قضية الصراع في الشرق الأوسط. وفي حديثه معي، على سبيل
المثال، في مارس ١٩٧٠م، حاول ناصر أن يطوِّر فكرة أن الصراع يُعد في
جوهره صراعًا سوفيتيًّا أمريكيًّا، بل هو بمثابة مواجهة بين
الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية. وقد بيَّنت له، بطبيعة الحال، خطأ هذا
المدخل.
ص٦٥: يُعطي هيكل انطباعًا
خاطئًا كما لو أن الاتحاد السوفييتي قد أخرج يارنج من حساباته، غير
عابئ به. كان الأمر على النقيض من ذلك؛ فالاتحاد السوفييتي كان
الدولة الوحيدة، ربما، التي أيَّدت وبشدة مهمة يارنج، مُراهِنةً
عليها، مُحاوِلةً بكل الوسائل دعم هذه المهمة. بالطبع، فقد كان من
الواضح في هذه الفترة أيضًا ما يقوم به أعداء مهمة يارنج الأشداء،
وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تريد أن تقوم
بدور الوسيط بنفسها وعلى نحو منفرد.
ص٦٥: مرةً أخرى يكرِّر هيكل
أُكذوبة السادات التي يزعم من خلالها أن مصر تدفع مرتبات المستشارين
العسكريين السوفييت بالعملة الصعبة. هذه الشائعة المستفزة، التي
انتشرت بهدف إثارة السخط على قرار ناصر بدعوة المستشارين
السوفييت.
ص٦٥: تُرَّهة هيكل الدورية التي
تزعم أن قسطنطين مازوروف كان مسئولًا عن قضایا حركة التحرُّر
الوطني.
ص٨٨: آنذاك (١٩٧٧م) لم يكن من
الممكن أيضًا الحديث عن توريد طائرات الاستطلاع م-٥٠٠. هذا
الموضوع لم يُطرح إلا بعد وفاة ناصر (١٩٧١م).
ص٩٠: كثيرًا ما يقوم هيكل
«بتنظير» أمور غاية في البساطة؛ فالطيارون الروس لم يكن بمقدورهم
تبادل الحديث سوى باللغة الروسية.
٦
ص٩٠: من الواضح أن هيكل يختلق
هنا موضوع استعراض الاتحاد السوفييتي لوصول العسكريين السوفييت إلى
مصر. الأمر على العكس تمامًا، لقد تمَّ بذل أقصى جُهد وعلى نحو عقلاني
قدر الإمكان لتجنُّب انتشار أية معلومات عن وجود عسكريين سوفييت في
مصر. وفي الوقت نفسه عبَّر ناصر وهيكل عن رغبتهما في أن يكون وصول
العسكريين السوفييت لافتًا للنظر. كان ذلك من شأنه أن يساعد توجُّههما
في جذب الاتحاد السوفييتي إلى أقصى حد إلى قضية الشرق الأوسط؛ ولهذا
فنحن لسنا مضطرين للحديث عن مشاركة الاتحاد السوفييتي فيما يُسمَّى
«لعبة الأمم الكبرى» في الشرق الأوسط؛ فالاتحاد السوفييتي لم يشارك
إطلاقًا في هذا النوع من «اللعب»، وكان دائمًا يتعامل مع الحروب
بحذر ومسئولية كبيرَين.
ص٩٤: لا أتذكَّر الموقف الذي
وصفه هيكل بخصوص «الورقة» التي تمَّ تبادلها في الكرملين. فإذا كان
هذا الموقف قد حدث فعلًا، فإن ذلك يعني أن ذكرها جاء بمثابة تحذير
للسادات الذي كان يستعد لعمل انقلاب، وهل الانقلاب عمل فارغ، كما
وصفه هيكل، مُجرَّد «ورقة صغيرة»؟ مستحيل أن يكون ناصر قد رأى في هذا
العمل «بيروقراطيةً زائدة عن حدها».
٧
ص٩٥: يخطئ هيكل هنا؛ فقد أشار
الجانب السوفييتي آنذاك على ناصر بقَبول ما عُرف ﺑ «مبادرة» روجرز؛ إذ
رأى أنها يمكن أن تكون مفيدةً للمصريين في تلك الظروف؛ فالمصريون لن
يخسروا في الواقع شيئًا، بينما كان على الإسرائيليين الالتزام
بالقيام بمشاركة فعَّالة في «مهمة» يارنج، الأمر الذي لم يكونوا
يرغبون في عمله. الواضح أن هيكل يخلط بين «المبادرة» وبين ما عُرف
باسم «خطة روجرز»، التي ظهرت بعد ذلك، والتي كانت تنظر في انسحاب
القوات الإسرائيلية من الضفة الشرقية للقناة حتى الممرات الجبلية
ثم فتح قناة السويس أمام المِلاحة لكل الدول بما فيها إسرائيل، وبدء
المفاوضات المصرية الإسرائيلية. وقد رفض المصريون هذه الخطة التي
طُرحت عام ١٩٧١م، بينما قبلوا في عام ١٩٧٤م الطبعة الأسوأ كثيرًا
منها (حدث ذلك بعد النجاح العسكري في أكتوبر).
ص٩٦: يحاول هيكل دون لباقة أن
يُسوِّغ مُبرِّرًا لخطئه الفاحش الذي ارتكبه هو تحديدًا عندما تولَّى
المسئولية باعتباره وزيرًا للخارجية بالنيابة. ما معنى «قيل لنا إن
كل شيء (وقف إطلاق النار(المترجم)) يجب أن يتم خلال ساعات؟» من
الذي قال؟ وماذا عن هذا الفرض؟ وفي الوقت نفسه، فقد اعترف هيكل في
حديثه مع السفير السوفييتي أنه، وهو الذي لا يملك صلاحيات كافية،
راح «يدرس» ما ذكره الأمريكيون في نص اقتراحهم «وقف إطلاق النار مع
بقاء القوات في المواقع التي يشغلونها»
(Standstill Ceasefire). في
الواقع فإن هذا المصطلح، كما هو معروف، لم يرد من قبلُ في القضايا
الدولية. عمومًا فإن هذا الشرط يُعد شرطًا استفزازيًّا لأنه لا معنى
له. ما الذي يعنيه إذن هذا الشرط بصفة عامة عند التطبيق الدقيق له؟
هل يعني أن على كل الجنود أن يلزموا أماكنهم وألَّا يتحركوا إلى
الأمام أو إلى الخلف؟ يبدو أن الأمريكيين قد أوقعوا المصريين في
الفخ.
ص١٠٤: من جُمَّاع المشهد الذي
جرى وصفه على نحو درامي لموت ناصر يظل هناك شيء غامض؛ من الذي
استدعى ف. ب. بولياكوف، القائم بالأعمال، السوفييتي لدى مصر في الساعة
السادسة مساءً إلى منزل الرئيس؟ ولماذا؟ لقد وصل بولياكوف إلى هناك
وظل فترةً طويلة دون أن يهتم به أحد، لم يتحدَّث إليه بكلمة إلى أن
غادر منزل الرئيس دون أن يلحظه أحد.
أمر آخر يبقى غامضًا في وصف هيكل. هل وصل هيكل عندما كان ناصر لا
يزال على قيد الحياة، أم أنه دخل إلى غرفة نوم ناصر بعد أن أسلم
الروح؟ ليت الأمر كان واضحًا هنا.
ص١٠٧: تصريح غريب تمامًا أعلنه
السادات فور وفاة ناصر عن ضرورة مناقشة موضوع مد وقف إطلاق النار،
الذي ينتهي في التاسع من نوفمبر. تُوفي ناصر في الثامن والعشرين من
سبتمبر؛ أي قُبيل التاسع من نوفمبر بشهر ونصف تقريبًا. ألم تكن في
رأس السادات أفكار أخرى فور وفاة ناصر؟
بالمناسبة، لماذا يُذكِّرنا هيكل بذلك؟ وأي خصلة من خصال السادات
يود هيكل أن يُبرزها؟
ص١١٢: تمَّ هذا الحوار
٨ بالفعل بين السفير السوفييتي وهيكل على النحو الذي وصفه
الأخير تقريبًا، فيما عدا استشهاد السفير السوفييتي، بطبيعة الحال،
بما حدث في المكتب السياسي. لماذا قرَّر هيكل أن يُضمِّن كتابه هذا
المقطع؟
ص١١٢: شارك هيكل في الاجتماعات
التي جرت بين ألكسي كوسيجين والقيادات المصرية فور الانتهاء من دفن
ناصر. والحقيقة أن هيكل يخلط هنا بين الأمور كثيرًا؛ فهو ينسب ما
قاله علي صبري إلى محمد فوزي، أمَّا ما قاله كوسيجين فينسبه إلى زخاروف.
٩ يصف هيكل مضمون الاجتماع على نحو دقيق تقريبًا، الأمر
الأهم أنه أورد بدقة دعوة القيادة السوفييتية للقيادة المصرية إلى
ضرورة الحفاظ على الوحدة.
ص١١٣: صحيح أن ألكسي كوسيجين
تحدَّث كثيرًا عن ضرورة الحفاظ على الوحدة بين زعماء البلاد.
ص١١٣: يُنهي هيكل هذا الفصل من
كتابه على نحو صائب ورائع عندما تحدَّث عن ناصر منصفًا علاقاته مع
الزعماء السوفييت، التي اتسمت بالقوة والصراحة. وهي كلمات تأتي على
النقيض تمامًا من الطريقة التي تصرَّف بها أنور السادات، خليفة ناصر،
في علاقاته بالزعماء السوفييت.
الفصل الثالث: السادات يسير عكس الريح
ص١١٥: يبرِّر هيكل اتصالاته مع
الأمريكيين، وحتی انجذابه نحوهم، بأنها محاولات واعية ﻟ «تحييد»
الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبار أن ذلك يمثِّل ضرورةً أساسية
للمعركة القادمة مع إسرائيل.
يتحدَّث هيكل كما لو كان يؤيِّد «مغازلة» مصر للأمريكيين، وإنما إلى
حد معلوم (وهو يعترف بذلك، على سبيل المثال، للسفير السوفييتي). فهل
كان من الممكن الاعتماد بهذه الطريقة على «تحييد» الولايات المتحدة
الأمريكية؛ أي إلزامها بوقف دعم إسرائيل (ناهِيَك عن عدم وقوفها
أيضًا إلى جانب العرب) أو حتى حثها على تخفيض هذا الدعم؟ إن
التفكير على هذا النحو والمناداة به كان يعني دخول الكاتب، فضلًا عن
شعبه نفسه في متاهة.
ما وجه الاختلاف إذن بين وجهات نظر هيكل ووجهات نظر السادات بشأن
العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية؟ يبدو أن الاختلاف، إذا جاز
القول، خلاف في الكم لا في النوع وحسب. لقد ذهب السادات بعيدًا
للغاية للقاء الولايات المتحدة الأمريكية، كما ابتعد كثيرًا للغاية
عن الاتحاد السوفييتي. على أية حال، كان هيكل يعوِّل على إمكانية حدوث
هذا الوضع، عندما تذهب مصر للقاء الولايات المتحدة الأمريكية،
ولكنه كان يرى ضرورة تحسين العلاقات مع الاتحاد السوفييتي، أو ألَّا
تسوء هذه العلاقة على الأقل. كل هذا حساب باطل؛ لأن الولايات
المتحدة الأمريكية كان بإمكانها تحسين علاقاتها مع مصر فقط عند
تنفيذ الشرط الجازم المطروح مقدَّمًا، وهو تقليص علاقات مصر مع
الاتحاد السوفييتي. وقد صرَّح كيسينجر بذلك مباشرة، وبما تميَّز به من
صلف لهيكل وعلى نحو صريح.
يحكي هيكل أن كيسينجر طرح عليه صراحةً خلال زيارته الأولى للقاهرة
في السادس من نوفمبر ١٩٧٣م ثلاثة شروط للتدخُّل الأمريكي في النزاع
العربي الإسرائيلي:
- (١)
لا تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية أن تضمن قيام
إسرائيل بسحب قواتها من كل الأراضي التي احتلَّتها في
عام ١٩٦٧م.
- (٢)
يجب ألَّا يعود الحظر مرةً أخرى على تصدير البترول
العربي إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها
الآخرين.
- (٣)
يجب أن تتخلَّص مصر من «الوجود» السوفييتي؛ أي أن تقلِّص
بشدة علاقاتها بالاتحاد السوفييتي.
إذا كان هيكل صادقًا فيما كتبه، فإنه يمكن القول، على الأقل، إلى
أي نتائج سخيفة قد أدَّت الأيديولوجيا القومية «غير الطبقية».
ص١١٥: إن الملاحظة التي أبداها
هيكل بشأن رفض ناصر لأي شكل من أشكال «المغازلة» مع الولايات
المتحدة الأمريكية لأمر مثير للفضول، وكذلك ما أشار إليه الكاتب
مرتَين بأن السادات، وبعد أن أصبح رئيسًا، لم يكن مرتبطًا ﺑ «ميراث
معادٍ للأمريكيين»، ومن ثم فقد استطاع المضي قُدمًا نحو تحسين
العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، ثم القيام بانقلاب في
السياسة الخارجية للبلاد. ومن المميَّز، ونحن نتحدَّث عن تغيير طابع
العلاقات المصرية الأمريكية بعد وفاة ناصر، أن الكاتب لم يأتِ
مطلقًا على ذكر ما الذي تغيَّر في موقف الولايات المتحدة الأمريكية
في علاقاتها بمصر وإسرائيل؛ فلا يوجد ما يقال بشأنها هنا؛
فالولايات المتحدة الأمريكية لم تعد إلى مصر، وإنما مصر هي التي
عادت إلى الولايات المتحدة مقدمةً كل التنازلات الضرورية من أجل
ذلك.
ص١١٦: هكذا قام السادات بعد
مرور ما يقرب من شهرَين أو ثلاثة على توليه منصب الرئيس بممارسة
لعبة سياسية نشيطة من وراء ظهر الاتحاد السوفييتي. ولعل من الضروري
أن نُلقي بالضوء هنا على هذا الظرف؛ إذ إن السادات ظلَّ على مدى ما
يزيد على ثلاث سنوات منذ تولِّيه الحكم يؤكِّد في تصريحاته للزعماء
السوفييت (وللسفير السوفييتي أيضًا) أنه لن يجري أي اتصالات مطلقًا
مع الولايات المتحدة الأمريكية من وراء ظهر الاتحاد السوفييتي دون
أن يبلغه بها.
إن الواقعة التي وصفها هيكل، عندما فوَّضه السادات في إبلاغ
الأمريكيين على نحو سري أن مبادرة السادات في الرابع من فبراير
١٠ ١٩٧١م لم تكن مطلقًا بإيعاز من الاتحاد السوفييتي، تمثِّل
النموذج الأول من بين النماذج التي أصبحت معروفةً فيما بعد، على
تعاون السادات مع الأمريكيين؛ فالسادات لم يذكر كلمةً واحدة للجانب
السوفييتي حول هذه الاتصالات.
ص١١٧: لم يُبلغ السادات الجانب
السوفييتي بفحوى الرسالة المهمة التي أرسلها إليه نیكسون. أتذكَّر في
هذا السياق المشاهد العاصفة التي أعدَّها السادات للسفير السوفييتي،
عندما قمت من جانبي بالتلميح وعلى نحو مُهذَّب بضرورة أن تكون هناك
اتصالات سوفييتية مصرية مستمرة، وأن يتم تبادل المعلومات والتنسيق
في العمل. لقد اشتعل السادات غضبًا وتحدَّث صائحًا عن أنهم في
الكرملين لا يثقون فيه وما إلى ذلك. إن كتاب هيكل، بالمناسبة، يُمثِّل
أهميةً كبرى حيث يسمح بكشف أكاذيب السادات في علاقته غير المخلصة
تجاه القيادة السوفييتية، وفي كل صُراخه حول عدم الثقة فيه كان
(والأرجح أنه سيكون دائمًا) أمرًا مصطنعًا. إن هيكل، أقولها
ببساطة، يفضح السادات، ربما دون قصد منه.
ص١١٨: أصاب هيكل عندما قال إن
السادات كان مختلفًا تمامًا عن ناصر، وأنه لم يكن بإمكانه منافسته
بأي مقياس من المقاييس. والدليل الساطع على ذلك أن السادات كان
«مطلق اليدَين» في علاقته بالغرب. ما العجيب إذن في أن يتولَّد لدى
الجانب الروسي آنذاك الشك في علاقته به؟
ص١١٨: يخلط (هيكل) الأمور
عندما يلقي بالضوء على الزيارة «السرية» التي قام بها السادات إلى
موسكو في أوائل شهر مارس عام ١٩٧١م. من الواضح أن أحدًا لم يوفِّر
لهيكل أي معلومات موثوق بها. كان الوفد المصري يضم آنذاك، فضلًا عن
السادات، الفريق محمد فوزي وشعراوي جمعة، وكلاهما وُجِّهت إليه بعد
شهرَين فقط تهمة «خيانة الدولة»، ناهِيَك عن أنهما لم يكونا، من
الواضح، يشعران بالود تجاه هيكل، بل ويعتبرانه صديقًا للأمريكيين
وعدوًّا للنمو التقدمي لمصر. وهؤلاء لم يكن باستطاعتهما أن يقدِّما
معلومات لهيكل، أمَّا السادات فلم يكن بحاجة إلى إذاعة أية تفاصيل عن
هذه الزيارة؛ فهو الذي أفشلها بنفسه؛ إذ اتسمت تصرفاته خلالها
بالحمق وغياب الرصانة، الأمر الذي جعله يُخفي الحقيقة عن أي شخص
بطبيعة الحال.
