تعريف بأهمِّ فلاسفة النظرية وبعض الأعلام المُؤَثِّرين عليها
(١) هوركهيمر، ماكس Horkheimer, Max (١٨٩٥–١٩٧٣م)
فيلسوف وعالم اجتماع وأحد مُؤسِّسي النظرية النقدية ﻟ «مدرسة فرانكفورت» وروادها من الجيل الأول.
وُلِدَ في مدينة أشتوتجارت سنة ١٨٩٥م، ودرس في جامعة فرانكفورت التي حصل منها على الدكتوراه سنة ١٩٢٢م، وعلى الدكتوراه المؤهلة للتدريس الجامعي سنة ١٩٢٥م، وعُيِّنَ بها في وظيفة مُدرِّس للفلسفة الاجتماعية من ١٩٢٦م إلى ١٩٣٠م، ووظيفة أستاذ من ١٩٣٠م إلى ١٩٣٣م. تولَّى سنة ١٩٣٠م إدارة «معهد فرانكفورت للبحث الاجتماعي» الذي ضمَّ مُمَثِّلي النظرية، كما أسَّسَ مجلته «مجلة البحث الاجتماعي» وأشرف على تحريرها من سنة ١٩٣٠م حتى توقُّفها عن الظهور في سنة ١٩٤٠م. هاجر إلى سويسرا ومنها إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنة ١٩٣٤م بعد استيلاء النازيين على مقاليد السلطة في ألمانيا، وهناك أقام معهد البحث الاجتماعي في جامعة كولومبيا بمدينة نيويورك مع بعض أعضاء «مدرسة فرانكفورت» الذين هاجروا معه أو لحِقُوا به، مثل صديق عُمره «تيودور أدورنو» الذي ارتبط اسمه به واشترك معه في بحوث المعهد السابق الذِّكْر وفي تأليف أهم كِتاب معبِّر عن النظرية النقدية وهو «جدل التنوير». رجع إلى جامعة فرانكفورت سنة ١٩٤٩م، وأعاد تأسيس المعهد والإشراف عليه حتى سنة ١٩٥٨م، كما تولَّى منصب مدير الجامعة من ١٩٥١م إلى ١٩٥٣م، ثم أُحِيل إلى التقاعد فخَلَفَه أدورنو في إدارة المعهد، ورجع للولايات المتحدة الأمريكية للعمل أستاذًا زائرًا بجامعة شيكاغو من سنة ١٩٥٤م إلى سنة ١٩٥٩م. كَرَّمَتْه مدينة فرانكفورت بميدالية «جوته» سنة ١٩٥٣م، كما أهدته مدينة أشتوتجارت — مسقط رأسه — ميدالية المواطن سنة ١٩٧٠م، ومنحته مدينة هامبورج جائزة ليسينج سنة ١٩٧١م، إلى أنْ حَضَرَه الموت في مدينة نورمبرج سنة ١٩٧٣م.
عُرِفَ هوركهيمر بفلسفته وتنظيره النقدي الاجتماعي بجانب رئاسته لمعهد فرانكفورت السابق الذكر (الذي سُمِّي فيما بعد بالمعهد الدولي للبحث الاجتماعي) من عام ١٩٣٠م إلى عام ١٩٥٨م. ونبدأ بالحديث عن تطوُّر تفكيره وكتاباته التي كان لها تأثير ملحوظ على حركة اليسار الجديد في الستينيات، وبخاصة في أوساط الشباب والطُّلاب في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، فقد وُلِدَ لأبٍ يهودي من أصحاب الأعمال الأثرياء، ولكنه اتَّجه منذ شبابه الباكر إلى الاهتمام بالثقافة وتوظيفها في نقد المجتمع البرجوازي والرأسمالي الذي نشأ فيه، وقد ظهر اتجاهه النقدي في رسالته للدكتوراه التي وضعها عن كتاب نقد مَلَكة الحكم لكانط، بوصفه حلقة الوصل بين فلسفته النظرية وفلسفته العملية (نُشِرَت سنة ١٩٢٥م في مدينة أشتوتجارت)، كما بدأ التزامه بالماركسية منذ أن كان طالبًا وتوَثَّقت علاقته بصديق عمره «فريدريش بولوك» الذي كان من أنشط أعضاء «المعهد»، وتميَّزَ ببحوثه التي نشرها في مجلته في ميدان الاقتصاد السياسي، ولا بدَّ هنا من القول بأن «بولوك» كان الوحيد من بين أعضاء «المدرسة» و«النظرية» في تقيُّدِه بأصول الماركسية التقليدية في بحوثه، وإن سائر أعضائها — وعلى رأسهم هوركهيمر نفسه وأدورنو — لم تَبرُز لديهم هذه الأصول والعناصر التقليدية (المادية التاريخية والجدلية، والبنية التحتية والفوقية، والحتمية الاقتصادية وحتمية التقدُّم، والصراع الطبقي، ودور الطبقة العاملة أو البروليتاريا في قيادة وإحداث التغيير الاجتماعي الثوري) إذ استخدموها جميعًا بطريقة عامة وبمفهوم مختلف عن مفهومها الحرفي. وعلى الرغم من حرصهم على أن يُوصَفوا بأنهم ماركسيون، فإن ماركسيتهم «الجديدة» لم تَكَدْ تحتفظ من الماركسية بغيرِ المضمون التنويري والطاقة المنهجية — النَّقدية الجَدَليَّة — على تحليل الواقع الاجتماعي السائد تحليلًا علميًّا وعمليًّا بعيدًا عن التحليل النظري والفكري المجرَّد الذي سارت عليه المذاهب المثالية والفلسفات الاجتماعية التقليدية، وعن التحليل «الوضعي» الذي يدَّعِي العِلْمِيَّة في نظرته للعلاقات البشرية وكأنها علاقات بين أشياء أو ظواهر موضوعية وطبيعية خاضعة للتحكم والقياس، بُعدها في الوقت نفسه عن الانخراط في الممارسة السياسية العملية، وتحفُّظها إزاء النشاط الحزبي المحدد (لا سيما بعد فشل الثورة الشيوعية الألمانية في العشرينيات، ويأسهم من الأحزاب الاشتراكية الأوروبية التي تهاونت أو تواطأت مع السلطة البرجوازية الحاكمة، واكتشافهم في النهاية تعثُّر ثورة أكتوبر الرُّوسية وتجربتها الشيوعية بعد التصفيات المشهورة على عهد استالين، واختناقها بالبيروقراطية وشمولية الدولة والحزب).
يُضَاف لما سبق عامل آخر يميِّز كتابات هوركهيمر، كما يميِّز كتابات صديقه تيودور أدورنو، فهذه الكتابات الفلسفية والاجتماعية النقدية تَسرِي فيها الحساسية الفنية وتغلب عليها روح الفنان وضمير الأديب أكثر من عقلانية العالم وموضوعيَّته، يدلُّ على هذا أنه ظلَّ طوال حياته مُتأثرًا بتشاؤُم شوبنهاور الذي قرأه في شبابه، وأنه تأثَّرَ بعد ذلك أو اقترب على الأقلِّ من فلاسفة يمكن وصفُهم بأنهم ذاتيُّون أو جماليُّون أو إنسانيُّون، مثل نيتشه ودلتاي وفرويد وبرجسون (الذي التقى به في باريس في طريقه إلى المهجر بالولايات المتحدة الأمريكية، وكتب بحثًا عن ميتافيزيقا الزمان عنده يُعَد من أفضل بحوثه)، فضلًا عن نفوره من «المذهبية» و«النَّسَقيَّة»، وإيثاره في بعض كتاباته الهامَّة لأسلوب الحِكَم والتأمُّلات المُوجَزَة الذي يتجلَّى في ملاحظاته عن ألمانيا التي نشَرَها عام ١٩٣٤م في زيوريخ تحتَ عنوان «الفجر» باسمٍ مُستعار هو هينريش ريجبيوس، قبل أن يتوسَّع فيها ويضيف إليها ملاحظات أخرى عن السنوات التي عاشها بين عامي: ١٩٥٠م و١٩٦٩م (نُشِرَت في فرانكفورت سنة ١٩٧٤م وظهرت ترجمتها الإنجليزية الكاملة في نيويورك سنة ١٩٧٩م تحت عنوان فجر وتدهور)، وكل هذا مع غضِّ النظر عن سلسلة الروايات التي يُقَال إنه كتَبَها في شبابه ولم تَرَ النور أبدًا، وعن الأقَاصِيص واليوميَّات التي نُشِرَت بعد موته تحت عنوان «من فترة المراهقة» (نُشِرَت سنة ١٩٧٤م).
شارك هوركهيمر — كما سبق القول — مشاركة فعالة في تأسيس معهد فرانكفورت للبحث الاجتماعي والنظرية النقدية المعبِّرة عنه، بجانب تولِّيه إدارته والإشراف على مجلته التي تابعت نشر دراسات أعضائه ودراسات غيرهم من الباحثين البارزين (مثل رايموند آرون وإريش فروم وفالتر بنيامين وأدورنو وإرنست كرينيك وفريدريش بولوك وهربرت ماركوز وليو لوفنتال … إلخ)، وقد كان الهدف من المعهد والمجلَّة في بداية أمرهما هو الاهتمام بدراسة تاريخ الحركة العمالية الألمانية والتحليل الاجتماعي النقدي القائم على أسس ماركسية عامة والمتأثر — بوجه خاص — بكتابات جورج لوكاتش، ومن أهمها التاريخ والوعي الطبقي، وكتابات كارل كورش عن الماركسية والفلسفة والإنتاج الرأسمالي وظروفه وعلاقاته السلبية. ومع أواخر العشرينيات ازداد توجُّه أعضاء المعهد نحو بناء فلسفتهم الاجتماعية وتأسيس نظريَّتهم النقدية للثقافة الرأسمالية عامةً، واقترن هذا الاتجاه بتزايد تحفُّظهم من الانخراط في السياسة العملية والممارسة الثورية التي ظهر لهم تخبُّطها وفشلها كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
بدأ هوركهايمر سنة ١٩٣٠م في نشر سلسلة مقالاته بمجلة المعهد (وقد جُمِعَت بعد ذلك في مجلدين، وقام الأستاذ ألفرد شميت بنشرها تحت عنوان النظرية النقدية، وظهرت لدى الناشر فيشر في فرانكفورت عام ١٩٦٨م، كما صدرت ترجمتها الإنجليزية لدى الناشر هيردر في نيويورك عام ١٩٧٢م)، وتناولت هذه المقالات موضوعات متفرِّقة كالسلطة والعائلة والمادية الجدلية والثقافة الجماهيرية والوضعية المنطقية، وبقِي الخطُّ الفكري الذي يَنْتَظِمُها هو تحديد النظرية النقدية بوصفها نقد الأيديولوجية (المنظومة الفكرية) السائدة ونفِيها أو سلبها، في سبيل مجتمع عقلاني وإنساني حر، ثم نشر أربع مقالات أخرى في سنة ١٩٣٧م تحت عنوان النظرية التقليدية والنظرية النقدية (جُمِعَت وصدرت في فرانكفورت سنة ١٩٧٠م)، وقد استطاع هوركهيمر في هذا الكتاب أن يستكمل بناء منهجه النقدي الخصب، وأن يعقد مقارنة مُفَصَّلة بين المحاولات التي بُذِلَت في الفلسفة الحديثة لتفسير الواقع من خلال الأنظمة أو الأنْسَاق الميتافيزيقية النظرية التأمُّلية، وبين المشروع النقدي ﻟ «النظرية النقدية» التي تتَّخذ موقف السلب أو النفي للواقع الاجتماعي السائد، وتُحاول التعبير عن أشواق الناس «الخَفيَّة» وعن حاجاتهم «الحقيقية» التي لم يُكْتَب لها التَّحقُّقُ. ويؤكد هوركهيمر — بنغمة ظاهرة التأثُّر بأفكار لوكاتش الأساسية في كتابه الشهير عن التاريخ والوعي الطبقي — أن انفصال النظريات التقليدية في الفكر والعلم والفلسفة عن الواقع المادي أمر واضح للعيان، وأن سقوط الفكر الحديث في هذا النوع من خداع الذات هو في الحقيقة صورة من صُور التواطؤ مع أشكال القهر والقمع التي تمارسها الأنظمة والمؤسسات الاجتماعية. والظَّاهر أنه اقتنع في هذه الفترة بأن الطبقة العاملة (البروليتاريا) لم يَعُد من الممكن اعتبارها «الحامل التاريخي» للوعي التقدُّمي والثوري لمجرد دورها في العملية الإنتاجية، وأنه يئس من قدرة هذه الطبقة على إحداث التَّغيير الاجتماعي الجِذري، بعد أن تبيَّنَ عجزها حِيَال زحف البربرية النازية التي اكتسحت المجتمع الألماني وقبضت على زمام السلطة، والظاهر أيضًا أن بداية انحِصَار جهود النظرية النقدية في تَعْرِيَة «الشروط» الاجتماعية الفاسدة، والكشف عن نماذج الوعي الفردي والجماعي الزائف في ظلِّ الأنظمة الشمولية التسلطية، قد بدأ أيضًا في هذه الفترة التي أدرك فيها هوركهيمر — مع معظم أعضاء معهد فرانكفورت والمدرسة النقدية الاجتماعية — غياب العنصر البشري القادر على تحقيق الحرية والعقل والسعادة.
هكذا نجد النظرية النقدية — باتِّجاهها «السالب» للنظريات التقليدية — تتحول بالتدريج إلى حركة تنوير جديدة، يَنبُع التزامها بالتغيير الاجتماعي — على حدِّ تعبير هوركهيمر — من طبيعتها نفسها وليس مجرد إضافة معرفية إليها، كما تذَكِّرنا في الوقت نفسه بأن حركات التنوير كانت دائمًا تُقاوم الظلم السائد وتُشارك بدور فعَّال في القضاء عليه. وقد تمثَّل هذا في كتاب «جدل التنوير» الذي اشترك هوركهيمر مع صديقه أدورنو في تأليفه أثناء فترة الأربعينيات التي أمضياها في مهجرهما في نيويورك، (وقد ظهر لأول مرة بعنوان شذرات فلسفية سنة ١٩٤٤م عن معهد البحث الاجتماعي في مقره الجديد بهذه المدينة الأخيرة قبل مراجعته وصدوره بالعنوان السابق في أمستردام سنة ١٩٤٧م، ثم ترجمته للإنجليزية سنة ١٩٧٢م).
ينتقد هذا الكتاب مفهوم التقدُّم التاريخي الذي تؤمن الماركسية بحتميَّتِه كما ينطوي مفهوم التنوير نفسه عليه؛ ففيه يذهب المؤلفان إلى أن «العقلنة» المتزايدة للعلاقات الاجتماعية في العصر الحديث قد أدَّت إلى تناقص استقلال الفرد، بحيث أفضت في النهاية إلى فظائع النزعة الشمولية ومعاداة الساميَّة، وجعلت الرأسمالية — التي تعدُّ النازية ذروة تطورها — تحوِّل مُثُل التنوير المعروفة إلى الواقع المُخيف الذي تجسَّدَ في معسكرات الاعتقال.
وتُفرِّقُ النظرية النقدية هنا بين نَمَطيْن للعقل؛ فالأول تنويري وتحريري، يقوم على أفكار الثورة الفرنسية وقِيَمها ومُثُلها في العدالة والحرية والسعادة والإخاء والسلام. أما الثاني فهو نقيضُ الأول، وقد أخذ المؤلفان تسميتَه ﺑ «العقل الأداتي» من الفيلسوف الاجتماعي ماكس فيبر، وزعَمَا أنه يُستغل لتحقيق أهداف السيطرة والتسلط الشمولي في استعباد الفرد واحتواء وعيه لصالح السلطة المُتحكمة، ويُلقِي «جدل التنوير» الأضواء على هذا العقل «الأداتي» المُتَمثِّل في التفكير العقلي والتِّقَني السائد في الصناعة والإدارة الحديثة بما يخدم السيطرة والتسلُّط لا التحرير والتحرُّر. وقد كانت النتيجة أنْ تَدَهْوَر التنوير — بمعناه المعروف في التراث العقلي والعلمي الغربي — وأصبح نَبْعًا مَسمومًا تَغْتَرف منه إرادة التحكُّم والاستعباد، وتحوِّل العقل — في التفكير الوضعي بوجه خاص — إلى أداة للسيطرة الكلية على الطبيعة والإنسان.
بَيْدَ أن العقل «الأداتي» كانت تكمن فيه بذور انهياره التي تولَّدت عنها النَّزَعات الشمولية والاستبدادية، وبذلك دمر التنوير نفسه وانتهى إلى البربرية. ولم تأتِ هذه البربرية من أعداء الحضارة الإنسانية، ولا من قوى خارجية، بل جاءت من العقل نفسه، ومن ثَمَّ لم تكن النزعة الشمولية والتسلطية في النظم المُخْتلفة وليدةَ اتجاهات لا عقلية، وإنما نشأت عن «التنوير» الضارب بجذوره في العصر الأسطوري وفي منطقِ أرسطو وذاتيَّة ديكارت، بحيث لم تكن إلا النتيجة النهائية لأصول شكلية وأداتية كامنة في عقلانيته التي فتَّتَت الطبيعة إلى موضوعات وذرَّاتٍ منفصلة لتُحكِم سيطرتها عليها، وتحكَّمت في عالم الفرد وأخضَعَتْه لمقاييسها الكمِّيَّة ومؤسساتها الإدارية والبيروقراطية وأجهزة دعايتها وتصنيع ثقافتها الجماهيرية؛ ولذلك فإن عمرها أطول من عمر الرأسمالية وسائر النظم التسلُّطيَّة.
