تمهيد وتعقيب نقدي
تمهيد
-
(أ)
لا تَستغني الحياة الواعية عن النقد، ولا يشكُّ أحد في ضرورة النقد المُتجدِّد للواقع السائد في نظم المعرفة والقِيَم والاجتماع، وأنماط الفكر والفعل والسلوك؛ إذ إن إحياء الحسِّ النقدي معناه إحياء الحسِّ بالحرية والاستنارة، وضرورة التغيير والتقدم والحوار المستمر.
وعلى الرغم من تعدد مفاهيم النقد وتنوع أساليب تطبيقه وميادينه، فهو في تصوُّرِه البسيط المباشر يتضمَّن مناهج المراجعة والتقييم للأفكار والوقائع والأفعال التي تنطلق من معايير معينة، كما يستهدف الكشف عن تعارض تلك الأفكار والوقائع والأفعال مع هذه المعايير التي أصابها العجز والفساد؛ بُغيةَ العمل على «رفعها» وتجاوزها.
هذا السلب أو النفي الدائب للمعايير السائدة والوقائع والأوضاع القائمة، يكمن كذلك في النقد الذاتي الذي يزاوله الفرد أو المجتمع أو ينبغي أن يزاولاه على مختلف الظروف والقيم، والمواضعات والمؤسسات والنظم التي قد تبدو للوعي غير النقدي مطلقة وثابتة ومستقرة؛ ولهذا يظل النقد والنقد الذاتي هو التعبير الحي الفعال عن صحوة الوعي الفردي والاجتماعي، وأهم الأسس التي يعتمد عليها الصراع الدائم مع النَّزَعات المحافظة والتقليدية والسلبية التي تُبرِّر كلَّ وضع سائد وتباركه، وتقاوم التغيير والتطوير والتجديد والإبداع. وطبيعي أن يبقى النقد الذي يكتفي بنفي الواقع القائم ونقضه وتعرية عيوبه وأخطائه في أدنى مستويات النقد؛ لأن النقد الصحيح هو الذي يضع «الضدَّ» في مواجهة «القائم»، ويؤلف بينهما في «جديد» أعلى وأشمل وأكثر وعيًا وخصوبة.
مثل هذا النقد «السالب» أو «النافي» — بالمعنى الحقيقي للسلب أو النفي — عنصر أساسي في تكوين المنهج الجدلي الذي أثبت — منذ هيجل على أقل تقدير وحتى ماركس وأصحاب النظرية النقدية الذين سنتحدث عنهم — أنه بطبيعته نقدي وثوري، وأنه يؤدي إلى التغيير الإيجابي عن طريق سلبه لكل ما هو فاسد في الواقع السائد، وتطوير ما يقبل منه التطوير إلى جديد ملائم للحاجات المستجدة، وقادرة — في حدود الممكن لا المستحيل، وبصورة عقلانية وعلمية لا بصورة عاطفية متمردة وعشوائية! — على الخروج من الأزمات والمشكلات، وإحلال قِيَم ومعايير مختلفة محلَّ القِيَم والمعايير التي أصبحت تقليديَّة جامدة، واقتضت «الجدلية» الجذرية أو الثورية تخَطِّيها، ولا بدَّ في النهاية أن يعمل مثل هذا النقد على تغيير القائم أو السائد تغييرًا فعليًّا، وألا يقتصر على تعريته وتحليله تحليلًا نظريًّا وفكريًّا وحسب؛ لأنه إمَّا أن يتحوَّل إلى فعلٍ ثوريٍّ واعٍ يَستبدِل ببناءٍ اجتماعي ومعرفي وقِيَمي منهار بناءً آخر أصلحَ وأقربَ للواقع الحي، ويضع تصوُّرًا لتغييرٍ مستقبلي ينفي السائد الذي دبَّ فيه الفساد ويُزلزل ثوابته المزعومة، وإمَّا أنْ لا يكون نقدًا على الإطلاق، بل شيئًا من قَبيلِ الأوهام الزائفة والأحلام المستحيلة، والوعود البلاغية والإنشائية التي لا يلبثُ الواقع العيني أن يُكذبها ويخذُلها.
بهذا المعنى يصبح النقد هو الجهد العقلي والعملي الذي يتَّجه لعدم تقبل الأفكار وأساليب القول والفعل والسلوك والظروف الاجتماعية والتاريخية وسائر العلاقات التي تربط الإنسان بعالمه ومجتمعه تقبلًا أعمى، وهو جهد يُبْذَل للتوفيق بين جوانب الحياة الاجتماعية وبين الأفكار والأهداف العامة للعصر، وتمييز المظهر فيها من الجوهر، والبحث في أصول الأشياء وجذورها، وفي المصالح الكامنة وراءها والمعارف المرتبطة بهذه المصالح … إلخ، أي معرفتها معرفة حقَّة تُفضِي إلى تغييرها من أساسها على هَدْي «نموذج ضِدِّيٍّ» مُتَصَوَّر وممكن في آنٍ واحد.١ وبهذا المعنى أيضًا نصل إلى مفهوم النقد عند أصحاب النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت أو نقترب منه على أقل تقدير؛ فقد كانوا روَّاد فلسفة اجتماعية أو علم اجتماع نقدي تَوَحَّدَ فيه التأمُّل الفلسفي النظري مع العلوم الاجتماعية أو العلوم الإنسانية التجريبية، ونظروا — على حد تعبير رائدهم ماكس هوركهيمر (١٨٩٥–١٩٧٣م) — إلى المجتمع بوصفه «كلًّا ضديًّا» حافلًا بالصراعات والتناقضات، وأسَّسُوا فلسفة اجتماعية تَرَكَّزَ موضوع بحثها على البشر المغتربين عن أشكال حياتهم التاريخية في المجتمعات الرأسمالية والصناعية الشمولية التي أنتجُوها كما كانوا نِتاجًا لها، واغتربوا عنها كما كانت السبَبَ في اغترابهم. -
(ب)
وعنوان هذا التمهيد يُثير مشكلة تستحق الإشارة إليها، فهل نسمِّي مجموعة الفلاسفة وعلماء الاجتماع اليساريين — الذين بدأ جيلهم الأول نشاطه النظري والتجريبي في أوائل الثلاثينيات من هذا القرن مع تأسيس معهدهم الشهير «معهد البحث العلمي» في مدينة فرانكفورت (على نهر الماين) قبل هجرتهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية ثم بعد عودة معظمهم من هذا المهجر أو المنفى سنة ١٩٥١م إلى المدينة نفسها حتى وفاة واحد من أهم أعضاء هذه المجموعة وأنبغهم، وهو تيودور فيزنجروند أدورنو (١٩٠٣–١٩٦٩م)، وبروز الجيل الثاني وعلى رأسه الفيلسوف المشهور المرتفع الصوت يورجين هابرماس (١٩٢٩م) وتلاميذه — هل نسميهم باسم «مدرسة فرانكفورت»، وهو الاسم الذي عُرِفُوا به بعد الحرب العالمية الثانية، أم نسميهم — من ناحية المنهج الذي اتَّبَعوه في النظر والتطبيق واستندوا فيه إلى روح الفلسفة الماركسية مع الابتعاد عن معظم مقولاتها الأساسية — باسم أصحاب «النظرية النقدية»؟٢
الحق أن التسميتين واردتان، وهما متفاعلتان عند من يعرف الجهود المشتركة لهذه المجموعة من المثقفين اليساريين وعلماء الاجتماع ونقاد الحضارة والأدب والفن الذين أعْمَلوا مِبْضَعَ النقد الثوري في أمراض حضارتهم «البرجوازية» التي ضلَّتْ طريقها، وتزايدت في رأيهم سرعة اندفاعها إلى هاوية اللاعقل وكارثة السقوط المحتوم عن طريق عقلها نفسه أو عقلانيتها التقنية. هؤلاء الذين سيطرت عليهم فكرة «الخلاص» والكفاح في سبيل عالم أفضل تَسُودُهُ الاستنارة والرُّشد، ويختفي منه القهر والقمع، ويتمُّ فيه إنقاذ الحياة المباشرة السعيدة، الحياة الأصيلة المُبدِعَة، هؤلاء المفكرون والعلماء أصحاب الرسالة الاجتماعية والإنسانية يمكن أن يكون شعار «مدرسة فرانكفورت» الذي عُرِفوا به علامة مميزة لجهودهم وسماتهم المشتركة، كما يمكن وصفُهم بأصحاب النظرية النقدية أو الاكتفاء بالاسم الذي يدلُّ على منهجِهِم وهو «النظرية النقدية»، وبصورة أدق «النظرية النقدية الاجتماعية» أو «النظرية النقدية الجدلية». كل هذا على الرغم من الاختلافات الدقيقة بينهم في تحديد معناها، ومن تفاوت طُرُقِهم في البحث والنظر، بحيث يمكننا الحديث في الحالتين عن موضوعات وسِمات عامة تؤلِّف بين أعضاء جماعة تنوعت اهتماماتهم وتخصُّصَاتهم أكثرَ من إمكانِ الحديث عن مدرسةٍ علميةٍ موحدة ومتماسكة، ولا سيما أنها لم تزل عند أبرز رواد جيلها الثاني (وهو هابرماس الذي سبق ذكره) فلسفة مفتوحة، ولم تزل تسعى إلى إتمام بنائها النظري والعلمي، وإدماج عناصر جديدة فيه من فلسفات العصر الأخرى المؤثرة (كالفلسفة التحليلية والتحليل النفسي والفينومينولوجيا أو الظاهرية والوجودية والهيرومينويطيقية أو فلسفة التفسير … إلخ)، إلى الحد الذي تُتَّهَم معه من جانب خصومها بأنها لم تعد نقدية ولا ماركسية، وأنها انتهت عند بعض أعلامها في أواخر حياتهم إلى نوع من اليسارية العدمية!