لم يقدِّم هيكل في هذا الشأن سوى بقايا معلومات حصل عليها من
«مائدة غيره».
إن الجانب الشكلي المهم في هذا الأمر، والذي قدَّمه هيكل، واستغلَّه
السادات بهدف إفشال المباحثات، يتمثَّل في الواقع فيما إذا كان
باستطاعة السادات أن يتولَّى قيادة الطائرات السوفييتية الموجودة في
مصر بأطقمها السوفييتية، والتي تُعَد جزءًا من القوات الجوية
السوفييتية!
هذا الأمر كانت له مقدِّماته، عندما طلب ناصر في حينه (وليس علي
صبري کما کتب هيكل) نشر طائرات قاذفة للصواريخ في مصر (عليها
علامات مصرية بطبيعة الحال)، بينما تقودها ٤ أطقم سوفييتية، مع
الأخذ في الاعتبار أن الإسرائيليين كانوا على علم بوجود إمكانات
لدى مصر بتوجيه ضربة في عمق إسرائيل إذا لزم الأمر؛ أي في حالة
قيام الإسرائيليين أولًا بتوجيه ضربة في العمق المصري. كان هذا هو، إذا جاز القول، «سلاح
الردع». لم يتطرَّق الحديث مطلقًا حول تسليم
هذه الطائرات للمصريين ولا بقيام الطيارين السوفييت بالخدمة لدى
المصريين. ومن الضروري أن السادات يعلم ذلك. كما أن الأطقم المصرية
لم تكن مدرَّبةً على هذه الطائرات. باختصار، فإن الأمر كان واضحًا
دائمًا وضوح الشمس أمام الجميع، على أن السادات استغلَّه عمدًا بقصد
إثارة الخلاف مع الزعماء السوفييت.
أسفرت المباحثات التي جرت في موسكو عن الموافقة على إعطاء
السادات طائرات من طراز تو-١٦، وذلك بِناءً على الشروط التي تمَّ
الاتفاق عليها قبل ذلك مع ناصر بطبيعة الحال، وعلى الرغم من أنه قد
تبيَّن أن السادات لم تكن لديه أية تصوُّرات واضحة عن تحركات مصر بشأن
ما عُرف باسم مسألة «الاستراتيجية المشتركة». كل ما هنالك أن
السادات اكتفى بالتأكيد على «ضرورة حل» أزمة الشرق الأوسط وطلب
أسلحة ثم المزيد من الأسلحة، وقد اتضح أنه لم تكن لديه أية خطط
مُحدَّدة، بما في ذلك الخطط العسكرية.
وعندما وصل الأمر إلى مسألة الطائرات تو-١٦، أظهر السادات
«تعاليه»، وراح يعترض على أن تتلقَّى الأطقم السوفييتية لهذه الطائرات
أوامرها من القيادة السوفييتية. بدأ في الغضب ثم ازداد غضبه (أو
تظاهر بأنه فقد أعصابه)، وفي النهاية أعلن عن رفضه استلام هذه
الطائرات، وهو ما أثار دهشة فوزي وجمعة.
إن كل الحوارات التي تتعلَّق بهذا اللقاء والتي أوردها هيكل بما
فيها تلك التي وضعها بين أقواس، لم تحدث في الواقع.
ص١١٩: إنه لأمر عجيب أن يكون
السادات قد أكَّد لهيكل أنه كان مضطرًّا أن يُمثِّل دَور الغاضب حتى يحصل
في النهاية على ما يريد.
١١ في الواقع أن السادات لم يحصل على شيء نتيجة تصرُّفه،
على الرغم من أن طابع اللقاء إجمالًا، بطبيعة الحال، كان مُثيرًا
لاهتمام الجانب السوفييتي. على أن مقولة السادات حول كونه اتخذ موقف
الغضب، لافتة للانتباه من زاوية أخرى؛ فالسادات «غَضِب» (دعنا نقل
ذلك) بعد أن تلقَّى الموافقة على توريد طائرات تو-١٦! لعلَّه شعر
بالفزع بعد أن وجد أن طلبه الذي ظل طوال الوقت يطرحه، والذي كان
يبدو بمثابة حجر عثرة (ألقاه هو بنفسه) في طريق علاقته بالاتحاد
السوفييتي وقد تحقَّق؟ أو لعله كان يُعوِّل بالمناسبة على أن طلبه سوف
يُرفض مرةً أخرى، وعندئذٍ انهارت لعبته، عندما رأى أن تسلُّم هذه
الطائرات سوف يلزمه بشيء ما أمام الإتحاد السوفييتي.
ص١٢٠: إن التأكيد الذي أعطاه
السادات للأمريكيين في مطلع نوفمبر عام ١٩٧٠م بأنه سوف «يُبعد الروس
عن مصر» بعد إنجاز المرحلة الأولى من انسحاب القوات الإسرائيلية
الموجودة في سيناء هو، ربما، أكثر الاعترافات أهميةً والذي يكشف عن
خيانة السادات للاتحاد السوفييتي؛ إذ يجيء هذا التأكيد بعد شهر ونصف
فقط على رحيل ناصر والوعود المُنمَّقة التي قطعها السادات على نفسه
بالإخلاص للاتحاد السوفييتي واستمرار الصداقة معه. شيء ما آنذاك كان
معروفًا حول مساعي السعوديين التي كانت مُوجَّهةً لقطع العلاقات بين
الاتحاد السوفييتي ومصر، وتقريب الأخيرة من الولايات المتحدة
الأمريكية، وعن محاولات السعوديين القيام بدور الوسيط المباشر بين
مصر والولايات المتحدة الأمريكية. لكن أحدًا لم يكن على الأرجح
يتصوَّر أن يكون حجم خيانة السادات بهذا القدر.
ص١٢٢: إن اعتراف هيكل بأنه لو
تمَّ قيام اتحاد الجمهوريات العربية (مصر، سوريا، ليبيا)، لَمَا وجد
السادات تأييدًا له من غالبية الأعضاء سواء في البرلمان الاتحادي
أو في اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي، لهو اعتراف له دلالة
كبرى! على أن هيكل لم يذكر الأسباب، وإن كان الأمر واضحًا. إنه نهج
السادات في التعاون مع الأمريكيين وغياب الهيبة التي ينبغي أن
يتحلَّى بها القائد التقدمي، ولأنه شخصية مخاتلة وغَدَّار.
ص١٢٣: لقد ذاق هيكل هذا الشعور
الشخصي بالكراهية تجاه من أُطلق عليهم «المتآمرون» (كان هذا
الإحساس رد فعل عکسي بدرجة معلومة؛ فالناصريون كانوا ينظرون بقدر
من الشك تجاه مغازلة هيكل للأمريكيين ومحاولاته أداء دور المُفسِّر
الوحيد لوجهات نظر الراحل ناصر)، وكانت واحدة من التهم التي وجَّهها
هيكل إليهم تتلخَّص في أنهم … «كانوا يُردِّدون مبادئ وأقوال عبد الناصر
كالعميان»، وأنهم كانوا «يُبجِّلونه دون تفكير». لماذا كان حتمًا أن
يقودهم ذلك إلى «المؤامرة»؛ أمر لا زال غامضًا. وحتى إذا افترضنا أن
هؤلاء الذين أحاطوا بناصر قبل ذلك، والذين ساروا وراءه «كالعميان»
وتآمروا بعد موته لنفس السبب، فإن سؤالًا يطرح نفسه: ضد من كان
«التآمر» آنئذٍ. من الواضح أن المؤامرة كانت ضد هؤلاء الذين وقفوا
ضد ناصر وأرادوا أن يقضوا على الناصرية! لكن «المؤامرة» كانت ضد
السادات. وهل يعني هذا أنها كانت محاولةً لمنع الخروج على
الناصرية؟
إن هيكل يُثير ببعض صياغاته أفكارًا مباغتة تمامًا.
ص١٢٦: إذن كان السادات يشعر
بالشك الذي اعتمل في نفوس الناصريين تجاهه فور وفاة ناصر! إن تأكيد
هيكل على ذلك أمر، على ما يبدو، صحيح. غير أن هذا التأكيد يكشف لنا
مرةً أخرى إلى أي حد كان السادات ماكرًا غدارًا؛ إذ ظلَّ يؤكِّد دائمًا
على ثقته في الناصريين المُحيطين به حتى قُبيل اعتقالهم بيومَين في
الثالث عشر من مايو ١٩٧١م!
ص١٢٨: إن تأكيد الكاتب على أن
السادات كان يريد إقامة الوحدة مع سوريا وليبيا، ومع ما يترتَّب على
ذلك من تشكيل مؤسَّسات سُلطوية جديدة وإجراء انتخابات جديدة (يمكنه عن
طريقها التخلُّص من الناصريين) لأمر ذو دلالة. على أن ذلك التأكيد
يتناقض مع ما ذكره الكاتب قبل ذلك في صفحة ١٢٢، حيث أكَّد على أمر
مختلف تمامًا.
ص١٢٩: يورد هيكل هنا قصةً لا
يمكن تصديقها تتعلَّق بالجلسات الروحية، التي يزعم أن الناصريين
كانوا يُقيمونها للتحدُّث مع روح «ناصر». وقد نشر هيكل هذا الأمر في
صحيفة «الأهرام» في حينه، وتجدر الإشارة هنا إلى أن كثيرًا من
المصريين شكَّكوا في صحتها. ومن ثم فإن المشهد كله يناسب ذهنية
السادات، الذي كان يسعى للنيل من خصومه السياسيين بأي
وسيلة.
ص١٣١: لم يأتِ ظهور هيكل في
اجتماع اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراکي العربي محض
صدفة. لقد جاء (أو دُعي للحضور) لمساعدة السادات ومحمد فوزي، الذي
كان يلقى دعمًا من هيكل آنذاك، والذي كان يرتبط به هيكل بعلاقة
صداقة دائمة. ويزعم هيكل في كتابه أن ناصرًا أبلغ الزعماء السوفييت في
حينه بالوحدة المقترحة مع سوريا وليبيا، وكان من المفترض، على ما
يبدو، أن توهن هذه الحجة من عزيمة خصوم الوحدة؛ فموسكو أيَّدت هذه
الخطوة.
إذا كان هيكل قد قال فعلًا ما كتبه، فقد تصرَّف إذن على نحو يفتقد
إلى الأمانة. صحيح أن ناصرًا تحدَّث بالفعل إلى الزعماء السوفييت في
يونيو ١٩٧٠م عن وحدة مرتقبة، على أنه تلقَّى ردًّا على ذلك اتسم
بالموضوعية، مدعومًا بالحجج حول أهمية التأني في اتخاذ مثل هذه
الخطوة ودراساتها دراسةً عميقة وما إلى ذلك. باختصار، لم يجد ناصر
تشجيعًا على الوحدة، بل على العكس من ذلك، فقد تلقى النصح بعدم
التسرع في التعامل مع هذه الفكرة، وعلى هيكل أن يتذكَّر هذه
الحقيقة.
ص١٣٢: هكذا بدأ السادات بالفعل
المباحثات مع الأمريكيين باعتبارهم وسطاء حول «الحل الوسط» مع
إسرائيل، وذلك في مطلع عام ١٩٧١م! وكان السادات قد أبلغ الاتحاد
السوفييتي أنه لن يُجري أية مباحثات مع الأمريكيين.
ص١٣٢: لم تجرِ مباحثات المصريين
في مطلع شهر مايو ١٩٧١م على النحو الذي وصفها به هيكل. وإذا كان
هيكل على علم بالحقائق فإن عليه أن يصف هذا المشهد السخيف عندما
راح السادات يتحدَّث على انفراد مع روجرز، بينما جلس وزير خارجيته
محمود ریاض في غرفة الاستقبال المجاورة، ومثله مثل أي شخص آخر، لم
يكن رياض على علم بالحديث الدائر بين روجرز والسادات. وقد ذكر ریاض
نفسه أنه شارك في المباحثات شكليًّا فحسب.
من الواضح أن السادات بدأ بالفعل منذ هذه اللحظة في بذل الوعود
البعيدة المدى التي تتلاءم وأماني الأمريكيين.
١٢
ص١٣٣: لا يأتي هيكل على ذكر
سيسكو الذي طار إلى القدس ثم عاد ليُجري مباحثات خاصةً وعلى انفراد
مع السادات.
حكاية الضابط الشاب التي زعم هيكل أنه أحضر ليلًا للسادات شرائط
مُسجلٌ عليها أحاديث تليفونية، لم يقبلها حتى أكثر الناس میلًا
للتصديق من المصريين، وكانت موضع سخريتهم، بل واعتبروها من الطرائف.
وقد أوردها هيكل عبثًا باعتبارها حكايةً جادة. يبدو هنا وبقوة
السيناريو الذي كتبه ومثَّله السادات نفسه. بالمناسبة فإن اسم هذا
«البطل» لايزال مجهولًا حتى الآن.
ص١٣٣: لم يذكر الكاتب أي شيء
(والأرجح أنه تصرَّف هنا بحصافة) عمَّا سمعه السادات عند فحصه للشرائط
التي أُحضِرت إليه، ولماذا جلس حتى الصباح إلى جوار جهاز التسجيل.
كما أنه لم تُذكر في المحكمة أية «فضائح مدوية» بفضل الشرائط
المسجَّلة. ليس من قبيل الصدفة أن المصريين ذوي الألسنة اللاذعة
راحوا يتساءلون في دهشة: ولماذا لجأ السادات بعد ذلك إلى حرق
الأشرطة وعليها تسجيلات للمكالمات، وهي التي زعموا أنهم وجدوها في
وزارة الداخلية؛ إذ كان من الممكن ببساطة مسح المكالمات والاحتفاظ
بهذه الأشرطة الباهظة الثمن. لقد تمَّ إضرام النار في فناء وزارة
الداخلية وقام السادات بنفسه أمام كاميرات التليفزيون بإلقاء
الصناديق فيها، وفيما بعدُ عُرضت هذه الملهاة في فيلم تسجيلي.
على أنه استنادًا إلى الأحداث التي وردت في الكتاب، والتي بدأت
مُبكِّرًا في صباح العاشر من مايو ١٩٧١م، كان من المفترض أن يحاول
السادات بوعي أن يخفي المعلومات عن السفير السوفييتي أو حتى يُعِد له
أمرًا مستفزًّا. وفي مساء الحادي عشر من مايو أجرى السفير السوفييتي
حديثًا وديًّا طويلًا مع السادات، انتهى بسؤال وجَّهه السفير إلى
السادات عمن يمكنه الآن التحدُّث معه بصراحة وكأنه يتحدَّث إلى الرئيس.
وقد سأله السادات بدوره عن الدافع وراء هذا السؤال، فأجاب السفير
بقوله إنه وبعد إحالة علي صبري إلى التقاعد فقد سرت شائعات مختلفة،
ونظرًا للعلاقات العميقة بين البلدَين على جميع المستويات، بما فيها
العلاقات ذات الطابع السري؛ فإن على السفير السوفييتي، بطبيعة
الحال، أن يكون حذرًا للغاية وألَّا يُسيء التصرُّف مع من يتعامل معهم.
أجاب السادات دون تفكير بقوله: «إن أفضل أصدقائي هم شعراوي جمعة
والفريق فوزي وسامي شرف، وهؤلاء باستطاعتك أن تتحدَّث معهم بصراحة
كما تتحدَّث معي.» لقد ذكر لي السادات ذلك، ثم تبيَّن أنه كانت لديه
تلك «الأشرطة»، وفي الثالث عشر من مايو؛ أي بعد يومَين فقط، قام
باعتقالهم جميعًا.
فيما بعدُ قصَّ السفير على هيكل هذه الواقعة، وسأله كيف يفسِّر هذه
الإجابة من الرئيس تحديدًا على سؤالٍ كان منطقيًّا تمامًا في تلك
الآونة. فأجاب هيكل على الفور أن السادات كان يتعامل مع السوفييت
جميعهم على هذا النحو من الشك، وأنه كان يريد أن «يختبر» السفير
السوفييتي فيما إذا كان وراء «المؤامرة». فعندما كان السادات يستمع
إلى بعض الشرائط المسجَّل عليها مكالمات السفير السوفييتي مع بعض
المسئولين المصريين، الذين أشار السادات على السفير السوفييتي
بالتعامل معهم، لم يجد أية «أدلة» تُشير إلى تورُّط السفير السوفييتي
في «المؤامرة»، وعندها شعر، على حد قول هيكل، بالغيظ (هنا يتضح لنا
واحدة من الخصائص البالغة الدلالة على علاقة الرئيس بالاتحاد
السوفييتي).