من الواضح أن هذه الاتهامات الموجَّهة للتنوير والعقل الأداتي — على لسان هوركيهمر وأدورنو وماركوز — كان ينبغي أن توجَّه لتطبيقاته التِّقَنية الفاسدة وممارساته غير الإنسانية. وكان المُتوقَّع أن يُعاد توجيه العقل الأداتي بما يتفق مع أهداف العقل التَّحرُّري، ولكن أصحاب النظرية النقدية مَضَوا في نقدِهم للعقل الأداتي إلى النهاية، وجسَّدوه في صورة عملية فكرية وعلمية وتقنية هائلة استَقلَّت بنفسها وبأهدافها التي تصبُّ في السيطرة والتسلُّط الشامل على الطبيعة والإنسان. بذلك أتمَّ العقل في رأيهم تصفية نفسه، وأصبح الفرد وحيدًا في مواجهة قوى لا عقلية قاهرة، تمثلت له في صورة أعتى أعدائه: التقنية والبيروقراطية. وكلما تزايدت الجوانب السلبية للعقلانية الأداتية ضَعُفَ أمَلُهم في المستقبل، وتركزت جهودهم في مرحلتهم الأخيرة في نقد الثقافة السائدة، بكلِّ عناصرها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفنية والأدبية، وقَصَرُوا مهمة الفلسفة أو وظيفتها الاجتماعية — على حدِّ تعبير هوركهيمر في كتاب ضمَّ مقالًا هامًّا تحت هذا العنوان مع مقالات أخرى — على تحرير الإنسان وتمكينه من مقاومة الواقع السائد وعدم الاستسلام لقِيَمِه التي تصوِّر له «النظم» أنها أبديَّة راسخة، وعلى تشخيص مرض العصر وعلاجه. ولم يكن هذا المرض المستشري في النظامين الشموليَّيْن المُعاصِرَيْن — الرأسمالية والشيوعية — غير التسلُّطية التي تُبرر نفسها تبريرًا عقلانيًّا (فكريًّا وفلسفيًّا وعلميًّا)، وتحتوي وعْيَ الفرد والجماعة وطاقَتَهما لتسويغ أوضاعها التي تجرد الإنسان من الوجود الحر المستقل، والحياة المباشرة الحميمية المبدعة.
والحق أن هوركهيمر وزملاءه لم يكفُّوا عن السعي إلى التغيير الجذري للمجتمع، ولم يفقدوا الأمل في مجتمع إنساني أفضل، على الرغم من ضياع ثِقَتهم بالعمل والممارسة الثورية التي تَبيَّن لهم إخفاق الجهات والأحزاب السياسية القائمة بها، ومن غَلَبَة التَّشاؤُم القائم على كتاباتهم الأخيرة بصورة تُوحي للقارئ بأنها تَنبُع من رؤية مأسوية للتاريخ الاجتماعي البشري، جعلتهم ينظرون إليه باعتباره تاريخ العذاب والظلم والشر المُلازم لطبيعة الإنسان، كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
ولكن هذا الحسَّ الفاجع لم يمنعهم في مرحلة تطوُّرهم الأخيرة من وضع آمالهم في تحقيق نوع من «اليوتوبيا» أو الفردوس «المفقود» الذي يَستعيد فيه البشر إنسانيتهم، ويتخلَّصُون من التَّشيُّؤ والاغتراب، ويتخفَّفُون من أحمال الظلم والشقاء، وذلك دون إفراط في التفاؤل والأمل اللذين أسرف فيهما معاصرهما الفيلسوف اليوتوبي الكبير إرنست بلوخ، ولهذا لا نَعْجَب من رجوعهم إلى البدايات التي أثَّرت عليهم في مطلع حياتهم، وتحوُّلهم في النهاية إلى نزعة شبيهة بتلك التي نَجِدُها في فلسفة الحياة والحركة التعبيرية والرومانتيكية الجديدة. وها نحن نجد هوركهيمر يعود إلى تشاؤم شوبنهور الذي أثَّر عليه في مطلع حياته ويعكف في سويسرا — بعد تقاعُدِه وسفره إليها مع صديقه بولوك سنة ١٩٥٨م — على كتابة بعض المقالات عنه وعن ماركس، كما يدوِّن عددًا من حِكَمِه وتأمُّلاته ويوميَّاته التي يقول في إحداها تحت عنوان «النظرية النقدية»: «إن تحريم اليهود لتصوير الله، أو تحريم كانط للضَّلال في عالم الحقائق في ذاتها، لَدَليل على اعترافهما بالمُطلق الذي يَستحيل تحديده. ويصدق هذا أيضًا على النظرية النقدية عندما تُقَرِّر أن الشر — وبخاصة في المجال الاجتماعي، وكذلك أيضًا في الأفراد — يمكن تحديد هويته، على العكس من الخير الذي يتعذَّر ذلك بالنسبة له. إن التحليل النقدي للمجتمع يشير إلى الظلم الغالب عليه، ومحاولة الانتصار على هذا الظلم قد أدَّت باستمرار إلى قدْرٍ أعظمَ من الظلم. وتعذيب شخص إلى حد الموت هو بكل بساطة نوبة غضب، أما إنقاذه — إن كان ذلك مُمكنًا — فهو واجب إنساني. وإذا شاء أحد أن يُعَرِّف الخير بأنه محاولة القضاء على الشرِّ، فإن ذلك معناه أن تحديده أمرٌ ممكن، وهذا هو الدرس الذي تُعلِّمُه النظرية النقدية …» (عن كتابه ملاحظات عن السنوات من ١٩٥٠–١٩٦٩م الذي نُشِرَ في عام ١٩٧٤م). إن نغَمَة التشاؤم التي تسري في النص السابق تكاد تنطق بأن شقاء الإنسان شيء كامن في وجوده وماهِيَّتِه، فهو لم يأت نتيجة تطورات تاريخية معينة، ولن ينتهيَ بانتهاء الفاشيَّة والرأسمالية والشيوعية. ولا بدَّ أن اتجاه هوركهيمر وزملائه — وفي مقدمتهم أدورنو — إلى السلب الجِذري والنفي الحاسم لكل الأوضاع القائمة، قد أدَّى بهم إلى الإغراق في الاكتئاب إلى حد العدميَّة (باستثناء أشعة أمل واهِنة في مجتمع أفضل قد يتحقق في المستقبل، وبُروق رجاء أو عزاء خطفت أبصارهم من الأعمال الفنية والأدبية العظيمة …) ولذلك يمكن أن تَصْدُق عليهما كلمة صديقهما الناقد الأدبي «فالتر بنيامين» عن اليساريين ذوي الاتَّجاهات اللاعقلية المُتطرِّفة عندما وصفهم بأنَّهم يمثِّلون اليسار المُكتئِب. وكأن الفلسفة قد أضاعت فرصة تَحَوُّلِها إلى ثورة لتغيير العالم كما أراد لها ماركس، فصارت مُهمَّتها الوحيدة مهمةً نقديةً نظرية تنحصر في توعية الناس بأن العالم لم يتغير بعدُ، وفي إعلان احتجاجها على الأوضاع القائمة، وتسمية الأشياء بأسمائها، وتمزيق أقنعة اللاعقل، والتعبير عن عذابات الإنسان مع التشبُّث بكلِّ بذرة أمل يمكن العثور عليها، وكأن لم يبق للفلسفة — في شعورها العميق بعجزها ويأْسِها — إلا أن تَسلب الواقع الفاسد وتتَّهِمه، وتصرَّ على مقاومتها الباسلة له، وتكون بمثابة جزيرة للمقاومة وسط محيط التسلُّط الذي يُغرق كل شيء. وقد كانت هذه هي النهاية الطبيعية للمثقَّفِ الماركسي «البرجوازي» ومشروعه الثوري الذي لم يتجاوز الحدود الفردية والنظرية إلى العمل والممارسة الجماعية، ولعلَّ هذا أن يكون هو سر القطيعة التامة بين أصحاب النظرية النقدية من مدرسة فرانكفورت وبين حركة الطلاب المُتَمرِّدين الذين ثاروا في سنة ١٩٦٨م على كل أشكال السلطة؛ فقد أخذوا عنهم الدَّوافع الثورية، وافتقدوا «دليل العمل» الذي كان عليهم أن يَهتَدُوا إليه بأنفسهم؛ ولذلك صُدِمَ «هوركهيمر» و«أدورنو» صدمة عميقة عندما وجَدَا الطلاب يهاجمونهما شخصيًّا، وعَرَفا أن الشباب الذين علَّقُوا عليهم أملهم الوحيد في التغيير الاجتماعي قد خذلُوهُما ورفضوهُمَا.
(٢) أدورنو، تيودور فيزنجروند Adorno, Th. W. (١٩٠٣–١٩٦٩م)
فيلسوف وباحث في الاجتماع والنقد الأدبي وفلسفة الجمال، وبخاصة النظرية الموسيقية. يعدُّ — بجانب صديقه ماكس هوركهيمر الذي اشترك معه في تأليف كتاب «جدل التنوير» المعبِّر عن النظرية النقدية — من أهم رواد هذه النظرية.
دفعته مُيولُه الموسيقية في بداية حياته إلى التَّتَلْمُذ في فيينا على المؤلف الموسيقِي «ألبان بيرج»، والانضمام لحلقة «شونبرج» التي تفكَّكَت عام ١٩٢٨م، فرجع إلى موطنه الأصلي في مدينة فرانكفورت على نهر الماين، وانضمَّ إلى جماعة هوركهيمر الذي تولَّى سنة ١٩٣٠م إدارة معهد البحث الاجتماعي الذي كان قد تأسَّسَ في هذه المدينة سنة ١٩٢٣م، وعندما قام النازيون بحلِّ المعهد لجأ إلى إنجلترا وأقام عدة سنوات في أكسفورد، ثم لحق بمعظم أعضائه الذين هاجروا إلى نيويورك وواصلوا هناك دراساتِهم في نقد المجتمع «البرجوزاي» وثقافته الرأسمالية «المُصَنَّعة» التي دمغُوها بالشمولية والقمع والتسلطية. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تلقَّى دعوة للتدريس في جامعة فرانكفورت، فانتقل إليها مع هوركهيمر ومعهد البحث الاجتماعي، وتولَّى معه الإشراف عليه، ونشر في مجلَّته (مجلة البحث الاجتماعي) معظم مقالاته ودراساته التجريبية والنقدية الاجتماعية والجمالية التي ترَكَّزَت حول تحليل «التَّسلُّطية» بوصفِهَا سمةً شخصيةً وطابعًا مميزًا للمجتمع — وبخاصة المجتمع الشمولي الرأسمالي والاشتراكي — وتتبع جذُورها «المعادية للسامية» في نظام الطغيان النازي.
من أهم مؤلفاته: النقد البعدي لنظرية المعرفة، ١٩٣٦م (ويناقش فيه فلسفة الظاهرات لهوسرل)؛ جدل التنوير، ١٩٤٧م (بالاشتراك مع ماكس هوركهيمر)؛ فلسفة الموسيقى الجديدة، ١٩٤٩م؛ دراسات أخلاقية صغيرة، ١٩٥١م؛ ثلاث دراسات عن هيجل، ١٩٦٣م، موشورات، نقد الثقافة والمجتمع، ١٩٦٣م؛ رطانة الأصالة (وهو هجوم شديد على فلسفة هيدجر) ١٩٦٤م؛ ملاحظات عن الأدب (في جزأين ١٩٥٨م، ١٩٦٩م)؛ الجدل السلبي، ١٩٦٦م؛ النظرية الجمالية، ١٩٧٠م؛ كيركجور، تكوين الجمالي، ١٩٧٤م (ويقوم على رسالته في الدكتوراه لسنة ١٩٣٣م).
-
(أ)
على الرغم من تعدُّد اهتمامات «أدورنو»، فثمة مقولات أساسية تقوم عليها فلسفته في التاريخ، وتحليلاته النقدية للوعي الاجتماعي والمعرفة والثقافة والفن في المجتمع الرأسمالي والاشتراكي بوجه خاص، والمجتمع الإنساني بوجه عام. ويبدو أنه قد تأثَّر تأثُّرًا كبيرًا بما لاحظه فيلسوف الحياة جورج زيميل (١٨٥٨–١٩١٨م) من أن تاريخ الفلسفة يكاد يخلو من الإشارة إلى عذاب الإنسان ومعاناته المأساوية. وقد جعل أدورنو هذه الملاحظة العميقة شعارًا موجِّهًا لتفكيره، واهتم بالتعبير عن انكسار الفرد عبر التاريخ الاجتماعي كله والتاريخ المعاصر خاصةً، وتحطيمه بفعل قوى غاشمة مجهولة. ولا شك أن انحدِاره من أصل يهودي وإحساسه باضْطِهاد اليهود في أوروبا وألمانيا النازية — قبل كل شيء — قد جعله يطلق هذا السؤال ويرد عليه بطريقة فلسفية تتخطَّى البربرية النازية إلى التاريخ الغربي «المخرب» بأكمله: «هل بقيت فرصة للحياة أمام من نجَا من أوشفيتس (وهو المعقل النازي الرهيب)، أو هل يحقُّ له أن يعيش وقد كان مقضيًّا عليه بالهلاك؟ إن الرعب والشقاء يَدْمَغَان التاريخ البشري، ولم تكن الفاشية إلا ذروةَ التعاسة والعذاب. وجحيم الشرِّ البشري الذي فَغَر فَاهُ في «أوشفيتس»، سيظلُّ في المستقبل يلْتَهِم ضحايا جديدة، فمجرَّد حدوث ما حدث — على الرغم من التراث الفلسفي والفني والعلمي المستنير — يعني شيئًا أكثر من القول بأن العلوم وأن الروح والثقافة … إلخ قد عجزت عن التأثير على البشر وتغييرهم. إن الثقافة كلها بعد أوشفيتس — بالإضافة إلى النقد الحادِّ لها — لا تعدو أن تكون قمامة». لقد كشف «الروح» عن قناعه، وتجرَّد من ثِيابه الثقافية، واتَّضح سقوطه في «سلبيَّتِه» التي لا قرار لها. كيف أمكن إذن أن يحدث كل ما حدث في ظلِّ الفاشية النازية؟
ويحاول «أدورنو» مع زميله «هوركهيمر» أن يُجيبَا على هذا السؤال في كتابِهما الأساسي «جدل التنوير» بتَتَبُّع التاريخ الغربي منذُ بداياته الأسطورية، ومحاولة تفسيره انطلاقًا من تجارب الحاضر، واستنادًا إلى ماركس، في قولهما بأن التاريخ في حقيقته هو تاريخ القوة أو السيطرة والسلطة، غير أنهما يخالفان ماركس في تفسير تاريخ السلطة والتسلُّط على أساس ظروف الإنتاج وأدواته وعلاقاته السائدة؛ إذ يمُدَّان جذورهما جميعًا في «إرادة السلطة» الأسبق منها؛ ولذلك يتجاوز نقدهما نظام الملكية والإنتاج إلى نظام المعرفة والتفكير والعقل الذي يتصورانه «أداة التسلُّط»، فعن طريق العقل بأدواته المعرفية من مفاهيم ومقولات … إلخ تتسلَّطُ الذات على الطبيعة وتجرِّب نفسها بوصفِها ذاتًا. وهذا الأسلوب الذي تتحقَّقُ به ذاتية الإنسان يقوم في الواقع على «الاعتراف بالسلطة — أو القوة — بوصفها المبدأ الذي تقوم عليه جميع العلاقات»، ويعتقد أدورنو وهوركهيمر أن الأصل في جدل التاريخ يكمن في هذا المبدأ الذي لم يكفَّ أبدًا عن التحقُّقِ؛ لأن البشر «يدفعون ثمن تَزَايُدِ قوَّتهم وسلطتهم بالاغتراب عمَّا يمارسون عليه القوة والسلطة»، أي عن الطبيعة.