ربما كان من أهم السمات المشتركة التي ذكرناها: أن أعضاء الجيل الأول ينحدرون من أصول يهودية، وقد ألحَّ عليهم ذلك الشعور الذي لازم اليهود في كل المجتمعات القديمة والحديثة التي عاشوا فيها حتى قيل: إنه جزء من طبيعتهم، ألا وهو الشعور بالاغتراب عن مجتمعاتهم «البرجوازية» والشمولية — رأسمالية كانت أو شيوعية — وإحساسهم المعذَّب بافتقاد الحياة الذاتية الأصيلة وسط بشر مثلهم مقهورين ومغتربين، ولعلَّ هذا الشعور المعذب أن يكون كذلك سببًا في اقترابهم من الطبقة العاملة المطحونة والمغتربة عن تلك المجتمعات، واهتمامهم من بداية أمرهم بتكريس قدر كبير من بحوثهم الاجتماعية لقضايا هذه الطبقة ومشكلاتها وألوان الظلم التي تتعرض لها.٣ (مع العلم بأن معظم أعضاء المدرسة قد نَشئوا في عائلات يهودية مُوسرة، وأن معهد البحث الاجتماعي نفسه قد أسسه وأنفق عليه بسخاء ابن مليونير يهودي هو فليكس فايل!)وربما كان من أهم السمات العامة التي تُميِّز كذلك معظم أعضاء المدرسة من أصحاب النظرية النقدية أنهم التفُّوا — لفترة طويلة على الأقل وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية ورجوع معظمهم من المهجر — حول معهدهم ومجلَّتِهم، والتزموا إلى حدٍّ كبير بالبيان (المانيفيستو!) الذي وضح اتجاههم العلمي والنقدي وألقاه راعيهم ومديرهم «ماكس هوركهيمر» في محاضرته الافتتاحية بجامعة فرانكفورت سنة ١٩٣١م بعنوان: الوضع الحاضر للفلسفة الاجتماعية ومهام معهد البحث الاجتماعي، كما التزموا بالأفكار الأساسية التي وردت في مقاله الذي يرجع لعام ١٩٣٧م عن النظرية التقليدية والنظرية النقدية، أضف إلى هذا كله أنهم عدُّوا أنفسهم ورثة هيجل وماركس (الشاب بوجه خاص)، وأدمجوا في مادِّيَّتهم التاريخية والنقدية عناصر مختلفة من التحليل النفسي الفرويدي، وأفكارًا ومشاعر عديدة من رواد فلسفة الحياة وأصحابها الذين نقدوا العقل والميتافيزيقا (مثل شوبنهور ونيتشه ودلتاي وكلاجيس وبرجسون) مما جعل بعض خصومهم يصفونهم بأنهم ماركسيون وجوديُّون أو وجوديُّون متمَرْكِسُون، وبأنهم عاطفيون مصابون بالتَّشاؤم الحضاري والعدمية التاريخية التي حاولوا الفرار من أسوارها الكثيفة المظلمة بأجنحة أحلامهم الغامضة عن الإنقاذ والخلاص — عن طريق الإبداع والفن حينًا أو على يد أنبياء العصر الجُدد حينًا آخر — من المنبوذين والمُضْطَهدين والهامشيِّينَ وصعاليك الفنانين وشباب الجامعات المتمردين.
-
(جـ)
ولا بدَّ في هذا التمهيد من كلمة موجزة عن ماركسية أصحاب النظرية النقدية، فقد ذكرنا أنهم تبنوا الماركسية من حيث المبدأ أو من حيث الجوهر ورُوح المنهج، ولكنهم لم يتقيَّدُوا بصورتها الحرفية ومقولاتها التقليدية التي ترَكَّزت حول نقد الرأسمالية كنسق اقتصادي تعتمد عليه «البنية الفوقية» والمنظومة الفكرية (الأيديولوجية) بمختلف جوانبها. لقد قامت ماركسيتهم المبدئية — كما قدمت — على نقد العلاقات المغتربة والمسببة لاغتراب الإنسان في المجتمعات الرأسمالية والصناعية القائمة على الشمولية والعقلانية التقنية والإدارية التي ادعت التقدمية والاستنارة، وتباهت بالسيطرة على الطبيعة والإنسانية في الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي على السواء، ولم يكن المصدر الأساسي لهذا النقد هو النظرية الماركسية في مجموعها ولا الارتباط بالطبقة العاملة، بقدر ما كان — في معظم الأحوال لا في جميعها — هو التأثر بتجربة ماركس الشاب الذي اكتشفوه مع اكتشاف «مخطوطاته الاقتصادية والفلسفية لعام ١٨٤٤م» في مطالع هذا القرن في باريس، بحيث وجدوا في آرائِه تأكيدًا لاغتراب الإنسان في المجتمعات السابقة الذكر عن ماهيته الحقيقية، واغترابهم كيهود مضطهدين من تلك المجتمعات. لقد أدركوا أن الرأسمالية كارثة تحيق بالإنسان، بحقيقته وآماله في حياة حرة ومبدعة وسعيدة، وعرفوا أن نقدهم لها ينبغي ألا يقتصر على الإصلاح الاقتصادي والسياسي، بل يستوجب الثورة الشاملة عليها: على «صَنَمِيَّتِهَا» السلعية وعقلانيتها واستنارتها المزعومة التي تقف حجرَ عثرة أمام كل حياة إنسانية أصيلة (وهذا هو الذي فعله «أدورنو» في مقاله المبكر سنة ١٩٣٢م عن الوضع الاجتماعي للموسيقى، وفي الكتاب الذي اشترك فيه مع «هوركهيمر» عن «جدل التنوير» ١٩٤٥م).
غير أن هذه النظرة النقدية المشبَّعة بروح الخلاص والوعي المسئول ﺑ «رسالة» أصحابها، لم تخلُ في الوقت نفسه من الازدواج والتَّمَزُّق والتشكُّك في دور النظر العقلي والبحث العلمي والتِّقَني في ظلِّ حضارة تندفع — في رأيهم — إلى هاوية لا عقلانية، وتتسلط على وعْي الإنسان وتُزَيِّفُه، في الوقت الذي تُسيطر فيه على المادة والطبيعة وتتحَكَّم فيهما بوسائل القمع والقهر الرهيبة. ولم تتجرَّد تلك النظرة كذلك من الإحساس الفاجع القاتم الذي فرضَتْه عليهم روح العصر المتدهور أو الآفِلِ للغروب (على حد تعبير شبنجلر وتحت تأثير شوبنهور وفلاسفة الحياة)، ولا من الإيمان الشجاع بضرورة «الإنقاذ» عن طريق المعرفة العلمية والموضوعية بالعلاقات والأشكال الاجتماعية، ومن خلال الأمل «الرُّواقِي» الصامد رغم كلِّ شيء، الواعد بحياة إنسانية «أصيلة» وبريئة من القمع والزيف والبؤس والاغتراب.
-
(د)
وإذا كانت الإبداعات والإنجازات الكبرى قد تولدت — في تقديري المتواضع — عن الأزمات التاريخية والاجتماعية والفكرية التي أحسَّها الأفراد العظام ووعوا شروطها وإرهاصاتها تمام الإحساس والوعي، فإن النظرية النقدية لهذه المدرسة ليست استثناءً من ذلك، فهي أيضًا وليدة أزمات العصر وعصر الأزمات، ونتاج الصراعات والمتناقضات على اختلاف درجاتها ومستوياتها وأسبابها ونتائجها؛ بل إن اسم مدرسة فرانكفورت ليُثيرُ مشكلات ويُوحِي بتداعيات تقفزُ على الفور إلى الذهن، وتؤكد أنها من إفراز النظم الشمولية الحديثة في المجتمعات الصناعية المتقدمة، على الرغم مما قد يبدُو بينها من تنافر وتنوُّع في أبعادها، ويكفي أن نذكر منها: النازية وهجرة المثقفين الألمان فرارًا من إرهابها، أهوال الحرب العالمية الثانية، مشكلة اليهود في أوروبا، جمهورية فيمار الهشَّة التي اكتسحها الطُّغيان النازي، عصر «مكارثي» الذي عاش أعضاء المدرسة تحت نَيْرِ مباحِثِه أثناء وجودهم في نيويورك ولوس أنجلوس، حركة الطلاب المُتمرِّدِين أو الرافضين في أواخر السبعينيات، أزمة الماركسية سواء تمثلت في عجز الأحزاب اليسارية الأوروبية تجاه التصاعد النازي أو تجلَّتْ بعد الحرب في محاولات تجديدها من الداخل وتفجير تزَمُّتِها المذهبي وشمولِيَّتِها البوليسية والبيروقراطية، أزمات الفكر الفلسفي «البرجوازي» التي تبدَّت واضحة في تهاوي المثاليَّة، وجمود الفلسفة الأكاديمية، وانسحاب فلسفة الظاهرات (الفينومينولوجيا) وفلسفة الوجود إلى الباطن، عجزًا منهما عن إدراك الواقع الحيِّ وتفسيره وتغييره، أو خوفًا من المدِّ الثوري الاشتراكي.
أضف إلى هذا كله أزمة الحركة التعبيرية في الأدب والفنون التشكيلية قبل الحرب وبعدها، واتِّهام أنبغ المبدعين الألمان بالتحلُّلِ والزيغ، واضْطِرَارِهم للهرَبِ من وطنهم، بجانب عدد من النزاعات الجدلية والخصومات الفلسفية والعلمية التي شارك فيها بعض أعضاء المدرسة — وبخاصة أدورنو وتلميذه هابرماس — مثل النزاع حول النزعة الوضعية عند علماء الاجتماع التقليديين في الجامعات الألمانية، وحول النقد الثقافي والحضاري، وحول فلسفة «هيدجر» في الوجود (الأنطولوجيا) وهي الفلسفة التي كان لها «نصيب الأسد» من الهجوم الحادِّ الذي صبَّه عليها الاسمان الأخيران على فترات متباعدة بين الستينيات والثمانينيات، وكلها أزمات وصراعات تستحق مزيدًا من التفصيل الذي يَضيق عنه هذا المجال المحدود.
-
(هـ)
يترتب على ما سبق حقيقة بالغة الوضوح وإن كنَّا لا نَنْتَبِه إليها عادةً، وهي أن النظرية النقدية نفسها «تاريخية» وليست ثابتة ولا مطلقة، ومعنى هذا أنها تخضع للنقد شأنُها شأن كلِّ الظواهر التي يغمرُها نهرُ الصَّيْرُورَةِ وتحرِّكُها أمواج التاريخ، ومعناه كذلك أن «نقد النَّقدِ» أمر وارد وواجب، وإلَّا فنحن لم نتعلَّم من النقدِ شيئًا، وطبيعيٌّ كذلك أن يكون نقدُنَا لها نقدًا تاريخيًّا، أي مشروطًا بأوضاعنَا وظروفنا الذاتية والموضوعية، ومرتَبِطًا بسياقِنَا الاجتماعيِّ والسياسي والثقافي ومَدَى قدرتنا على استِيعابه؛ ولذلك فهو بدوره لن يكون معصومًا من النقد ولا من نقد النقد، وسوف نؤجِّلُه إلى ما بعد العرض الإجمالي للنظرية النقدية وتطوُّرِها وجذورها التاريخية وأهم سماتها ومعالمها وأبرز أعضائها، وذلك كما قلت في الإطار المحدود الذي يتسع له هذا البحث.