ص١٣٤: يترك الكاتب لخياله
العنان وهو يُعلن أن الفريق صادق أقسم يمين الولاء للسادات في
الثاني عشر من مايو ١٩٧١م بعد أن نطق بعبارة واحدة. هذه رواية تُثير
ما هو أكثر من الشك. لم يكن خافيًا على أحد أن رئيس الأركان (صادق)
رجل شديد الطموح، وكان يتطلَّع بقوة إلى السلطة، وقد نفد صبره على
تحمُّل وزير الحربية الفريق فوزي. ظهر ذلك في التفاوت في الوضع
الاجتماعي والتفكير العسكري؛ فصادق يمثِّل طبقة العسكريين العليا
الموسرة، وهو من الأغنياء بالمفهوم المصري، بل إنه كان مالكًا
لمصنع، وكان ميَّالًا، بطبيعة الحال، للغرب. أمَّا الفريق فوزي فيمثِّل
بالنسبة له النقيض في كل شيء. كان صادق لا يحب الاتحاد السوفييتي،
وكان يرى أن العلاقة العسكرية معنا شر لا بد منه. وقد أصبح في
النهاية وزيرًا للحربية، وكما اتضح بعد ذلك أنه كان المنظِّم لعدد من
التصرُّفات الاستفزازية الدنيئة ضد العسكريين السوفييت.
كان فوزي على العكس من ذلك. عمل من أجل تعاون أكثر قوةً وإخلاصًا
مع الاتحاد السوفييتي.
لم تكن العلاقة الشخصية المتوترة بين كلٍّ من فوزي وجمعة وسامي شرف
تجاه السادات بالأمر الخافي على صادق، ناهِيَك عن معرفته بميول
السادات نحو أمريكا. وعلاوةً على ذلك، ولسبب ما غير معلوم حتى الآن،
كان صادق مدعوًّا على العشاء في منزل شعراوي جمعة، حيث حضر العشاء
أيضًا كل من محمد فوزي وسامي شرف والسفير السوفييتي وكبير
المستشارين السوفييت الجنرال أكونيف. إبَّان هذا العشاء انتقد جمعة
وفوزي وسامي شرف السادات على نحو شخصي لتعاونه مع الأمريكيين،
بينما التزم صادق الصمت واكتفى بالإنصات …
لا يمكن أن نستبعد أنه لم يوجد إطلاقًا «ضابط شرطة شاب» لديه
شرائط تسجيل، وإنما كان هناك الفريق صادق، الذي أبلغ السادات
بالكيفية التي تلائم نفسيته، ومن ثم فقد عيَّنه السادات وزيرًا
للحربية فور اعتقال فوزي. وكان ذلك متوقَّعًا من الجميع.
ويصف هيكل أيضًا سياق أحداث مايو وإنما على نحو مختلف بعض الشيء
مقارنةً بما قصَّه السادات نفسه على السفير السوفييتي؛ فوفقًا
للسادات فهو قد عرض على جمعة، على حد قوله، أن يختار بين أن يستقيل
«طواعية»، أو يُقيله السادات بنفسه. وفي تلك الفترة، كما أخبر
السادات السفير السوفييتي، كان السادات مهتمًّا باختيار بديلَين
لمنصبَين مهمَّين في هذه الحالة؛ وزير الحربية (صادق) ووزير الداخلية
(ممدوح سالم). وبعد أن أقال السادات شعراوي جمعة، أعلن الذين
عُرِفوا ﺑ «المتآمرين» عن استقالاتهم الجماعية بالفعل و… توجَّهوا إلى
بيوتهم ليناموا. كانت هذه الليلة تحديدًا ليلة سُهاد وأرق بالنسبة
للسادات؛ فقد كان يتوقَّع قیام انقلاب ضده؛ أي أعمال صريحة يُواجَه
بها، لكن «المتآمرون» ذهبوا إلى بيوتهم ليناموا في
أَسِرَّتهم.
من المؤسف أن هيكل لم يصِف هذا السلوك الغريب الذي قام به
«المتآمرون»، فلو أنهم أرادوا أن يقوموا بانقلاب، فما هي التهمة
التي وجَّهها إليهم السادات لاحقًا، وما الذي لم يعترفوا به؛ أي لو
أنهم أرادوا إزاحة السادات بالقوة لكان الأمر يسيرًا عليهم؛ فقد
كان على رأسهم جميعًا القوات المسلحة والشرطة والمخابرات والبرلمان
والاتحاد الاشتراكي العربي ووسائل الإعلام. لم يكن صعبًا على هيكل
أن يُعبِّر عن موقفه بشأن إثبات تهمة «المتآمرين» ﺑ «خيانة الدولة»،
وأنه قد حُكم عليهم بالإعدام شنقًا في البداية، وهو الحكم الذي
استبدله السادات بالسجن المؤبَّد.
ص١٣٥: الكاتب ليس على صواب
عندما يتحدَّث عن عدم وجود بعض الأعمال هنا أو هناك دفاعًا عن
المعتقلين، والحقيقة أنه لم تكن هناك بالفعل أية اضطرابات جماهيرية؛
ﻓ «المتآمرون» لم يُعِدوا الجماهير لانقلاب تقوم به
الحكومة.
ص١٣٦: اتضح أن ما قاله الفريق
فوزي حول أن «البلد سيُباع للأمريكيين» هو مجرد تكهُّنات. ولمَّا كان
صادق يعلم أنه سيصبح حتمًا وزيرًا، فقد نصح فوزي بالذهاب إلى بيته
ﻟ «يستريح». وفي الوقت نفسه فقد وُضع منزل فوزي تحت الحراسة؛ أي إنه
أصبح معتقلًا بالفعل على يد رئيس أركان جيشه.
ص١٣٧: لم يكن السفير السوفييتي
إبَّان مقابلته للسادات في السادس عشر من مايو محرَجًا؛ فلم يكن هناك
أي مدعاة لحرجه. بالمناسبة فهيكل لم يحضر هذه المقابلة، ولهذا لم
يكن باستطاعته أن يحصل على أية معلومات حول هذه المقابلة إلا من
خلال السادات نفسه، الذي كان عليه أن يجد أحدًا ما ليوقعه في
«الحرج».
كان السادات إبَّان هذا اللقاء مرتبكًا للغاية، لم يكن شاحبًا
فحسب، وإنما كان مغمومًا، يتصبَّب العرق من وجهه دون توقُّف. هكذا كان
الحال دائمًا مع السادات عندما يعتريه اضطراب شديد. اعترف السادات
أنه لم يذق طعم النوم ثلاث ليال متتالية. إذن فملاحظة هيكل حول أن
السادات كان هادئ الأعصاب تملُّق يفتقد إلى الذكاء؛ فالسفير السوفييتي
لم يرَ السادات على مدى السنوات الأربع التي قضاها في الخدمة في
مصر في هيئة من الارتباك أكثر من تلك التي كان عليها آنذاك.
ص١٣٧: يروي هيكل عن لقاء سامي
شرف ببريجنيف في موسكو على نحو غير دقیق. لم يكن سامي شرف رئيسًا
للوفد المصري إلى المؤتمر الرابع والعشرين للحزب الشيوعي السوفييتي،
وإنما كان الرئيس هو عبد المحسن أبو النور الأمين العام للَّجنة
المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي. أمَّا لقاء سامي شرف بليونيد
بريجنيف فجاء بطلبٍ من شرف بِناءً على تفويض مباشر من السادات!
لم يقل شرف إن ناصر عهد إليه تحديدًا بمسئولية الحفاظ على روابط
الصداقة بين مصر والاتحاد السوفييتي، وإنما ذكر أن ناصرًا قد عهد بهذه
المهمة إلى السادات وجمعة وفوزي وله.
ص١٣٨: من أين استمدَّ هيكل هذه
المعلومات المجافية للواقع تمامًا؟ لم يبحث سامي شرف إطلاقًا مسألة
إعداد معاهدة مع الاتحاد السوفييتي، ناهِيَك عن الحديث عن أن نصَّ هذه
المعاهدة، كما زعم هيكل، قد أعدَّه سامي شرف. من الواضح مرةً أخرى، أن
ذلك كان تضليلًا من السادات.
وعلاوةً على ذلك، فلم يتناول النقاش إنشاء أكاديمية عسكرية بحرية
في مرسی مطروح، وإنما عن تأسيس كلية عسكرية جوية مصرية هناك، وذلك
بِناءً على طلب من السادات نفسه، وليس من الجانب السوفييتي.
ص١٣٨: لم يحدث أي اتفاق إبَّان
مباحثات سامي شرف بشأن زيارة أحد الزعماء السوفييت إلى القاهرة. ولم
يَدُر أي حديث في هذا الصدد.
لقد جرى الأمر على نحو مختلف؛ فالرئيس السادات وبعد اعتقاله
«للمتآمرين» طلب أكثر من مرة أن يحضر إلى القاهرة أحد الزعماء
السوفييت، وفي الوقت نفسه طرح السادات فكرة عقد معاهدة صداقة مع
الاتحاد السوفييتي.
من المرجَّح أن يكون الطلبان مجرَّد خطوة تكتيكية من جانب السادات.
لم يكن السادات يُعوِّل على زيارةٍ على مستوًى رفيع من الاتحاد
السوفييتي إلى القاهرة، أو على موافقة على عقد معاهدة في مثل هذه
الظروف. وإلا لماذا شعر بالارتباك عندما تمَّ إبلاغه بالموافقة على
اقتراحَيه؟
ص١٣٨: لم يحاول سامي شرف
مطلقًا أن يقنع السفير السوفييتي بعدم الدخول في تعامل مباشر مع
الرئيس السادات، بل إنه لم يطرح مثل هذا الموضوع عمومًا. وعلى ذلك
فإن كل ما سبق، بما في ذلك وصف رد فعل السفير السوفييتي، لم يكن سوی
خیال محض اختلقه هيكل. وهذه القضية لها جوانب أخرى؛ فالسادات طلب
أن يقوم السفير السوفييتي بزيادة اتصالاته بسامي شرف، وكأنه قد فوَّضه
ﺑ «إحاطة السفير السوفييتي»، الذي كان قد وصل لتوِّه، «علمًا بمجريات
الأمور».
ص١٣٨: بالطبع فقد أعطى السادات
لهيكل نسخةً مُشوَّهة من المباحثات التي أجراها مع نيكولاي بودجورني.
الأمر الأهم أنه (هيكل) لم يذكر أن السادات كان مُصرًّا قبل ذلك
على عقد هذه المعاهدة. وقد تمَّ تصوير الأمر ليبدو وكأن الاتحاد
السوفييتي كان هو المبادر بعقد هذه المعاهدة.
ص١٣٨: يبدو التشوُّش السياسي
واضحًا تمامًا في رأس الكاتب في هذا المثال الذي طرحه، عندما حاول
أن يُقيم توازنًا بين المعاهدة الإنجليزية المصرية عام ١٩٣٦م، والتي
استعبدت مصر، ومعاهدة الصداقة السوفييتية المصرية التي جعلت مصر
دولةً قوية ودعمت استقلالها. يا له من «قصر نظر» غريب من
الكاتب!
ص١٣٨: بالفعل، طلب المصريون أن
تكون المدة المحدَّدة للمعاهدة خمسة عشر عامًا، ومن المدهش للجميع،
وهو ما لم يُزعج السادات فيما بعد، أن يؤكِّد، عندما كان ذلك ضروريًّا
له، أنه، كما يزعمون، كان مُصِرًّا على جعلها ثلاثين عامًا، بينما
وافق الروس على أن تكون المدة خمسة عشر عامًا فقط!
ص١٣٩: «الاستقبال الحماسي»
الذي قوبل به الضيوف السوفييت في شوارع القاهرة كان مُعدًّا إعدادًا
جيدًا من قِبل مؤسسات السلطة، وهو أمر لا يثير الدهشة. كما أنه لا
خلاف على أن أحدًا (من الضيوف (المترجم)) لم يتساءل عن مشاعر
الجماهير تجاه جماعة علي صبري. في أحيان كثيرة نجد الكاتب يلجأ إلى
الاختلاق؛ فمن أين له هذا الكلام؟!
ص١٣٩: تُعد رسالة نيكسون إلى
السادات والتي يقترح فيها مواصلة الاتصالات حول «وسائل الدبلوماسية
الهادئة» دليلًا على مواصلة السادات لسياسته ذات الوجهَين تجاه
الاتحاد السوفييتي؛ فالاتحاد السوفييتي لم يُحِط علمًا، بطبيعة الحال،
بالاتصالات الجارية مع الأمريكيين.
ص١٣٩: علينا أن نُدرك أن هيكل
وصف بطريقة ساخرة كيف اقتنع نیكسون بتأكيدات الملك فيصل بأن
البلشفية هي نتاج للصهيونية! من الواضح هنا أن هيكل يتباهی بمعرفته
بفيصل، وفي الوقت نفسه لم يحدث مطلقًا أن «اشتكى» هيكل للسفير
السوفييتي من أن فيصلًا يمنع مقالاته من النشر في العربية السعودية
وأنه يعتبره عدوًّا له.
ص١٤٠: من أكثر الاعترافات
الصريحة والمدهشة في كتاب هيكل هو اعترافه، بل وتأكيده على حقيقة
أنه على الرغم من غياب أية تصريحات معادية لأمريكا، فإن السادات في
لقاءاته مع الزعماء السوفييت كان يُقسم لهم أغلظ الأيمان بأنه لا
توجد هناك أية أعمال في الخفاء، بينما كانت هناك مراسلات مستمرة
بين السادات ونيكسون عبر القناة الموجودة بين المخابرات المركزية
للولايات المتحدة (!) والمخابرات المصرية! ممَّا يعني وجود تعاون بين
جهازَي المخابرات في البلدَين. مثل هذه الخيانة للاتحاد السوفييتي لم
تكن لتحدث بأي حال بالطبع في زمن ناصر.
ص١٤١: لم يخبر السادات الاتحاد
السوفييتي حتى عن هذه الاتصالات التي تمَّت مع الأمريكيين، عندما
أبدَوا اهتمامهم بإمكانية أن يكون لمعاهدة الصداقة السوفييتية
المصرية تأثير على علاقة مصر بالولايات المتحدة الأمريكية؛ أي من
الناحية العملية، على التحركات القادمة وفقًا ﻟ «خطة روجرز»، وكما
ندرك من الوصف، فإن السادات واصل دعمه لآمال الأمريكيين، فضلًا عن
أنه أظهر صراحةً استعداده للتعاون معهم من وراء ظهر الاتحاد
السوفييتي، على الرغم من أنه كان يُبدي في العلن رفضه ﻟ «خطة
روجرز».
الخطأ هو أن أحدًا لم يتصوَّر أن السادات يمكن أن يتصرَّف على هذا
النحو من الخِسة.
ص١٤٣: في عرضه لرد الفعل
السوفييتي تجاه الأحداث التي وقعت في السودان عام ١٩٧١م
١٣ يعود هيكل مرةً أخرى ليعطي لنفسه قدرًا كبيرًا من
الحديث بلا قيود، مستندًا إلى ما أخبره به السادات (على سبيل
المثال، عن علاقته بعبد الخالق محجوب)، وقد بات من الواضح أكثر أن
السادات لم يكن ينقُل إلى هيكل معلومات غير دقيقة فحسب، وإنما كان
يتعمَّد في كثير من الأحيان دفعه نحو تشويه الحقائق (للتشهير
بالاتحاد السوفييتي في كل الأحوال). من أين، على سبيل المثال، هذا
الغباء الهائل في التأكيد على أن «السوفييت» التقطوا المكالمة
التليفونية بين السادات والنميري؟
ص١٤٣: لدى هيكل حساسية مَرَضية
بالغة تجاه النقد، وخاصةً إذا كان هناك ما يشينه بشكل واضح، وحيث
إنه كان يكتب، إلى جانب ما يكتبه من حقائق وأكاذيب، مقالات
استفزازيةً أيضًا عن الاتحاد السوفييتي تصل أحيانًا إلى درجة
العداوة، فقد كان كثيرًا ما يُواجَه بالنقد حتى في أثناء لقاءاته
الشخصية، كما كان هناك مَن ينبِّهون القادة المصريين إلى كتاباته،
لكن الأمر لم يصل مطلقًا، بطبيعة الحال، إلى حد أن يشرح أحد
للمصريين كيف يكتب هيكل، أو عن ضرورة «التخلُّص منه».
١٤ وهناك أمر آخر، وهو على أي نحو كان السادات ينقُل لهيكل
ما يمكن أن يمثِّل مادةً لمقالاته، الأرجح أن السادات كان يُحرِّض هيكل
ضد الاتحاد السوفييتي بكل الوسائل، وكان أكثرها جدوى هو التضليل؛
فهيكل بعد وفاة ناصر لم يعد لديه منفذ إلى الأوراق الشخصية
للرئيس الجديد.
ص١٤٤: الحديث الذي ذكره هيكل
إبَّان مأدبة الغداء، التي حضرها بوناماريوف، نُقل على نحو مُحرَّف
تمامًا. إن الكاتب يستغل هنا بصفاقة وضع ضيفه من أجل أن يستعرض
ذكاءه، بينما يبدو الحضور أغبياء. لم يتصرَّف هيكل في أثناء هذا
الغداء، أقولها بدماثة، على النحو الأمثل. لقد حاول هيكل في هذا
الغداء أن يَرُد اعتباره في عيون السوفييت. هذا بالضبط ما أراده، لكنه
لم ينجح في ذلك.