ومع أن محاولة إخضاع الطبيعة قد بدأت مع الأسطورة، إلا أن «انتصار الذات على الموضوع» قد تحقَّقَ مع «التنوير» الذي قضى على الأسطورة بالتحلُّلِ والانهيار؛ فالتنوير يهدف إلى السيطرة النهائية على المادة وتجريدها من وهم خصائصها السحرية الخفِيَّة، وهو يصلُ إلى تحقيق هذا الهدف بإدراج معانيها الأصيلة المتعدِّدَة تحت مَقُولاته المنطقية العامة، وتحليلها وتصنيفها وَفْق مفاهيمه وتصوُّراته، وبذلك يُخْضِعها للقياس والحساب ويُحْكِم سيطرته عليها. غير أن التنوير الذي أخضع كل شيء لسلطته، يصبح هو نفسه نوعًا من السلطة ويرتد «أسطورة»، والوضعية — وهي أسطورة الواقع على ما هو عليه — هي أحدث أشكال التنوير الذي تحوَّل إلى سلطة، وتحقيق هذه السلطة — عن طريق «تسوية» كل ما هو فريد وخاص ومباشر من خلال المفاهيم العامة، وبواسطة المنهج والنظام في العلم والتقنية والإدارة — قد عمل على مضاعفة اغتراب الإنسان الحديث عن الطبيعة؛ بل إن الحضارة أو المدنية التي شكلتها أدوات التسلُّط المذكورة أصبحت تُمثِّل قوة طبيعية عمياء في مواجهة الفرد العاجز. وهكذا تؤدي الحضارة والمدنية في نهاية المطاف إلى الطبيعة المخيفة. وكأن الإنسان في ظلِّ الحضارة البرجوازية «المستنيرة» هو صورة جديدة من «أوديسيوس» العقلاني الماكر المُسَاوم (كما تُذَكِّرُنا به ملحمة هوميروس وهو في كهف العملاق بوليفيم ذي العين الواحدة) الذي انتصر بدهائِه على هذا المارد الطبيعي المُتوَحِّش، وخرج من انتصاره عليه بالوعي بحريَّتِه ووجوده، غير أنَّه خرج منه كذلك بفُقدَان هُويته لذاتيَّتِه الحقيقية، وبذلك جسَّد مبدأ «المقايضة» الذي تقوم عليه الحياة في المُجتمع البرجوازي، إذ يتمُّ كلُّ شيء على ما يُرام ويُبْرَم العَقد، ومع ذلك يُخدَع الشريك.
-
(ب)
ويرجع «أدورنو» إلى ماركس وفكرته عن «تَشَيُّؤ» الإنسان واستِلابه أو اغترابه في ظلِّ العلاقات البرجوازية والرأسمالية، وتصوير نماذج السلوك والتعامل بين الناس فيها، فالسلع لا تُقاس بقيمتها الواقعية التي يحدِّدها الاستخدام، وإنما تُقاس بقيمةٍ مجرَّدَةٍ يحدِّدُها السوق، ويُردُّ كل شيء إلى هذه القيمة المجرَّدة، فيُقَارَن بأيِّ شيء آخرَ ويُقَايَضُ به، ويتمُّ التوحيد بين كائنات مفردة وإنجازات متفاوتة وغير قابلة للتوحيد بينها، ويتسع تطبيق هذا المبدأ على العالم كله فيطبعه بالوحدة (الهوية) والشمول، ويُضحِّي كل ما هو خاص وفريد بقيمَتِهِ الخاصة المتفردة، في هذا المجتمع الذي سيطر عليه تفكير محصور في الثمن والمقايضة، والتوحيد الفاسد بين العام والخاص، واستبعاد كل ما هو كَيْفِيٌّ وتِلقَائي واحتوائه في ذلك المبدأ الذي يتحكَّم في المجتمع ويطبعُه بطابعه الكليِّ أو الشُّمولي الذي يشدِّدُ قبضته على البشر ويوهمهم بأنهم ذواتٌ فاعلة مُتميِّزَة، بينما يحرِمُهم بصورةٍ قَبْلِية من أن يصبِحُوا ذواتًا حقيقية، ويحطُّ من قدر الذاتية فيهبط بها إلى حضيض الموضوع أو السلعة فحسب.
ويمتدُّ التعميم والتسوية لكلِّ ما هو جوهري إلى التفكير والحكم، فلا يكون للفرد مضمون لم يكوِّنْه المجتمع، ولا يقتصر الأمر على انغماس الفرد في المجتمع، بل يتعدَّاه إلى إرجاع الفضل إليه (أي إلى المجتمع) في وجوده بالمعنى الحرفي لكلمة الوجود، فكلُّ مضمونه مُسْتَمَدٌّ منه أو من علاقته بالموضوع. وهكذا نجد «أدورنو» يعكس مقولة هيجل الشهيرة: «الكلِّيُّ هو الحقيقي»؛ لتصبح: «الكلي هو غير الحقيقي»؛ إذ لم يَعُد من الممكن في نظره التَّعرف على الكل إلا في السياق الاجتماعي المُسيطر والمتسلِّط بصورة كلية؛ ولذلك يبقى على الإنسان أن يخلق هذا الحق ويوجده بنفسه، إن كان إلى إيجاده من سبيل، ولكن كيف يتمُّ هذا؟ بالتغيير الثوري على يد «البروليتاريا» مثلًا؟ يبدو أن ذلك كان هو رأي «أدورنو» و«هوركهيمر» في بداية حياتهما، وأن بحوثهما العلمية ودراساتهما التجريبية والنظرية في «معهد البحث الاجتماعي» قد اتجهت في الثلاثينيات إلى تمكين الطبقة العاملة من إحداث الثورة الاجتماعية، ولكن النظرة المأسوية المتشائمة إلى التاريخ الاجتماعي في جملته لم تلبث أن غلبت عليهما بعد نجاح الفاشيين في الاستيلاء على السلطة، وبعد التجارب الأليمة التي مرَّا بها في منفَاهُما أثناء الحرب العالمية الثانية.
-
(جـ)
ويرتبط هذا كله ﺑ «الجدل السلبي» الذي يحتاج منا إلى وقفة قصيرة، فالتناقضات الكامنة في أساس المجتمع تواصل تأثيرها على التفكير، وما يُمزِّق المجتمع إلى أضداد متصارعة — أي مبدأ التسلط — هو نفسه الذي يُسبِّب الاختلاف بين المفهوم وبين (الموضوع) الخاضع له؛ ذلك أن التفكير التصوري (أي من خلال التصورات والمفاهيم العقلية) نوع من الاغتصاب للموضوع، فالذات التي تَفهم هي التي تُلغِي أو «ترفع» تفرُّد الموضوع — على حدِّ تعبير هيجل — وتحتويه في مفهومها العام وتتوحَّد به وتستوعِبه بصورة «مثالية»؛ ولذلك لا يستطيع التفكير من خلال التصورات والمفاهيم أن يكون مُنصفًا للموضوعات التي «يفهمها».
إزاء هذه المحاولة من جانب الذات ﻟ «تملُّك» الموضوع واستيعابه بالفِكْر — وهي محاولة تعكس وَهْمَ الوحدة أو الهُوية التي يتصوَّر المجتمع أنه نجح في التوصل إليها — يُطالب أدورنو بالحفاظ على «عدم وحدة» الموضوع أو عدم هُويته. وبِقَدْر ما يسعى التفكير لتحقيق هذا الهدف، يُصبح تفكيرًا جدليًّا، كما يصبح الجدَل هو الوعي ﺑ «اللاوحدة»، ولكن هل يُمكن تحديد هذه اللاوحدة إلا عن طريق المفاهيم؟ ألا يبدو أن تحقيق مثل هذا الجدل شيء مُستحيل؟ والجواب: إن هذا النوع من الجدل يَتَعيَّن عليه أن يُجاوِزَ المفهوم بواسطة المفهوم ويقتَرِبَ بقَدْرِ الإمكان ممَّا يخلو من كلِّ مفهوم، بحيث يستغرق الوعي — إذا صَحَّ هذا التعبير — بصورة غير واعية في الظواهر التي يتَّصلُ بها أو يدخل معها في علاقة.
بهذا يهدف التفكير الجدلي السالب إلى الإبقاء على اختلاف «الآخر» والحفاظ عليه، وهو هدف لا يحقِّقه الوعي الفردي وحده، وإنما تتولَّاه إنسانية تحرَّرت من الاغتراب عن الأشياء والناس ووَصَلت إلى التَّصالح مع نفسها، فإذا تمَّ لها ذلك لم تَعُد بحاجةٍ لاحتواء «الآخر» المُختلِف عنها ﺑ «الاستعمار الفلسفي»؛ لأنها سَتَجِدُ سعادتها في احترام اختلافه عنها، وتَستَغْنِي عن تَمَلُّكِه أو جعله تابعًا لها.
ويتَّضحُ الهدف من الجدل السلبي أو السالب من خلال التَّسليم بأولوية الموضوع من ناحية، ورفض التفكير النَّسَقِي من ناحية أخرى. ويُبرِّر أدورنو أولوية الموضوع — في عملية التوسُّط الجدلي المعروفة بين الذات والموضوع — بأن «الذات» تحتاج دائمًا إلى توسُّط «الموضوع» لكي تصبح ذاتًا، ومن ثم لا يكون أبدًا هو «الآخر المطلق» بالنسبة لها. صحيح أنه لا يمكن التفكير في الموضوع إلا عن طريق الذات، ولكنَّه يظلُّ دائمًا هو المُعْطَى لها بوصفه الآخر المختلف عنها، ولو اعترفت باختلافه عنها لتخلَّت عن طُموحِها الفاسد إلى تملُّك «الكل» واحتوائه وقَسْرِه على الدخول في مفَاهِيمها، وهو الطُّموح الذي أغرَى النَّسَق الفلسفي (المثالي والعقلي والوضعي)، وأَوْهمَ النظام الاجتماعي الشمولي بأنَّه قد انتصر عليه تمامًا. والفكر الجدلي الحقيقي هو الذي يكشف عن تناقضات هذا النظام وذلك النسق اللذين يدَّعِيَان الكليَّة والشمول، وهو الذي يبتعد عن التأليف (أو التركيب) الذي يُصالح بين الأضداد، ويَحرص على أن يظلَّ مفتوحًا وغير مُكتمل ولا نهائي حتى لا يسقط في وهم تعقيل العالم والواقع اللامعقول، ولا ينزلِق إلى تبريره بدلًا من مقاومته وتعرِيَة تسلُّطِيَّته، ويُثبت أن الدعائم المنطقية والفلسفية والعلمية التي يرتَكِز عليها إنما هي «صور الرُّعب والدوار الذي يَستولي على مجتمع مُهدَّد بالانهيار»؛ بل إن فلسفة أدورنو وجدله السلبي ليَتَحَتَّمُ عليهما أن يَثُورا على نفسهما ويقاوما منطقَهُما ومفاهيمَهُما العقلية؛ لأنهما في النهاية «نسخة من العَمَاية الكلية ومن النقد الموجَّهِ إليها». ويبقى الأمل في الخلاص مرهونًا بقدرة الذات على اكتشاف حقيقة «الآخر» الذي يُشِعُّ بريق ألوانه من العمل الفني، كما يظلُّ معلَّقًا ببطولة بعض الأفراد الذين استطاعوا في الماضي — وسوف يستطيعون في المستقبل — اختراقَ العَمَاية الاجتماعية الشاملة وعدم الاستسلام لها، ومقاومة عالم المقايضة التَّسلُّطي بفضل «صمود العين التي لا تريد أن يُقضى قضاءً مُبرمًا على ألوان العالم»، وبالأمل في الحقيقة والخلاص المُمْكِنين، على الرَّغم من أن تجارب التاريخ والاجتماع البشري تُحرِّم علينا التفكير في أيِّ أمل، باستثناء أملٍ واحدٍ نَشعر معه أن «اللاموجود» قد أمكن أن يُوجَد، وأن المُستحيل قد أصبح مُمكنًا، وهو الأمل المُنبَعِث من الأعمال الفنيَّة والقُدرَة على إبداعِها وتذوُّقها، ومن جمالها الخالد الذي يتألَّقُ بنور الإمكان والواقع معًا. وكلُّ هذا مُرتبط بوظيفة الفن الحقيقية في الرفض والنقد والتَّثْوير، وبالتعبير الجمالي عن مقاومة الفرد وتحرير وَعْيِه من الاغتراب أو الاستِلاب الذي يَخنِقُه ويحاصره في ظل النُّظُم العقلانية الشمولية المتسلِّطَة عليه.
-
(د)
ذلك هو مُجمَل فلسفة شديدة الحساسية لعذاب الإنسان وتعذيبه بالتسلُّط أو القهر الذي فُرِضَ عليه طوال تاريخه الاجتماعي أو الذي فرضه بنفسه على نفسه، وهي تُذكِّرنا بعناصر أساسية في فلسفة كيركجور وشوبنهاور ونيتشه وألبير كامي بوجه خاص — على الرغم من الاختلافات بينهم جميعًا — إذ تُعبِّر في النهاية عن إيمان صاحبها بأن الوجود لا يمكن أن يكون مُحالًا أو عبثًا، برغم العبثيَّة المُحيطة به من كل جانب، كما تُهيب بنا ألَّا نُهادِنَ ولا نَستسلِم أو نتوقف عن استخدام العقل بطريقة نقدية جِذرية، على أملٍ أن يُساعد النقدُ على تحرير الواقع القائم من التَّسلُّط، وإزالة المعوِّقات من طريق التَّفتُّح الفرديِّ الخلَّاق على آفاق المستقبل والفن والحلم اليوطوبي المناقِضَة كلها لذلك الواقع.
ومع ذلك فإن هذه الفلسفة تعبر أيضًا عن تشاؤُم ويأس عَمِيقَيْن، إذ تحذِّرنا من أن التجربة التاريخية تَسْخَر من كلِّ أملٍ وكلِّ تحرُّرٍ ذاتي، «فقوة الذات» تَصطَدِم دائمًا بحدُودِها، وهذه الذاتُ التي تصرُّ على المقاومة والإبداع تشعر باستمرار أنها مكبَّلة بأغلال الموضوع، وأنها عاجزة عن الإبداع الحرِّ ومحرومة منه، وأن الحقيقة والوجود اللذين تصل إليهما مطبوعان بطابع التَّمزُّق والانكسار. عبثًا تلجأ إلى عقلها العاجز، وإذا اعتصمت بالله أو «العالي» خَشِيَتْ أن يكون ذلك تأكيدًا لعجزها أو محاولةً «أيديولوجية» لتجميل الواقع الناقص، ثم إن التجربة الأليمة بوجودي العرضي الناقص (وهي من أهم تجارب التَّفلسُفِ الغربي الحديث والمعاصر من ديكارت وكانط إلى ياسبرز وهيدجر وبلوخ) تَحُول دونَ البهجة الحقيقية بالحياة، وتُظهِرها في صورة شديدة السَّذاجة والفجاجة. ومع أن أدورنو يُعبِّر أحيانًا عن تَضامُنه مع الميتافيزيقا التقليدية التي لم تسمح — في رأيه — ﺑ «أن تكون الكلمة الأخيرة للعدم أو السلب المُطلق»، فإنه يقف وقفةَ المَذهول الحائر أمام إحدى مقولاتها الكلاسيكية التي تؤكد وحدة الوجود والخير، وترفض الاعتراف بقوَّةِ الشرِّ وفاعليته المُخيفة، غير أنه يعود إلى إيمانه بذلك الأمل الذي يتبقَّى من تلك «الطمأنينة الميتافيزيقية لحظة سقوطها»، وهو — كما سبق — مجرَّد أمل غامض هشٍّ لا مُبرِّرَ له من التاريخ أو الأنطولوجيا (نظريَّة الوجود) أو الدين.
-
(هـ)
هكذا تَمتزج هذه الفلسفة بعناصر وجودية ربما تعطينا الحقَّ في وصفها بأنها «ماركسية وجودية»، فالحقيقة والأمان لا سبيل إليهما إلا بنوع من خِداع الذات، وهي تحاول جهدها تعرية هذا الخداع الشامل وإلقاء أضوائها الخاطفة — كالبروق التي تَسْطع ثم تنطفئ — على حقيقة الواقع بكلِّ تناقُضاته وأكاذيبه، بَيْدَ أنها لم تَبْرَأ من معاناة تناقضاتها الذاتية، ولم تَسْلَم من التَّهافُت والغموض الشديد، فهي تعمِّمُ تَجارب صاحِبها الخاصَّة — وتجارب قومه الذين «كانوا» مُضطَهَدِين قبل أن يُمعِنُوا في اضطهاد غيرهم! — تعميمًا غير مشروع من الناحية المنطقية، وتَعجز عن تقديم معيار واضح للتفرقة بين حاجات الإنسان الحقيقية وحاجاته الزائفة، وتَستثنِي فكرَها الجدلي السلبي — إلا في الحدود الضيِّقة التي أشرنا إليها — من العمَاية الشاملة التي تدْمَغ بها المجتمع البشري بغير استثناء، وتَلتزِم بنقدِ الشُّرور الاجتماعية مع الهروب من صياغة قواعد مُحدَّدَة لهذا النقد أو عرض مضمونه المعرفي عرضًا دقيقًا، على زَعْم أن ذلك كله نوع من الادَّعاء الكاذب.
لقد انطلقت فلسفة «أدورنو» في التاريخ من تجربة معتقل أوشفيتس، ولكن يبدو أنها انتهت إليها أيضًا، وجعلت من أهواله مقياسًا مطلقًا للتجربة التاريخية كلها (على الرغم من عدم اعترافه بوجود أي مقياس مطلق، ولو كان هو مقياس السلبية المطلقة، ومن توَفُّر شواهد عديدة من واقع الحياة في ذلك المعتقل نفسه على وجود التعاطف الإنساني والحب والأمل رغم كلِّ شيء …). إن الجحيم نفسه يمكن أن يكون المَوضع الذي ينبعث منه المُطلق ويولد فيه الأمل، على نحو ما كان موتُ المسيح في جلجثة — في عقيدة الفداء المسيحية — وكذلك موت كل شهيد قبله أو بعده إيذانًا بميلادٍ وبعثٍ جديدٍ؛ ولذلك لا يمكن أن يكون «أوشفيتس» نقطة تاريخية ثابتة في مجرى التاريخ الذي يستحيل أن يخلو من كل أمل، ويكفي اليوم أن نستشهد على هذا الأمل الذي لا يخبو نوره بتجارب الجوع الفاجعة في الصومال، وممارسات الإبادة الوحشية للمسلمين الصامدين في سراييفو المحاصرة بذئاب الصرب.