(١) النظرية النقدية الجدلية
(١-١) جذورها التاريخية وأهم ممثليها
ترتبط النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت أوثق ارتباط ﺑ «معهد فرانكفورت للبحث الاجتماعي» الذي أسَّسَتْه في سنة ١٩٢٣م نخبة من الفلاسفة وعلماء الاجتماع والاقتصاد والنفس والنقد الأدبي والجمالي المنحدرين من أصول يهودية، وقد حدَّدوا وضعه وهدفه منذ البداية بحيث يكون معهدًا حرًّا غير مقيَّد بالنظم الجامعية والأكاديمية، يتفرغ لبحث مشكلات الاشتراكية والماركسية والعُنصرية وحركة العمال، مع الاعتماد بصورة عامة على المنهج الماركسي في التحليل النقدي الاجتماعي، وقد كان من بين أعضائه في العشرينيات والثلاثينيات عدد من الأعلام الذين ذَاعت شُهرتَهُم بعد ذلك في الحياة الفكرية والأدبية، مثل عالم النفس الاجتماعي والكاتب الفيلسوف «إريك فروم» (١٩٠٠–١٩٨٠م)، والناقد الأدبي الماركسي فالتر بنيامين (١٨٩٢–١٩٤٠م)، وعالم الاجتماع الأدبي ليو لوفنتال، وبوجه أخَصَّ الفيلسوفان: تيودور فيزنجروند أدورنو (١٩٠٣–١٩٦٩م) وهربرت ماركوز (١٨٩٨–١٩٧٩م)، وفيلسوف الاجتماع ماكس هوركيهمر (١٨٩٥–١٩٧٣م) الذي تولى إدارة المعهد من سنة ١٩٣٠م إلى سنة ١٩٣٤م عندما أغلقته السلطات النازية، فاستمرَّ في الإشراف عليه بعد ضمِّه إلى جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية (من ١٩٣٤–١٩٥٠م)، بجانب إشرافه على إصدار «مجلة البحث الاجتماعي» ورئاسة تحريرها من سنة ١٩٣٢م إلى سنة ١٩٤١م. وتُجْمع الآراء اليوم على أن أصحاب الأسماء الثلاثة الأخيرة هم مؤسسو «النظرية النقدية الجدليَّة» وأهمُّ ممثليها من الجيل الأول، بالإضافة إلى أهم ممثليها من الجيل الثاني وأشهرهم وهو المفكر والفيلسوف الاجتماعي يورجين هابرماس (وُلِدَ سنة ١٩٢٩م).
بلغت هذه المدرسة ذروة تأثيرها على الحياة الفلسفية والعقلية وعلى تفكير الرأي العام المثقف في أوروبا وألمانيا الغربية في النصف الثاني من عقد السبعينيات عندما تبنَّت حركة الطلاب المعروفة بعض أفكار النظرية النقدية وأدمجتها في «أيديولوجيَّتها» اليسارية الجديدة الرافضة لكل أشكال السلطة والتسلط، وقد تأثر رواد هذه الحركة الثورية بأفكار «ماركوز» على وجه الخصوص، كما راجَتْ آراؤه النقدية للمجتمع الرأسمالي الصناعي في أعقاب مظاهرات الاحتجاج على التمييز العنصري واضطهاد الأقليات وحرب فيتنام التي هزت الرأي العام في الولايات المتحدة الأمريكية؛ مما ساعد على انتشار «النظرية النقدية» على الأقل في أوساط المثقفين والطلاب المتمردين.
- (١)
تراث الفلسفة المثالية الألمانية، وفي مُقدِّمَتِهِ تراث جورج فيلهيلم فريد ريش هيجل (١٧٧٠–١٨٣١م).
- (٢)
كتابات الشباب المبكر لكارل ماركس (١٨١٨–١٨٨٣م)، وبخاصة المخطوطات الاقتصادية الفلسفية لعام ١٨٤٤م، التي تحتل فيها فكرة اغتراب الإنسان في ظلِّ مجتمع علاقات الإنتاج الرأسمالي مكانة كبيرة.
- (٣)
الفلسفات الاجتماعية الألمانية وبخاصة عند ماكس فيبر (١٨٦٤–١٩٢٠م) مما أثر على بحوثهم في علم اجتماع المعرفة والأدب والفن.
- (٤)
فلسفة التحليل النفسي وفلسفة الحضارة عند سيجموند فرويد (١٨٥٦–١٩٣٩م)، (خصوصًا بعد تطويرها بمنظور اجتماعي عند فيلهيلم رايش وإريك فروم وماركوز).
- (٥)
الأفكار والتصوُّرات الماركسية والهيجيلية الجديدة التي عبر عنها في العشرينيات من هذا القرن كلٌّ من كارل كورش (١٨٨٦–١٩٦١م) وجورج لوكانش (١٨٨٥–١٩٧١م)، لا سيما في كتابه التاريخ والوعي الطبقي (١٩٢٣م) الذي عرض فيه لفكرة «تشيُّؤ» الإنسان واغترابه، التي كان لها تأثير قوي على رواد النظرية النقدية، بجانب التأثر بصورة غير مباشرة بفلسفة الأمل عند أكبر فيلسوف «يوتوبي» في العصر الحاضر وهو إرنست بلوخ (١٨٨٥–١٩٧٧م) الذي جعل من مبدأ الأمل مقولة أنطولوجية أساسية نظر من خلالها نظرة موسوعية إلى تطور المادة وإلى كل إبداعات العقل الأوروبي والتراث الحضاري البشري، ورصد حركته نحو «يوتوبيا» إنسانية لم تتحقق بعدُ، ولن تتحقق إلا في ظلِّ المجتمع الشيوعي الذي سيكون — في تقديره — «وطن» الإنسانية والحرية والعدل والإخاء.
- (٦) التأثر ببعض أفكار فلسفة الظاهرات (الفينومينولوجيا) وفلسفة الحياة وفلسفة الوجود التي انطلق منها بعض أعلام مدرسة فرانكفورت، مما جعل فلسفتهم تُتَّهم في كثير من الأحيان — كما سبق القول — بأنها ماركسية وجودية (ونخص منهم بالذكر هربرت ماركوز الذي درس في شبابه على يدي هُسرل مؤسس الظاهرات (١٨٥٩–١٩٣٨م)، ثم هيدجر (١٨٨٩–١٩٧٦م) الذي أعدَّ رسالته في الدكتوراه تحت إشرافه، وكذلك هوركهيمر وأدورنو اللذين لا يَخفَى تأثير فلسفة شوبنهاور (١٧٨٨–١٨٦٠م) ونيتشه (١٨٤٤–١٩٠٠م) وفيلسوف الحياة والتاريخ والحضارة وعالم الاجتماع جورج زيميل (١٨٥٨–١٩١٨م) على تفكيرهما الجادِّ وحسِّهما المأساوي وتصوُّرِهما المتشائم لتاريخ العقل البشري بوصفه تاريخ عذاب الإنسان وتعذيبه من قِبَلِ قوى فظَّة غاشِمَة وشبه مجهولة، بحيث بلغ ذروة سلبيَّتِه وتجرُّدِه من أقنِعَتِهِ الحضارية وتصدُّعِهِ واغترابه في ظلِّ المجتمعات الصناعية «المتقدمة» ومع تصاعُد الإرهاب النَّازي ثم الرأسمالي والشيوعي).٤
(١-٢) خصائصها وسماتها العامة
مقولة التشيؤ والاغتراب
تكاد مقولة «التشيؤ والاغتراب» أن تكون إطارًا مرجعيًّا لمعظم الأفكار التي يطرحها فلاسفة النظرة النقدية، ونواة مركزية يدور حولها الجانب الأكبر في مناقشاتهم وتحليلاتهم للمجتمع الرأسمالي والصناعي «العقلاني» الحديث، وتعبِّر هذه المقولة في أبسط أشكالها عن أن المجتمع والبشر ليسوا في واقع حياتهم ما يمكن أن يكونوه بحسب ماهيَّتِهم وإمكاناتهم؛ ذلك أنهم في الحقيقة مغتربون عن هذه الإمكانات وتلك الماهية، فالمجتمع الصناعي المتقدِّم الذي ينصبُّ عليه حديثهم عن هذه المقولة يكشف عن اغتراب الإنسان وتشيُّئه في ظواهر عديدة ومتنوعة. من هذه الظواهر أن الإنسان قد تحول في ظل علاقات العمل الصناعية والرأسمالية إلى مجرَّد عنصر أو جزء ضئيل من جهاز الإنتاج الهائل الذي تحدِّده «الأتْمَتَة» و«المَيْكَنَة»، وصار عجلة صغيرة مجهولة قابلة لأن يُستَبْدَل بها غيرُها داخل «العالم التِّقَنِي» الضخم الذي يصعب الإحاطة بشبكته المعقَّدَة أو بالقوى التي تحرِّكُ خيوطَه.
فالإنسان واقع تحت ضغط الآلات التي تفرض عليه ألوانًا من السلوك النَّمَطِيِّ الرَّتِيب، وتسدُّ عليه منافذ المبادرة الشخصية الحرَّة، وتعوق تحديده لذاته، وتخنق فاعليته الخلَّاقَة.
ويحدد أصحاب النظرية النقدية أسباب التشيُّؤ والاغتراب التي ترجع للنظام الاقتصادي الرأسمالي، فعلاقات الإنتاج والسوق الرأسمالية هي المسئولة عن «عبادة السلع» أو «صنمِيَّتِها» (الفيتيشية) التي أضْفَتْ على علاقات الناس بالأشياء وببعضهم بعضًا طابعَ السلعة، وحصرتها في نطاق المنافع والوسائل المجرَّدة من كلِّ لمسةٍ شخصية أو إنسانية، أضف إلى ذلك تقسيم العمل المُوغِل في التخصُّصِ خلال عملية الإنتاج وميْكَنَة العمل نفسه وبيروقراطية الإدارة وصناعة الدعاية والإعلام ووسائطهما الجماهيرية … إلخ. ويأتي في مقدمة العوامل والأسباب التي أدت إلى اغتراب الإنسان المعاصر في ظل المجتمعات الصناعية المتقدمة، أسلوب أو نمط معين من التفكير يسمِّيهِ أصحاب النظرية النقدية باسم «العقل الأداتي» حينًا و«العقلانية التقنية» حينًا آخر، ممَّا سيَرِدُ ذكره بعد قليل. والواقع أن النظرية النقديَّة تختلف في هذه النقطة اختلافًا أساسيًّا عن وجهة النظر الماركسية اللينينية التي تُرْجِع الاغتراب لأسباب اقتصادية محْضَة، كما تجعل القضاء عليه مرهونًا بالقضاء على المِلْكية الخاصة لوسائل الإنتاج.
العقل الأداتي أو العقلانية التِّقَنِيَّة
يَقصد فلاسفة النظرية النقدية ﺑ «العقل الأداتي» أو «العقلانية التقنية» نوعًا من التفكير السائد في المجتمع الصناعي الحديث يطلقون عليه كذلك اسم العقل الذاتي والتِّقَنِي والشكلي، ويصفونه — على لسان ماركوز في كتابه الشهير — بالتفكير «ذي البُعْد الواحد». ويتَّضح هذا التفكير بأجلى صورة في أسلوب التفكير العلمي والتِّقَنِي، كما تعبر عنه الفلسفة الوضعية بأشكالها المعاصرة والفلسفة البراجماتية (العملية).