ص١٤٦: تحريف بشع للحقائق. لم
يكن بيرجوس في ضيافة محمد ریاض،
١٥ وإنما في ضيافة محمود ریاض،
١٦ وقد ترك له بالفعل مذكرة، وقد قام الوزير، المخلص في
علاقته بالاتحاد السوفييتي، بدعوة السفير السوفييتي فور انصراف
بیرجوس مباشرة، وسلَّمه وهو يشعر بالاستياء نسخةً من «مذكرة»
بيرجوس.
ص١٤٧: يختلق هيكل هنا حديثًا
عن «جماعة علي صبري»
١٧ وما إلى ذلك.
ص١٤٨: اعتراف مثير آخر حول
الاتصالات بين المخابرات المصرية والأمريكية، وفي هذه المرة يرد
ذكر اسم العميل الأمريكي يوجين ثرون (وكان نشاطه معروفًا).
لم يخبر المصريون أصدقاءهم السوفييت، بطبيعة الحال، بشأن
اتصالاتهم بالأمريكيين، على الرغم من أن الأمر كان يمس العسكريين
السوفييت. ووفقًا للاتفاق السوفييتي المصري، كان الجانب المصري
ملزمًا باتخاذ كل التدابير الضرورية الخاصة بنظام مكافحة التجسُّس من
أجل ضمان قيامهم بعملهم على نحو طبیعي.
ص١٥٠: الأرجح أن راندوبولو قد
قُتل.
ص١٥٠: إلى هذا الحد يُعجب
المصريون بالأسماء الألمانية، حتى إن هيكل اخترع للجنرال السوفييتي
اسمًا هو .. شفارتسكوف.
١٨
ص١٥١: يكتب هيكل أن السفير
السوفييتي دعاه إلى الحديث ومناقشة موضوع معه «بصفة شخصية وسرية
للغاية». حسنًا، ثم لا يخجل هيكل أن يصف بعد ذلك هذا الحديث الذي
دار بينهما. أليس لديه وازعٌ من ضمير؟!
ص١٥١: لم يقدِّم المصريون أي
تقرير عن نتائج التحقيق.
ص١٥٢: مرةً أخرى يود هيكل
تأكيدًا على علاقات الولايات المتحدة ومصر في مجال الاستخبارات.
لقد أطلق السادات سراح الجاسوسة الأمريكية فقط من أجل الإبقاء على
هذه القناة مفتوحة.
١٩
ص١٥٤: لم يكن الخلاف في وجهات
النظر بين السادات ووزير خارجيته محمود رياض وهمًا، كما أعلن ذلك
الكاتب، وإنما كان حقيقة. إن رياض الوطني النزيه وصاحب الخبرة
العريضة في الاتصالات مع الأمريكيين، كان يُدرك أهدافهم، ويعرف
عادتهم أيضًا. كان رياض ضد التواطؤ مع الأمريكيين (فضلًا عن أن يتم ذلك من وراء
ظهر الاتحاد السوفييتي)، ومن الواضح أنه لم يكن على علم بالاتصالات
السرية بين السادات ووكالة المخابرات المركزية، وفي كل الأحوال،
فهو لم يكن مُطَّلعًا على مضمون الرسائل الدءوبة بينهما. ليس من
الغريب إذن أن قام السادات على الفور بإزاحة رياض من منصبه كوزير
للخارجية، بعد أن راح يتعاون على نحو أكثر علانيةً مع الولايات
المتحدة الأمريكية.
كان السادات قد غيَّر من نهجه، ولهذا راح يتعامل مع رياض بقدر من
الريبة، الأمر الذي ساعد عليه أن رياض كان متعاطفًا مع علي صبري،
وكان يعتبره من أكثر الرجال ذكاءً في البلاد.
ص١٥٧: إن الملاحظة التي أبداها
هيكل بشأن أن الاتحاد السوفييتي لم تكن له أية علاقة فيما يخص الخطط
العسكرية المصرية هي ملاحظة صحيحة، بل إن الأمريكيين أنفسهم كانوا
يرفضون في وقت ما أن يصدِّقوا ذلك.
ص١٥٧: كان السادات يسمح لنفسه
بالفعل بالتحدُّث على هذا النحو المفتقد إلى اللياقة عن الزعماء
السوفييت، ودائمًا ما كان يحب أن يقارن نفسه تارةً بستالين وتارةً
بتشرشل. باختصار كانت أكاليل المجد تقض مضجعه.
من الصفات المميزة لهيكل أنه كان يخشى أن يذكر أي شيء إيجابي عن
الشخصيات التقدمية من طراز عزيز صدقي. وهو لم يُقدِّر على أي نحو
حقيقة استبدال صدقي بمحمود فوزي لمنصب رئيس الوزراء، من الواضح أن
هيكل، وقد كان قريبًا دائمًا في علاقته بالدكتور فوزي، كان على علم
بالخلاف القائم بين محمود فوزي والسادات فيما يتعلَّق بالسياسة
الخارجية الأمريكية تجاه مصر. وتكشف الأحداث التي وقعت بعد عامَين،
أنه على الرغم من أن محمود فوزي كان يقف دائمًا إلى جانب إجراء
اتصالات مع الأمريكيين واستغلالهم لصالح مصر، فإنه لم يستطع أن
يوافق على المغازلة التي لا حدود لها، والتي كان يُبديها السادات
للولايات المتحدة الأمريكية، وقد ترك محمود فوزي منصبه باعتباره
رئيسًا للوزراء لهذا السبب تحديدًا. وقد قصَّ هيكل على السفير
السوفييتي عن الخلافات التي نشبت بين محمود فوزي والسادات.
ص١٥٨: يفتقد تأكيد هيكل بشأن
إصابة القاذفات من طراز تو-١٦ إلى أي دليل، والأرجح أنه استمع إلى
هذه القصة من السادات، الذي قام بتضخيمها بعد أن نجح في الحصول على
هذه الطائرات من الاتحاد السوفييتي. فبعد أن تسلَّم السادات هذه
الطائرات وجد نفسه وقد فقد الحُجة على توجيه الاتهامات للاتحاد
السوفييتي، عندئذٍ قام بتلفيق هذه الحكاية ليُثبت أنها دون المستوى!
آنذاك كان المصريون قد بات باستطاعتهم العمل على الطائرات من طراز
تو-١٦، التي، مثلها مثل أي طائرة، كانت، إلى جانب خواصها الإيجابية،
بها عيب هو قلة سرعتها نسبيًّا. على أنها كانت مجهَّزةً لقذف الصواريخ
من الجو إلى الأهداف البعيدة المدى. فإذا ما أخذنا في الاعتبار أن
المسافات المتاحة في مسرح العمليات العسكرية المصرية ليست واسعة،
فإن هذه القاذفات ليست بحاجة إلى طلعات تصل فيها إلى سرعتها
القصوى، الأمر الذي يمكن أن يمثِّل خطورةً عليها؛ فالطائرة تو-١٦ هي
بالدرجة الأولى «سلاح ردع» لإسرائيل. ليس من العجيب إذن أن
السادات، بعد أن تسلَّم أخيرًا القاذفات من طراز تو-١٦ التي كان ناصر
قد طلبها، بدأ على الفور حملة تشهير لكي يبرِّر عدم الاستفادة بها؛
إذ إنه، كما اتضح، لم يكن في الحقيقة يعتزم القتال!
ص١٥٨: مثال مهم يدل على أي نحو
تُدار السياسة في الشرق العربي، هذا بالطبع إذا لم يكن هيكل قد
اخترعه؛ فالسادات، على حد قوله، قد أبلغ الملك فيصل أن تتلقَّى قيادة
القوات المصرية أوامرها منه مباشرة (بالطبع في حالة حدوث أي طارئ)
في أثناء غيابه في موسكو. شيء من هذا لم يحدث مطلقًا بطبيعة الحال،
ولم يكن هناك أحد في مصر يمكن أن يخطر بباله أن يمتثل لأوامر الملك
فيصل. لكنها لفتة كريمة على أية حال. ليس ذلك هو الأمر المهم. في
الواقع فقد وعد فيصل السادات بإهدائه عشرين قاذفةً مقاتلة من طراز
«لايتننج»، وقد حاول السادات أن يبتز بها الاتحاد السوفييتي، لكنه لم
ينجح في التأثير على أحد. في موسكو قالوا له تريد أن تأخذ طائرات
«لايتننج»، خذها، لكننا نعلم أنها ليست من نوعية رفيعة. ولم يربط
السوفييت بين قرار توريد الطائرات تو-٢٢ وطائرات «لايتننج»
(بالمناسبة فقد رفض المصريون استلام تو-٢٢)، أمَّا الطائرات من طراز
«لايتننج» فلم يرسلها السعوديون مطلقًا؛ لأنها كانت في حالة
سيئة.
ص١٦٠: قام الرائد مصطفى
الخروبي (عضو مجلس الثورة الليبي (المترجم)) بأداء الصلاة في
الكرملين في مكتب ألكسي كوسيجين بالقرب من صورة كارل مارکس مباشرة.
في الواقع كان مشهدًا لم يسبق له مثيل في الكرملين.
ص١٦٠: يعرض هيكل حكايةً
استفزازية تتعلَّق بنقل مشغولات ذهبية. كان استفزازًا من طراز
كلاسيكي تمامًا إذا جاز القول. لم يحمل الخبراء السوفييت مطلقًا
معهم أية كميات كبيرة من الذهب، وإنما كانت هدايا تذكاريةً عادية،
من تلك التي يلاحق بها الباعة المصريون كل السائحين الأجانب، الذين
يزورون القاهرة.
لقد توفَّر لدى الخبراء السوفييت على مدى إقامتهم في مصر لمدة عام
أو عامَين بعض المال بطبيعة الحال، راحوا يُنفقونها على شراء الهدايا
التذكارية، التي لا تتمتَّع في مصر بالتنوُّع الكبير. كم من مرة طلب
الدبلوماسيون السوفييت من السلطات المصرية أن يقيموا کشكًا خاصًّا
تحت إشراف المصريين لبيع مختلِف الهدايا التذكارية للعسكريين
السوفييت العائدين للوطن! وفي كل مرة كان المصريون يرفضون. لم يحمل
مواطنونا مطلقًا سبائك من الذهب كما كتب هيكل.
جدير بالذكر أيضًا أن العسكريين السوفييت كانوا يتمتَّعون بالإعفاء
من التفتيش الجمركي، بِناءً على اتفاق سوفييتي مصري. على أن الفريق
صادق أصدر توجيهاته بخرق هذا الاتفاق. سعت السلطات المصرية بعدم
السماح للدفعة الدورية من العسكريين السوفييت المسافرين للوطن،
وطلبوا تفتيشهم بشكل كامل، بما في ذلك التفتيش الشخصي. حدث سوء
تفاهم، فاستدعى المصريون جنودًا يحملون الرشاشات قاموا بإحاطة مبنى
المطار العسكري، وقد اتخذ الاستفزاز شكلًا أكثر صراحةً بعد ذلك،
عندما فشل السفير السوفييتي في الاتصال بالفريق صادق أو بعبد العزيز
حجازي (وزير المالية آنذاك والذي تتبعه مصلحة الجمارك) أو بوزير
الخارجية أو بالسادات. لقد اتضح أن جميعهم موجودون، فجأةً «خارج
القاهرة». كان اليوم يوم عمل، ولم يكن أمامنا سوى اللجوء إلى
مستشار الرئيس لشئون الأمن القومي حافظ إسماعيل، الذي وعد ﺑ «بإبلاغ
الرئيس»، ووصف ما حدث مباشرةً بأنه عمل استفزازي من جانب السلطات،
وطلب ألَّا نستجيب لهذا الاستفزاز، الذي يستهدف تفجير غضب الجانب
السوفييتي.
وقد أصدر السفير السوفييتي تعليماته بأن يكشف العسكريون السوفييت
عن كل ما لديهم للتفتيش الجمركي. وقد تبيَّن أن كل مسافر يحمل معه في
المتوسط هديةً تذكارية واحدة من المشغولات الذهبية، بروش أو عقد وما
إلى ذلك.
لم يذكر هيكل فيما بعد، عندما انهار هذا العمل الطائش، أن
السادات قدَّم اعتذاره للسفير السوفييتي في حديث تليفوني معه بعد أن
قال له «إنه يشعر بالخجل أن في مصر أُناسًا لا يحملون الجميل
للروس».
بالمناسبة، فالسفير الروسي لم يذهب للمطار، على عكس ما أكَّده
هيكل.
ص١٦١: يطرح هيكل أيضًا قصة
إحلال أطقم الدفاع الجوي المصرية محل الأطقم السوفييتية على نحو
يفتقر إلى الضمير، بدءًا من استخدامه لهذا التأكيد المغلوط الذي
روَّجه السادات، والذي يزعم فيه أن مرتبات العسكريين السوفييت
الموجودين في مصر تُدفع بالعملة الحرة. أمَّا حضور الماريشال جريتشكو
إلى مصر فلا علاقة له إطلاقًا بقصة استبدال الأطقم
السوفييتية.
في واقع الأمر، فقد أعلن الفريق صادق أولًا، ثم تلاه السادات،
أنهما يريدان تغيير نصف أطقم الدفاع الجوي السوفييتي (ثم عادا
ليطلبا تغيير الثلث)، وإحلال أطقم مصرية بدلًا منها من التي عادت
لتوِّها من الاتحاد السوفييتي بعد أن أنهت تدريباتها. في الواقع لم
تكن هناك حاجة لاستعجال هذا التغيير، فضلًا عن أن المصريين كانوا
سيتسلَّمون بالضرورة منصات دفاع جوي جديدةً لم تكن هناك أطقم جاهزة
للعمل عليها آنذاك. وكان قَبول اقتراح المصريين يعني، ربما، حدوث
تدهور حاد في وضع الدفاع الجوي للبلاد، يصبح الاتحاد السوفييتي
مسئولًا عنه بدرجة أو بأخرى، وقد تمَّ لفت انتباه السادات إلى هذا
الوضع.
لكن هذا الأمر كان له جانب سياسي أيضًا؛ فقد سارع السادات بإعلان
استبعاد مجموعة كبيرة من العسكريين السوفييت عشية وصول الرئيس
نيكسون إلى مصر لإجراء مباحثات كان من أهم ما تضمَّنته مناقشة الوضع
في الشرق الأوسط. وقد اكتشف الجانب السوفييتي وعلى نحو صحيح مغزی
تصرُّف السادات، واعتبره استعراضًا أمام الأمريكيين لمشاعره غير
الودية وكأنه يقدِّم بهذا عربونًا لنيكسون.
وقد تمَّ لفت انتباه السادات إلى ذلك إبَّان زيارته الأخيرة إلى
موسكو في أبريل ١٩٧٢م، وقد أعلن السادات آنذاك أنه سوف يتريَّث قليلًا
في سحب العسكريين السوفييت من مصر. ولم يحدث مطلقًا أن أصرَّ الجانب
السوفييتي على بقاء الوحدات العسكرية السوفييتية في مصر.
ص١٦٢: لم يكن هيكل يعلم شيئًا
عن قصة صفقة توريد الطائرات من طراز ميج-٢٣. من الواضح أنه سمع
من أحدً ما حكايات ملفقةً عن هذه الصفقة. شيء واحد يمكن أن نقوله في
هذا السياق: إن مصر لم تدفع سنتًا واحدًا بالعملة الحرة ثمنًا ولو
لطائرة واحدة، قام الاتحاد السوفييتي بتوريدها لمصر. لقد تمَّ توريد
كل الطائرات بقرض ذي شروط تفضيلية مُيسرة على أمد طويل وبنصف الثمن
يُدفع بالجنيه الحسابي السوفييتي المصري؛ أي في نهاية الأمر، مقابل
بضائع مصرية. ونظرًا لأن هذه القروض كانت طويلة الأجل إلى حد بعيد،
فإنه يمكن القول إن المصريين لم يبدءوا حتى الآن في تسديد هذه
القروض بشكل جاد مقابل تلك الصفقات، ومن ثم فإن هذه القروض لا تزال
مسجلةً كديون.
ص١٦٣: أكذوبة أخرى يرويها
هيكل، ومن جديد استنادًا إلى حكاية نشرها السادات. لم تصدر أي
بيانات أو مشروع إعلان باسم «اللجنة المركزية للحزب الشيوعي
السوفييتي» (؟!).
بعد زيارة قام بها السادات إلى قاعدة غرب القاهرة الجوية
العسكرية بصحبة المارشال جريتشكو، حيث استعرض السادات الطائرات من
طراز م-٥٠٠ وسوخوي-٧ وسوخوي ١٧-ب (التي أراد المصريون شراءها)
تم، بِناءً على موافقة السادات، صياغة بيان صحفي قصير، تمَّت صياغته
وإذاعته في القاعدة، يفيد زيارة الرئيس لإحدى القواعد العسكرية
الجوية، حيث استعرضا الطائرات القتالية الحديثة بما فيها بعض
الطائرات التي تبلغ سرعتها ثلاثة أضعاف الصوت، وقد أعرب السادات
وجريتشكو عن تمنياتهما بنجاح الطيارين المصريين في الذَّود عن سماء
بلادهم. لم يرد في هذا البيان أي ذكر أن الطيارين المصريين يُجيدون
قيادة مثل هذه الطائرات. ترجع أهمية هذا الإعلان إلى أنه يفيد وجود
طائرات حديثة في مصر، وقد وافق السادات دون أي تردُّد على التصريح
بهذا الخبر للصحافة.