وهنا لا يملك الكاتب أو المفكر من العالم العربي إلا أن يسأل «أدورنو» وصَحْبَه المنحدرين من أصل يهودي: لماذا «أوشفيتس» بالذات؟ أمِنَ الحقِّ أنها وحدَهَا هي الجحيم المُطلق والمقياس المطلق لتسلُّط الإنسان على الإنسان؟ لقد عاصرتم قيام دولة إسرائيل العُدوانية العنصرية، فلماذا لم تتذكَّروا مذابح دير ياسين وكفر قاسم وغيرهما، حتى فظائع «جيش الدفاع» الصهيوني في السادس المشئوم من حزيران (يونيه) سنة ١٩٦٧م)؟ ولقد سمعتم وسَمِعْتَ عنها بالتأكيد قبل وفاتك يا أدورنو، فلماذا لم تحرِّك وترًا إنسانيًّا واحدًا في نفسك؟ ناهيك بفظائع جُند إسرائيل مع أطفال الحجارة وشبابها ونسائها وعجائزها العُزَّل الذين لم تشهد أنت مأساة بطولتهم، ولم تحرِّكْ كذلك وترًا واحدًا في نفوس الأغلبية العُظمى من «الفلاسفة» و«المفكرين» و«العلماء» من أبناء جلدتك ومِلَّتِك.
ومع ذلك يبقى لهذه الفلسفة أنَّها تمسَّكت بنزعة نقدية حاسمة على الرغم من تحيُّز هذا النقد في جوانب غير قليلة، وأنها قد جدَّدَت تفكير هيجل الجدلي بصورة اجتماعية شاملة، وعصَمَتْه من التوسُّط والتصالح المثالي، وحافظت على حدَّة تناقضاته متأثرةً في ذلك بكيركجور، ووظَّفت العقل النقدي في تحليل الوعي المغتَرِب وكشف أقنعته الرأسمالية والاشتراكية، وحمَّلت الإنسان الفرد مسئولية مقاومتها وعدم الاستسلام لأغلفتها المنطقية والعلمية. ومن مآثرها أخيرًا أنها قد أبقت على الأمل الوحيد في الإبداع والفن الذي ظلَّ عندها هو المظهر المُعبِّر عمَّا يستحيل أن تصل إليه يدُ الموت والفناء، وإن لم تحاول أن تضع هذا الأمل على أساسٍ «أنطولوجي» وطيد، فبقي عنده وعند صديقه «بلوخ» أملًا ساخرًا أخَّاذًا، لكنه مُهدَّد على الدوام — كغيره من الآمال التي لم تنجُ من تشاؤمهما! — بالتعرُّض لخيبة الأمل.
(٣) ماركوز، هيربرت Marcuse, Herbert (١٨٩٨–١٩٧٩م)
فيلسوف اجتماعي وسياسي من أصل يهودي ألماني، اشترك مع زملائه ومواطنيه الماركسيين الجُدد من أعضاء «مدرسة فرانكفورت» في تأسيس «النظرية النقدية»، وقام في الستينيات بدور المنظِّر والمُلهم لليسار الجديد وثورة الشباب والطلاب في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية. وُلِدَ في برلين في سنة ١٨٩٨م لعائلة يهودية ثريَّة، وتلقَّى تعليمه الثانوي في مدرسة «أوجستا»، دفعه عداؤه للحرب إلى الانضمام للحزب الاشتراكي الألماني، ثم انفصل عنه بعد اغتيال زعيميه: روزا لوكسمبورج وكارل ليبكنشت اللذين كان يقَدِّرُهما ويتعاطف معهما، واتجه لدراسة الفلسفة — بعد فشل الثورة البروليتارية الألمانية وخيبة أمله في الحزب — في جامعتَي برلين وفرايبورج التي حصل منها على الدكتوراه في سنة ١٩٢٢م برسالة أعدَّها تحت إشراف فيلسوف الوجود مارتن هيدجر عن «رواية الفنانين في الأدب الألماني» والعلاقة بين الفن والمجتمع، ثم اشتغل عدة أعوام بأعمال النشر وتجارة الكتب في برلين، وتولَّى وظيفة قارئ أو فاحص للإنتاج المقدم لإحدى دور النشر بها. عاود دراسة الفلسفة في جامعة فرايبورج، ولكن الاختلافات الفكرية والسياسية بينه وبين أستاذه السابق (هيدجر) — الذي كان في تلك الفترة يتعاطف بصورة ملحوظة مع اليمين الرجعي الاستبدادي (النازي) — حالت بينه وبين إتمام رسالة الدكتوراه للتأهيل الجامعي تحت إشرافه، وتدخَّل «هُسرل» — مؤسس فلسفة الظاهرات (الفينومينولوجيا) والأستاذ المرموق بالجامعة نفسها — فتوسط له عند هوركهيمر الذي كان يتولَّى إدارة معهد البحث الاجتماعي الشهير في فرانكفورت منذ سنة ١٩٣٠م، فتابع النشر في مجلة المعهد وصار من أهم أعضائه ومُمَثِّلي «مدرسة فرانكفورت» نفسها. هاجر مع بعض زملائه بعد استيلاء النازية على الحكم وإغلاق المعهد إلى جِنيف ومنها إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث أعادوا تأسيس المعهد في جامعة كولومبيا بنيويورك، واستمرَّ عمله بالمعهد في موطنه الجديد حتى حصوله على الجنسية الأمريكية سنة ١٩٤٠م، والتحاقه بمكتب الخِدمات الاستراتيجية من سنة ١٩٤١م إلى سنة ١٩٤٤م، ثم بوكالة المخابرات السرِّية الأمريكية التي شغَل فيها وظيفة رئيس القسم الخاص بشئون وسط أوروبا من سنة ١٩٤٦م إلى سنة ١٩٥٠م، ثم أصبح عضوًا في معهد الدراسات الروسية التابع لجامعة كولومبيا من ١٩٥١م إلى ١٩٥٢م، ومركز البحوث الروسية التابع لجامعة هارفارد بولاية ماساشوسيتس من ١٩٥٢-١٩٥٣م، وأستاذًا للفلسفة وعلم السياسة بجامعة براندايس في الولاية نفسها من سنة ١٩٥٤م إلى ١٩٦٥م فأستاذًا للفلسفة بجامعة كاليفورنيا من سنة ١٩٦٥م إلى سنة وفاته في شهر يوليو سنة ١٩٧٩م.
يقتضي الحديث عن «ماركوز» في هذا المجال المحدود أن نضع تفكيره الاجتماعي النقدي في إطار الأحداث السياسية البارزة في عصره، ومَجْرى تياراته واتجاهاته الفلسفية المؤثرة عليه وعلى جيله، منذ أن بدأ من الهيجيلة — التي كان له فضل كبير على تأكيد أُسُسِها الثورية والنقدية للمجتمع — إلى أنِ انخرط مع زملائه من أعضاء مدرسة فرانكفورت في نَزْعَتهم الماركسية الجديدة التي تبلْوَرَت في نظريتهم النقدية للواقع اللاإنساني واللاعقلي السائد في المجتمعات والأنظمة الشمولية (الرأسمالية والفاشية والشيوعية)؛ فقد جرَّب مع جيله من المثقفين اليساريين فشل القوى والأحزاب الماركسية والاشتراكية الألمانية والأوروبية في الوصول إلى السلطة بعد قيام ثورة أكتوبر السوفيتية وانتهاء الحرب العالمية الأولى، ثم استيلاء الفاشية والنازية على مقاليد الحكم في إيطاليا وألمانيا، وازدياد قوة النظم اليمينية الرجعية في بقية المجتمعات الأوروبية. وقد شرع «ماركوز» في صياغة تحليله الماركسي ونظرياته النقدية بعد مغادرة بلاده وهجرته مع زملائه إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد سيطرة النزعة الحرفية المُتَزَمِّتة على الماركسية السوفيتية في ظلِّ الإرهاب الاستاليني، مما جعله يتَّجه مع غيره من الماركسيين الأوروبيين إلى تحليل الرأسمالية الاستهلاكية في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وتعْرِيَة مجتمع «الوفرة والرفاهية» — الذي يدَّعي الحرية والعقلانية والديمقراطية وصيانة الكرامة الفردية — من أقْنِعَته الزَّائفة المُعادية للحرية والإنسانية والديمقراطية، وقد كان الدور الحقيقي الذي قام به «ماركوز» وساهم فيه عدد من زملائه الذين سبقت الإشارة إليهم، هو محاولتهم إحياء الماركسية «الأصيلة» في رأيهم، والحفاظ على طاقتها النقدية الجدلية المُرتَكزة على تفكير ماركس الفلسفي والإنساني المُبَكِّر، والإيمان برسالة الفلسفة في التحرير والخلاص من نظم القمع والقهر، والتبشير ﺑ «يوتوبيا» أو نظام مُضاد وبديل عنها.
يمكن تقسيم مراحل التطور في تفكير ماركوز إلى ثلاث: فالمرحلة الأولى تمتدُّ من حوالي سنة ١٩٢٨م إلى سنة ١٩٣٢م، والثانية من سنة ١٩٣٣م إلى سنة ١٩٤١م، أما الثالثة فتَستغرِق الفترة الزمنيَّة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية. وسوف نتحدَّث عن هذه المراحل بالترتيب لمُتابعة المُؤثرات المختلفة على تفكيره، والتغيُّرات التي طرأت عليه، وأهم الكتب التي أصدرها، وأوجُه النقد التي وُجِّهت إليه.
(٣-١) المرحلة الأولى
يُمكن القول بأن تفكير ماركوز قد تأثَّر في هذه المرحلة بالنزعة الهيجلية الجديدة — التي وضع حجَر أساسها كتاب «لوكاتش» الشهير «التاريخ والوعي الطبقي» (١٩٢٣م) — وكان لِمِثاليَّتِها الذاتية والجدلية النقدية تأثير ملحوظ فيما بعد على معظم زملائه من مدرسة فرانكفورت، وقد تلوَّن تفكيره المبكر كذلك بفلسفة الحياة — وبخاصة عند «دلتاي» (١٨٣٣–١٩١١م) — التي تميزت بنزعتها الحدْسِيَّة، وتأْسِيسها لعلوم «الروح» أو العلوم الإنسانية على المشاركة الحيَّة والتَّفهُّم الوجداني ومنهج التفسير أو التأويل التاريخي والذاتي الذي عُرِفَ منذ أيامه ويُعْرَف اليوم باسم «الهيرمينويطيقا»، كما تميزت هذه المرحلة بمراجعته لمفهوم الجدل (الديالكتيك) الماركسي، ومحاولته وضع هذا الجدل المادي والتاريخي على الأُسس «الأنطولوجية» التي تقوم عليها فلسفة الوجود عند أستاذه هيدجر الذي كان قد بدأ الدراسة معه، وإعداد رسالته في الدكتوراه تحت إشرافه في جامعة فرايبورج. أما عن مراجعة مفهوم الجدل فقد شغلتْه فيما يبدو بعد الفشل الذي مُنِيَت به الأحزاب الاشتراكية والحركات الثورية في العشرينيات، وظهرت، شكوكه حول الجدل الماركسي والمادية التاريخية بصورة واضحة في بحثه عن مشكلة الجدل (١٩٣٠م) الذي يتعرَّض فيه لنقدهما، كما يناقش فكرة الوعي الطبقي على نحو ما وردت في كتاب لوكاتش السابق الذكر؛ فالجدل الماركسي لا يقدِّم التفسير الكافي للظروف أو الشروط التي تعمل على ظهور الوعي الطبقي، كما أن فكرة الوعي الطَّبَقي التي يدور حولها كتاب لوكاتش فكرة مجردة تعجز عن فهم طبيعة الوجود الاجتماعي المركب للفرد، والإحاطة بطاقات الفعل وإمكانات الممارسة الثورية الكامنة فيه. هذه الفكرة المجرَّدة عن «الفاعل» التاريخي والثوري المُتمثِّل في الطبقة العاملة قد جعل الماركسية تتجاهل قدرات الفرد على النهوض بأعباء العمل السياسي الثوري ومنعها من تطويرها؛ ولذلك فالنظرية الماركسية نفسها هي المسئولة عن الفجوة الواضحة التي تفصِل بين النظر والعمل، بين التوقُّعات النظرية للتفسير التاريخي والإمكانات العملية المُؤَدِّية إلى تحقيق هذه التوقعات.
كانت حُجج ماركوز في نقد الجدل المادي والتاريخي جزءًا من المشروع الذي شغله في هذه الفترة من حياته الفكرية، لإقامة نظرية التغيير التاريخي على أساس النشاط العَمَلي اليومي للفرد لا على أساس الفعل التاريخي المجرَّد للفاعل الطبقي (البروليتاريا) الذي انصبَّ عليه تفكير لوكاتش وتعلَّق به أمله. وقد تصوَّر ماركوز أنه اهتدى إلى هذا الأساس في فلسفة هيدجر، أو بالأحرى في فلسفة الظاهرات أو الفينومينولوجيا في صورتها الأنطولوجية الظاهرية التي قدَّمَها الأخير في كتابه «الوجود والزمان» الذي كان ظهوره سنة ١٩٢٧م من الأحداث الفلسفيَّة الكبرى في الثلث الأول من القرن العشرين، وقد اعتقد أن «أنطولوجيا هيدجر الأساسية» (التي وصف فيها المقومات الوجودية الرئيسية لوجود الإنسان في العالم وفي الزمان وفي مواجهة الموت بدءًا من تعامله مع الأشياء والأدوات في حياته اليومية)، اعتقد أنها يمكن أن تُوجِّه الماركسية نحو أشكال العمل التي تؤلف الوجود الفردي في الحياة اليومية، ولا تستطيع الرأسمالية أن تقضي عليها قضاءً تامًّا، وأن هذا التأسيس الوجودي «الهيدجري» للماركسية يمكن أن يكون نقطة بداية ومُنطلَقًا جديدًا للفعل الاجتماعي الجِذري والممارسة الثورية لتغيير الواقع، لا سيما في تلك المرحلة التي خَمَدَت فيها شعلة الاشتراكية وضَعُف فيها الصراع الطبقي.
غير أن محاولة التوفيق بين ماركس وهيدجر أو إقامة نوع من التكامل بينهما لم تستطع أن تحلَّ أزمة المادية الجدلية. ويتجَلَّى هذا في أول كتاب هام نشره ماركوز وهو «أنطولوجيا هيجل وأُسُس نظرية عن التاريخية» — فرانكفورت، ١٩٣٢م» — (وقد ظهرت له مُؤَخَّرًا ترجمة عربية بقلم الأستاذ إبراهيم فتحي) الذي يُفَسِّر فيه منطق هيجل وفلسفته عن تطور الوعي — كما عرضها في كتابه ظاهرِيَّات الرُّوح — تفسيرًا يُحاول فيه أن يُجذِّر أنطولوجيا هيدجر (أي يمدَّ لها جذورًا) في «ديالكتيك» هيجل. وقد رأى ماركوز بهذه الطريقة أنَّ الفرد هو المسئول عن تحديد مقوِّمات وجوده الاجتماعي، وعن وعيه النظري بتركيب هذا الوجود أو بنيته، والدور الذي يقوم به في تشكيل هذه البنية أو ذلك التركيب. بذلك لم يَعُد الفرد مجرَّد نتاج خالص لمقومات وجودية سابقة أو مُعطاة من قبل، بحيث يكون عليه أن «يفْهَمها» و«يَتَوَجَّدَها» (يعيشها وجدانيًّا …) ويُصمِّم على مُواجهتها لاستخلاص أصالته أو وجوده الأصيل خلال حياته وتجربة وجوده القَلِق المهموم في ظلِّها.
لم تَستطع هذه المحاولة أيضًا أن تحلَّ الإشكال حلًّا مُرضِيًا. فعلى الرغم من أن الفرد عند هيجل يُبدع ذاته أو يوجدها عن طريق التأمُّل (المُتدرِّج مع مستويات الوعي الذاتي ومراحله المختلفة)، فإن التأسيس الهيجلي للنظر والممارسة العملية بَقِيَ بدوره معتمدًا على مقومات أنطولوجية تُحدِّد تفكير الفرد وفِعله بصورة قَبْلية أو أوَّليَّة، ومن ثم لم يَستطع أن يقدِّم الأُسُس الصالحة لتَخليص المادية التاريخية من مُرتَكَزاتها المجرَّدة. والمُفارَقة الغريبة في هذا الشأن هي أن ماركوز لم يَعثُر على الحلِّ المَنشود إلا عند ماركس نفسه، وذلك على إِثر اكتشاف «المخطوطات الاقتصادية والفلسفية» المشهورة ونشرِها سنة ١٩٣٢م (وهي المخطوطات المُعبِّرة عن فلسفة ماركس الشاب التي يُؤرَّخ لها بمخطوطات ١٨٤٤م، وقد ظلَّت مجهولة حتى سنة اكتشافها ونشرِها كما سبق القول)، فقد أخذ ماركوز عن هذه المخطوطات — التي لم يُكمِلْها ماركس — الحُجج الفلسفية التي ساعَدَتْه على إتمام مراجعته للمادية الجدلية والتاريخية، وتحرير مفهوم «العمل» أو «المُمارسة» (البراكسيس) من الأنطولوجيا — أو نظرية الوجود العام — التي تُحدِّد تركيب النشاط البشري وغَاياته تحديدًا أوليًّا. وتَبَلْوَر تأثيرُ مخطوطات ماركس وتفكيره الفلسفي والإنساني المُبكِّر في مشروع ماركوز المُبكِّر أيضًا في بحثيه: «أساس المادية التاريخية» (١٩٣٢م) و«مفهوم العمل» (١٩٣٣م)، وكأنَّ الإشكال الماركسي الذي التَمَس له الحلَّ من فلسفة هيدجر وهيجل لم يزوده ﺑ «مفتاحه السحري» إلا ماركس نفسه.