ولا ينفصل هذا الاتجاه «الأداتي» للعقل التِّقَنِي والعلمي الحديث عن اتجاهات أخرى تتمثَّل في فرض المقولات الكميَّة على الواقع، ومحاولة إخضاع جميع الظواهر والوقائع للقوانين الشكليَّة والقواعد القياسية. ويتَّضح «طغيان النزعة الكمية أو التَّكمِيم» (على حدِّ تعبير أدورنو في كتابه عن الجدل السلبِي، فرانكفورت، ١٩٦٦م، ص٥١) في العصر الحاضر في المنطق الرياضي، والاتجاه المتزايد إلى «تَريِيِض» العلوم المختلفة حتَّى الإنسانية منها (أي صَبغها بالصِّبغة الرياضية)، بل في تطبيق المعايير الكَميَّة على تقييم فرص العمل، وتنظيم السلوك في أوقات الفراغ، وقد ترتَّبَ على هذه العَقْلَنَة الشكليَّة والرياضية لمختلف ميادين الحياة الإنسانية أن تضَاءَلَت جوانبُ كَيفيَّةٌ هامَّةٍ لا غِنَى عنها لحياة الإنسان، وتمت التَّسويَةُ بين الفروق الفردية الأساسية، والتَّضييق على إمكانات الحرية والتعبير الحرِّ التي لا تَستقيم الحياة بغيرِها. ويؤكد فلاسفة النظرية النقدية في هذا الصَّدَد أن الإنسان الذي تحكَّمت فيه العقلانية التِّقَنِيَّة لا ينفكُّ يفرض تقنياته المتجددة على الطبيعة والمجتمع؛ تحقيقًا لإرادته في عقْلَنَتِهما وصبِّ ظواهِرِهما في مقولاته، ومن ثم فرض سيطرته عليهما، غير أنه لا ينتبه من ناحية أخرى إلى أن هذه التقنيات ذاتها هي نتاج تفكيره، وإن كان يعُدُّها في النهاية حقائق موضوعية ثابتة ومستقلة عنه، ويتعامل معها كأنه واقع تحت رحمتها وخاضع لسلطانها، ويسُوقُه هذا إلى الوقوف العاجز إزاء كلِّ ما هو قائم ومستقرٌّ، أو إلى موقف التصالح معه (والمراد بالقائم والمستقرِّ هي أساليب التفكير السائدة والمؤسسات والنظم والقيم والعلاقات الاجتماعية والسياسية … إلخ). ويلحُّ فلاسفة النظرية النقدية على هذه الفكرة التي ترتبط بسمات وخصائص أخرى مُمَيِّزَة للعقل التِّقَنِي أو الأَدَاتِي، كالاتجاه لتثبيت دعائم السلطة، وتأمين علاقات القوة والسِّيادة في مجتمع معين، والمَيْل إلى اضْطِهاد النَّزعات التِّلقائية الخلَّاقَة والأفكار المبدعة الجَسُور التي تطمح إلى تجاوز المألوف والمعتاد، والعجز عن إدراك العمليات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في سِيَاقها التاريخي الشامل الذي يتخطَّى الجوانب الجزئية والأحداث المعزولة، والنزوع إلى توحيد أساليب التفكير والحاجات وأنماط السلوك تحت تأثير وسائل الدعاية والإعلام والتسويق التي ترتبط بنظام الإنتاج والاستهلاك في المجتمع الصناعي والرأسمالي، وتؤكِّد مصلحته في «تَنْمِيط» أشكال التفكير والسلوك، وحَمْل الناس على التكيُّف مع ظروف القهر والقمع التي تفرضها العَقْلَنَةُ والميْكَنَةُ التي سبق شرحها، ثم الاتجاه أخيرًا إلى استبعاد القرارات الأخلاقية والسياسية من دائرة المعقول، والحطِّ من شأنها؛ لأنها تنتمي إلى مجال اللامعقول والقرارات «الذاتية» البعيدة عن «الموضوعية».
القمع والتسلط في المُجتَمَعات الصناعية المتقدمة
الطابع الثوري للنظرية
أنماط المَعرِفَة والمصالح المُوجِّهَة لها
(٢) تعقيب نقدي
-
(أ)
لعلَّ من أهمِّ ما يُذْكَر لأصحاب النظرية النقدية أنهم أكَّدوا الدور النقدي والثوري للفلسفة، وحدَّدُوه — من خلال تحليلاتهم النافذة للمجتمع الصناعي والرأسمالي «المتقدم»، وللقُوى والمصالح المحرِّكة لعقلانيته العلمية والتِّقَنية المسئولة في رأيهم عن ظواهر الاغتراب والشقاء والقمع والقهر الجاثمة على أنفاسه — بتجاوز الأوضاع والقِيَم والمعارف والمناهج وأساليب التفكير السائدة فيه، وضرورة الالتزام بنقدِهَا ومقاومتها تمهيدًا لتغييرها من جذورها، وبذلك نجحوا إلى حدٍّ كبير في التوحيد بين الفلسفة والثورة، وفي مطالبة الفيلسوف بأن يكون ثائرًا، والثائرِ بأن يكون فيلسوفًا، بشرط أن يلتَزِمَ كلاهُما — بطبيعة الحال — بالدِّقة والموضوعية العلمية الكافية، والدليل على هذا أنهم نادَوا منذ البداية بالتفاعل والتكامل بين النظرية أو الفلسفة الاجتماعية — التي حاولوا وما زالت أجيالهم التَّالية تحاول بَلْوَرَتَها — وبين العلوم الإنسانية والاجتماعية التجريبية؛ ولذلك كان معظمهم فلاسفة وعلماء اجتماع في وقت واحد، وأثمرت جهودهم بحوثًا ودراسات عديدة تولَّى معهد البحث الاجتماعي نشرها — كما سبق القول١٢ — في مجلته أو في صورة كتب مستقلة قام بإصدارها. ولقد تنبهوا إلى تفاعل الأنظمة العلمية منذ أن أعلنوا عن برنامج هذا المعهد، وهو تجاوز أزمة الماركسية عن طريق تحقيق التفاعل بين الفلسفة الاجتماعية والعلوم الاجتماعية التجريبية، بل إن بعضهم — مثل هوركهيمر وماركوز وأدورنو بوجه خاص في أعماله العديدة عن جماليات الموسيقى — قد طبَّقوا وجهة نظرهم النقدية — الجدلية — الاجتماعية على الفن والأدب والإبداع، وحاولوا أن يستخرِجوا الدلالات الاجتماعية للأعمال الأدبية والفنية وتعبيرها عن السياق التاريخي والحضاري والاجتماعي الذي نشأت فيه، ومدى تقدُّمِيَّتِها وحداثتها أو رجْعِيَّتِها وتخلُّفِها. ولا شك أن الدور النقدي والثوري للفلسفة يمثِّل بُعدًا هامًّا لم يلتَفِت إليه التَّفَلْسُف ولا المشتَغِلُون بالفلسفة في عالمنا العربي وفي العالم الثالث بصورة كافية حتَّى الآن، وسوف يظل غائبًا عنَّا ونظلُّ غائبين عنه ما بَقِيت عجلة التعليم الأكاديمي للفلسفة تدور دوْرَاتِها العقِيمَة وتجرُّ المُعلِّمين والمُتعلِّمين إلى مهاوي النقل والتَّردِيد والاجْتِرَار والتقليد، والاكتفاء بالعرض والتقديم والتعريف وتجميع المادة، دون الفحص والنقد والتَّمحيص، أو بالانْزِلاق إلى البلاغيَّة والإنشائيَّة والثوريَّة الزائفة في خطب أيديولوجية رنَّانة تفتقِر إلى كلِّ أساسٍ علمي وموضوعي، بل تفتقد الدقَّة والتحديد الضرورِيَّيْن لأيِّ لغة فلسفية. إن تنمية النزعة النقدية أمر بالغ الأهمية لتكوين الوعي الحرِّ والدفاع عنه وإيقاظ الحصان الأثيني — على حدِّ تعبير سقراط الذي يصْدُق على أي حصان آخر — كلَّما استسلم أو أخلد إلى النعاس، وهو أشدُّ ما يكون أهميَّة لكلِّ مشتغلٍ بالفلسفة يدرك دورها في نقد الواقع والفكر السائد. وإذا كان من الممكن أن نتعلم من أصحاب النظرية النقدية كيف نقِفُ من كلِّ ما نجرِّب ونقول ونفعل ونكتب ونقرأ موقفًا نقديًّا يقوم على الوعي بالواقع والناس الأحياء «هنا والآن»، ويلتحم بهمومهم وآمالهم، ويكشف عن التناقضات في هذا الواقع ويعمل على تجاوزها، فإن نقدَ النقدِّ يكون خطوة هامَّة على الطريق المؤَدِّي لأن يُصبحَ النقدُ فلسفيًّا وتصبح الفلسفة نقديَّةً بحقٍّ.
-
(ب)
ربما يُؤخَذُ على النظرية النقدية أنها لم تستطع أن تُقِيمَ أبنِيَةً منهجيةً أو نسَقِيَّةً مُحكمة مُتماسِكة؛ ولذلك بَقِيت فلسفة حرَّة مفتوحة، تعتمد على حُدُوسِهِم الثَّاقِبَةِ أكثرَ ممَّا تعتمد على التطوير التصوُّري الصارم للأفكار، وتعبِّر عن نفسها في صورة مقالات وشَذَرات مُتفرِّقة لا في بناء مترابط دقيق، وربما يرجع السبب في هذا إلى تنوُّع اهتماماتهم ومواهبهم، وتمزُّقِ شخصياتهم بين العالم الاجتماعي والجدلي الصارم وبين الفنان العاطفي أو الرومانتيكي الحالم، وحرصهم على البُعد عن صورة الفيلسوف والعالِم بالمعنى الحرفي — على الرغم من أن بعضهم قد شغل منصب الأستاذية في الجامعة — رغبةً منهم في الاحتفاظ بصورة الفيلسوف والعالِم الحرِّ، واستجابةً لطبيعتهم القَلِقَة ومِزَاجهم الثوري الذي جعلهم ينخرطون في تناقضات عصرهم وأزماته وأمراضه ويحاولون تشْخِيصها ووصف العلاج الحاسم للخلاص منها.
لم يشأ «أدورنو» — على سبيل المثال — أن يكون فيلسوفًا ولا عالِم اجتماع بالمعنى الحرفي أو المِهَنِي للكلمة، وباستثناء دراساته عن كيركجارد وهيجل، وكتابيه الشهيرين: جدل التنوير (بالاشتراك مع صديقه هوركهيمر) وجدل السَّلْب أو الجدل السَّالب، لا نكاد نجدُ له كتابًا متخصِّصًا سوى كتاب واحد مُبكر (إذ يرجع للثلاثينيات وطُبِعَ طبعةً جيِّدة في الستينيات)، وهو كتابه عن ظاهريات هسرل «النقد البَعْدِي لنظرية المعرفة، دراسات عن هسرل والنقائض الظاهراتية». لقد كان همُّهُ الأول في كتاباته الفلسفية والاجتماعية والأدبية والجمالية هو تصعيد عقلانية الذَّات العارفة إلى الحدِّ الذي تحسُّ معه بالأبنية المُتناقِضَة في الوعي والأشياء، ولم تكن الفلسفة عنده مُجرَّد معرفة تصوُّرية، بل نقدًا شاملًا للواقع الإنساني الحيِّ وللتناقضات الاجتماعية التي عذَّبته وعذَّبَت الناس من حوله، أي فلسفة واقعية حرَّة، خالية من قَلَقِ الوقوع في هاوية بلا قرار ولا أرضَ صُلبة تقف عليها. هذه الأرض الصُّلبة التي لن تكون إلا تجربة الواقع الحيِّ الذي تشتبِكُ فيه الذات العارفة مع الموضوع على نحو جدليٍّ ونقدي يُخَلِّصُ هذا الواقع ويُخلِّصُها من كلِّ أشكال الاغتراب والقهر والقلق، ويجرِّدُه من كل النزعات الأسطورية والوهمية عن فلسفة أُولَى تعتمد على تصوُّرٍ أوَّلِيٍّ مُطلق (سواء أكان روحًا مطلقًا كما عند هيجل، أو وعيًا محضًا متعاليًا يقصد إلى الموضوعات كما عند هسرل، أو كينونةً عامَّةً ووجودًا على الإطلاق يضمُّ كلَّ الموجودات كما عند هيدجر)؛ لأنَّ مثل هذه الفلسفة لا بدَّ أن تنتهيَ إلى مثالية جَرْدَاء جوفاءَ، مُغترِبَة عن الواقع الحيِّ وعن الفلسفة الواقعية الحيَّةِ على السَّواء.