من الأمور اللافتة للاهتمام أن السادات وافق بصعوبة على زيارة
هذه القاعدة الجوية العسكرية بصحبة جريتشكو، لكنه رفض رفضًا باتًّا
الذهاب إلى الإسكندرية لاستعراض السفن الحربية السوفييتية؛ إذ كان
يرى أن ذلك يمثِّل استعراضًا كبيرًا يصب في مصلحة الاتحاد السوفييتي
عشية زيارة نيكسون إلى موسكو.
ص١٦٤: نشر هيكل بالفعل بعض
المعلومات التي تُفيد اهتمام الاتحاد السوفييتي بدرجة ما باستمرار
حالة «اللاسلم .. واللاحرب». ومثل أي شخص غير مُطَّلع على العلوم، يرى
هيكل أن كل ما يتذكَّره العقل الإلكتروني هو حقيقة قطعية، وهو لا
يعلم أن هذه «الحقيقة» تتوقَّف على المعلومات التي يتم بها تغذية
العقل الإلكتروني وعلى أي نحو. عمومًا، فمن المشكوك فيه أن تكون
مثل هذه التجربة قد أُجريت. وعلى أية حال، فمن غير المعروف أين
ومن الذي أعد هذا «البرنامج» الذي تمَّ تغذية العقل الإلكتروني به
وعلى أي نحو.
٢٠
ص١٦٧: هل كان لزامًا على هيكل
أن يعود ليكرِّر السخافات التي ينشرها أعداء مصر حول استخدام الروس
للمطارات المصرية! في الواقع هل كان من الضروري أن يبعث الاتحاد
السوفييتي بقواته إلى مصر؟ يعلم هيكل تمام العلم كم من الوقت
استغرقه ناصر وهو يطلب من الزعماء السوفييت أن يُرسلوا أطقمًا
سوفيتية للعمل على منصات الدفاع الجوي!
بالطبع، فإن الحديث عن حاويات ضخمة وصلت، ربما إلى مطار غرب
القاهرة يمكن تفسيره حسب هوى كل من أراد. ولعل هناك من يؤكِّد إن
كانت هذه الحاويات قد وصلت عمومًا.
ص١٦٧: مرةً أخرى يعود هيكل
ليكرِّر کذب السادات حول دفع مرتبات الخبراء السوفييت بالعملة
«الصعبة». لم يحدث ذلك كما لم يحدث أن أرسل ليونید بریجینيف أي
رسائل في هذا الشأن للسادات كما ذكر هيكل.
ص١٦٧: يُبدي هيكل ملاحظةً صائبة
حول أن المصريين (السادات) كانوا يُجرون مباحثات مع الزعماء السوفييت
حول العلاقات بين البلدَين إجمالًا، وحول قضايا الحصول على السلاح
السوفييتي. صحيح أيضًا ما أشار إليه حول أن طلبات المصريين كانت
دائمًا مبالَغًا فيها، من الواضح أن ذلك كان مرده إلى الرغبة في
تبرير مُناخ السخط على الاتحاد السوفييتي، الذي دأب السادات دائمًا
على خلقه.
ص١٦٨: لا يلحظ هيكل دناءة ما
يكتب. بالفعل كان الوضع غريبًا؛ ها هم الجنود السوفييت في حالة
الاستعداد القتالي القصوى يعيشون في مخابئ تحت الأرض في صحراء وهم
يحرسون بكل يقظة وانتباه سماء مصر؛ ذلك لأنهم يخدمون ضمن قوات
الدفاع الجوي للبلاد.
أي تناقض كان يمثِّله لهم تسكُّع الشباب المصري وهو يثرثر في دعة
ودون مبالاة وعدم اكتراث كل مساء في الإسكندرية الساطعة بالأنوار؟!
كان من الصعب علينا أن نشرح لجنودنا وضباطنا كل هذه الأشياء،
والأهم الإجابة عن سؤال: لماذا جاءوا بنا إلى هنا إذا كان المصريون
يتعاملون مع الخدمة العسكرية، بل ومع الحرب عمومًا بهذا القدر من
اللامبالاة؟!
أمَّا فيما يتعلَّق بتصريح السادات حول «التعبئة الذاتية» التلقائية
للشعب «ما إن تنطلق الطلقة الأولى»، فإن صياح الديكة هذا، للأسف،
كثيرًا ما يحل محل الاستعداد الجاد العواقب الأعمال الحربية. وفي
القاهرة لم يتم بناء مخبأ واحد ليلجأ إليه الناس في حالة وقوع
غارات جوية، كما لم يتمَّ إعداد مراكز للإسعافات الأولية. ومن حسن حظ
المصريين أن قنبلةً أو صاروخًا إسرائيليًّا لم يسقطا على القاهرة.
وإنني لعلى يقين أنه لو حدث ذلك لأصاب الناسَ عندئذٍ ذعرٌ لا نظير له،
بدلًا من «التعبئة الذاتية»، ناهِيَك عن الحرائق الحتمية ووقوع
الضحايا وما إلى ذلك. إن الشعب المصري، لم يعرف ما الحرب على
حقيقتها، لعل الأقدار تحفظه من هذا الابتلاء الصعب.
ص١٧٠: عبثًا يسعى هيكل لإلقاء
ظلٍّ من الغموض على قرار السادات حول إنهاء مهمة العسكريين في مصر.
ها هو يتذرَّع بالقول إن من المستحيل التصريح بذلك بثقة، إذا كان
السادات نفسه لم يقرِّر أن يزيح الستار عن الأمر بنفسه. حسنًا، وماذا
عن السادات؟ وماذا وراء هذه الغمغمة؛ فالسادات، تصوَّروا! «لم يكن
سعيدًا طوال الشهر الماضي، وكان هيكل يشعر أن ثمة شيئًا كان يختمر
في ذهنه (السادات)، لكنه لم يكن يعرف كُنهه على وجه اليقين»؟
إن هذه «التفسيرات» لا تصلح اللهم إلا للكُتيبات الدينية الشعبية.
بينما نجد هيكل يُدلي برأيه في أكثر القضايا خطورة، وأحيانًا ما
يخطئ في ذلك.
في رأيي أن هيكل كان يشعر (إذا لم يكن على علم مسبق بالفعل) أن
قرار إبعاد العسكريين السوفييت من مصر، الذين جاء بهم ناصر إلى مصر
بِشق الأنفس، كان أمرًا تمَّ اتخاذه من أجل الشروع في اتخاذ خطوة
واسعة نحو مُلاقاة الولايات المتحدة الأمريكية، إن لم يكن في إطار
التآمر معها.
مهما قلَّبنا الأمر على أوجهه، فإن هذا القرار الذي اتخذه
السادات قد أضعف من موقف مصر. وكما يبدو، فقد جاء هذا القرار في
لحظة غير مناسبة إطلاقًا؛ أي في الوقت الذي كان الاتحاد السوفييتي
يطرح فيه قضية التسوية في الشرق الأوسط في لقاءاته مع الأمريكيين
على أرفع مستوًى. لقد أضعف هذا القرار مصر على المستوى العسكري،
فضلًا عن، وهو الأهم، المستوى السياسي، كما أنه أفقدنا فرصةً كبيرة
لأن نمارس ضغوطنا على الولايات المتحدة الأمريكية.
كان الأمريكيون يتذرَّعون دائمًا بأن إسرائيل، على حد قولهم، يصعب
عليها التوصُّل إلى سلام مع العرب بسبب «الوجود العسكري» السوفييتي في
مصر. وكُنا نُجيب بأنه عند التوصُّل إلى سلام شامل فإننا «نتوقَّع» أن
يطلب منا العرب، إنهاء مهمة العسكريين السوفييت في الشرق الأوسط.
باختصار: عندما تنسحب القوات الإسرائيلية من جميع الأراضي العربية
المحتلة، سوف ينسحب العسكريون السوفييت أيضًا.
وعلاوةً على ذلك، فإن «الوجود العسكري» السوفييتي، الذي كان قائمًا
بالفعل، كان يدفع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية إلى التعامل
بمزيد من الحذر مع إمكانية وقوع عمليات عسكرية ضد مصر، تجنُّبًا
لظهور خطر المواجهة العسكرية المباشرة مع الاتحاد السوفييتي.
والآن إذا بالسادات ينتزع من أيدينا هذه الفرصة لصالح
الأمريكيين.
من الواضح (شاء هيكل ذلك أم أبى) أن المسألة كلها تتلخَّص في أن
السادات، بعد أن أصبح رئيسًا بعد موت ناصر، وطَّد اتصالاته مع
الولايات المتحدة الأمريكية، واتخذ مساره باتجاه التخلُّص من الاتحاد
السوفييتي. ويبدو أن هيكل شعر بذلك ولكنه خشي التصريح بذلك
علنًا.
ص١٧٢: لو كان هيكل دقيقًا هنا،
فإن عبارة السادات «لقد قطعنا مع السوفييت»، تكشف ببلاغة قاطعة
النيات الكامنة في أساس القرار الذي اتخذه السادات بشأن العسكريين
السوفييت.
ص١٧٣: لسبب ما يكرِّر هيكل كذب
السادات بخصوص «جماعة علي صبري» واتصالاتهم بالسفير السوفييتي، وهلم
جرًّا، وعن صفقات السلاح الواردة من الاتحاد السوفييتي. ألَا يرى كم
من السخافات في حديثه هذا.
ص١٧٤: لماذا استطاع السادات أن
«يخمِّن» مضمون الرسالة التي بعثت بها موسكو، والتي حملها السفير
السوفييتي؟ يا له من أمر عجيب! أمَّا المقابلة فكانت في قصر الطاهرة،
لا في القناطر.
ص١٧٤: الأمر أشبه بالسخرية
عندما يورد هيكل حديث السادات الذي يقول فيه: «لقد قضينا، عبد
الناصر أولًا ثم أنا، أربع سنوات عانَينا فيها ما عانَينا من
تصرُّفاته» (يقصد الاتحاد السوفييتي الذي قدَّم لمصر مساعدات تبلغ
قيمتها عدة مليارات، ناهِيَك عن الدعم السياسي!).
ص١٧٤: لم يُخبرنا السادات
باستلامه رسالةً سرية أخرى من الأمريكيين قُبيل زيارة السفير
السوفييتي له بيوم واحد، والتي أبلغه فيها السادات بقرار إنهاء مهمة
العسكريين السوفييت. ويبدو أن الرسالة الأمريكية كان لها دور حاسم
في اتخاذ السادات لهذا القرار المُعادي للسوفييت (والمُعادي في
الواقع لمصر أيضًا).
ص١٧٤: يحرِّف السادات عن قصد
مضمون الرسالة، محاوِلًا جذب هيكل إلى صفه؛ ولهذا قال له إن
الرسالة تتعرَّض له (هيكل) شخصيًّا. شيء من هذا لم تتضمَّنه الرسالة.
ومن هنا يتضح لنا أن السادات لم يعرض نص الرسالة على هيكل.
ص١٧٥: لم يذكر السادات للسفير
السوفييتي أي شيء من هذا. ولو أنه كان قد تجاسر على القول بأن
الزعماء السوفييت «كذبوا» عليه، لكان قد تلقَّى مني الرد المناسب. كان
السادات يتباهی بالحديث أمام مستمعيه، أمَّا هيكل فراح يكرِّر أكاذيب
السادات.
ص١٧٦: يُورد الكتاب رد الجانب
السوفييتي على عزیز صدقي إبَّان زيارته إلى موسكو في الثالث عشر من
يوليو عام ١٩٧٢م على نحو دقيق. الاتحاد السوفييتي لن يشارك في إضعاف
مصر. على أن هناك اختلاقًا أيضًا فيما يتعلَّق بخطاب الجانب السوفييتي،
الذي يزعم الكاتب أنه سُلِّم لصدقي وردَّ فيه أن السوفييت رفضوا إمداد
مصر بالسلاح. والأمر على العكس تمامًا، فقد حمل صدقي اقتراحًا
بإقامة مشروعات عسكرية في مصر، الأمر الذي رفضه السادات
بالمناسبة.
ص١٧٧: يفتقد هيكل الدقة حين
يؤكِّد على نحو قطعي أن قرار إنهاء مهمة العسكريين السوفييت «قوبل
بالترحيب» في مصر. هذا صحيح، وإنما بالنسبة لعناصر المجتمع من
البرجوازيين والرجعيين فحسب. وهناك معلومات كثيرة تفيد أن هذا
القرار قوبل من العديد من المفكِّرين، ناهِيَك عن القطاعات التقدُّمية من
المجتمع ومن جانب العُمال والعسكريين، باعتباره ضربةً قاصمة لمصر
بأسرها، وأن من شأنه إضعافها (الأرجح أن هيكل يعرف ذلك، وهو نفسه
يشارك هذا الرأي). هل يمكن وصف شعور هؤلاء بأنه ترحيب بقرار
السادات الموالي لأمريكا؟ وهل أصبح الفريق صادق أكثر شعبية، إذا
كان السادات قد اضطُر لإقالته من منصب وزير الحربية بعد ثلاثة أشهر
فقط؟
ص١٧٧: ما الذي يعنيه هذا
التأكيد: «لم يُبلِ السلاح السوفييتي بلاءً حسنًا، ولكنه والحق
يقال، لم يُختبر اختبارًا حقيقيًّا»؟ هل كان هيكل يريد سلاحًا يمحو
الإسرائيليين من الوجود بمجرد الضغط على أزراره في القاهرة؟!
ص١٧٨: لم تكن القوات المسلحة
المصرية بعد هزيمة ١٩٦٧م الكارثية بحاجة إلى «إعادة بناء» كما يقول
الكاتب. في الواقع إنه لم يعد هناك جيش، ولم تكن مهمة العسكريين
السوفييت هي «إعادة بنائه»، وإنما خلقه من جديد. وكون أنه قد تمَّ
بناؤه، فهذه هي المأثرة الخالدة للضباط السوفييت.
ص١٧٨: مرةً أخرى يعود الكاتب
ليعرض جهله بالأمور العسكرية، مخترعًا فكرة أن الدبابات السوفييتية
تمَّ تصميمها للعمل في مُناخ «القطب الشمالي» (!). بالطبع لا يمتلك
الاتحاد السوفييتي دبابات مُكيَّفة، بها حمام أو حشيات مريحة، أو يتوفَّر
فيها عصير ليمون مثلَّج يُقدَّم للشرب بمجرَّد الطلب! زِد على ذلك أن مثل
هذه الدبابات، التي حلم بها أحدهم في مصر، غير موجودة ولن توجد لدى
أي جیش آخر.
ص١٧٩: يورد الكاتب هنا ادعاءً
مستحيلًا يفيد أن الضباط المصريين، تصوَّروا لديهم خبرةً قتالية يفتقر
إليها المستشارون العسكريون السوفييت، على حد زعمه. إحقاقًا للحق
يجب أن نقول إن المصريين كانت لديهم خبرة وحيدة هي الركض أمام
الجيش الإسرائيلي. كان الضباط السوفييت يمتلكون دائمًا خبرةً حقيقية
اكتسبوها على جبهات القتال في الحرب الوطنية العظمى؛ ولهذا فإن
الملاحظة التي أبداها هيكل أقل ما توصف به أنها تفتقر إلى
اللياقة.
ص١٨٠: ومن جديد يعود الكاتب
ليكشف عن جهله بالحقائق؛ فالأمر مختلف تمامًا عمَّا ذكره؛ فعندما وصل
الأدميرال جورشكوف إلى الإسكندرية أعلن عن رغبته في زيارة قائد
قوات البحرية المصرية، اللواء بحري عبد الرحمن فهمي، على أن الأخير
رأى أن صيغة الطلب الذي تقدَّم به الأدميرال السوفييتي تنقصه بعض
الكَيَاسة، ومن ثم لم يستقبله. ولمَّا وصل فهمي بعد ذلك إلى القاهرة لم
يقبل الأدميرال السوفييتي مقابلته.
ص١٨٠: يبدو أن تصرُّفات صادق
المستقلة على نحو كبير، كان لها دور حاسم في مسألة خلع السادات له
من منصبه كوزير للحربية (على الرغم من أن صادق ساعد السادات منذ
عام واحد تقريبًا في إبعاد الناصريين). لقد بدا للسادات آنذاك أن
استقلال صادق أمر زائد عن الحد، ومن المعروف أيضًا أن صادق كان
يحظى بتعاطف من جانب الطبقة العليا من الضباط الأغنياء، وهي الطبقة
التي لم تكن تتقبَّل السادات مُطلقًا «كندٍّ لها»، فكانت تضعه في درجة
أقل منها، على الرغم من أنه كان يسعى لاسترضائها. كان من الممكن
لصادق أيضًا أن يصبح بسهولة، في مثل هذه الظروف، «مركزًا» لانقلاب
ضد السادات، الذي شعر بذلك بسليقته. كانت المبرِّرات لخلع صادق كافيةً
تمامًا وواقعية؛ عدم الرغبة في القتال، ضعف الضبط والربط في الجيش،
وهلم جرًّا. ينبغي أيضًا ألَّا نستبعد من حسابتنا أن صادقًا قام بزيارة
رسمية إلى الاتحاد السوفييتي في شهر يونيو، استقبل خلالها حسابات
بالغة، جعلت السادات يفكِّر، وقد طغى عليه الشك، أن الاتحاد السوفييتي
«يراهن» على صادق.