(٣-٢) المرحلة الثانية
وتمتدُّ المرحلة الثانية في تطوُّر تفكير ماركوز — كما سبقت الإشارة إلى ذلك — من سنة ١٩٣٣م إلى سنة ١٩٤١م، وفيها ابتعدَ عن هيدجر وفلسفته، وانتقلَ إلى النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، وتعاون مع زملائه في معهد البحث الاجتماعي الذين هاجروا إلى جنيف ثم لجئوا إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد اكتساح النازية للسلطة ولوعي الجماهير المَخدُوعة في بلادِهم. وقد أدَّتْ هذه الأحداث إلى التخلِّي عن مشروعِه السابق الذي حاول فيه تأسيس المادية الجدلية على الاعتراف النظري بالقِيمَة العَمَلِيَّة لنشاط الفرد وقدرته على تحرير وجوده الاجتماعي وتغييره، واجتمعت جهوده وجهود زملائه من أصحاب النظرية النقدية طوال العقود الثلاثة التَّالية على «نقد» الماركسية وإعادة بناء أُسُسِها النظرية، واستخلاص الطاقات «السالبة» التي ينْطَوِي عليها الجدل المادي وقدراته على «نفي» الأوضاع السائدة في المجتمعات الشمولية (الرأسمالية والاشتراكية)، وتحليل «عقلانيتها» وتقدمها وحريتها وإنسانيتها المَزعومة وردِّها إلى جُذورها المُناقِضة للعقلِ والتقدُّم والإنسانية والحرية الحقيقية، وذلك كلُّه مع الاحتفاظ بآثار ومُؤَثِّرات تَلَوَّن بها تفكيرهم — وبخاصة هوركهيمر وأدورنو — من الهيجليَّة الجديدة وفلسفة الحياة وفلسفة الوجود، وصَبَغت ماركسيتهم الجديدة — في رأي مُعظم النقَّاد — بصِبغةٍ ذاتيةٍ ووجوديةٍ، ودَمَغَتْها — في رأي الماركسيين اللينِينيين الحرفيين والتقليديين — بالرجعية.
وقد كان أهم كتاب عبَّر عن هذه المرحلة من تطوُّر تفكير ماركوز النظري هو كتابه عن «العقل والثورة: هيجل ونشأة النظرية الاجتماعية» الذي صَدَر بالإنجليزية في لندن سنة ١٩٤١م (وله ترجمة عربية مُمتازة بقلم الدكتور فؤاد زكريا)، وفيه يَرجع إلى هيجل مُختلفٍ اختلافًا كبيرًا عن هيجل الذي تناوَلَ نظريته في الوجود والتاريخ في كتابه السَّابق الذكر عن «أنطولوجيا هيجل وتأسيس نظرية عن التاريخية» (١٩٣٢م)، فهو يُحلِّل مفهوم العقل عند هيجل ويستمدُّ منه معايير الحكم على المجتمع ومقاييس نقده. لقد أصرَّ هيجل — في رأيه — على أن الإنسان حيوان عاقل، وأن «عقلانيته» هذه لا تجعله تحت رحمة «الوقائع» المزعومة المحيطة به من كل جانب، فهو قادر على إخضاع هذه الوقائع — التي تبدو من بَدِيهيَّات الموقف الطبيعي — لمستوى أعلى، هو مستوى العقل؛ لذلك غَدَتْ فلسفة هيجل النقدية — المُتَسلِّحة بالمنهج الجدلي! — فلسفةَ سلبٍ أو نفيٍ؛ لأنها نَقَدَت «ما هو كائن» في سبيل «ما يَنْبَغِي أن يكون». ومن ثَمَّ حاول هيجل أن يكوِّن «النقطة المرجعية» التي يُمكِن منها تحليل «الوضع القائم» أو «الواقع السائد» ونقده والحكم عليه من خارجه. ولقد تعلَّم ماركس من هيجل أن ما تَقَعُ عليه العين ليس بأمرٍ ثابتٍ ولا مخلَّدٍ، وإنما يمَثِّل صنع الإنسان وعمله التاريخي، كما تعلَّم ماركوز من ماركس وهيجل معًا أن الإنسان «العاقل» هو الذي يَختبِر «معقولية» الواقع والفعل البشري بمِقياس أو معيار للحقيقة يتجاوز «الوضع القائم»، وهو الذي يتطَلَّع — مِثْلُه في هذا مثلُ «المادي» الذي يتبنَّى وجهة نظر تُوَحِّد بين الوعي والظواهر في عملية الجدل وصَيْرُورَتِها التاريخية — إلى نظام اجتماعي لم يتحقَّق بعد؛ ذلك أن الإنسان الحرَّ العاقل لن يقبل النظام الواقع والمُعطَى لمجرَّد أنه مُعطًى وواقع، وعبارة هيجل الشهيرة (أن الواقع هو العقلي والعقلي هو الواقعي) يجب أن يُفْهَم منها أن الواقع هو الذي يَتوافق مع معايير العقل، فضلًا عن أن هذا الواقع لا يكون معقولًا بصورة مباشرة أو فعلية، وإنما يَجب على الدَّوام أن «يُعْقَل» أو يُحَوَّل إلى واقع معقول. ولا شك أن العقل والنظرية لم يكن من الممكن أن يَقُوما بهذا الدور «النقدي» الهام، ولا أن يرتَفِعَا في الوقت نفسه إلى هذا المستوى العالي من التَّجريد، لولا خلوُّ السياق التاريخي من «الذات» أو «الفاعل» التاريخي الذي يُقَاوِم «الوضع القائم» ويُعارِض نُظُم القمع والسيطرة، ولا شكَّ أيضًا أن هذا الكتاب الهام كانَ خُطوَة هامَّة على الطريق الطويل إلى نقد مُجتمع السيطرة أو التسلُّط على الفرد، في ظلِّ النُّظم الصناعية أو التِّقَنية المُتَقدِّمَة (الرأسمالية ووليدتها النازية بالإضافة إلى الاشتراكية السوفيتية) التي وصفها جميعًا بأنها «ذات بُعْد واحد»، وإلى نقد الماركسية السوفيتية، ومحاولة تكملة الماركسية الجديدة والنظرية النقدية اعتمادًا على أفكار مُستَمَدَّة من فلسفة «فرويد» عن الحضارة.
(٣-٣) المرحلة الثالثة
وأخيرًا تأتي المرحلة الثالثة من تفكير ماركوز التي تبدأ بعد الحرب العالمية الثانية وتنتهي بوفاته سنة ١٩٧٩م، وفيها يطوِّر نظريته سابقة الذِّكْر عن السيطرة التِّقَنية أو العقلانية الصناعية والأَدَاتية، مُتأثرًا في ذلك — مثل زميليه أدورنو وهوركهيمر — بفيلسوف الاجتماع ماكس فيبر في كتابيه «عن الماركسية السوفيتية» (١٩٥٨م) و«الإنسان ذو البُعد الواحد» (١٩٦٤م) الذي حقَّق له شهرة كبيرة، كما يُنَمِّي فلسفته في الحضارة ورؤيته للمجتمع الخالي من القهر والقمع في كتابيه: «إيروس والحضارة» (١٩٥٥م) ومقال عن التحرر (١٩٦٩م).
أصبح لمُصطَلَح البُعد الواحد — كما سبق القول — شهرة واسعة بعد صدور كتاب «الإنسان ذي البعد الواحد» (وله ترجمة عربية بقلم الأستاذ جورج طرابيشي)، ونمط هذا الإنسان «المقهور» هو النمط السائد في المجتمع ذي البُعد الواحد أيضًا، وهو المجتمع الذي يجعل شعاره التقدم العلمي والصناعي، ويكرِّس نشاطه وتنظيماته ومؤسَّساته وقِيَمَه لاحتواء الوعي الفردي والجماعي في «عقلانية» إنتاجه الصناعي الذي يمدُّ سيطرتَه — في ظلِّ الأنظمة الشمولية كلها — على قطاعات المجتمع السياسية والاقتصادية والثقافية، ويُسَخِّرها لخدمة المبدأ «الأيديولوجي» الذي يتحكم فيه، وهو مبدأ الإنتاجية المادية وتحقيق المزيد من الوفرة والرفاهية والاستهلاك. وفي هذا المجتمع أيضًا تُشكَّل العلاقات الاجتماعية وتُوحَّد ويتمُّ التحكُّم فيها والسيطرة عليها — بمختلف الأجهزة والمؤسَّسات الإدارية والإعلامية والوسائل والمناهج العلمية والفلسفية كالوضعية والبراجماتية — للوصول إلى أسلوب الحياة والوجود المُوحَّد والمُريح الذي لا مَهْرب منه، ولا سبيل إلى مقاومته ونَفْيِه وتحَدِّيه، اللهم إلَّا من خلال الأفراد الرافضين والمُحتجِّين، والجماعات الهامِشيَّة المُضْطَهَدة والمنبوذة، كالطُّلاب اليساريين الذين تبنَّتْ حركتهم الثائرة على أنظمة السلطة في أوروبا الغربية والولايات المُتحدة الأمريكية آراء ماركوز وجعلتها لفترة من الوقت (من ١٩٦٨م إلى ١٩٧٤م) شعارًا لها، قبل أن تَتَبيَّنَ عدم فاعليَّتِها وتَلفِظَها يأسًا منها. وقد تصوَّر ماركوز نفسه أن حركة أولئك الشباب المُتمرِّدين ستكون طَليعَةَ التَّغيير التاريخي الحاسم، ورمزَ القوة السياسية التي سَتُحرِّر المجتمع الصناعي المتقدِّم وتُقاوم عقلانيته المُصطنعة مقاومة نقديَّة مُدمِّرة، وعبر عن هذا في كتابيه: «مقال عن التحرر (١٩٦٩م)»، و«الثورة المُضادَّة والتَّمرُّد (١٩٧٢م)»، بجانب دراسات وكتب أخرى عن النظرية النقديَّة للمجتمع (١٩٦٨م، ١٩٦٩م، ١٩٧٢م)، غير أن نيران الثورة الطلابية لم تَلبَث أن خَمَدت — أو أُخْمِدَت! — بعد انتهاء الحرب الفِيتنَامية، ولم يَلبَثْ ماركوز أن رجع إلى تَشَاؤُمِه القديم الذي عبَّرَ عنه «الإنسان ذو البُعد الواحد».
في هذه المرحلة أيضًا — كما أشرت من قبل — سَعَى ماركوز إلى تكملة ماركسيته بالفرويدية والتحليل النفسي، وحاول — من خلال التكامل بين ماركس وفرويد بوجهٍ خاصٍّ — أن يَصُوغ رؤيته لليوتوبيا أو المجتمع الإنساني البريء من القهر والقمع (وذلك في كتابيه: إيروس والحضارة — بحث فلسفي عن فرويد، بوسطن ١٩٥٥م، وله ترجمة عربية بقلم الأستاذ مجاهد عبد المنعم مجاهد تحت عنوان: الحُبُّ والحضارة، والتحليل النفسي والسياسة، فرانكفورت ١٩٦٨م، وقد ظهرت ترجمته الإنجليزية سنة ١٩٧٠م في بوسطن ولندن بعنوان: خمس محاضرات عن التحليل النفسي والسياسة واليوتوبيا).
وإذا كانت الماركسية قد عجزت — في رأي ماركوز — عن حلِّ مشكلة الحرية والسلطة؛ فذلك لأنها لم تَنْتَبِه لذلك الاستعداد الكامن فينا للخضوع للقهر والقَمع أو لِفَرْضِه على غيرِنا، وهو الاستعداد الذي يمدُّ جذوره في تركيب دوافعنا الباطنة؛ ولهذا لن يتمَّ لنا التحرُّر الحقيقي إلا بالثورة على هذا التركيب، وتغيير الإنسان وتحريره قبل التغيير والتحرير الاجتماعي. وقد قام ماركوز في كُتُبِه التي ذكرناها الآن بفَحْصِ العقبات والمُعوِّقات النفسية التي تَحُول دون إتمام هذا التغيير الاجتماعي والسياسي، فكتابه «إيروس والحضارة» يتحدَّث عن العمل الذي يتحوَّل إلى ضربٍ من اللعِبِ تُمارسه جماعة أو مجتمع ديمُقراطي؛ حيث يتمُّ تنظيم العمل الضروري نفسه بما يتلاءم مع الحاجات الفردية الأصيلة. ولن يحتاج هذا المجتمع الحرُّ إلى قَمع الدوافع الدفينة إلى الحبِّ والعشق المُنطَلِق — كشرط لاستمرار الحضارة كما قال فرويد في كتابه عن «الضيق بالحضارة» — بل سيقضي على الحاجة إلى «فائض القمع» الذي كان يُعتَبَر ضروريًّا للعمل والإنجاز، وبذلك يُحَرَّر الإنسان من العمل الذي يُسبِّب اغترابه عن نفسه وعن عمله معًا، كما «يُشَيِّؤُه» أو يُحِيلُه إلى شيء، كما لاحظ ماركس في المخطوطات السابقة الذِّكر في حديثه عن العمل في ظلِّ علاقات الإنتاج الرأسمالي. وقد حاول ماركوز أن يرسم صورة المجتمع الحرِّ بعد الثورة على قمع الدوافع، وأكَّدَ فكرة السعادة الشخصية كعنصر ضروري مُكَمِّل للعقلانية، فالإنسان الجديد في هذا المجتمع الجديد شخص مُتحرِّر من فائض القمع — الذي لا يزال طاغيًا على المجتمع الرأسمالي والصناعي المُعاصر ذي البُعد الواحد — وهو قادر على صُنع الثورة وبناء مجتمع يُمكِن أن يتمتَّع فيه بالسعادة رجال ونساء عُقلاء. وإذا كان ماركس قد اشترط القضاء على استغلال الإنسان كشرط لا غِنى عنه للمجتمع الحرِّ السعيد — وكان فرويد قد أوصى بتأجيل «الإشباع» ضمانًا لاستمرار الحضارة — فإن ماركوز يَعتقِد أن قمع الغرائز قد أدَّى بالفعل وظيفته التاريخية، وأن الإنسان في الغرب قد تمكَّنَ من بناء «التقنية» القادرة على توفير أسباب الحياة الكريمة المُتحرِّرَة من عبء الضرورة، وتغيير المجتمع بما يتَّفِقُ مع العقل التاريخي. ولقد سبق لماركس أنْ صوَّر حُلمه بالإنسان الذي يمكن أن يتفرَّغ لصيد الحيوانات في الصباح، وصيد السمك بعد الظهر، وتربية الماشية في المساء، والتَّسلِّي بالمناقشات العميقة بعد العشاء. وها هو ذا ماركوز يصوِّر مجتمعًا يتدفَّق فيه الإنتاج بغير حاجة إلى الحرمان والاغتراب، وتسمح فيه الملكية المشتركة لوسائل الإنتاج (الآلات) بأن تُرْجِعَ الطاقة الغريزية إلى طبيعتها الأصلية، ويُقَلَّص فيه وقتُ العمل المُغترب إلى أدنى حدٍّ أو يُسْتَغْنَى عنه بقدر الإمكان، بحيث تُصبِح الحياة كلها وكأنما هي وقتُ فراغٍ حرٍّ. وهكذا يُفسِّر ماركس وفرويد تفسيرًا يسمح بظهور دولة أو مجتمع مِثالي بسيط وسعيد يُذَكِّرنا بأحلام الشعراء الرَّعويِّين، ولكن بشرط واحد هو أن يتَمَكَّن المنهج الجدلي من تحليل ونقد المجتمع الرأسمالي أو بالأحرى الشمولي ذي البُعد الواحد، تمهيدًا لسَلْبِه أو نَفْيِه والقضاء عليه.
وأخيرًا رجع ماركوز إلى ما بدأ به حياته من تأمُّلٍ لدور الفنِّ في العالم الحديث، وجدَّد رأيه القديم — الذي عبَّرَ عنه في رسالته المُشَار إليها من قبل — في أن الفنَّ في مجتمعٍ تُمزِّقه الصراعات لا بدَّ أن يَستَغِلَّ أقصى درجات التعبير الرَّمزي وأشكاله اللامعقولة لمقاومة «الأيديولوجية» السائدة، واختراق الحصار الذي تضربه حول الوعي والوجود المغترب، وتصوير مجتمع إنساني حرٍّ وحقيقيٍّ بديلٍ عنه. وقد ردَّدَ هذا الرأي في كتابه الأخير (دوام الفن: ضدَّ علم جمالٍ ماركسيٍّ محدَّدٍ، ميونيخ ١٩٧٧م، الذي صَدَرَ بالإنجليزية في بوسطن سنة ١٩٧٨م تحت عنوان البُعد الجمالي، نحو نَقْد الاستطيقا الماركسية)، وأكد فيه أن أقصَى أشكال التعبير الفنِّي تجريدًا هي وحدها الأقدر على تقديم رؤية للحياة تَستَغِلُّ إمكانيات التقدُّم التي حقَّقَها العقل الصناعي أو التِّقَنِي في المجتمع ذي البُعد الواحد لتحرير الإنسان من عبوديَّته المُقنَّعة ووعيه المُزَيَّف في ظلِّ لا عقلانيته.