ظل أدورنو يَعِدُ بهذه الفلسفة التي تتمثَّلُ في نظرية نقدية عن المجتمع، وتحتفظ بدِقَّةِ النظرية واستقلالها وغِنَاها بالمَضمُون من ناحية، وبقدرَتِها على تفسير الواقع وتغييره من ناحية أخرى، غير أن هذه النظرية لم تَكتمل أبدًا، ولم يزد ما أنجَزَه منها على عددٍ من المُحاولات والمقالات المتنوعة التي بقيت على صورة نماذج وشذَرَات ناقصة كما سبق القول. وتوضح هذه العبارة الواردة في كتابه «جدل السَّلب» صعوبة المشكلة، كما تُذَكِّر القارئ بعبارة ماركس وإنجلز الشهيرة في كتابهما عن «الأيديولوجيا الألمانية» من أنَّ الفلاسفة قد اكتفَوْا حتى اليوم بتفسير العالم، وقد آنَ أوَانُ تغييره:فالفلسفة التي بدَا في وقتٍ من الأوقات كأنَّ زمانها قد انقضى، تستمرُّ في الحياة لأن لحظةَ تحقيقِهَا قد أُغْفِلَت فيما مَضَى، والحكمُ المُبْتَسَر بأنها اقتصرت على تفسير العالم حُكِمَ عليه هو ذاتِه بالشَّللِ بسبب الإحساس بمرارة الخِذْلان أمامَ الواقع، وتحوَّلَ إلى هزيمة للعقلِ بعد أن فشلت محاولات تغيير العالم. ربما (يرجع السبب في ذلك) إلى قصور التفسير الذي وَعَد بالتغيير العملي.
هذه العبارة العَسِيرة تُشبِهُ أن تكون نوعًا من الاعتراف الذاتيِّ الأمين أو من الرِّثَاء الحزين؛ فلم يَستطع «أدورنو» أن يقدِّم النظرية المستقلَّة التي فكر فيها، إمَّا لأن وقتها لم يكن قد حان، وإما لأنها اختَنَقَت في تناقُضَات العصر وأزَمَاتِهِ وتحيُّزَاته وأساطيره اللاعقلية البَشِعَة التي حَجَرَت على الحرِّيات ولم تمكِّن الفلاسفة ولا الفلسفة من إدراك «الكل» الذي تَطْمَحُ دائمًا إلى الإمساك به في الفكرة. لقد كان الواقع الأوروبي قد بلغ في رأْيِهِ حدًّا من الزَّيفِ واللامعقولية يَصْعُب معه إدراكُه بالعقل؛ ولذلك صرف جهوده — في الكتب السابقة الذِّكْرِ عن الجدل — إلى تحليل لا عقلانيته المقنَّعة بأقنعة العقل والعلم، والْتَمَس النجاة في مناطقَ تقَع وراء حدودِه (في النظرية الموسيقية وفي أدب الحداثة وشعره ومَسْرَحِه — خصوصًا عند پاول سيلان وبيكيت — وجماليات العمل الفني)؛١٣ ليتَحقَّقَ له الوعد بالسعادة والحقيقة الذَّاتية الأصيلة غير المزيفة (التي كانت من أهمِّ ما جمعه بفلسفة «هيدجر» على الرَّغم من هجومه البَشِع عليه وعلى كلِّ الأنطولوجيَّات (أي نظريات الوجود) الجديدة في كتابيه: لغو الأصالة وجدل السلب)،١٤ ومن ثم بَقِيت يوتوبياه — إذا جاز الحديث أصلًا عن يوتوبيا بالمعنى الدقيق لديه! — هي الحلم بواقع إنساني «مُتَصالح»، يَحْيَا فيه أفرادٌ غيرُ مغتربين عن الناس الأحياء وعن عالم الأشياء، ويشاركون بلا خوفٍ في كلٍّ اجتماعيٍّ لا يقْهَرُهم، وينطلقون من تجاربهم الخاصة إلى الحقائق الفلسفية العامة.غير أن «اليوتوبيا» بهذا المعنى المُتواضع لم تتَحقَّقْ في حياته ولا في حياة سائر أعضاء مدرسة فرانكفورت. ومع تَصَاعُدِ اليأس من إمكان الثورة الحقيقية على الأوضاع الظالمة في المجتمع الصناعي المتقدِّم، وتزايُدِ الشكِّ في الأحزابِ اليسارية المُتَصدِّعَة وفي حركة تمرُّد الطلاب الذين رفعوا في البداية بعض شِعاراتهم وتغذَّوْا على فكرِهم، مع كل هذا بقي لديهم الإصرار على تأكيد دور المعرفة العلمية والتَّنْظِير الدَّقيق في إحداث الثورة المُؤَجَّلة والتعجيل بالمجتمع الإنساني الجديد، وواصَلُوا جهودهم المُخلِصَة لإقامة النظرية النقدية وتعرية كلِّ أشكال التبرير للأوضاع السائدة، ونشرِ الوعي بضرورة التغيير الجِذْري. لم يتَخَلَّوا عن الأمل في الخلاص — على الرَّغم من نظرتِهم الفاجعة إلى التاريخ البشري وكأنه تاريخ الرعب والتَّسلُّط والتعذيب — ولا عن إيمانهم بالتَّضامُن الإنساني وقوة الحبِّ، وتعاطفهم مع العمال والفقراء والمُضطَهَدين والمُسْتَغَلِّين، والتزامهم بالنظرية الماركسية في روحها الإنسانية العامة كما تجلَّت في «المخطوطات لسنة ١٨٤٤م»، وفي الإطار التاريخي الواسع الذي يمتدُّ من كانط والتنوير الفرنسي إلى هيجل وماركس، بل لقد أدخلوا عليها نوعًا من الوجودية المادية (إذا جاز هذا التعبير عن الشقاء المادي والجسدي للفرد المُعَذَّب والجماهير المطحونة بما يؤكد تناهي الإنسان وفناءَه وتعاستَه جنبًا إلى جنب مع تأكيد النظرة التاريخية والاجتماعية النقدية إليه).
والمهم أن عزوفهم عن الاشتراك في العمل السياسي، وخيبة أملهم في كل الممارسات الثورية على عهدهم، قد زاد من تشبُّثِهم بالنظرية التي جعلوها — على حد تعبير ماركوز — أعلى صور الممارسة، وإذا كانوا قد عجزوا عن بَلْوَرَةِ هذه النظرية في نَسَق واضح مُتماسك كما سبق القول، فإن ذلك لا يطعن في جهود الجيل الأول منهم على أقلِّ تقدير؛ لأنَّ الجيل الثاني لا يزال يواصل العمل على بنائها (كما نرى على سبيل المثال في نظرية هابرماس عن فعل التواصل (١٩٨١م) ومحاولته إقامة نسَقٍ من المبادئ والمعايير التي تحدِّدُ أُسَسَ الحوارِ والتَّفاهم الإنساني الحرِّ)، وإن كانت فكرة «النسق» نفسها قد أصبحت مُتَعَذِّرَة التحقيق وغير مُسْتَسَاغَةٍ في عصرنا الحاضر.
-
(جـ)
تستحق الأفكار التي تتردَّد بصورة مختلفة عند معظم أصحاب النظرية النقدية عن التنوير والعقلانية وما يرتبط بهما من تقدم وتصنيع ومنهجية وإدارة وهيمنة على الطبيعة الداخلية والخارجية وتجرُّدٍ من النزعة الأسطورية والطبيعية (خصوصًا عند هوركهيمر وأدورنو في كتابِهما المُشتَرَك عن جَدَل التنوير، وعند ماركوز في كُتُبِهِ المُختلفة كالإنسان ذي البُعد الواحد والحبِّ والحضارة ومحاولة عن التحرر)؛ تستَحِقُّ أن نقِفَ عندها وقفةً نقدية قصيرةً؛ حتى لا يتصوَّرَ القارئ أنهم كانوا أعداء العقلانية والتنوير في ذاتِهِما.
لقد كان هدف هوركهيمر وأدورنو هو بيان الازدواجية الكامنة في مفهوم التنوير الغربي وتمزُّقِهِ منذ بداياته الأولى، وارتِدَادِه بصُورةٍ مستمِرَّةٍ إلى الأسطورة واللاعقلانية التي حاول باستمرار أن يَنتَزِعَ نفسه منها وتمَثَّلت لهما في البربرية النازية التي كانت هي اللعنة والكارثة؛ ولذلك حاوَلَا معرفة الأسباب «العقلية» التي جعلت البشرية الغربية تسقط في أمثال هذه البربرية «اللاعقلية» طوال تاريخها المُبْتَلَى بالرُّعبِ والقَهرِ والقتلِ والتَّعذيب بدلًا من أن تبدَأَ وضعًا إنسانيًّا حقيقيًّا تَسُودُه السَّعادة والتَّصالح بين البشر وبينهم وبين الطبيعة.
ولقد رَصَدَا تاريخ الحضارة الغربية بوصفه تاريخ العقلنة أو التعقيل، أي تجريد الطبيعة من سحرها الأسطوري القديم (كما قال ماكس فيبر)، والإصرار الدائم على السيطرة عليها والتَّحكُّم فيها (كما أفاضَ في ذلك فيلسوف الحياة لودفيج كلاجيس)، بحيث تتَحدَّدُ حالة العالم في رأْيِهما من ناحية العلاقة الوِدِّيَّةِ أو العدَائيَّة بين الإنسان والطبيعة. وفلسفة التاريخ الغربي تكشف في تقديرهما عن استمرار سيطرة «العقل الذاتي» أو «العقل الأداتي» وتَسَلُّطِهِ على الطبيعة على الرغم مما لقِيَه في ذلك من مصاعب وترَدَّى فيه من عثرات، كما تكشف عن امتداد هذا التَّسلُّطِ وتلك السيطرة على الطبيعة الباطنة للإنسان بحيث تحكمت في دوافعه الأوَّلِيَّة وزيَّفَتْهَا. ومن هذه الفكرة المِحورية اسْتَنْتَجَا الأشكال المختلفة للاقتصاد والسلطة السياسية والاجتماعية والأخلاقية، وللثقافة والفن والمعرفة العلمية وبعض أشكال التَّفلسُفِ كالوضعية والبراجماتية بصورهما المختلفة.