ص١٨٣: مرةً أخرى يعود الكاتب
لإضفاء هالة من الغموض حول تصرُّفات السادات في علاقته بالاتحاد
السوفييتي. وهو هنا يكتفي بالحديث فقط عن تسلُّم السادات رسالةً
«سرية» من الولايات المتحدة الأمريكية تتضمَّن «أن مفتاح حل الصراع
في الشرق الأوسط في يد الولايات المتحدة الأمريكية». أمَّا رحلات
السعوديين آنذاك فلم تكن محض صدفة؛ لقد كانوا يعملون باعتبارهم
محامين للأمريكيين، داعين السادات ليتخذ بشكل أكثر صراحةً موقفًا
معاديًا للسوفييت.
كان قرار السادات بإبعاد العسكريين السوفييت، بطبيعة الحال، نتيجة
صفقة حقيقية مع الأمريكيين. كان ذلك نوعًا من «العربون» قدَّمه
السادات للأمريكيين، كان عليهم أن يردُّوه فيما بعد.
ص١٨٤: وكعادته عبَّر كيسينجر
عن رأيه في هذا الأمر بصلف شديد. من الواضح أن السادات قد تصرَّف،
حتى في نظر الأمريكيين، بقدر كبير من التفريط بإبعاده العسكريين
السوفييت، ثم ها هو لا يحصل على شيء في المقابل من الولايات المتحدة
الأمريكية، وهو ما يعني أن تقديراتنا التي بعثنا بها في حينه إلى
موسكو كانت صحيحة. آنذاك لم نكن قد عرفنا شيئًا بعد، بالطبع، عن
هذا التصريح المستهتر الذي أطلقه كيسينجر: «لقد حصلت على كل شيء
دون مقابل.»
ص١٩١: يُرجع الكاتب على نحو
خاطئ صعوبة قيام الوحدة بين مصر وليبيا إلى العقبات البيروقراطية.
هيكل إمَّا أنه لا يعرف، وإمَّا أنه لا يريد أن يكشف صراحةً السبب
الحقيقي. كان السادات يدرك جيدًا أنه في حالة إقامة الوحدة مع
ليبيا (وهو ما كان من شأنه تقوية الاقتصاد المصري بدرجة ملموسة)؛
فقد كان عليه أن يُسند إلى القذافي منصبًا ما، منصبًا حقيقيًّا
وليس اسميًّا، لنقل قائدًا عامًّا للقوات المسلحة الموحَّدة، وهو
المنصب الذي كان القذافي يطمح إليه، أو رئيسًا لوزراء الدولة
الموحَّدة أو حتى رئيسًا. المسألة برمتها تلخَّصت في عدم الاستجابة
للقذافي. لم يكن السادات عمومًا ليسمح بفكرة أن أحدًا ما سوف يتصرَّف
على نحو مستقل، ليس فقط ضده، وإنما حتى بالتوازي معه؛ ولهذا
تحديدًا، ومن أجل كبح حماس القذافي ابتكر المصريون نظامًا ماكرًا
تمثَّل في إنشاء لجانٍ مصرية ليبية مشتركة تنبثق عنها لجان فرعية
تقوم على إعداد القوانين الأساسية المنظَّمة للحياة المشتركة
للدولتَين (نظام إدارة الدولة والاقتصاد والمؤسَّسات السياسية وما إلى
ذلك). كان الهدف من ذلك في واقع الأمر هو عدم صد الليبيين شكليًّا،
وفي الوقت نفسه إفراغ فكرة الوحدة بين البلدَين من مضمونها. هذا
التكتيك هو ما أخبر به حافظ إسماعيل السفير الروسي بصفة
سرية.
وكما هو معروف، فقد بلغ الضجر بالليبيين غايته من جرَّاء
الاجتماعات العقيمة التي لا تنتهي، فدخلوا في خلاف مع السادات،
كانت آخر مظاهره تلك المسيرة التي سار فيها آلاف الليبيين في
القاهرة في صيف عام ١٩٧٣م حاملين عريضةً للسادات مُوقَّعًا عليها بالدم،
تطالب بسرعة إتمام الوحدة بين البلدَين.
ص١٩٢: أمَّا الحادثة
الدراماتيكية التي وقعت لطائرة الركاب المدنية الليبية التي أسقطها
الإسرائيليون بركابها بكل دم بارد في وجود تقاعس تام من جانب
المصريين، فهي أمر بالغ الدلالة؛ إذ يعكس تواطؤ السادات مع
الأمريكيين في تلك الفترة على ألَّا يتم تصعيد الموقف قبل الأوان،
فقد تمَّ التخطيط لأن يتم كل شيء في أكتوبر، عندما يأتي موعد تنفيذ
المسرحية، التي وُضع السيناريو الخاص بها في فبراير. آنذاك كان
الليبيون لا يمثِّلون سوی عقبة في طريق السادات.
ص١٩٨: لسبب ما يعود الكاتب مرةً
أخرى ليؤكِّد على علاقة السادات بالمخابرات الأمريكية.
ص١٩٩: لقد وقعنا هنا بالطبع في
خطأ، حيث اعتبرنا وفقًا لتقليد ما (أي بسبب تناقل القصة من شخص
لآخر) أن زکي هاشم شخصية تقدُّمية، «شیوعي سابق» تقريبًا! وقد اتضح
أنه يعمل لصالح الأمريكيين!
ويكشف هيكل هنا تفاصيل تتعلَّق بالاتصالات السرية الجديدة التي جرت
في الكواليس، والتي لم يُخبرنا المصريون بشأنها، علاوةً على أن
السادات كان قد أقسم أكثر من مرة أنه ليس لمصر أي اتصالات من هذا
النوع.
ص٢٠٠: لقد تبيَّن لنا أن السادات
كان يكذب علينا، كما كذب علينا أيضًا حافظ إسماعيل، الذي لم يُبلغنا
بأي شيء حول المباحثات السرية التي جرت مع كيسينجر.
ص٢٠٠: يرتكب هيكل هنا أخطاءً
مدهشة فيما يتعلَّق بالحقائق! آنذاك كان حافظ غانم هو الأمين العام
للَّجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي وليس مستشارًا للرئيس. لم
يكن السادات يثق في حافظ إسماعيل مستشاره للأمن القومي (وهو الذي
وصفه السادات للسفير السوفييتي بأنه My
Kissinger)؛ ولذلك كان يرسل حافظ غانم إلى كل
مكان يذهب إليه حافظ إسماعيل بوصفه مراقبًا وجاسوسًا له، وباعتباره
كلبًا وفيًّا دون أن يكون له رأي على الإطلاق أو شخصية. وهذا
النظام كان يمثِّل عملًا عاديًّا بالنسبة للسادات، وحتى عندما كان
السادات يرسل عزیز صدقي، وهو رئيس وزرائه، إلى موسكو، كان يرافقه
ممدوح سالم، الخادم الأمين للسادات، والذي كان وزيرًا للداخلية
آنذاك.
ص٢٠١: إذا كان حافظ إسماعيل قد
قال لنيكسون بالفعل إن إبعاد العسكريين السوفييت من مصر كان
إظهارًا لقدرة مصر على «البقاء خارج مناطق النفوذ»، فإن ذلك أمر لا
يوصف إلا بكونه عملًا دنيئًا من جانب حافظ إسماعيل؛ فقد كان
إسماعيل يؤدِّي أمامنا دور الصديق الكبير والرجل الذي يرى أن اعتماد
مصر على الاتحاد السوفييتي أمر ضروري.
وإذا كان حافظ إسماعيل قد أعلن بالفعل لنيكسون أن السبب الرئيسي
للصراع في الشرق الأوسط، هو الصدام بين طائفتَين هما اليهود
والفلسطينيون، فإن ذلك لا يعكس جهلًا بجوهر الصراع فحسب، وإنما
يُعد أيضًا إيحاءً للأمريكيين بأن هذا الصراع، على حد قوله، لا يخص
المصريين مباشرة، وأن مصر يمكنها أن تقف بمنأًی عنه. بالمناسبة،
فقد كان حافظ إسماعيل في أحاديثه مع السفير السوفييتي يُدلي برأيه
باحتقارٍ فيما يخص الفلسطينيين وكذلك السوريين.
ص٢٠٢: إذا كان حافظ إسماعيل قد
خرج من مقابلته مع نيکسون بانطباعٍ يُفيد أن نیكسون ينظر بحسن نية
إلى مصر، فهو إذن كان يكذب علينا، عندما تحدَّث عن موقف الولايات
المتحدة الأمريكية العدائي تجاه مصر.
ص٢٠٢: لم يبلغنا حافظ إسماعيل
والسادات بالمباحثات التي دارت بينهما وبين کیسینجر، حتى عندما كان
حافظ إسماعيل في زيارة إلى موسكو! بماذا نسمِّي هذا التصرف؟ لكن ما
قام به هيكل من فضح غير مقصود لخيانة السادات لنا لم يعد خبرًا،
كلما طالعنا الكتاب أكثر فأكثر. وهناك أمر آخر أكثر أهمية؛ إن هيكل
يكشف الخلفية الحقيقية لكل الأحداث التي وقعت في أكتوبر عام ١٩٧٣م.
علينا فقط أن نُمعن النظر فيما قاله نیكسون؛ لقد كانت الحكومة
الأمريكية على استعداد للضغط على إسرائيل «إذا رأت أن هناك «أساس
أخلاقي» لاستخدام هذا الضغط، وكُنا سنعلن ذلك على الرأي العام
الأمريكي»!
ومع علمه، بالطبع، بما يعتمل في نفس السادات من شكوك، ومُؤجِّجًا
إياها في علاقته بالاتحاد السوفييتي، لم يخشَ نیكسون أن يقول لحافظ
إسماعيل على نحو استفزازي، إنه إذا حاولت مصر أن تدق إسفينا في
العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، فإنها
«تُخطئ بذلك خطأً فاحشًا!»
ص٢٠٣: هيكل على حق هنا في
تعريفه لأهداف الأمريكيين، وخاصةً الهدف الأخير؛ «ينبغي أن تكون
النتيجة النهائية هي «السلام على الطريقة الأمريكية»، وهو السلام
الذي يضمن المصالح الأمريكية في المنطقة».
ص٢٠٥: إن كلمات السادات بشأن
انفراج التوتر الدولي أصبح واقعًا، وإنه «ربما يفرض نفسه علينا (على
مصر (فينوجرادوف)) قبل أن يكون باستطاعتنا أن نفرض نحن أنفسنا
عليه». إن هذه الكلمات تعكس جهلًا مطبقًا لدى هذه الشخصية القومية
البرجوازية بحقيقة الخلاف بين السياستَين الخارجيتَين لدولتَين
إحداهما رأسمالية (الولايات المتحدة الأمريكية)، والثانية اشتراكية
(الاتحاد السوفييتي). ما الذي كان يخشاه السادات؟ يقول السادات: «إن
سياسة الوفاق سوف تفرض شروط حل مشكلة الشرق الأوسط، بدلًا من أن
تفرض مشكلة الشرق الأوسط شروطها على سياسة الوفاق.»
أحيانًا ما نجد هيكل، القومي أيضًا يتضامن، بصورة أو أخرى، مع
غياب موقف مختلف في السياسة الخارجية لكلٍّ من الولايات المتحدة
الأمريكية والاتحاد السوفييتي. وهو ما جعله يستشهد هنا بكلمات
السادات.
الفصل الرابع: «الحرب»
ص٢٠٧: لا أظن أنه كانت هناك
ضرورة لوصف خطة العملية «بدر» بأنها كانت «ممتازة». لقد اتضح أنها
كانت خاطئةً فيما يتعلَّق بنتائجها النهائية؛ فهي لم تستشرف الأمر
الجوهري وهو التحرُّكات العسكرية في حالة النجاح، بمعنى تطوير هذا
النجاح. ولهذا، باختصار، فمهما كانت جودة خطة اقتحام القناة، ينبغي
الاعتراف بأنها كانت تضع بالتالي في اعتبارها الفشل والتعرُّض لخسائر
فادحة؛ أي تحقيق الحد الأدنى من النتائج. إذن ما الذي حدا بهيكل أن
يصف هذه الخطة بأنها «ممتازة»؟
ص٢٠٩: يدير الكاتب حديثه
المتعلِّق، على سبيل المثال، بالتعليمات التي تلقاها السفير السوفييتي
من موسكو بتعسفٍ تام. ومن هنا أكاذيبه المتكرِّرة، وخاصةً أننا نجد
هنا تلفيقًا عن وعيٍ لتلك الحكاية التي عرضها السادات بعد العمليات
العسكرية.
إن موسكو لم تقدِّم أية مقترحات في السادس من أكتوبر تتعلَّق بوقف
إطلاق النار. وإنما كان هناك سؤال للسادات فحسب بشأن الرغبة في
التشاور معه بخصوص ما لدى السفير السوفييتي في سوريا من معلومات حول
رأى الرئيس الأسد في مدى ملائمة طرح الاتحاد السوفييتي لاقتراح على
مجلس الأمن لوقف إطلاق النار مع بقاء القوات المتحاربة في مواقعها.
كان من مصلحة السادات أن يُصوِّر الأمر كما لو كان الاتحاد السوفييتي
يُصر منذ اليوم الأول للحرب على وقف إطلاق النار.
ص٢١١: مسألة إصدار القيادة
الإسرائيلية في السابع من أكتوبر أمرًا إلى جميع القوات العاملة
على خط بارليف أن تتصرَّف وفق ما تراه، فإمَّا أن تستسلم أو تنسحب إلى
عمق شبه جزيرة سيناء تبدو أمرًا غريبًا، فلم يكن قد مرَّ نصف يوم
على بدء العمليات العسكرية حتى تُصدر القيادة الإسرائيلية مثل هذا
الأمر! أمر غريب وغير مفهوم.
يبدو الأمر واضحًا إذا افترضنا أن الإسرائيليين كانوا على علم
مسبق بالاقتحام المزمع للقناة؛ أي إنهم كانوا شركاء في لعبة سياسية
كبرى أطرافها الولايات المتحدة الأمريكية ومصر وإسرائيل. إن الجنود
الإسرائيليين الذين سقطوا في خط بارليف كان مقضيًّا عليهم أن
يكونوا «شهداء» (بالمناسبة يُقال إن عددهم كان قليلًا على نحوٍ
يُثير الشك).
ص٢١٢: يؤكِّد الكاتب على نحو
صحيح أن القيادة الإسرائيلية قرَّرت سلفًا تركيز قواتها في الشمال
بهدف إنزال الهزيمة بسوريا؟ لماذا استطاع الإسرائيليون أن يتصرَّفوا
على هذا النحو؟ فالعدو الرئيسي، إذا توخَّينا الموضوعية، كان يجب أن
يكون هو القوات المسلحة المصرية.
الأمر كله، كما هو واضح، أن الإسرائيليين كانوا يعرفون مُقدَّمًا أن
المصريين لن يتقدَّموا في سيناء؛ وهو ما أتاح للإسرائيليين أن
يُنزلوا ضرباتٍ قاصمةً بالسوريين.
ص٢١٢: ليست موسكو هي التي
اقترحت الاتصال بالعراق لتطلب منها إرسال دبابات إلى الجبهة
السورية، إنما كان السوريون هم الذين طلبوا منا أن نخاطب نحن
العراقيين في هذا الشأن.
ص٢١٢: كان السادات ضد وقف
إطلاق النار؛ لأن خطة السادات والأمريكيين الأساسية كانت قد سقطت؛
لم يكن الأمريكيون حتى ذلك الحين يملكون أي مبرِّر للتدخُّل أو ممارسة
«الضغط» على إسرائيل وما إلى ذلك. إن وقف إطلاق النار، على الرغم
من أنه كان من الممكن أن يُعطي للعرب أفضلية، فإنه لم يكن ليعطي
السادات أي شيء في سياق خطة لعبته مع الأمريكيين. ولعله كان سيمثِّل
عندئذٍ هزيمةً لإسرائيل، الأمر الذي لم يكن الأمريكيون ليسمحوا به.
إن قتل عدد محدود من الجنود الإسرائيليين من أجل تحقيق الأهداف
السياسية للولايات المتحدة الأمريكية هو ما وافق عليه الأمريكيون
وليس هزيمة إسرائيل. في الواقع فقد ساعد الساداتِ بذلك كلٌّ من
إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.
رغم ما يبدو في هذا الأمر من مفارقة، فإن وقف إطلاق النار، كما
كشفَت الأحداث التالية، أنه كان أجدى للعرب، أمَّا السادات فظل يقاوم
ذلك! من هنا جاءت «نصائحه» السخيفة للأسد.