(٤) هابرماس، يورجين Habermas, Jürgen (وُلد سنة ١٩٢٩م)
فيلسوف وعالم اجتماع ألماني، وأهم ممثلي الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت والنظرية النقدية الاجتماعية التي يعمل من أكثر من ثلاثين عامًا على بَلْوَرتها وتطويرها والتوسُّع فيها وتحويلها إلى فلسفة واعية وعملية للتحرر والتواصل، وذلك بالتعمُّق في مشكلات نظرية المعرفة وفلسفة اللغة ونظرية الأنساق وتكوين الرأي العام «واستِلابه» في المجتمع الرأسمالي والليبرالي الحديث، مع التزوُّد بعناصر مُستمَدَّة من شتَّى الاتجاهات الفلسفية المعاصرة، كالفلسفة التحليلية، وفلسفة التفسير أو التأويل الذاتي والتاريخي (الهيرمينويطيقا)، والأنثروبولوجيا الفلسفية، فضلًا عن الاهتمام بالحركات الاجتماعية «الجذرية» الجديدة في أوساط الثوريين والمُحتجِّين على هَيْمَنة العقلانية العلمية والتِّقَنية وسيطرة مؤسسات الدولة الحديثة على حياة الفرد والمجتمع سيطرة تُشبِه أن تكون حالة حصار شاملة.
وُلِدَ عام ١٩٢٩م في مدينة دوسلدورف، ودَرَس في جامعتَي جوتنجن وبون التي حصل منها على الدكتوراه في عام ١٩٥٤م برسالة عن المُطلَق والتاريخ أو التَّمزُّق في تفكير شيلنج (أحد فلاسفة المثالية الألمانية)، ثم تابع دراسته في جامعة ماربورج التي حصل منها في عام ١٩٦١م على دكتوراه التأهيل للتدريس الجامعي برسالة عن «تحوُّل بنية الرأي العام، بحوث عن إحدى مقولات المُجتمع البرجوازي (نويفيد، لوخترهاند، ١٩٦٢م)».
عُيِّنَ في وظيفة محاضر للفلسفة بجامعة هيدلبرج، ثم شَغَل منصب أستاذ الفلسفة والاجتماع فيها من عام ١٩٦٤م إلى عام ١٩٧١م، عندما تولَّى إدارة «معهد ماكس بلانك لبحث الشروط الحيوية لعالَم العلم والتِّقَنِية» من عام ١٩٧١م إلى عام ١٩٨٢م، ودُعِيَ في الوقت نفسه ليكون أستاذًا شرفيًّا بجامعة فرانكفورت التي استأنف التدريس بها منذ عام ١٩٨٤م، كما تلقَّى جائزة هيجل سنة ١٩٧٤م من مدينة شتوتجارت، وجائزة فرويد سنة ١٩٧٦م.
كان أول أعماله هي رسالته التي ذكرناها عن تحوُّل بنية الرأي العام، وقد قدَّم فيها رصدًا تحليليًّا وتاريخيًّا موثَّقًا ودقيقًا لمسار الدعاية من القرن السابع عشر إلى التاسع عشر، تناولَ فيه تطوُّر فكرة الرأي العام وتكوين الإرادة الدِّيمقراطية، وكيف نشأت مع نشأة الرأسمالية، بحيث صِيغَت فكرة الديمقراطية الليبرالية على نموذج العلاقة بين المُشتَرِي والبائع في السوق، حتَّى أدَّت (أي الدعاية) في العصر الحاضر إلى الاحتواء الكلِّي للرأي العام، وإفراغ الوعي الفردي والجماعي من وظيفته النقدية الفعالة. ويَرجع التدهور الذي أصاب هذه الأفكار — التي كانت ولم تزل من العناصر الأساسية للتنوير — إلى هيمنة القوى ذات المصلحة على صنع القرارات السياسية التي تَصْدُر عن التَّفاهم أو التواطؤ بين تلك القوى، لا عن الحوار والنقاش العقلي الحرِّ، كما يرجع إلى سيطرة وسائط الإعلام (كالصحافة والإذاعة المرئية والمسموعة) التي تُسخَّر لخدمة المصالح التجارية والتَّسلية والترفيه، لا للتثقيف والتواصل وتدعيم الوعي الحر.
تركَّزت جهود «هابرماس» التحليلية والنقدية على مفهوم العقلانية ومشكلة «العقلنة» للحياة الاجتماعية التي سَبَق أن عالجها بعض أعضاء مدرسة فرانكفورت، وبخاصة ماركوز الذي رأينا كيف جعلها من أهم خصائص المجتمع والإنسان «ذي البُعد الواحد» في ظلِّ النُّظُم الرأسمالية والشمولية. وقد حاول هابرماس أن يتناول المُشكلتين من منظور أوسع، فتَطرَّقَ للبحث في مسائل دقيقة في الإبيستمولوجيا (نظرية المعرفة) وفلسفة اللغة، وفي قضايا ومشكلات عينيَّة في النظرية الاجتماعية، مثل مشكلة الشرعية في الرأسمالية المتطورة، وأهمية الحركات الاجتماعية الجديدة (للنساء والطلاب المُتمرِّدين وأنصار حماية البيئة وتَجمُّعَات الرافضين من أصحاب الطقوس والممارسات العجيبة … إلخ)، ووضْعِ أُسُسٍ وقواعد معيارية ﻟ «الخطاب» العملي والعقلي الحرِّ، وأخلاق الاتِّصال أو التواصُل الصحيح.
وقد تجلَّت هذه المحاولات في أول كُتُبِه الهامة وهو كتاب «المعرفة والمصلحة» (فرانكفورت، ١٩٦٨م) الذي انتقد فيه النموذج الوضعي السائد للمعرفة، وبيَّن أنه يمثل أحد نماذج المعرفة البشرية القائمة على تحقيق المصلحة. والواقع أن هذا النموذج المَعرفي الذي يهدف إلى التحكُّم والضبط التِّقَني قد جَارَ على نموذجين آخرين يقومان على مصالح معرفية أخرى، ويعبِّران عن حاجات وتوجُّهات تأمُّلية ومعيارية وجمالية وعملية يمكن أن تُلقِي الضوء على مشكلة «عقلنة» المجتمع التي سبق ذكرها؛ ولذلك يقوم هابرماس في هذا الكتاب بتمييز ثلاثة أنواع من المعرفة العلمية المُرتبطة بثلاثةِ أنواع من المصالح البشرية؛ فالنوع الأول وضعي أو تجريبي — تحليلي يهدف إلى صياغة قوانين عامة يمكن أن تؤدي إلى تنَبُّؤات صادقة يُعتمدُ عليها (كما نجد في العلوم الطبيعية). والمصلحة المُرتبطة بهذا النموذج المعرفي تُوصَف بأنها «تِقَنية»، وتقوم على تشكيل موضوع البحث تحقيقًا لأغراض الفعل العقلي الهادف. أما النوع الثاني فيتعلَّق بالعلوم التاريخية والتفسيرية (الهيرومينويطيقية) التي تتَّجِه لتحليل النصوص والأفعال البشرية وتأويلها. ولمَّا كانت هذه العلوم تقوم على تفهُّم أفعال التواصل بين البشر، وتتضمن تحليل فهمهم لأنفسهم وللمعايير والقواعد التي يَعتمد عليها هذا التواصل، فإن المصلحة المُرتبطة بها مصلحة عملية (بالمعنى الذي أراده كانط من هذه الكلمة الأخيرة في فلسفته الأخلاقية النَّابعة من العقل العملي). وأما النوع الثالث والأخير فيتمثَّل في العلوم والفلسفات التي تَتَّسِم بالتوجُّه النقدي، وتَسْتَرشِد أو ينبغي أن تَستَرشِد بتحقيق مصلحة أو اهتمام أساسي هو التحرر والخلاص. ومن العلوم التي تسعى إلى هذا الهدف نقد الأيديولوجيات (المنظومات الفكرية القاطعة) والتحليل النفسي والنظرية النقدية ذاتها، وكلها «علوم» تعمل على كشف القوى والمصالح الخاصة التي تُشَوِّه فعل التواصل، وتبحث الشروط اللازمة للتوصُّل إلى إجماع حقيقي لا يعُوقُه قهر أو قمع داخلي أو خارجي، والتحرر من أشكال السيطرة وأبْنِيَتها.
وواضح مما تقدَّم أن مفهوم هابرماس عن المصلحة له طابع شِبه مُتعالٍ؛ لأن المصالح الثلاث التي ذكرناها تُعبِّر عن جوانب ثلاثة من علاقة الإنسان ببيئته الطبيعية والاجتماعية وتطوُّره خلال التاريخ، وتؤكد أن ارتباط المعرفة بالمصلحة لا ينحصِر في تحقيق المصلحة الواحدة التي تمكنت من فرض سيطرتها وسيادتها اليوم باسم تحقيق المثل الأعلى للموضوعية، والتحرر من القيمة أو اتِّخاذ موقف الحِيادِ منها في النزعة الوضعية الحديثة. ولا شك أن هذا النقد للوضعية ومصالحها «التقنية» لا يعني رفض نموذج المعرفة والبحث التجريبي والتحليلي لذاته، ولا يجوز أن يُفْهَمَ منه أنه يدلُّ على الرُّعب من التقنية أو التكنولوجيا بصورة عامة، وإنما هو محاولة لبيان الحدود التي يَجِب ألا يتعدَّاها هذا النوع من المعرفة، ونقد لسوء استخدام العقلانية الآلية أو الأداتية في ميادين العلوم الاجتماعية والإنسانية وفي مجال النشاط السياسي (وقد ظهر هذا النقد في هجومه على الحلول التكنوقراطية للمشكلات الاجتماعية والإنسانية، وذلك في مقالاته عن التقنية والعلم بوصفهما أيديولوجيا، فرانكفورت سنة ١٩٦٨م، وفي مناقشاته مع عالم الاجتماع نيكلاس لومان في كتابه عن نظرية المجتمع أو التِّقَنِية الاجتماعية، فرانكفورت سنة ١٩٧١م).
بَيْدَ أن هابرماس قد شعر مع أواسط السبعينيات بأنه غير راضٍ عن هذا الإطار النظري الذي يربط المعرفة والعقل بالمصالح البشرية العامة «المغروسة في طبيعة الإنسان»؛ ولذلك تحوَّلت بُؤرَة اهتمامه من الإبستمولوجيا (نظرية المعرفة) إلى اللغة، ووَجَد أن الفهم الصحيح لمشكلة العقلانية و«عقلنة» مظاهر الحياة الاجتماعية لا يتَأَتَّى من التفكير في المصالح المكوِّنة للمعرفة على اختلاف نماذجها وأنواعها، بلْ من إعادة بناء نظرية لفِعل التواصُل، كما يتَمثَّل بوجه خاصٍّ في التفاعل اللغوي، ومن البحث في دور التفاهم بين «الذوات» أو الأطراف المشتركة في هذا الفعل، والمعايير والقِيَم التي يَفتَرِضُها ويقوم عليها «الخطاب العملي» الحرُّ بينهم، فكلَّما انخرط هؤلاء الأطراف في فعل التواصل وتوجَّهوا إلى الفهم والتفاهم؛ وجدوا أنفسهم يلجئون إلى نوع من الاعتبار المُتبادَل فيما بينهم لصحَّة المطالب التي يُثيرونها في «أفعالهم الكلامية» (وهو مصطلح مأخوذ عن فيلسوفَي اللغة الإنجليزيين: أوستين، ١٩١١–١٩٦٠م في بحثه الشهير «كيف تُفعَل الأشياء بالكلمات»، وسيرل في كتابه عن الأفعال الكلامِيَّة (أو أفعال القول)، ونظرِيَّتهما تَستَنِدُ إلى فلسفة فتجنشتين المُتأخِّرة كما عرضها في «بحوثه الفلسفية»، (وهي تقول باختصار شديد: إن قول العبارات أو التَّلَفُّظ بها هو في الحقيقة تحقيق لأفعال مُعيَّنَة، يقوم على التسليم بِمُواضَعَات أو قواعد محدَّدة، كما يحدث — على سبيل المثال — في أفعال الأمر والاستفهام والزَّعم أو التأكيد والمنافسة … إلخ بهدف إحداث تأثيرات على الطرف الآخر في الحديث أو الحوار، من مفاجأة أو إبهاج أو إزعاج وتعكير مزاج …)
وقد كان على هابرماس أن يُبيِّن إمكان التَّمييز بين التواصل المُشَوَّه والتواصل غير المُشَوَّه، وذلك بالنظر في «الفهم الذاتي» للأطراف المُشتَرِكة فيه، والكشف عن الضغوط وأشكال القمع أو القهر التي تُفسِد حديثهم، بجانب التدليل على أن المعايير والقِيَم التي تَستنِدُ إليها أفعال التواصل — في المجتمع وفي العلوم الاجتماعية والإنسانية — تسمح بالموافقة أو الإجماع العقلي عليها. وهكذا طوَّر نظريته في علم التداول العام (أو البراجماطيقا العامة) التي أخذ يعالجها في بحوث مختلفة حتى تكاملت مؤخرًا في كتاب ضخم من جُزءين هو نظرية فعل التواصل (فرانكفورت ١٩٨٢م) التي حاول فيها أن يُحدِّدَ شروط التواصل والمطالب الأساسية المُفترضة لفهم الأقوال والتعابير، وقد حدَّدَ هذه المطالب المُتَوَخَّاة من «أفعال القول» في أربعة: قابلية التعبير اللغوي للفهم، وحقيقة مضمونه أو صدق محتواه، ومصداقية مقاصد المُعبِّر عنه أو إخلاصها، والمشروعية المعيارية للقول أو التعبير، أي المطالبة بأن يكون صحيحًا أو ملائمًا بالنظر إلى علاقته بمضمون قِيَمِي أو معياري يُقِرُّ به المُتكلِّم والسامع معًا. وطبيعيٌّ أن تَلبية هذه المطالب الأربعة شرط لا غِنى عنه للانخراط في فعل التواصل بُغْيَةَ تحقيق التفاهم بين الأطراف أو الذوات المشتركة فيه. ومع أن الوفاء بهذه المطالب أمر نادر أو مُتعذِّر في معظم الأحوال (ولنتذَكَّر التعبيرات الزائفة والأكاذيب والمُغالطات التي تغصُّ بها حياتنا اليومية)، فإن «هابرماس» يعتقد أن الانحراف عنها يفترِض وجودها، وأن موقف الكلام أو الحديث المثالي المُتحرِّر من أساليب الضغط والإرغام والإكراه، موقف يمكن توَقُّعه من التواصل الفعلي، ومن ثَمَّ يمكن التوصُّل إليه؛ فكلُّ طرف من الأطراف المُشتَرِكة في الحديث لديه فكرٌ حَدْسيٌّ للفروق الكائنة بين هذه المطالب ولكيفية احترامها وأخذها في الاعتبار، وإذا ما حدث شكٌّ في صحتها كان على فعل الاتصال أن يتحوَّل إلى مستوى «الخطاب» الذي يُعَدُّ المستوى «البَعْدي» بالنسبة إليه، أي مستوى التَّحقُّق من صحة النظريات والقيم المُتَضَمَّنَة. ويُعنَي هابرماس بنوعين من الخطاب هما: الخطاب «النظري» الذي تُحلَّلُ فيه معايير الصدق (وهو من مؤيدي نظرية الإجماع على الصدق)، والخطاب «العملي» الذي يُنَاقَش فيه صواب المعايير. ولمَّا كانت المشروعية المعيارية هي أهم المطالب في نظريته النقدية، فإن مشروعية أي معيار يُمكن — من حيث المبدأ — تَقْييمُها على أساس قواعد المناقشة أو التَّناقُش في الخطاب العملي. وهذه القواعد في مجموعها (مثل الامتناع عن استخدام القوة، وكفِّ كلِّ الدوافع باستثناء دافع المصلحة، أو الاهتمام بالتَّوصُّل إلى اتفاقٍ مبني على أُسُس عقلية مقبولة، والتوزيع المتكافئ للفرص على جميع الأطراف المُشارِكَة لإتاحة اختيار أفعالهم الكلامية بحرية)، هذه القواعد تُحدِّد موقف الحديث المثالي الذي لا يَبقَى فيه اعتبار لأية قوة فيما خَلَا قوة الحُجَّة الأفضل. وبذلك تضع هذه القواعد «الشكلية» أساس أخلاق التواصل المُرتبطة بالخطاب العملي القائم بِدَوْره على أُسُس معقولة تُبرِّر قِيَمَه وتسوِّغ معاييره (فالمصالح التي يمكن تعميمها تعميمًا كليًّا هي التي يمكن قَبولها والإجماع عليها عقليًّا). وهكذا تُؤلِّف نظرية التداول العام (البراجماطيقا العامة) ومفهوم الخطاب بشقيه: النظري والعملي، وفكرة الأخلاق التواصلِيَّة محاور أساسية في فلسفة هابرماس، ولكنها لا تشكل في الواقع إلا جزءًا واحدًا من مشروعه الأكبر، وهي محاولة إقامة إطار نظري ونقدي يُحدِّد الشروط الضرورية لتكوين الإرادة الحرَّة العاقلة.