وإذا كان هدف التنوير العقلي منذ القِدَم (وقد تَتَبَّعَه الفيلسوفان الاجتماعيَّان من أوديسة هوميروس إلى عصر التنوير في القرن الثامن عشر وحتى عصرهما) هو تحريرَ البشر من الخوف وجَعْلَهم سَادَةً على الأرض وملوكًا عليها أو مالكين لها (كما قال ديكارت)، ومساعدتَهم على بلوغ الرُّشد (كما عبر كانط في مقالته الشهيرة عن التنوير)،١٥ فإن الأرض التي تم تنويرها لا تزال تغمرها ظلال الكارثة — والكارثة في مفهومهما هي سيادة الأسطورة (النازية اللاعقلانية). هكذا كانت الأسطورة نفسها نوعًا من التنوير، ولكن التنوير كان يرتدُّ دائمًا إلى الأسطورة ويدمِّرُ نفسه بنفسه، وهو في الحقيقة لم يدمِّرْها من الخارج؛ لأن الخطوة الأولى التي بدأت مع الأسطورة للتحرُّرِ من الطبيعة لم تكن خطوة فاشلة فحسب، بل كانت في الوقت نفسِهِ بداية السير على طريق التنوير المدمر؛ أي إن تاريخ التمَدُّنِ والتنوير حتى اليوم ظلَّ مُتلبِّسًا بالأسطورة أو مطويًّا فيها، كما أن التنوير نفسَه ما فَتِئَ يُخَرِّبُ منذ القِدَمِ بِذرَةَ كلِّ محاولةٍ للخروج من الأسطورة، ويَقضِي كذلك على كلِّ محاولة للتحرُّرِ منها في مَهدِهَا، وكأن التنوير لا يزال في حركة دائمة كحركة الفكرة المستمرَّةِ التي وصف بها هيجل حركة التنوير في القرن الثامن عشر، غير أن حركته تُفضِي به دائمًا إلى الوقوع في أَسْرِ الأسطورة. ومعنى هذا أن الأساطير تُولِّدُ وتحقِّقُ التنوير الذي يتعثَّرُ بعد ذلك مع كلِّ خطوة من خُطواته، ويتَرَدَّى في الأسطورة التي استمدَّ منها مادَّتَه، ثمَّ دَمَّرَها وجعل من نفسه قاضيًا مُهَيمِنًا عليها، وبذلك سقط فيها مرة أخرى، وهكذا دواليك.وأول ما ينبغي توضيحه هو أن النقد الذي يوجِّهه بعض أصحاب النظرية النقدية إلى التنوير والعقلانية ليس نقدًا موجَّهًا إلى التنوير نفسه ولا إلى العقل في ذاته، كما سبق القول، وإنَّمَا هو موجَّه إلى إفسادِهِمَا وإساءة فَهْمِهِمَا وتحْرِيفِهما المستمرِّ الذي بلغ ذُرْوَتَهُ، أو بالأحرى حَضِيضَه اللاعقلاني واللاإنساني في ظلِّ المجتمع الرأسمالي والصناعي وعلاقاته المُكَرَّسَة لاستعباد الإنسان؛ ولذلك فإن هذا النقد لا يُلغِي التنوير وإنما ينوِّرُه، ولا يُمَجِّدُ «اللاعقلانية» التي انتهت إليها «العقلانية» الغربية، وإنما يَنْقُدُها نقدًا عقليًّا، ويجعل المُهمَّة الأساسية للفلسفة هي القيام بعملية مُراجعة عقلية لتلك العقلانية؛١٦ ذلك أن أخطر ما في هذه العقلانية التي مدَّت سلطان الذاتية المُتَسَلِّطَة على كلِّ شيء في الداخل والخارج، هو أنها لم تقتَصِر على تَشْيِيء «الطبيعة»، بل تعدَّت ذلك إلى تَشْيِيءِ الوعي الفردي والاجتماعي وتغريبه، الأمر الذي أدَّى إلى القضاء على التَّواصل الحيِّ بين أفراد المجتمعِ وبينهم وبين الطبيعة كما سبق القول. وطبيعي أن يُركِّز فلاسفة النظرية النقدية هجومهم على العقل «الذاتي» أو «الأداتي» وعقلانيته العلمية والتِّقَنية المُهيمِنَة على المجتمع الصناعي الغربي الحديث، وأن يحاولوا تَجاوزه إلى عقل «موضوعي» أو عقلانية موضوعية يُؤَصِّلُونَهَا ويَتَتَبَّعون ملامِحَها ومعالِمَها في آفاقٍ وميادينَ مُختَلِفَة.وإذا كان العقل الذاتي يُوظَّف لإيجاد الوسائل الكفيلة بتحقيق الغايات المُنحصِرة في المحافظة على وجود الذات وهيمنتها وتفوُّقِها، فإن العقل الموضوعي المستقلَّ هو الذي يعرف غايات أشمل وأبعد من المحافظة على وجود الذات، كما يَقْدِرُ على الحكم بمعقوليَّة هذه الغايات الشاملة، ويتَّجِه للبِنيَةِ الموضوعية للأفكار والأفعال، ويؤكِّد الموضوعية الكلية في الوجود، وهي التي تُستَمَدُّ منها معايير كلِّ حياة، ولا تخرج الذاتِيَّة عن أن تكون جزءًا مَحدودًا منها لا بدَّ من «رفْعِه» أو تَجاوُزِه إذا أردْنَا أن نَصِل إلى شيءٍ اسمه الحقيقة في أي شيء، فالعقلانية بهذا الفهم نظام موضوعي يجب أن يتلاءم معه كلُّ شيء بما في ذلك حياة الإنسان ونُزُوعُهِ الفِطرِيُّ للبقاء، كما أن تأكيد العقلانية الذاتية وحدها هو المسئول عن ضَلال المذاهب الميتافيزيقية الغربية وانغلاقها في فَلْسَفات «الباطن» المِثَاليَّة والظاهراتية والوجودية والحياتِيَّة (نسبةً إلى فلسفات الحياة الحَدْسِيَّة) التي انتهت — من بعض الوجوه — إلى تبرير اللاعقلانية.
ولا شكَّ أن القارئ يرى الآن مدَى تَأَثُّرِ هذه الأفكار بفلسفة هيْدَجر الذي ظلَّ يردِّدُ طوال حياته أن الميتافيزيقا الغربية — من أفلاطون إلى نيتشه — هي ميتافيزيقا الذَّاتية التي ضلَّت طريقها ولم تسأل أبدًا عن الوجود نفسه ولا فكرت في معناه (راجع إن شئت لكاتب هذه السطور مُؤَلَّفَه نداء الحقيقة، مع ثلاثة نصوص لهيدجر، القاهرة، دار الثقافة، ١٩٧٦م).
والملاحظة النقدية الثانية على نقدهم للعقلانية والتنوير هي أنهم نظروا إليه من منظور غربي وحسب، وبذلك وقعوا في التمركز حول الذاتية الغربية التي تصورت — وما زالت تتصور إلى حدٍّ كبير — أن تاريخها هو «التاريخ» العالَمِي، وأن حضارتها هي «الحضارة» والنموذج المُطلَق، ولو كانوا موضوعِيِّين حقًّا لما أسقطوا الشرق من حسابهم، ولأدركوا أن للعقل تاريخًا آخر وبناءاتٍ أُخرى منذ الحضارات الشرقية القديمة حتى العصر الحديث (عندما دخلت مُعظَم هذه الحضارات في فَلَك العقلانية الذاتية الغربية وتبنَّت مناهجها العقلية وأَنْسَاقها العلمية بكلِّ ما نَتَج عنها من علم وصفِيٍّ وتِقَنِيَّة وسيطرة على الطبيعة)، ولعرفوا أخيرًا أن موقف هذه الحضارات أو الرُّؤَى الشرقية القديمة للعالم لم يكن بحالٍ من الأحوال هو موقف التَّسلُّط على الطبيعة والأشياء والتحكم فيها واستِغْلَالها كوسائل للمَزِيد من التَّسلُّط والسيطرة (كما حدث في التاريخ الغربي منذ عصر النهضة الأوروبية، وبصورة أوضح وأفظع منذ بداية العصر الصِّناعي والاستعماري ونَهْبِ الشعوب والحضارات الأخرى)، بل كان بوجهٍ عامٍّ هو موقف التعاطف والرعاية والتوافق والتَّجَانُس والمحبة، ولو فعلوا ذلك لتبيَّنَ لهم أخيرًا أن هنالك أشكالًا وبِنًى أخرى للتفكير، وراءها أشكال للحياة والنَّظر، وبِنًى وأساليب أخرى للإنتاج لا بدَّ أنهم سَمِعوا عنها (على الأقلِّ من ماركس وإنجلز وإشارَتِهما المُوجزة إلى نَمَط الإنتاج الآسيوي). والمُهِمُّ من هذا كله أن «تاريخية» العقل والعقلانية لا بدَّ أن تُحَفِّزَنا على مراجعة ما قالوه عنهما ووضْعِهِ في السِّياق التاريخي والاجتماعي الخاصِّ به، كما تَحُثُّنا من ناحية أخرى على وضعهما في سياقنا التاريخي والاجتماعي الذي يختلف عنه في ظروفه وتحوُّلاتِهِ وعوامل تكوينه وتطوُّرِه وصِرَاعه … إلخ، بحيث لا نُرَدِّدُ نقْدَهم لتلك المفاهيم تردِيدَ البَبْغَاوات، ولا نتصوَّر لحظة واحدة أن ضَلالَ العقلانية والتنوير الغربي وانحرافَهُما المستمرَّ إلى اللاعقلانية والتَّعمِيَةِ الأسطورية والسَّيطرة اللاإنسانية يؤَدِّي بالضرورة إلى التَّشكيك في العقلِ والتنوير والعلم والتقنية؛ ذلك لأن حظَّنَا من هذا كله ما يزال جِدَّ قليل، كما أن القوى التي هدَّدَتْها وخرَّبَتْها في تاريخنا العربي والإسلامي ولم تزلْ تُهَدِّدُهَا وتخَرِّبُها، قوَى من نوع آخر ولها مصالح أخرى (كالاستِبدادِ المُطلق من جانب الفرد أو الدولة، وعبادة الأشخاص والتَّسلُّطِ المُتَغَلغِل في حياتنا و«نُظُمِنَا» من قِمَّة هرم الظلم إلى قاعدته المُستَسْلِمَة الصَّامتة على مرِّ العصور، بجانب الأشكال المُختلفة ﻟ «اللاعقليَّة» و«اللاعلمية» و«اللاإنسانية» التي بلغت أشُدَّها في ظلِّ النُّظُم الفرديَّة الطَّاغية في تاريخنا الحديث والمعاصر بوجه خاص، سواء كانت عسكرية باطشة تدَّعي التَّقَدُّمِيَّة أو الاشتراكية أو الأصولية، أو رجعية مُتخلِّفَة تَزْعم لنفسها حقوقًا إلهيَّة مُطلقة أو تَتَمسَّح في الشجرة النبويَّةِ الطاهرة).
ولا ننسَ أخيرًا — وهذه مسألة تستحقُّ المزيد من التَّفصيل — أن تعميم الهجوم على العقلانية وراءَه دافع «يهودي» خاصٌّ للهجوم على اللاعقلانية النازية، كما يكشفُ عن تجاهلٍ مُتَعمَّدٍ للاعقلانية الصهيونية ودولَتِها المغروسَةِ في قلبِ الوجودِ العربي والإسلامي.