ص٢١٣: يبدو واضحًا هنا أن
الكاتب قد انصاع وراء هذا التفسير الساذج لتوقُّف القوات المصرية بعد
العبور السهل نسبيًّا للقناة، زاعمًا أن المصريين قد أقاموا «جدارا
دفاعيًّا قويًّا» على الضفة الشرقية للقناة لا بد أن تتحطَّم عليه
هجمات الإسرائيليين. لا بد أن يكون الإسرائيليون من السذاجة بمكان
ليتعاملوا مع هذه «الخطط».
ص٢١٣: مرةً أخرى يعود هيكل
ليكرِّر رد الأسد مستندًا إلى حكاية السادات، لا استنادًا إلى وثيقة؛
فالأسد لم يتحدَّث عمَّا قاله السفير الروسي لدى القاهرة (للسادات
(المترجم))، كما أنه لم يتحدَّث عن انتفاء الحاجة للجوء للعراق طلبًا
للمساعدة.
في الواقع، فقد نفى الأسد ما قاله في حديثه مع السفير الروسي لدى
دمشق في الرابع والسادس من أكتوبر بخصوص رغبته في أن يتخذ الاتحاد
السوفييتي مبادرةً لوقف إطلاق النار (مع بقاء القوات المتحاربة في
مواقعها). لم يكن أمام الأسد ليتصرَّف على نحو آخر. وفي حديثه مع
السفير السوفييتي فسَّر حافظ إسماعيل تصرُّف الأسد على النحو التالي:
في الحقيقة أن الأسد، كما يبدو، اعتبر أن وقف إطلاق النار أمر
ضروري بعد النجاح الأول للعرب (فقد رأى أو عرف أن المصريين لن
يساعدوا سوريا التي انقضَّ عليها الجيش الإسرائيلي كله
(فينوجرادوف)). على أنه وبعد الطلب المستفز الذي قام به السادات فقد
كان لزامًا عليه (الأسد) أن «يحفظ ماء وجهه»، وبالطبع فقد أجاب بأنه
لم يفكِّر في وقف إطلاق النار. هذا هو التفسير الذي أفاد به مساعد
السادات إبَّان أحداث أكتوبر، والذي تم، بطبيعة الحال، بشكل
سري.
ص٢١٤: تصريح منافق ذلك الذي
أدلى به السادات لهيكل والذي يزعم فيه أن الفرصة قد سنحت لاستعادة
الاتحاد السوفييتي هيبته المفقودة في الشرق الأوسط. كان السادات
يحرِّض هيكل دائمًا ضد الاتحاد السوفييتي، وهو ما أثبتته الحقائق
الآن. كان هيكل يبدو أمامنا آنذاك رجلًا مطيعًا في خدمة
السادات.
ص٢١٥: هيكل على حق هنا وهو
يتحدَّث عن إلحاح السوريين وعن «الوقفة التعبوية» التي لا مُبرِّر لها
(ناهِيَك عن أن هيكل لم يكن على علم بأفكار السادات، والخاصة، كما
يظهر، بتواطئه مع الأمريكيين). وهو على صواب أيضًا عندما يرى أنه
لو تمَّ استيلاء المصريين على الممرات الجبلية؛ الجدي ومتلا، لأمكن
تحرير سيناء بأكملها مع ما يترتَّب على ذلك من نتائج سياسية لا تُعد
ولا تُحصى. هذا أيضًا صحيح، لكن ذلك لم يدخل في خطط السادات؛ لأن
ذلك كان يعني: (أ) إثبات قوة السلاح السوفييتي وفعالية المساعدات
السوفييتية. (ب) دعم موقف الاتحاد السوفييتي. (ج) خرق اتفاق السادات
مع الأمريكيين فيما يخص خلق مبرِّر لهم للتسلل إلى الشرق الأوسط. (د)
تدهور العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية.
ص٢١٦: لم يرغب السادات في الرد
على طلب السوريين؛ لأنه خشي لا من الهزيمة، وإنما من النجاح، الذي
كان حدوثه یعني، ربما، انهيار كل الخطط السياسية الماكرة لتسوية
العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية.
ص٢١٦: لا طائل من وراء ما
يكتبه هيكل عمَّا لا يعرفه؛ أي اعتماده مرةً أخرى، على أحاديث السادات
كما هو واضح. لقد كان الجسر الجوي السوفييتي يعمل كالساعة، بينما لم
يذكر هیكل شيئًا عن المغزى العسكري والمعنوي الذي كان يعنيه أن تصل
طائرة سوفييتية محملة بالسلاح من موسكو إلى القاهرة كل نصف
ساعة!
ص٢١٧: لم يطلب السادات من
السفير السوفييتي لدى القاهرة إجراء أي تحقيق حول موقف السفير
السوفييتي لدى دمشق. مرةً أخرى يختلق السادات هذه الرواية.
ص٢١٨: هل كان تحذيرنا عملًا
خاطئًا؟ على أن السادات يعود من جديد ليتحدَّث بغطرسة إلى السفير
السوفييتي لدى القاهرة بالكلمات التالية حرفيًّا قائلًا: «إنني لا
أرغب في الجري في سيناء، كما يريد ذلك نيكولاي بودجورني. باستطاعتي
الاستيلاء على الممرات غدًا لو أردت، لكن ذلك لا يدخل في خططي في
الوقت الحالي.»
ص٢١٨: لم يستشهد السفير
السوفييتي لا بليونيد بريجينيف ولا بألكسي كوسيجين، وإنما عرض على
هيكل مخاوفه. أمَّا ما أضافه هيكل لحديثه، فقد فعله من قبيل «تجميل
الكلام».
ص٢١٩: لم يتحدَّث السفير
السوفييتي عن صعوبات في إقامة «الجسر الجوي». أمَّا بخصوص ملاحظة هيكل
أن الروس يفكِّرون دائمًا في الخطوة التالية فهذا صحيح. من الأمور
الملفتة للانتباه أيضًا أن السادات رفض التفكير في الخطوات
السياسية، وأحال السفير السوفييتي إلى محمود فوزي، الذي لم يكن هو
نفسه مفوَّضًا في الحديث عنها.
ص٢٢٠: يفتقد هيكل الدقة هنا؛
فالروس لم يتحدَّثوا عن ضرورة الهجوم والاستيلاء على الممرات، كما
أنهم لم يقدِّموا عمومًا أية نصائح في هذا الصدد (لأنه لم يكن
باستطاعتهم ذلك؛ لأنهم لم يكونوا على دراية بخطط السادات
الحقيقية). أمَّا عن رد وزیر الحربية فهو رد غير عسكري بامتياز؛ لأن
الهجوم أفضل وسيلة للدفاع، أمَّا الدفاع السلبي فنتائجه
مدمِّرة.
ص٢٢١: شيء من هذا لم يحدث. هذه
أيضًا حكاية اختلقها السادات. لم يكن السادات يرغب في دخول الأردن
الحرب؛ إذ إن ذلك كان من شأنه إن لم يُلحق الهزيمة بإسرائيل، ففي
جميع الحالات سوف يُفسد خططه. لقد كان من الممكن أن تتعرَّض إسرائيل
الهزيمة قاسية، وهو ما قد يعوق إمكانية ظهور الأمريكيين على مسرح
العمليات باعتبارهم صُناع السلام.
ص٢٢٢: لم يُقدِّم السادات مطلقًا
هذه «اللفتة الكريمة»: عرض مزعوم بإرسال سلاح سوفييتي كان مُخصَّصًا
لمصر إلى سوريا. الأمر على النقيض من ذلك. لقد ظلَّ السادات طوال
الوقت يشتكي، حتى عندما لم تكن لديه أسباب لذلك، مؤكِّدًا أن سوريا
تحصل على أسلحة أكثر من اللازم، بينما لا تُعطَى مصر شيئًا، وهلم
جرًّا. كان يقول إن سقوط دمشق لا أهمية له؛ فسوريا لديها أراضٍ
واسعة، وهي تستطيع في حالة الهزيمة أن تخوض حرب مقاومة، ومن
الضروري الاهتمام بمصر فحسب. بعد ذلك استمرَّت مطالب السادات وتذكيره
الدائم والمفرط بتوريد السلاح.
مرةً أخرى نجد هنا مثالًا واضحًا على التضليل الذي يمارسه السادات
على هيكل.
ص٢٢٣: يا له من تناقض بين هذه
البهجة التي تعم قصر الطاهرة وهذا المشهد الدموي على الجبهة
السورية! لم تحرِّك مصر ساكنًا لتقدِّم مساعدةً ما للسوريين، الذين
ورَّطهم السادات نفسه في مغامرته العسكرية من أجل إيجاد ذريعة
للأمريكيين کي يستطيعوا الدخول بها إلى الشرق الأوسط! لقد كان من
واجب السادات أن يدعم سوريا، ليس فقط للاعتبارات السياسية
والأخلاقية، وإنما من مُنطَلق الواجب الرسمي باعتباره القائد العام
للقوات المشتركة. لقد أدرك السوريون مغزى لعبة السادات متأخِّرًا
للغاية، بعد أن طلبوا من السادات، بشهادة هيكل، لا أقل من خمس عشرة
مرةً المساعدة، لكنه رفضها جميعًا بكل ثبات.
ص٢٢٣: يعود الكاتب من جديد
ليؤكِّد على العلاقة بين المخابرات الأمريكية والمصرية بهدف دعم
الاتصالات المباشرة مع السادات!
ص٢٢٤: في الرسالة التي أُرسلت
إلى كيسينجر، لم يرد أي ذكر للفلسطينيين. هنا يتعامل حافظ إسماعيل
أيضًا، مثله مثل السادات، باستهتارٍ بالغ تجاه الفلسطينيين
وقضيتهم.
ص٢٢٦: ما يكتبه هيكل هنا عن
قيام الأمريكيين بنقل الدبابات إلى إسرائيل بالطائرات مباشرةً إلى
منطقة العمليات العسكرية مجرَّد هراء. إن الدبابات التي استُخدمت إبَّان
الحرب لم ترسَل بالطائرات. لقد كانت العريش في سيناء، وهو مكان بعيد
تمامًا عن منطقة العمليات العسكرية هي نقطة إرسال الشحنات العسكرية
الأمريكية. مرةً أخرى نشعر بأن السادات هو مصدر تلك «المعلومات»؛ عن
ذلك تحدَّث السادات إلى السفير السوفييتي طالبًا منه أن يبدأ الاتحاد
السوفييتي في إرسال الدبابات إلى مصر … جوًّا. وقد جاءه الرد بأن
أكثر طائرات النقل العسكري قدرةً لا تستطيع أن تحمل سوى دبابة أو
اثنتَين!
ص٢٢٧: يورد هيكل هنا معلومات
غير دقيقة؛ إذ لم تكن هناك أية تحرُّكات من جانب المصريين أجبرت
الإسرائيليين على نقل وحداتهم العسكرية من الجبهة السورية إلى
سيناء. إن ما أثار القلق لدى القيادة الإسرائيلية على نحو جاد هو
تحرُّكات العراقيين، وحتى الأردنيين الذين هبُّوا لمساعدة سوريا، وليست
تحركات المصريين؛ فالإسرائيليون كانوا يعلمون أن المصريين لن
يدفعوا بقواتهم إلى أي مكان.
ص٢٢٨: يطرح الكاتب ملاحظةً
غريبة تفيد أن المصريين قد افترضوا قبل الحرب، أن الإسرائيليين سوف
يعبرون القناة ثم ينتقلون منها إلى مصر. إذا كان لدى المصريين هذا
القدر من نفاذ البصيرة، وكانوا يعلمون على وجه الدقة المكان الذي
سيقع عنده هذا العبور (الدفرسوار)، فما الذي منعهم من الاهتمام
بحماية هذا المكان تحديدًا؟ يقول الكاتب إن الإسرائيليين حدَّدوا
الثغرة التي تفصل بين الجيشَين الثاني والثالث، فمن أين
للإسرائيليين أن يعرفوا عمومًا کم جیشًا سيكون لدى مصر وأين
سينتشرون؟ ما الذي يعنيه إذن الحديث عن خطة المصريين «الممتازة»
إذا كان الإسرائيليون على علم بتوزيع الجيوش المصرية منذ عام ١٩٦٩م،
وأن هذه الأماكن لم تتغيَّر في سياق العمليات العسكرية؟!
ص٢٢٩: ما الفائدة التي كانت
ستعود على مصر عمومًا من جرَّاء دفعها لِمَا يُسمَّى بالاحتياطي
«الاستراتيجي» إلى المعركة؟ فالعمليات العسكرية الحقيقية، التي
تتطلَّب وجود مثل هذا الاحتياطي لم تكن موجودة. ولماذا كانت هناك
فجوة بطول أربعين كيلومترًا تفصل بين الجيشَين المنتشرَين في سيناء.
إنه خطأ بدائي وفاحش، إن لم يكن أكثر من ذلك.
ص٢٣٠: يستند هيكل، شأنه في ذلك
شأن السادات، في تفسيره لغياب أي مواجهة للوحدات الإسرائيلية التي
تسلَّلت إلى مصر إلى … أن الاتصالات بين الجبهة ومقر القيادة العامة
كانت سيئةً جدًّا، ناسيًا أنهما يضعان أنفسهما بهذا «التفسير» في
موقف مضحك، فالمسافة الواقعة بين الثغرة والقاهرة تبلغ أكثر قليلًا
من مائة كيلومتر! وهي مسافة يمكن قطعها حتى بالدراجة في ساعات
قليلة.
يقدِّم لنا هيكل بعد ذلك في الصفحات ٢٣٠، ٢٣١، ٢٣٢، ٢٣٣، ٢٣٤ وصفًا
غير مقنع لتصرُّفات السادات التي أدَّت إلى تدخل الإسرائيليين، الأمر
الصحيح الوحيد هو حديثه عن الرسالة التي بعث بها الأسد إلى
السادات. لقد كانت المناورة السياسية التي قامت بها مصر مناورةً
رديئة؛ لأن السادات لم يكن يريد أن يكون مع الاتحاد السوفييتي؛ فقد
كان لا يزال يمارس لعبته السياسية مع الولايات المتحدة من وراء
ظهرنا.
ص٢٣٥: هذه واحدة من أكثر
الفقرات في كتاب هيكل إثارةً للفضول، حيث يصف توقُّف المصريين عن
القتال بعد حدوث الثغرة التي أحدثها الإسرائيليون للوصول إلى الضفة
الغربية للقناة! لقد تبيَّن أن الأمر وصل إلى حد إلغاء القيادة
المصرية في القاهرة للتحرُّكات الصحيحة تمامًا لعددٍ من التشكيلات
المصرية، التي حاولت القضاء على الثغرة، وهو الأمر الذي كان ممكنًا
وسهلًا. ليس هناك أي تفسير لذلك سوى الافتراض (وهو ما يتردَّد كثيرًا
الآن) بأن السادات سمح عن قصد للقوات الإسرائيلية بالدخول إلى مصر؛
ففي هذه الحالة يكون في الواقع «مبرر أخلاقي» للأمريكيين لكي يُصبح
باستطاعتهم أخذ المبادرة «للضغط» على إسرائيل!
ص٢٣٥: كان باستطاعة الكاتب أن
يأتي أيضًا على ذكر الجسر الركامي الذي أقامه الإسرائيليون عبر
القناة، لقد استطاعوا أن يردموا قناة السويس دون أي عائق من جانب
المصريين، بل إنهم فرشوا هذا الجسر بالأسفلت!
ص٢٣٥: يا له من تحريف مدهش
للحقائق! فكوسيجين لم يُحضر للسادات أي صور التُقطت من الجو، كما أن
السادات لم يتحدَّث عن ضرورة أن يحضر مؤتمر السلام «الدول الأربع
عشرة في مجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة، وكل الأطراف
المعنية بما فيها الفلسطينيون». كان السادات موافقًا على عقد مؤتمر
تشارك فيه أطراف الصراع (لم يذكر من بينهم الفلسطينيين)، إضافةً إلى
الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية. لكن الأهم، أنه طلب
من الاتحاد السوفييتي «ضمانًا» أن تقوم إسرائيل بتنفيذ قرار مجلس
الأمن رقم ٢٤٢، دون أن يُعرب عن إصراره في سياق ذلك على الانسحاب
الكامل للقوات الإسرائيلية. وكان السادات قد بعث قبل ذلك برسالة
إلى الملك حسين، لا بمبادرة منه، وإنما بعد حديثه مع السفير
السوفييتي. لقد كان من الممكن أن يكون لمشاركة الأردن أثر قوي في
ضرب إسرائيل، لكن ذلك لم يدخل في خطط السادات؛ ولذلك رفض مشاركة
الأردن في العمليات العسكرية.
ص٢٣٦: من الواضح أن موقف الملك
حسين قد جرى تحريفه من جانب الكاتب، الذي رأى أن ذلك يمكن أن يصب
لصالح السادات. مرةً أخرى يبدو الأمر وكأنه من تفسير السادات.
والأرجح أن حسينًا رأي أو عَلِم لاحقًا أن السادات لا يقود
العمليات العسكرية على نحو جاد، وإنما يؤدِّي لعبةً بمشاركة
الأمريكيين، ليس له مكان فيها.