وقد أدَّت محاولة «هابرماس» لاستخلاص أساسٍ معياريٍّ من قاعدة «الصحة العامة أو الشاملة للحديث» إلى تعرُّضه للنقد الشديد، واتهامه بأنها تَعبير عن نوع من الشعوبية أو المركزية الأوروبية. وقد ردَّ على هذا النقد فاعترف بأن تحليله ﻟ «كفاءة التواصل» لا يَصْدُق إلا على أعضاء المجتمعات «الحديثة»، ولكن هذا الاعتراف اقتضَى منه الدفاع عن «الأبنية الحديثة للوعي» لتبرير تمسُّكه بموقفه من العقل العملي ومصالحه وحُجَجِه التي يشترط عمومِيَّتها ليَتَسنَّى قَبولها على أُسُسٍ عقلية. والواقع أنَّ هذا هو الاتجاه الذي سار فيه تفكيره في الثمانينيات، وتجلَّى بوجهٍ خاص في كتابه السابق الذِّكر عن «نظرية فعل التواصل» بجزأيه، وفي كتابه الأحدث عهدًا وهو مقال فلسفي عن الحداثة (١٩٨٦م). ويدافع الكتابان عن الطاقة العقلية التي تَكمُن في بنيَةِ الفِكر الحديث المعقَّدة، وتسمح له بأن يمتدَّ إلى مجالات ثقافية تتمُّ فيها الاستجابة للمطالب الثلاثة السابقة بصحَّة القِيَم والمعايير، وهي مجالات العلم والتقنية، والقانون الحديث، والأخلاق غير التقليدية، والفن الحديث والنقد الفنِّي. ومن هذه المجالات أو الميادين الثلاثة للحداثة الثقافية المُعَبِّرة عن مَذْخُور الطاقة السابق الذِّكر، يكتسب هابرماس المنظور النقدي الملائم لتحليل «الحداثة» المرادف عنده ﻟ «العقلنة» الاجتماعية التي استغلت تلك الطاقة المتعدِّدَة الأبعاد من بُعد واحد وحَسْب. وبهذا يكون قد توسَّع في مَدْلول المصطلح والمشكلة المعروفة منذ ظهور كتاب ماركوز الشهير (الإنسان ذو البعد الواحد)، وحاول تطويرهما إلى حد كبير. وقد أدَّى به هذا المنظور — على مستوى النظرية الاجتماعية — إلى القول بما يُسَمِّيه «استعمار عالم الحياة»، فالعَقْلَنَة «الأداتية» والوظيفية المُتزايدة لمجالات مُتنامية من الحياة الاجتماعية — من قِبَل الأنظمة الاقتصادية والسياسية والإدارية القاهرة — معناها تضاؤل الفرص المُتاحة للأفراد — أو بالأحرى للأطراف المُشتَرِكة في أفعال التواصُل — لاستخدام كفاءتهم العقلية والنقدية في تنظيم حياتهم الخاصة إلى حدِّ إنكار هذه الفرص عليهم أو سلْبها منهم. والواقع أنَّ هذا التحليل يعبِّر عن تحوُّلٍ هام في تفكير هابرماس وموقفه من المجتمع الرأسمالي؛ فقد سبق له أن أكَّد (في كتابه عن مشكلات الشرعية في الرأسمالية في مرحلتها المُتأخِّرة، فرانكفورت ١٩٧٣م، والترجمة الإنجليزية بعنوان أزمة الشرعية، لندن وبوسطون ١٩٧٦م) أن الرأسمالية تمرُّ بأزمات ومشكلات حادَّة تتعلَّق بالشرعية، وأن هذه الأزمات والمشكلات قد تكون مُستعصية وغير قابلة للحلِّ. وقد عجَزَ في ذلك الكتاب عن تحديد القوى الاجتماعية التي يُمكن أن تقوم بحلِّ هذه المشكلات المُتَضخِّمة بطريقة تُخلِّص المُجتمع منها، ولم يُعرَف على وجْهِ الدِّقةِ لمن يتوجَّهُ بتحليلاته النقدية و«الثورية»، غير أنه في كتابه المُتأخِّر الذي سبق ذِكره وفي كثير من مقالاته قد انتهى — فيما يبدو — إلى أن مشكلة «استعمار عالم الحياة» قد تَفاقَمَت إلى حدٍّ خطير، واهتدى أيضًا إلى الذين يُمكِن أن يتوجَّه إليهم بخطابه النقدي، وهم الجماعات والحركات الاجتماعية الجديدة التي سبقت الإشارة إليها في مُقدِّمة هذا العرض، والتي يُعوِّل عليها — كما فعل ماركوز من قبل مع جماعات أخرى هامِشيَّة! — على الأقلِّ من ناحية المبدأ للتَّخلُّص من الأزمات المُزمِنة في هذه المرحلة المتأخرة من مراحل تطور الرأسمالية.
وإذا سألنا الآن: ما هي هذه الأزمات والمشكلات؛ وجدناه يُقَسِّمُها إلى ثلاثة أقسام مُرَتَّبة ترتيبًا متسلسِلًا، وهي الأزمة الاقتصادية التي تعدُّ الأساسية بينها، وإن كان تعَقُّد المُجتمعات الرأسمالية الحديثة قد عَمِل على إزاحتها إلى مستويات أخرى، بحيث أمكن التحكُّم فيها على الدَّوام في حدودٍ معينة، دون التمكُّن من حلِّ مشكلاتها الأساسية أبدًا. وتأتي بعد ذلك أزمات أخرى مرتبطة بالسابقة وإن اختلفت عنها في صورتها، وهي أزمة العقلانية بما تُثيره من مشكلات في داخل الدولة وغيرها من الأنساق أو الأنظمة، وأزمة الشرعية (أو المشروعية) التي تَتَبَدَّى في استحالة الحفاظ على البُنَى (أو البِنَاءات) المِعياريَّة الفعالة في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة، وأخيرًا أزمة الدَّافِعيَّة أو تحفيز الدوافع الإنسانية الحقيقية. وقد حَلَّلَ هذه الأزمات تحليلًا ماركسيًّا أكمَلَه بالاستعانة بنظرية الأنْساق. ولا بدَّ من القول بأن تحليلاته لهذه الأزمات أو لغيرها من المشكلات قد ظلَّت ذات طابعٍ ماركسيٍّ من ناحية المنهج والنقد الجدلي المادي، على الرغم من تَخَلِّيهِ عن بعض المقولات الماركسية الأساسية أو التقليدية وتَخْطِئَته لها، كالقول بأن التَّغيُّر التاريخي هو «دالَّة» قوى الإنتاج، والنظر إلى العمل كما لو كان هو القوة الرئيسيَّة الفعَّالة في إحداث التطور الاجتماعي، فضلًا عن نقده الدائم لما وَصَفَه بالنزعة العلمية والقَطْعِيَّة — أو الاعتقاديَّة الجازمة — اللتين يأخذهما على ماركس. صحيح أن العمل وقُوى الإنتاج لهما في رأيه دور حاسم، ولكنه يُضيف إليهما مَقولتَي اللغة والتفاعل أو التواصل، ويَتَّهِم ماركس بتجاهُلِهِما في كتاباته المتأخرة (مثل رأس المال).
وقد كانت علاقة هابرماس بالماركسية هي الموضوع الرئيسي الذي ناقشه في كتابه «إعادة بناء المادية التاريخية» (وهي مجموعة مقالات ظهرت في فرانكفورت لدى الناشر زوركامب سنة ١٩٧٦م، وتُرْجِمَت مُختارات منها إلى الإنجليزية تحت عنوان التَّواصل وتصوُّر المجتمع، بوسطون، ١٩٧٩م)؛ فتفسير تطوُّر المجتمع يَستلزِم دراسة تطور القدرات المعرفية والبِناءات المِعيارية «ووجهات النظر الشاملة إلى العالم»، بالإضافة إلى تطور قوى الإنتاج؛ لأنَّ التغيُّرات التي تَطْرَأ على تنظيم المجتمع لا تَنتُج بالضرورة عن تطوُّر قوى الإنتاج؛ إذ يكفي أن تُثيرها المشكلات التي تَنْتَاب الأنظمة أو الأنساق الاجتماعية الأخرى. ويَقترح هابرماس الاستفادة من الدراسات النُّشوئيَّة أو الارْتِقَائيَّة للنمو المعرفي والأخلاقي (على نحو ما نجدها عند كولبرج وعالم النفس الشهير بياجيه) لفهم القدرات والمعايير «ووجهات النظر الشاملة» التي سبق ذكرها لتكوين نظرية عن تأثير هذه العوامل على التطوُّر الاجتماعي. ويبدو أنَّه بَقِي على وعيٍ تامٍّ بالمشكلات التي يمكن أن تَنْجُم عن تطبيق نموذج للنمو الفردي على ظاهرة جماعية مركبة مثل ظاهرة التنظيم الاجتماعي وتطوره؛ ولذلك لم يخرج ما قدَّمه في هذا الموضوع حتى الآن عن تخطيطٍ أوليٍّ يحتاج إلى مَزيد من تفصيل.
وأخيرًا، فلعل السطور السابقة أن تكون قد ألقت بعض الضوء على فلسفة جادَّة وعَسِيرة ما تزال في دور التطور والاكتمال. ولا بدَّ أن القارئ قد لاحظ أنها تَتَّسِم بطابعٍ توفيقِيٍّ (أو تَلفيقِيٍّ يُؤلِّف بين عناصر مُتفرِّقة من فلسفات تبدو مُتعارضة أو تَبلغ حدَّ التناقض)، ولكن النزعة التوفيقية ربما تكون — على حدِّ تعبيره هو نفسه — ضرورة لا مفرَّ منها ما بقِيَت النظرية المُرَكَّبة التي يَسعى لبنائها «في حالة ولادة». وليس معنى هذا أن النظرية التي ما زالت في هذه الحالة، نظرية مُفَكَّكة أو مُشَوَّهة؛ لأن العين الفاحِصَة لا يمكن أن تُخطئَ الوحدة الموضوعية التي تَنتَظِم أجزاء مشروعها الطَّمُوح (راجع المشكلات التي عرَضْنا لها بإيجاز عن علاقة المعرفة بالمجتمع وبالطبيعة الخارجية والداخلية، والفروق المُمَيِّزَة بين شروط الصحة اللازمة للمطالب العامة من الأفعال الكلامية (أفعال القول)، والأنْمَاط أو النَّماذج الثلاثة للمعرفة والبحث العلمي والمصالح المرتبطة بها، والاهتمام البالغ بمُشكلة التَّواصل أو الاتصال والحوار بين البشر على المستويين اللغوي والعملي، وسائر الأزمات والمشكلات التي تدلُّ دلالة كافية على القَلَق على مستقبل الوَعْي الفردي والجماعي النقدي الحرِّ، وفُرَص إنقاذه من الحصار «العقلاني» و«السُّلْطَوي» المَضرُوبِ حوله، والتَّمسك آخِرَ الأمر بنَضَارة الحياة البشرية وذخيرة الإمكانات والطاقات الكامنة فيها، وحمايتها من أخطار «الاستعمار» العجيب الذي بدأنا جميعًا في الإحساس بأهواله الفتاكة، وأخيرًا وليس آخرًا تلك المحاولة الجَسُور لتَشييدِ نظريةٍ مُتكامِلَة عن أخلاق التَّواصل التي تَسترشِد بمعاييرِ العقل العملي والنقدي في آنٍ واحد). صحيحٌ أنه استمَدَّ الكثير من لَبِنَات هذا البناء من التُّراث الفلسفي والاجتماعي، ومن فلسفات العصر وهمومه واهتماماته، ولكن هذا لا ينفِي عنه الأصالة التي نعرف اليوم أنها ليست خَلقًا جديدًا كلَّ الجِدَّة ولا إبداعًا من فراغ، وإنَّمَا هي على الدَّوام تركيبَةٌ غير مسبوقة لعناصر قديمة ومَطْروقَة. ويَزِيد في تقديري من أصالة هذا المُفكِّر الجادِّ والعالم الدءوب أن نَسَقه الفلسفي والعلمي — إذا جاز الكلام هنا عن نسقٍ مع صاحب نظرية الأنساق! — ما يزال عملية جدلية لم تكتمل وربما لا يعنيها أن تَكتِمل؛ لأن غاية سعيها وشَرَفه أيضًا أن تبقَى سائرة على الطريق كما علَّمَنَا أفلاطون، وأن تَحرِصَ على يَقظَة الوعي والعقل وإيقاظِهِما كلَّما أخْلَدَا للنُّعاس كما علَّمَنا سُقراط وكلُّ الفلاسفة العظام والمُفكِّرين الحقِيقيِّين في كلِّ العصور والحضارات.
وخيرُ ما نَخْتَتِم به هذا الحديث القصير أنه أثبت إخلاصه للنقد الفلسفي ورسالته، فلم يكن مجرَّد امتدادٍ للجيل الأول من أصحاب النظرية النقدية، وإنما كان وما يزال ناقدَ النقد أيضًا. بذلك أعطى «التنوير» دلالةً إيجابيَّةً فعالة، وخلَّصَه من صِفَاتِه السلبيَّة المُدَمِّرة التي دَمَغَه بها أستَاذَاهُ (أدورنو وهوركهيمر)، واستحقَّ أن يُوصَف بأنَّه المُعبِّر عن التنوير العقلي الصَّادِق في القرن العشرين، الحريص على تكوين رأيٍ عامٍّ واعٍ حرٍّ ومستنيرٍ، في وقت تُدَاهِم الفرد والجماعة فيه ظلمات الإرهاب والقهر والظلم والقَمْع والتَّجويع من كلِّ الجهات.
(٥) لوكاتش، جورج Lukács, Georg (١٨٨٥–١٩٧١م)
فيلسوف مَجَري، وناقد أدبي، اشتهر بكتاباته في فلسفة الفنِّ والجمال، ودفاعه عن الواقعيَّة الاشتراكية وعن ديكتاتورية الطبقة العاملة ورسالتها في تحقيق خلاص البشرية عن طريق الاشتراكية.
وُلد في «بودابست» سنة ١٨٨٥م، وكان أبوه من أصحاب البنوك الأثرياء. تَخرَّج من جامِعَتها سنة ١٩٠٦م، ثم دَرَس على يد فيلسوف الحياة جورج زيميل في برلين (من ١٩٠٩-١٩١٠م)، وفيلسوف الاجتماع ماكس فيبر في هيدلبرج (من ١٩١٣-١٩١٤م)، وتأثَّر تأثُّرًا كبيرًا بفيلسوف الحياة والتأويل (الهيرمينويطيقا) فيلهيلم دلتاي، وبصديقِه فيلسوف الأمل واليوطوبيا «إرنست بلوخ»؛ مما جعَلَه يَنجذِب في شبابه إلى الرومانتيكية الجديدة والمثالية الأخلاقية والاتجاهات المُضادَّة للنزعات الوضعية والطبيعية والمادية في أواخِرِ القرن التاسع عشر وأوائل العشرين. ذاع صِيتُه في النقد الأدبي بعد صدور كتابيه: «الروح والأشكال» (١٩١١م) و«نظرية الرواية» (١٩٢٠م) ودراساته في الواقعية الأوروبية في القرن التاسع عشر، ثم تألَّقَ اسمه كواحد من أبرز الفلاسفة الماركسيين المُعاصرين بعد ظهور كتابه الأساسي «التاريخ والوعي الطبقي» (١٩٢٣م) الذي سبقَتْه مجموعة مقالات عن التَّكتيك والأخلاق (١٩١٨–١٩٢٠م)، كما لَحِقَتْه كتب هامة أخرى مثل «جُوته وعصره» (١٩٤٧م) وهيجل الشاب (١٩٤٨م) وأنطولوجيا الوجود الاجتماعي (١٩٧١م).
انضمَّ لوكاتش إلى الحزب الشُّيوعي المَجَري الذي تأسَّس عام ١٩١٨م، وأصبح مُفَوَّض الشعب للتعليم والثقافة في أول جمهورية شيوعية لم تَلبَثْ أن انهارت في أغسطس سنة ١٩١٩م، فهاجر إلى مدينة فيينا وكتب هناك مقالاته التي جمعها بعد ذلك في كتاب التاريخ والوعي الطبقي الذي سبق ذِكْره. وأثار هذا الكتاب ثائرة الفلاسفة والنُّقاد الماركسيين الحرفيين، ووصفوه بالانحراف والخروج على المذهب ممَّا أدى إلى طَرْدِه من الحزب. ولما استولى النازيُّون على السلطة لجأ إلى الاتحاد السوفيتي (من ١٩٢٣–١٩٤٤م) وشارك بالعمل في معهد الفلسفة للأكاديمية السوفيتية للعلوم، ورجع لبلده بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وأصبح عضوًا في البرلمان وأستاذًا لفلسفة الجمال. وفي سنة ١٩٥٦م شارك في الثورة الشعبية — التي سحَقَها الجيش الروسي — وعمل وزيرًا للثقافة في حكومة إمري ناجي التي لم تُعَمِّر طويلًا، ونُفِيَ إلى رومانيا ثم سُمِحَ له بالعودة إلى بودابست حيث اعتزل الحياة العامة، وعَكَف على تأليف كتابه الضَّخم في فلسفة الجمال إلى أن مات في سنة ١٩٧١م.