والخُلاصة أنَّنا أَحْوَج ما نكون إلى الفهم الصحيح للعلم والتقنية والعقلانية والتنوير في ظروف مِحْنَتِنا التاريخية والحضارية الرَّاهنة، حاجتنا إلى الحياة الديمقراطية الحرَّة التي لن يتحقَّقَ شيء من ذلك كلِّه بغيرها، ولعلَّ محنة العقل والفكر والضمير — التي بلغت أبشَعَ صُورها في «أم المِحَن والكوارث» العربية التي نعايش اليوم آثارَها المُدمِّرة لكلِّ وجودِنَا وأحلامنا — أن تُرِيَنَا إلى أيِّ مدى وصل بنا سوء الفهم والاستخدام لتلك المفاهيم والمعاني المُضِيئة التي لم نتوقَّف عن ترْدِيد شعاراتِهَا، ولعَلَّها تَحُثُّنا على تحليلها تحليلًا اجتماعيًّا نقديًّا يَضَعُهَا في سِياقِ تَطوُّرِنا التاريخي والحضاري والعقلي، فلا نكْتَفِي بدقِّ الطبول لها ادعاءً للتَّقدُّمِيَّة وسعيًا وراء الشُّهرة وتلهُّفًا على الأمجاد الزَّائفَةِ. عندئذٍ يُمكن أن يكون نقدنا فلسفيًّا وعلميًّا بحقٍّ، كما تكون «فلسفتنا» نقدية بالمعنى الصحيح.
-
(د)
ويرتبط بالنقطة السابقة نَقْدُ أصحاب النظرية لصور الاغتراب في المجتمعات الرأسمالية والشمولية الغربية. وأكتفي في هذا السياق بالإشارة إلى أن صور الاغتراب التي نعانيها ليست كذلك بالضرورة من نفس النوع الذي وجهوا نقدهم إليه؛ فقد تكون للاغتراب العربي على مدى تاريخه الطويل جذور أخرى وأسباب مختلفة، كما أن صور القمع والإحباط والقهر والتعاسة والاكتئاب … إلخ — التي صارت بمثابة خُبزنا اليوميِّ المُر — ربما تكون قد نتجت عن ألوان أخرى من التسلُّط والهيمنة غير التي يُرْجِعونها إلى السيطرة على الطبيعة والعقلانية العلمية والتقنية (التي لم نزل صِفر الأيدي منها كما سبق القول). ولا يكفي أبدًا أن نتَتَبَّع صور الاغتراب وتطوَّر مفاهيمه وأبعاده في الفكر الغربي منذ عهد اليونان والرومان إلى فلاسفة التنوير والعقد الاجتماعي وحتى كانط وهيجل وماركس وفلاسفة مدرسة فرانكفورت أنفسهم، على نحو ما فعل بعض باحِثينا مشكورين، وإنما يُحتِّم علينا الواجب والحِرص على الهُويَّة جميعًا أن نفحَصَ الاغتراب وصُوَرَه المختلفة في ثقافتنا وتاريخنا الخاص حتى اليوم الحاضر (ولا أبالغ إذا قلت: إن هذه الصور موجودة منذ الحضارة المصرية القديمة وحضارة وادي الرَّافدين والحضارة الكنعانية، وتكرِّر نفسها بأشكالٍ مُختلفة في غُربَتِنا واغترابِنا هنا والآن)، ولا شكَّ عندي أن هذا النقد التاريخي والاجتماعي لم يزل مُفْتَقَدًا إلى حدٍّ كبير في فكرِنَا وبحوثنا وأدَبِنَا الحديث، وأنَّ من عُلمائنا ومفكِّرينا وأُدَبائنا من يملك القدرة على التصدِّي له بصورة أصيلة بدلًا من الاقتصار على النقلِ والتَّرديد غيرِ النقدِيَّيْن، أو الهروب إلى القوالب المَذْهَبيَّة الجاهزة بغير تَمحِيصٍ، أو اللجوء إلى «الخطاب» الأيديولوجي والبلاغي الصارِخِ الطَّنَان الذي يَتَنَكَّبُ سُبَلَ العلم والنقد جميعًا.
-
(هـ)
ومن جُملة الانتقادات التي يُمكن أن تُوجَّه للنظريةِ النقدية تلك النظرة «اليوطُوبية» المُرتبطة بالمجتمعات «المثالية» البديلة عن المجتمع الصناعي والشُّمولي بكلِّ سَوْءَاته ومظالمه، ففلاسفة النظرية يُلِحُّون بصفة مستمرَّة على ضرورة التغيير الجِذري والثوري الشامل للأوضاع القائمة فيه، اعتمادًا على أفكار غامضة عن الخلاص، وأحلام شبه مستحيلة بقدر ما هي غريبة عن الواقع والممكن معًا. صحيح أن بعضهم — مثل ماركوز (في كتابه عن الثورة المُضادَّة والتَّمرُّد، فرانكفورت، ١٩٧٣م، ص٦٧ وبعدها)١٧ وهوركهيمر (في مقدمته لكتابه السابق الذِّكْر عن النظرية النقدية) — قد قَصَّرُوا خُطوط أحلامهم اليوطوبية بعدَ الفشل الذي مُنِيَت به ثورة الطُّلاب في السبعينيات، وبعد تغيُّرِ الظروف التاريخية والسياسية والاجتماعية، ولكنَّهم لم يتخلَّوْا عن حلمهم بمجتمع إنساني جديد، ومُستقْبَل مُبرَّأٍ من القمع والقهر والاغتراب. ولا يعبِّر هذا في الحقيقة عن تَفاؤُلِهم بقدر ما يعبِّر عن تَشَاؤُم حضاري عميق، تدخَّلت في تكوينه عناصر رومانتيكية جديدة ووجودية وحيوية (نسبةً إلى فلسفة الحياة) فضلًا عن عناصر أخرى مثالية هيجلية وصوفية قبالية (نسبةً إلى الكتابات الصوفية اليهودية). وكأن فلاسفة النظرية قد اشترطوا التَّدمير النهائي للعالم الصناعي القائم قبل ظهور «الصفحة البيضاء» التي ستُكْتَب عليها سطور المجتمع الإنساني الجديد.والدليل على هذا أنهم عَجَزوا عن تقديم تصوُّرات محدَّدة عن المجتمعات البديلة «غير المغتربة» أو عن نُظُمها ومؤسساتها وفلسفتها ومناهجها الفكرية والعلمية وحاجات البشر «الحقيقية» فيها؛ ولذلك بقيت تأمُّلاتهم الجدليَّة عن الموضوع ونقيضِهِ مجرَّدَ تأمُّلات أو تمنِيَّات غامضة، كما ظلَّت معايير «الجدل السلبي» و«جدل التنوير» ومُثُلُهما وقِيَمُهما كذلك غامضة غير محددة. ومع أن المشروع اليوتوبي الذي طرحه «ماركوز» يصوِّر مجتمعًا خاليًا من القهر والقمع والبُؤس، ونموذجًا جديدًا لإنسان مُبدع يتمتع بحساسية جديدة، ويتطلَّع لحاجات جديدة، ويعمل عملًا أقرب إلى اللعب الخلَّاق، فقد علَّق تحقيق هذا المشروع بالثورة الجِذرية على المجتمع القائم، ووضع مسئوليته على أكتاف الفئات الهامشية والمَنبوذة والمُضطهدة دون الفئات الثورية الواعية بالمعنى الحقيقي الفعَّال، ولم يخرج في النهاية عن التصوُّرات اليوتوبية التي ربَطَها ماركس بقيام المجتمع الشيوعي، ولا عن «أرض الأحلام»١٨ البعيدة عن الواقع بُعْدَها عن المُمكن.
-
(و)
ومع ذلك فلا بدَّ من الإشادة بفضل فلاسفة مدرسة فرانكفورت في نقد المفهوم الزائف عن العلم، وهو الذي يتصور أصحابه أن العلم مُتَحرِّرٌ من القيم ومستقلٌّ تمامَ الاستقلالِ عن الاهتمامات والمصالح الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأيديولوجية، وقد أثَّر هجومهم الشديد على التصوُّر الذي يضَع العلم في «بُرج عاجِيٍّ» على عدد كبير من العلماء المُختصِّين، ونبَّهَهم إلى أهمية العوامل والدوافع والمصالح التي تؤثر على نشاطهم البَحثيِّ واختيارهم للموضوعات والمشكلات ووجهات النظر، كما تُشارك — في كثير من الأحيان — في تحديدها، وقد ساعد النقد المُوجَّهُ لمفهوم العلم من ناحية أخرى على إدراك أهمية «الأيديولوجيا التكنوقراطية» التي تكمن وراء كثير من القرارات السياسية والمواقف الأخلاقية التي تتخذها القوى ذات المصلحة في المجتمعات الصناعية الحديثة، مُتَذَرِّعَة بأنها قرارات «موضوعية» تُحَتِّمُها المعرفة العلمية والخبرة التقنية.
-
(ز)
ويرتبط بالنقطة السابقة تأكيد المسئولية الاجتماعية للعلم، فمن واجِب العالِم نحو مجتَمَعِه والمجتمع البشري بعامَّةٍ أن يَقرِنَ تفكيرَه في تكوين معارفه العلمية وتبرير أُسُسِها المنطقية والموضوعية بالتفكير في قيمتها ونتائجها التي يمكن أن تؤثر على المجتمع. ولا يجوز أن يَقِفَ العلماء جَهدهم على إنتاج المعرفة، بل ينبغي عليهم أن يتدبَّروا نتائجها بوَحْي من ضمائرهم، على الرغم من القيود والضغوط المادية والمعنوية التي تُكبِّل حرِّيَّتهم وتعُوقهم عن اتَّخاذ القرارات الأخلاقية وإعلانها على الرأي العام، وإذا كان من المُتَعذِّر على العالم أن يُقدِّر جميع النتائج المُترتِّبة على بحوثه وكشوفه، فلا أقلَّ من أن يكون على وعيٍ بتأثيراتها المباشرة والمُمكِنَة، وأن يُنَبِّه إليها وعيَ الآخرين وأن يحميها، بكلِّ شجاعة العَالِمِ والتزامِه الأخلاقيِّ، من عواقبِ سوء الاستخدام والاستغلال من قِبَل السلطة أو من جانب مؤسسات التجارة والربح بأيِّ ثمن، وذلك بقدر جَهده وعلى قدرِ طاقته.
-
(ح)
ومن الأفضال التي تُحْسَب لفلاسفة النظرية النقدية أنهم قد أثَّروا تأثيرًا كبيرًا على الجدل الدائر حول الماركسية ومحاولات تجديدها والخروج من أزمتها.