ص٢٣٧: لم تجرِ الأمور على هذا
النحو؛ فالسادات، الذي كان مستعدًّا لوقف إطلاق النار، لم يجد
بدًّا من أن يطلب تقديم هذا الاقتراح من جانب الاتحاد السوفييتي
والولايات المتحدة الأمريكية معًا، آنذاك لفت السفير السوفييتي
الانتباه إلى ضرورة إعداد الرأي العام المصري لذلك. لم يكن
باستطاعة الصحف المصرية أن تسيء إلى موقف الاتحاد السوفييتي (على
الرغم من أنه اتضح فيما بعدُ أنه قد صدرت لها تعليمات أن تلتزم
التواضع في هذا الشأن). قد يأتي يوم رائع يعلم فيه المصريون أن
الاتحاد السوفييتي قد انضمَّ إلى الولايات المتحدة في تقديم اقتراح
وقف إطلاق النار، ولعل ذلك يزيل الغموض عن موقف الاتحاد السوفييتي؛
لأن أحدًا لم يخبر المصريين بالثغرة التي أحدثها الإسرائيليون
للعبور إلى الضفة الغربية للقناة!
وافق السادات على رأي السفير السوفييتي، وقال إنه أصدر تعليماته
إلى هيكل بإعداد مقال كبير في هذا الصدد (كان على السادات أن يقتنع
هو نفسه بذلك). في واقع الأمر، فقد كتب هيكل مقالًا ضافيًا مُدعَّمًا
بالجداول، وهو ما سبَّب للمصريين صدمةً بطبيعة الحال. لقد رأوا أن
مصر تقف الآن على شفا كارثة عسكرية، بدلًا من الانتصار الذي تحدَّثوا
عنه من قبل. وعلى هذه الخلفية بدا موقف الاتحاد السوفييتي منطقيًّا؛
فالاتحاد السوفييتي يتجه الآن نحو وقف إطلاق النار لإنقاذ
مصر.
ص٢٣٨: من الأمور المميزة لهيكل
إسقاطه لجوانب مهمة للغاية من وجهة نظر الحقائق التاريخية الثابتة؛
مثل كيف تمَّ تنظيم وقف إطلاق النار، وكيف بدأ الأمر. يورد هيكل
مقولة أحمد إسماعيل بعد الثغرة التي أحدثها الإسرائيليون، أن من
المستحيل، على حد قوله، دفع وحدة عسكرية للقضاء عليها، يورد هيكل
هذا الرأي الذي قاله إسماعيل للسادات «على انفراد» (المثير للفضول
هو كيف عرف الكاتب بذلك؟). إن جوهر ما صرَّح به إسماعيل يبدو ملتبسًا،
فإمَّا أنها صياغة مهذَّبة للاعتراف بالفشل العسكري الذريع، وإمَّا أنها
إيحاء للسادات أن الظروف باتت مهيأةً لتدخُّل الأمريكيين. لا أحد يعرف
أيهما يقصد. ما الذي قاله وزير الحربية للسادات على انفراد؟ «قال
إنه يتحدَّث الآن للتاريخ وبصفته مواطنًا، وأنه إذا كان الرئيس يرى
طريقًا مفتوحًا لوقف إطلاق النار على أساس شروط مقبولة، فإنه سيؤيِّد
قراره»(!).
ينتقل هيكل بعد ذلك على الفور إلى عرض الرسالة التي بعث بها
السادات إلى الأسد، مُسقطًا نقطةً مهمة للغاية؛ طلب السادات نفسه
من الاتحاد السوفييتي الإعداد لوقف إطلاق النار على وجه
السرعة.
في الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، يوم العشرين من
أكتوبر، طلب السادات حضور السفير السوفييتي لمقابلته في قصر الطاهرة
على وجه السرعة. وفي الساعة الثانية طلب منه، وكان يبدو عصبيًّا
على نحو واضح، أن يبلغ موسكو طلبه العاجل لتقوم بالإعداد بسرعة
لوقف إطلاق النار مع بقاء القوات الإسرائيلية في تلك المواقع التي
احتلَّتها على الضفة الغربية للقناة. كان هذا بالضبط ما طلبه
السادات. ومن اللافت للانتباه، أن أحدًا حتى الآن من المصريين، بما
فيهم السادات نفسه بطبيعة الحال، لم يذكر أن السادات هو أول من طلب
وقف إطلاق النار.
ص٢٣٩: في رسالته للأسد يتحدَّث
للأسد بكثيرٍ من المبالغة: «لقد كنت في الجبهة المصرية خلال العشرة
أيام الأخيرة، أُقاتل الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا (!)، حيث
إنها كانت ترسل السلاح لها (إسرائيل). وأقولها بصراحة إنني لا
أستطيع أن أُقاتل الولايات المتحدة الأمريكية أو أن أتحمَّل أمام
التاريخ المسئولية عن تدمير قواتنا المسلحة للمرة الثانية.» وقد
تضمَّنت الرسالة أيضًا عددًا من الألاعيب الفظة. نفهم من الرسالة، على سبيل المثال، أن
الاتحاد السوفييتي يضمن، هو والولايات المتحدة
الأمريكية، انسحاب القوات الإسرائيلية والدعوة لعقد مؤتمر السلام
تحت إشراف الأمم المتحدة. نحن لم نقدِّم ضمانات، وإنما السادات هو
الذي طلبها.
بالمناسبة، كان رد الأسد على السادات صحيحًا تمامًا، وعمومًا،
وكما كشفت الأحداث السابقة، فقد اتضح أن الأسد كان يتمتَّع ببُعد نظر
وأمانة في علاقته بالاتحاد السوفييتي، خلافًا للسادات.
الفصل الخامس: «حالة التأهب النووي»
ص٢٤٦: عندما سعى الاتحاد
السوفييتي لكي لا يشارك في مؤتمر السلام، إلى جانب الأطراف المعنية
بالصراع، سوى الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، لم
يكن السبب هو الخوف من موقف جمهورية الصين الشعبية (في حالة ما إذا
شارك في المؤتمر كل أعضاء مجلس الأمن)، وإنما لسبب آخر. إن مشاركة
الدول الإمبريالية الأخرى، مثل إنجلترا وفرنسا، كان من الممكن أن
يؤدِّي إلى أن هذه الدول لم تكن لتقف في اللحظات الصعبة والحاسمة
للدفاع عن مصالح العرب، كما أنها لم تكن لتقف أيضًا، بطبيعة الحال،
إلى جانب الحركة العربية التقدمية؛ ولذلك ولصالح العرب، كان من
الضروري الاكتفاء بمشاركة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.
بالنسبة للقوميين، مثل هيكل والسادات، كان من الواضح أنهما لا
يُدركان الفارق بين السياسة الخارجية للاتحاد السوفييتي والسياسة
الخارجية للدول الرأسمالية.
يختلق الكاتب كثيرًا من التلفيقات، وهو يصف الحديث الذي دار بين
القيادة السوفييتية ونیكسون، وهي أمور لا تتفق إطلاقًا مع الواقع،
وبصفة خاصة عندما يزعم أن الاتحاد السوفييتي كان يُدير مباحثاته مع
الأمريكيين حول وقف عمل «الجسور الجوية»؛ السوفييتية إلى مصر،
والأمريكية إلى إسرائيل.
ص٢٤٨: لقد وصل الاستهتار
بالسادات، أقولها بلطف، إلى حد أنه، بينما كانت الأسلحة الأمريكية
الحديثة التي تسلَّمتها إسرائيل لتوِّها لا تزال تقتل المصريين، كان
السادات يتحدَّث بتفاخر أنه يقاتل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها،
وفي هذا الوقت أرسل السادات دعوةً إلى كيسينجر، من وراء ظهر الاتحاد
السوفييتي، لزيارة القاهرة! وهي الحقيقة التي عُرفت، فضلًا عن الدعم
السياسي الكامل، وكان يصرخ من نفاد الصبر والخوف، بينما ظلَّ
الإسرائيليون يواصلون تقدُّمهم في مصر غير عابئين بقرار مجلس الأمن
بشأن وقف إطلاق النار.
من الطريف أن هيكل في هذه المرة يؤكِّد على الاتصالات المستمرة،
التي راحت تساندها أجهزة المخابرات المصرية والأمريكية طوال فترة
الأحداث العسكرية.
ص٢٥٠: من المدهش جهل هيكل وعدم
إحاطته علمًا بالحقائق المهمة للتاريخ، الذي أخذ على عاتقه كتابته!
كتب هيكل يقول: إن أكبر عيب في قرار مجلس الأمن رقم ٣٣٩ أنه لم
يطلب عودة القوات إلى المواقع التي كانت تحتلها في الثاني والعشرين
من أكتوبر! بينما كان البند الوحيد العملي في هذا القرار هو تضمُّنه
طلب عودة القوات إلى المواقع التي كانت تحتلها في الثاني والعشرين
من أكتوبر! ففي هذا البند يتلخَّص مغزى هذا القرار، بل والمغزى
الوحيد له. كان القرار مهمًّا ومثَّل انتصارًا كبيرًا للاتحاد
السوفييتي، وربما كان ذلك تحديدًا ما دفع هيكل لتحريفه. أمَّا السادات
فقد قرَّر أن يتنصَّل منه بعد أن صاغ فيما بعدُ «اتفاقًا (مُشوَّهًا) من ست
نقاط» مع كيسينجر، بدلًا من هذا القرار الذي تمَّ إعداده على نحو جيد
ومُحكَم، والذي تبيَّن أنه لا يلزم الإسرائيليين ﺑ «الفصل بين
القوات».
وعلاوةً على ذلك، فقد اخترع الكاتب أيضًا حديثًا دار بين السادات
والسفير السوفييتي بخصوص موضوع وقف إطلاق النار.
ص٢٥١: تحريف جديد لهيكل
لأحداث واقعية، ينفي هيكل عنها مغزاها السياسي الكبير. لقد طلب
المصريون من الاتحاد السوفييتي إرسال قواته. نعم طلبوا، والذي طلب
هو السادات نفسه، حيث إن الإسرائيليين لم يلتزموا بوقف إطلاق
النار، واندفعوا إلى الأمام لكي يطوِّقوا الجيش الثالث المصري
والاستيلاء على مدينة السويس، بينما راح نيكسون يؤكِّد للسادات
والاتحاد السوفييتي، أنه بِناءً على المعلومات المتوافرة لدى
الأمريكيين، فإن إسرائيل ملتزمة بوقف إطلاق النار. لقد توجَّه
السادات إلى الاتحاد السوفييتي وإلى الولايات المتحدة بطلب إرسال
قواتهما و، أو، مراقبين لإجبار إسرائيل بالقوة على وقف تقدُّمها،
وعندما رفض الأمريكيون توجُّه السادات إلى الاتحاد السوفييتي عبر
السفير السوفييتي، وطلب من الاتحاد السوفييتي أن يرسل منفردًا قواته.
وقد كان لإعلان الاتحاد السوفييتي تحديدًا استعداده لتلبية طلب
السادات أثره في دفع الأمريكيين «لحفظ ماء وجههم»، ومن ثم إعلان
«حالة التأهب النووي»، عندئذٍ أدركت إسرائيل ومعها الولايات المتحدة
الأمريكية أن العبث مع الاتحاد السوفييتي أمر خطير، وهنا توقَّف
الإسرائيليون. وللمرة الثانية في تاريخ مصر الحديثة يُنقذ الاتحاد
السوفييتي بخطواته الحاسمة مصر من هزيمة كاملة.
ص٢٥١–٢٥٢: ما يكتبه هيكل حول
إمكانية التقاط صور جوية كل ساعة تقريبًا محض هراء. الأمر ببساطة
أنه لا يعرف تقنية هذا الأمر.
ص٢٥٣: يكذب السادات على الأسد؛
ففي لحظةٍ أصابه فيها الذعر، ألحَّ السادات يومَي ٢٥ و٢٦ أكتوبر على
الاتحاد السوفييتي أن يرسل قواته و، أو، مراقبين. لقد طلب منَّا أن
نوقف إسرائيل بالقوة، لكنه أراد أن يبدو أمام السوريين على صورة
مختلفة.
ص٢٥٤–٢٥٥: يقول الكاتب إن
حالة التأهُّب العسكري من الدرجة الثالثة أُعلنت في صفوف القوات
المسلحة الأمريكية بمبادرة من كيسينجر. وكان کیسینجر قد شرح للسفير
السوفييتي لدى القاهرة الأمر على نحو مختلف حين قال: «لقد فقد
نيكسون أعصابه.»
يتسلَّل سوء الفهم إلى هيكل بخصوص جوهر الوفاق هنا أيضًا، عندما
يؤكِّد أن الاتحاد السوفييتي، على حد زعمه، كان ميَّالًا لممارسة الضغط
على أصدقائه؛ أي على العرب. إننا لم نمارس ضغطًا على مصر، وإنما
أنقذناها من الهزيمة! كان بإمكان هيكل أن يذكر ذلك أيضًا.
ص٢٥٦: أعلى صور التلفيق عند
الكاتب: اتضح أن إرسال السلاح عبر الجسور الجوية (من الاتحاد
السوفييتي إلى مصر وسوريا، ومن الولايات المتحدة الأمريكية إلى
إسرائيل) كان على نحو متكافئ؛ «طن مقابل طن». هذا ما كتبه هيكل،
فمن الذي قام بالحساب؟
ص٢٥٨: لا يخجل هيكل من ذكر
العدد الهائل للدبابات التي تمَّ تدميرها. لقد فعل ذلك بهدف المبالغة
من أهمية «المعركة»؛ فما دامت الخسائر كبيرة، فإن هذا يعني أن
المعركة كانت كبيرة. الأمر ليس إلزاميًّا إطلاقًا. لقد دفع
المصريون عددًا كبيرًا من الدبابات إلى ساحة القتال، ولم يحاولوا
أن يسحبوا الدبابات التي خرجت من المعركة من منطقة النيران
لإصلاحها، فكل دبابة كانت قيمتها تبلغ ٢٥٠ ألف روبل!
لم يكن الأمر يستحق أن يشتط الكاتب في الحماس: «عندما اقترب
الإسرائيليون، فإن المصريين ضربوهم بقوة، وعندما اقتربوا مرةً أخرى،
تلقَّوا مرةً أخرى ضربةً قوية.» في الواقع من الذي ضرب من، الإسرائيليون
أم المصريون؟
ص٢٦٠: في النهاية نجد من جديد
هذا الاعتراف الثمين لهيكل: منذ السابع من أكتوبر عرف المصريون أن
الطريق إلى الممرات كان مفتوحًا، وأن بإمكانهم الاستيلاء عليها،
لكنهم لم يتقدَّموا. لماذا؟
•••
لا شك أن كتاب هيكل كتاب مهم، لكنه يحتوي على عدد كبير من
الأخطاء، كما يفتقد الدقة في ترتيب الوقائع، الأمر الذي يُقلِّل من
قيمته باعتباره وثيقة تاريخية. إن تقدير الكاتب للأحداث والظواهر
يتوقَّف في الكثير، بطبيعة الحال، على وجهة نظره. ولكنه يتوقَّف أيضًا
على معرفة الوقائع الحقيقية.
كان هيكل في عهد ناصر يمتلك منفذًا واسعًا إلى وثائق الدولة، ومع
ذلك كان هيكل يحرِّف الكثير منها في مؤلفاته «لاعتبارات فكرية»
(انظر على سبيل المثال إلى كتابه «وثائق القاهرة»).
٢١
يتضح لنا من كتاب هيكل أن السادات لم يسمح عمليًّا لهيكل بالوصول
إلى الوثائق؛ ولهذا فإن هيكل يعتمد في وصفه للعديد من الوقائع
والأحداث وما تضمَّنته الرسائل على ما يعرضه عليه السادات، الذي كان
يحرِّض هيكل بشكل مستمر ضد السوفييت، وكان يدس له حكايات للأحداث.
وكان هيكل، دون خجل ودون مراجعة لهذه الحكايات، يضعها في كتابه،
ناسيًا أنه يتعامل مع قضايا لا تمس دولةً واحدة فحسب (مصر)، وإنما
أيضًا دول أخرى، وخاصةً الاتحاد السوفييتي. إن عدم جواز هذا
التعامل المتحرِّر من القيود مع هذا النوع من القضايا، التي تُعد في
بعض الأحيان من أسرار الدولة، أمر بدیهي.
وحتى على الرغم من التوجُّه المعادي للسوفييت عند إلقاء الضوء على
بعض الحقائق، فإن حقيقة الدور النبيل والسياسة المستقيمة للاتحاد
السوفييتي في دعم حركة التحرُّر الوطني ضد الدسائس الإمبريالية كان
ينكشف عندئذٍ على أية حال. وعلى ما يبدو فإن هيكل لم تكن لديه
الرغبة في غالب الأحوال في فضح الدور الخائن للرئيس السادات. ليس
من قبيل الصدفة أن كتاب «الطريق إلى رمضان» محظور في مصر، ولم
يُسمح إلا بنشر بعض الفصول التي تمتدح موقف السادات وتسيء إلى دور
الاتحاد السوفييتي.