وإذا كان الماركسيون التقليديُّون أو الحرفيُّون قد اشتدُّوا في الهجوم عليهم، واتَّهموهم بالمثالية الذاتية «البرجوازية» والتشاؤم الحضاري والنظرة التجزيئية لأعمال ماركس، فإن الإنصاف يقتضينا القول بأنهم قد وجَّهوا الأنظار إلى أفكار ماركس الفلسفية والإنسانية (وبخاصة مقولة التَّشَيُّؤ والاغتراب كما تقدم)، واعتمدوا عليها في تحليلهم ونقدهم للمجتمع الرأسمالي والصناعي، ولم يكْتَفُوا بالتفسير الاقتصادي والأُحادي لأعماله، كما جدَّدوا الماركسية وكشفوا عن الطاقات النقدية الكامنة فيها، مهما يكن من فهمهم غير التقليدي لمقولاتها الأساسية، ولا شك في أن القارئ الذي عاصر الزلزلة الأخيرة للمجتمعات والدول الاشتراكية وللنموذج الماركسي الذي طُبِّقَ فيها على أبْشَع صورة، سيتساءل إن كان لفلاسفة النظرية النقدية دورٌ غير مباشر في تصعيد أزمة الماركسية وتخريبها من داخلها أم كان لهم فضل المشاركة في محاولات تجديدها وبعثها في صورة إنسانية حرَّة وخلَّاقة لكي تَصمد أمامَ الغول الرأسمالي؟
-
(ط)
وينبغي الإشادة بمآثر النظرية النقدية في نقد مجتمع الرفاهية والرخاء والتقدُّم المزعوم، وتعرِيَةِ عَوْرَاته وأوضاعه اللاإنسانية المُزْرِيَة. وإذا كان الناس — حتى في العالم الثالث أو النَّامي — يَشْكُون من تأثير أجهزة الدِّعاية والإعلام على تشكيل الأذواق والحاجات، وتغذية سعار الاستهلاك بوقود متجدِّد مع البثِّ والإرسال ليلَ نهار، وإذا كانوا يتذَمَّرون من التصعيد الأعمى للقدرات الإنتاجية دون اعتبار لآثارِهِ المدمِّرة والملَوِّثة للبيئة، وإذا كان سوء استخدام المعرفة العلمية في صُنع أسلحة الدَّمار الشامل، ومن ثَمَّ في مدِّ السيطرة الشاملة، وتردِّي الظروف المعيشية لملايين المُضطَهَدين والمُسخَّرِين والمُستَغَلِّين في ظلِّ العلاقات الرأسمالية والصناعية، والمحاولات الجُهنَّمية لتَزْييفِ الوَعْيِ وخلقِ الشعور الوهمي بالحرية والسعادة لدى الملايين من الناس، واختناق الطاقات المُبدِعة تحت أقدام الأجهزة البيروقراطية والإدارية والمَبَاحِثِيَّة، ونفاق العالم «المتقدِّم» وانعدام مُثُلِهِ الإنسانية وقِيَمِهِ الحضارية المزعومة في تعامُلِه مع العالم «المُتَخَلِّف»؛ إذا كانت هذه كلها وكثير غيرها قد أصبحت حديثَ كلِّ يوم، فلا بدَّ أن نعترِفَ بفضل النظرية النقدية في إشاعة قدر كبير من هذا الوعي النقدي والثوري في أوساط الرأي العام على المستوى الدولي. وليت هذا يكون حافزًا للكثيرين عندنا من دُعاة العلمية والموضوعية والعقلانية إلى مراجعة هذه المفاهيم كلها مراجعة نقدية، وأن يدفعهم — كما سبق القول — إلى وضعها في سياقها الحضاري والاجتماعي قبل أن يحاوِلوا فرضها على سياق تاريخي وحضاري مُختَلِف عنه.
-
(ي)
ولا يفوت ناقد النظرية النقدية أن يُلاحظ أن فلاسفتها يُدِيرون مناقشاتهم ويقدِّمُون أفكارهم بطريقة يغلب عليها الإسراف في التعميم والجزم القاطع، وتتجلَّى هذه النزعة الخطيرة على سبيل المثال في هجومهم على «الوضعية» التي يُدْرِجون تحت اسمها اتجاهات فلسفية شديدة التَّبايُن (كالوضعية الجديدة أو المنطقية والتحليلية والعقلانية النقدية والبراجماتية)، وتَظهر أيضًا في نقدهم المشروع للفكرة الخاطئة عن خُلوِّ المعرفة من القيمة، نَاسِين أن التَّحرُّر من النظرة القِيَمِيَّةِ معيار كامن في التفكير العلمي نفسه، وأنه مَطْلَب أساسيٌّ يقتَضِيه منطقُ البحث المُحَايد عن الحقيقة أو الصِّدق أثناء تحليل الظواهر وتبرير المعارف والقضايا العلمية. ومع أنهم محقُّون في نقدهم لتلك الفكرة الفاسدة (بالنسبة للنتائج المترتبة على المعرفة العلمية لا بالنسبة للعملية المعرفية ذاتِهَا) على ضوء التحليل الاجتماعي والسياسي، فإن حديثهم عنها يُوحِي في كثير من الأحيان بأنهم يُضحُّون بالموضوعية لحساب النظرة الجدلية الاجتماعية والسياسية، وأنهم يخلطون العلمي بالأيديولوجي. ويُمكِنُنا أن نلمَس تأثير التَّعميم المُتسرِّع أيضًا في نقدهم للمنطق الاستِنْبَاطِي القديم والحديث، ولمناهج التفكير السائدة في العلوم الطبيعية والتطبيقية، وكأنها تتحمل مسئولية سوء استخدام المعارف العلمية والخبرات التِّقنيَّة في إحكام قَبضَة القَهر على الإنسان المُعاصِر، أو كأنَّ القمع والتَّسلُّط عنصران كامنان في طبيعَتِهِما. وقد بالغ «ماركوز» بوجه خاص (لا سيما في كتابه المعروف عن الإنسان ذي البُعد الواحد، ص٢٥ وبعدها، وفي كتابه عن الحضارة والمجتمع، الجزء الثاني، ص٩٢) في أمثال هذه التَّعمِيمات على النظام الاجتماعي «المتقدم» بأسره؛ ممَّا جعل بعض مُمَثِّلي الجيل الثاني لفلاسفة النظرية النقدية — مثل هابرماس وتلاميذه — يوجِّهُون إليه انتقادات شديدة (في كتابهم المُشترك ردود على ماركوز)،١٩ ويَحملون حملة قاسية على البدائل التي طرحها للصورة السلبية المطلقة التي رسمها عن المجتمع الصناعي، وهي بدائل تُعلِّق آماله في التحرُّر والخلاص على الأفراد والجماعات «الهامشية» من المُضطَهدِين والمنبوذين والفنانين المشرَّدِين والمُحتجِّين والرَّافضين.
-
(ك)
وأخيرًا فقد تشتَّتَ أبناء الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت مع بداية الثمانينات، وبقيت أفكارهم الثورية بغير أثر علمي ملموس، وانفضَّت عنهم حركة الطلاب المُتمرِّدين، وأحكمت الدولة الرأسمالية الليبرالية قبضتها البوليسية والبيروقراطية على زمام الأمور لتَثبيت الأوضاع القائمة، وراحت تُطارد اليسار الجديد كلَّه — وعلى رأسه رُوَّاد المدرسة وتلاميذهم — وتتَّهمهم بإشعال نيران الفوضى والإرهاب، وتدمير التُّراث المسيحي للغرب! ولكن المدرسة ظلَّت حيَّة في الجيل التالي الذي ما يزال مُمَثِّلوه مُمْسِكين بالخيوط التي نسجَها الرُّواد، عاكفين على مُواصلة تراثها النقدي الثوري وبلْوَرَة نظريتها النقدية، مُتمسكين بالأمل في واقع إنساني جديد يسوده الحرية والعقل والاستنارة، والتفاهم والتضامن بين البشر، ويختفي منه القمع والقهر والظلم وتزييف الوعي. وإذا كان المصير الذي لَقِيَه روَّاد المدرسة شبيهًا إلى حدٍّ كبيرٍ بمصير الحركة التعبيرية في الفن والأدب،٢٠ فإن استمرار جهود الجيل الحاضر من المنظِّرين النقديِّين (وعلى رأسهم يورجن هابرماس وأوسكار نيجت)، وتزايد الاهتمام بهم في دوائر البحث الفلسفي والاجتماعي، وترجمة أعمالهم إلى معظم اللغات الحية، يُقوِّي كذلك من أمل كاتب هذه السطور في أن يساعد هذا التمهيد المتواضع على دراستهم وتعلم التفكير النقدي (العلمي والثوري) منهم؛ لعل ذلك أن يُعجِّل بتغيير واقعنا الرَّاكد الجامد، ويُنقذنا من اغترابه عنا واغترابنا عنه.
Horkheimer, Max: Die gesellschaftliche Funktion der Philosophie. Ausgewählte Essays. Frankfurt/M., Suhrkamp, 2te Auflage, 1967, S. 273ff.
وكذلك كتاب كاتب هذه السطور «لِمَ الفلسفة؟» الإسكندرية، منشأة المعارف، ١٩٨١م، من صفحة ٤١ إلى صفحة ٦١.
Wiggershaus, Rolf: Die Frankfurter Schule. Geschichte. Theoretische Entwicklung. Politische Bedeutung. München, dtv.; 1988, S. 1–17.
Coreth, Emerich und Andere: Philosophie des 20. Jahrhunderts. Grundkurs Philosophie 10—Stuttgart, Urban—Taschenbücher, Kohlhammer 1986. S. 110.
Adorno, Thendor W. (Zusammen mit Max Horkheimer): Dialektik der Aufklärung. Philosophische Fragmente. Frankfurt/M., 1971, S. 29.
وإذا كان المؤلفان قد حاولا الرجوع بالتنوير الأوروبي إلى «أوديسة» هوميروس (راجع نقدهما للتنوير فيما بعد)، فقد حاولت من ناحيتي البحث عن جذوره في ملحمة جلجاميش التي تسبق الأوديسة بما لا يقل عن ألف وخمسمائة سنة، راجع تفاصيل هذا في مسرحيتي عن جلجاميش، المقدمة، ص٣٦–٤٠، القاهرة، كتاب الهلال، ١٩٩٢م، فبراير، العدد ٤٩٤.
Horkheimer, M: Eclipse of Reason, New York 1947 (deutsch: Zur Kritik der instrumentellen Vernunft).
Übersetzt von ALfred Schmidt. Frankfurt/M., 1967, s. 47.
Marcuse, Herbert: One dimensional man. Studies in the ideology of advanced industrial Society. Boston (deutsh: Der eindimensionale Mansch. Neuwied/Berlin 1967).
وللكتاب ترجمة عربية بقلم الأستاذ جورج طرابيشي «الإنسان ذو البُعد الواحد»، بيروت دار الآداب، الطبعة الثانية، ١٩٧١م.
Horkheimer, Max: Traditionelle und kritische Theorie, in: Max Horkheimer, Kritische Theorie. Bd. II Eine Dokumentation. Hrsg. Von Alfred Schmidt. Frenkfurt, 1968. S. 137–200.
راجع كذلك عن هابرماس بوجه خاص: د. علاء طاهر، مدرسة فرانكفورت من هوركهيمر إلى هابرماس، بيروت، منشورات مركز الإنماء القومي، د. ت.
Adorno, Theodor W., Philosophische Terminologie. Frankfurt/M., Suhrkamp, 1973, Band I, s. 87.
ثم تُرْجِمَ في العام التالي إلى الألمانية تحت العنوان نفسه: Konterrevolution und Revolte. Frankfurt/M., 1973, s. 67 ff.
Hebermas, Jürgen: Philosophisch-Politische Profile. Frankfurt/M., 1980 (darin u.a. Beiträge zu Marcuse: Einleitung zu dem Band Antworten auf Herber Marcuse).