تصوَّر لوكاتش أن تحقيق المجتمع الشيوعي في المَجَر على يدِ «البروليتاريا» (الطبقة العاملة) قد بات أمرًا وشيكًا؛ ولذلك انشغل بمسألة تبرير «الرُّعب» الذي تُمارسه هذه الطبقة — أو يحقُّ لها أن تلجأَ لمُمَارسَتِه — تبريرًا أخلاقيًّا، وقد وجَدَ هذا التبرير كما وجدَ المِقياس الحاسم ﻟ «التكتيك الاشتراكي» في فلسفة التاريخ التي تؤكد في نظره أن النظام الرأسمالي يُؤدِّي بالضرورة إلى الحروب والأزمات المُتكرِّرة، وأن القضاء عليه عن طريق الثورة يَعنِي «التحوُّل في مصير العالم». وتُوضِّح فلسفة التاريخ كذلك أن تَحقيق الرسالة التاريخية والعالمية ﻟ «البروليتاريا» يَعنِي تحقيق مصالحها الطبقيَّة المُرتبطة بتحقيق الخلاص الاجتماعي للبشرية. فإذا احتج أحدٌ بأن هذا الخلاص المَزْعوم سيَجلِب معه خرابَ القِيَم الحضارية والإنسانية، رُدَّ عليه بأن هذه ليست حُجَّة حاسمة في نظر أولئك الذين صمَّمُوا على الوقوف في صفِّ الاشتراكية لأسباب أخلاقية أو تاريخية. ومع أن لوكاتش كان على وعْي تامٍّ بأن «الصراع الطبقي الخالي من الرحمة» يُمَثل «دربًا جانبيًّا» على الطريق المؤدِّي إلى «مُجتَمع الحبِّ والتفاهم»، ويُمكن أن يُعَرِّض تحقيق الهدف النهائي للخطر، فإنه لم يُواجِه هذه الشكوك مواجهةً صريحةً، وبَقِي على اقتناعِه بأن الرُّعب والقَهْر إجراءان ضرُوريَّان لمقاومة أعداء الاشتراكية ولتحرير البشرية. وهو يعتَرِف بأن هذا الصراع يمكن أن يتسبَّبَ في «مواقف مأسوية» تَنجُم عن التَّصادُم بين القِيَم الأخلاقية الفرديَّة وبين الفعل والمُمارسة التي تفرضها الحتْمِيَّة التاريخية الفلسفية، ولكنه يُعطِي الأولوية في هذا الصراع للعمل الجماعي المُبَرَّر من الوجهة التكتيكية. وإذا كان من المستحيل أن يتخلَّص الثوريُّ في مثل هذه الأحوال من الشعور بالذنب، فإن عليه كذلك أن يشعُر بأنه هو «الضَّحِيَّة» التي فُرِضَ عليها النُّهوض برسالتها التاريخية.
ويرتبط مفهوم «الوعي الطبقي» — الذي طوَّره في كتابه الأساسي السابق الذكر — بمفهومَي الكُلِّيَّة (أو الشمول) والتَّشَيُّؤ، ويُوضِّحان فكرته عن «منطق» التاريخ؛ فهذا المنطق الذي يعتَمِدُ على المعرفة بفلسفة التاريخ لا يُقارَن بالفروض والمسلَّمات الأساسية في علم الهندسة مثلًا، ولا هو قانون «قَبْليٌّ» يُفْرَض على العمل الثوري ويُنَاط تنفيذه بالبروليتاريا أو الطبقة العاملة؛ ذلك لأنَّ المنهج الماركسي يُمكِّن أصحابه من التعرُّف على الأحداث الجزئية والفردية — التي تبدُو في ظاهِرِها مُنعَزِلة بعضُها عن بعض — باعتبارها لحظاتٍ جدليةً وديناميكية من كلٍّ جدليٍّ وديناميكي شامل. وهذا المنهج المعبِّر عن جوهر الماركسية لا يُطبَّق على الوقائع من الخارج كما تُطبَّق مناهج العلوم الجزئية، وإنما هو الأسلوب الذي تتفتح به الواقعة والموضوع نفسه، وهو العمليَّة التَّأريخية التي يَعِيها «الوعي الطبقي» للبروليتاريا التي تُمَثِّل «الذات الفعالة» التي تحقِّق التغيُّر الاجتماعي كما تُمثِّل «الكلية» والشمول البشري. وعندما تَستوعِب البروليتاريا ذلك المنهج يُصبح هو «المعرفة الذاتية للواقع»، ومن ثَمَّ تكون البروليتاريا الواعية برسالتها التاريخية بمثابة «وحدة الذات والموضوع» — على حدَّ تعبير هيجل — لتلك العملية التاريخية.
ولمَّا كانت الشُّمولية أو الكلية التاريخية لا تتحقَّقُ للبروليتاريا المُزَوَّدَة بالوعي الطبقي إلا من خلال الفعل والممارسة، فلا يُمكن أن تكون «قوانين» التاريخ معايير مفروضة بصورة مُسبَقَة على ممارستها؛ لأنها جزء من طبيعة «جدليَّتها»؛ ولأنها هي نفسها «قانونها الخاص» الذي يقْضِي — في مسار تطبيقه الفعلي — على الثُّنائيَّة التقليديَّة التي تفصِل بين «الوجود» و«الواجب».
بَيْدَ أن هذا الوعي الطبقي الذي استوعب الضرورة التاريخية ليس هو الوعي «التجريبي» الملموس عن البروليتاريا، ولا هو حصيلة مجموع مصالح الأفراد الذين ينتمون إليها، كما أن البروليتاريا الحاضرة لم تصِل بعدُ إلى درجة من الوعي تُؤهِّلها لفهم دورها التاريخي ورسالتها الإنسانية؛ فقد «شُيِّئَت» في ظلِّ المُجتمع الرأسمالي وظروف مصالحه وقُواه وعلاقاته الإنتاجية، وأصبحت «عنصرًا من عناصر حركة السلع»، كما انحطَّ وعْيُها حتَّى صار مُجرَّد «وعي ذاتي للسلعة». ويرجع الفضل للوكاتش في إثارة مشكلة التَّشَيُّؤ واغتراب الإنسان العامل في المجتمعات «البرجوازية» للنظم الرأسمالية؛ ممَّا كان له أكبر الأثر على فلسفة الماركسيين الجُدُد من أصحاب «النظرية النقدية» المعروفين كذلك باسم «مدرسة فرانكفورت». وقد اسْتَنَد لوكاتش إلى مناقشة ماركس لعِبادَة الرفاهية أو «صَنَمِيَّتها»، وقوله بأن «التَّشَيُّؤ» هو العملة التي بها تُصبح منتجات العمل البشري «أشياء» مُستقلَّة أو ظواهر مُعطاة تتحكَّم في الناس عن طريق قوانين تبدو كأنها لا تُرَد، فيتحولون من الناحيتين الذاتية والموضوعية إلى مُشاهِدين سلبيِّين بدلًا من أن يكونوا ذوات فاعلة مُبدِعَة، ويُخضِعون نشاطَهُم الإنساني الخلَّاق لقُوى لا شخصيَّة غريبة عنهم ومُدمِّرة لطبيعتهم وماهِيَّتهم الأصلية. ويتَّضح تَجْريد الإنسان من إنسانيَّته في التنظيم الداخلي للمصنع الذي يُمثِّل صورة عالم مصغر من عالم المجتمع الرأسمالي الذي نُفِّذَ بتخَصُّصِه في تقسيم العمل، وتغَلْغَل بِعقْلنَتِه الصناعية والاستهلاكية حتى في صَميم الحياة الحَمِيمة للإنسان، فأصبح يعيش في عالم مُجَزَّأ ومُفَتَّت غابت عن وعْيِ أفراده وحدَة المجتمع والتاريخ؛ ولذلك يعلن لوكاتش أن الحزب الشيوعي هو القيادة الواعية للثورة ولِمنطق التاريخ وماهيَّة المجتمع نِيابةً عن الطبقة العاملة، وأنَّ البروليتاريا تَجِدُ في الحزب المُزوَّد بالمعرفة الكلية ضمير رسالتها التاريخية وأداة تحقيق أسْمَى طُموحاتِ البشرية التي ستنتهي بانتصارها وإنجاز بناء الشيوعية. وبهذه الفاعلية الإنسانية (أي البروليتارية) الواعية — لا بمجرَّد معرفة القوانين الاقتصادية الحتميَّة وتحليلها — يتحقَّقُ «عالم الحرية» الكامن في طبيعة الإنسان والمُعبِّر عن معنى التاريخ.
ومن أفْضال لوكاتش على التَّفلْسُف الماركسي المُعاصر أنه ناقش مشكلات الأخلاق الثورية، وردَّ اعتبار التفكير الجدلي، وبخاصة في العالم الناطق بالألمانية الذي انصرفت مُعظم جهوده في ذلك الحين إلى «الكانتِيَّة الجديدة» والمادية التَّطوُّريَّة. وإذا كان قد قدَّم التبرير الفلسفي ﻟ «التطوُّر الخلَّاق» الذي تنبأ به «لينين» للماركسية، فإن نُقَّادَه يتَّهمونه بأنه قد قدَّم كذلك المُسوِّغات الفلسفيَّة والجمالية للإرهاب الثقافي على عهد استالين، وأنَّ إصرارَه على عِصْمة الحزب قد برَّرَ القضاء على المُعارضة والرأي الآخَر، وأن التِزَامه بالنظام السياسي القائم على القَمْع لا يمكن التَّوفيق بينه وبين نزعَتِه المِثاليَّة التي طالَمَا عبَّرَ عنها باقتباسِ عبارة بروتاجُوراس القديمة عن أنَّ الإنسان مقياس جميع الأشياء ما وُجِدَ منها وما لم يُوجَد. ولعلَّ الزلزال الذي هزَّ أركان المجتمعات الاشتراكية الأوروبية في الآوِنَة الأخيرة أن يُتِيح مُراجعة كثير من المفاهيم التي أخَذَها مأْخَذَ المُسلَّمات — كالوعي الطَّبقِي والحزب والطبقة العاملة والثورة — وأن يَسمَحَ في المستقبل القريب أو البعيد بإعادة تَقييم فلسفته، ومراجعة الأيديولوجية الماركسية وكل الأيديولوجيات مراجعة جِذريَّة شاملة.
(٦) بلوخ، إرنست Bloch, Ernst
(وُلِدَ في مدينة لودفيجزهافين سنة ١٨٨٥م، ومات في توبنجين سنة ١٩٧٧م).
فيلسوف ماركسي جديد، وناقد أدبي وفني، تميَّز بثقافته الموسوعية، وأمله الكبير في «يوتوبيا» اشتراكية واقعية تحقِّقُ الغاية الأخيرة من الحركة الجدلية للعالم والتاريخ، وتجسد «مَمْلَكة الحرية» للإنسانية الحرَّة العادلة الشاملة.
(٦-١) حياته ومؤلفاته
ينحَدِر بلوخ من أصل يهودي. كان أبوه موظَّفًا بسيطًا في مدينة العمل والعمال الفقراء «لودفيجزهافين»، ودرَس الفلسفة والموسيقى والفيزياء في جامعات ميونيخ وفيرتسبورج وبرلين حيث تَتَلْمَذ على فيلسوف الحياة جورج زيميل، وحصل على الدكتوراه برسالة عن «ريكرت» فيلسوف الحضارة والقِيَم وأحد مُؤسِّسِي المدرسة الكانطية الجديدة. انضمَّ سنة ١٩١٢م إلى حلقة المُريدِين المُلتفِّين حول فيلسوف الاجتماع «ماكس فيبر» في هيدلبرج، وتعرَّف إلى جورج لوكاتش وتوثَّقت بينهما عُرَى صداقة طويلة لم تخلُ من الخصومات الجدلية العنيفة، وبعد فترات إقامة طويلة خارج بلاده — في سويسرا وإيطاليا وشمال إفريقيا — استقرَّ من سنة ١٩٢٦م إلى سنة ١٩٣٣م في برلين حيث توطَّدت العلاقات بينه وبين مجموعة من الفلاسفة والنقاد والأدباء، من أهمهم: تيودور أدورنو وفالتر بنيامين وبرتولت بريشت. وعندما تسلَّم النازيون مقاليد السُّلْطة لجأ إلى تشيكوسلوفاكيا، ثم هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنة ١٩٣٨م حيث قضى حوالي عشر سنوات تفرَّغ فيها لتأليف كتابه الأكبر «مبدأ الأمل»، إلى أن تلقَّى الدعوة من جامعة ليبزيج لشَغْلِ منصب أستاذ الفلسفة بها حتى سنة ١٩٥٧م. ولما تأزَّمت العلاقة بينه وبين الحزب الشيوعي ومعهد الفلسفة الذي كان يتولَّى إدارته، غادر ألمانيا الشرقية إلى جامعة «توبنجن» التي قلَّدتْه منصب أستاذ شرَفٍ بها حتى وفاته في سنة ١٩٧٧م.
تعبِّر عناوين كتبه الأولى — مثل روح اليوتوبيا ١٩١٨م وتوماس مونتسر لاهوتي الثورة ١٩٢١م — عن فكرة الخلاص التي سيطرت على حياته كلها، وعن شَوْقه إلى عالم أفضل لم يكفَّ عن الدَّعوة إليه وتَلَمُّس بُذُوره وجُذُوره في المادة والطبيعة الحيَّة وغير الحيَّة، وفي تجلِّيات الوعي البشري على اختلافها منذ بداياته الأولى إلى العصر الحاضر. وظلَّ الأمل في تحقيق ما لم يتحقَّق بعدُ — أي في مستقبل أكمل وأعدل — هو المفتاح الأساسي لكل شروحه وتفسيراته ودراساته التي نذكر منها: ميراث هذا الزمن ١٩٣٥م، الذات — الموضوع — شروح على هيجل ١٩٥١م، ابن سينا واليسار الأرسطي ١٩٥٢م، مبدأ الأمل (نُشِر بين عامَي ١٩٥٤م و١٩٥٩م، وظهرت ترجمته الإنجليزية عام ١٩٨٦م)، القانون الطبيعي والكرامة البشرية ١٩٦١م، أنطولوجيا الليس-بعد (أو الوجود الذي لم يتحقَّق بعدُ) ١٩٦١م، محاضرات توبنجين في التمهيد للفلسفة ١٩٦٤م، الإلحاد في المسيحيَّة ١٩٦٨م، تجربة العالم ١٩٧٥م.
نَهَل «بلوخ» من منابع التراث الإنساني والتراث العقلي والحضاري الغربي بوجه خاص، وتعدَّدَت المصادر المؤثرة على رُؤيته الفلسفية إلى الحدِّ الذي يصعُبُ معه حصْرُها؛ ولذلك نكتَفِي بذكر أهمها وأبرزها: أرسطو والأفلاطونية المُحدَثَة، بعض فلاسفة الإسلام — مثل ابن سينا وابن رشد — واليهودية — مثل ابن جبيرول وابن ميمون — مع التأثر بالتراث الصوفي و«المسيحاني» اليهودي وبخاصة في الكتابات الصوفية اليهودية المعروفة بالقبَّالة، فلاسفة عصر النهضة وفي مقدمتهم جوردانو برونو، اسبينوزا وهيجل وشيلنج وكيركجور وبرجسون، وقبل كل شيء فلسفة ماركس الذي اتُّهِم بلوخ بأنه فسَّرَه تفسيرًا مثاليًّا (هيجليًّا) وغير علمي، بِحجَّة تجديد الماركسية وتحريرها من الجُمود العقائدي، وتأكيد رسالتها في تخليص الإنسان من القهر والاغتراب وتحقيق «اليوتوبيا الواقعية والإنسانية الحق».
(٦-٢) فلسفته
على الرغم من صعوبة تلخيص فلسفة تَعُدُّ نفسها رسالة ثورية حيَّة، ودعوةً موجَّهة للإنسان لتحقيق الحلم والأمل الكامن في المادة ذاتها لا في وعْيِه ولا وعْيِه وأحلام يَقَظَتِه فحسب، فيمكن إجمال معالمها الهامَّة على النحو التالي:
ظلام اللحظة المَعِيشَة
يمكن القول بأن فلسفة «بلوخ» تنطلق من الوصف الخالص لظواهر الوعي الذاتي للإنسان وتجاربه، ومن تأمُّل الشواهد الدالَّة على إرادته المبدعة عبر التاريخ البشري؛ لتصل إلى رؤى عامة في تركيب الوجود نفسه وبنائه الأنطولوجي (أي من ناحية نظرية الوجود العام) والأنثروبولوجي (أي من جهة الدوافع الأساسية المحرِّكة للإنسان). وقد ظلَّت تجربة الوجود الشخصي المُتناهي، وعَرَضِيَّة الوجود الكوني لنظامنا الشمسي بأسره، وراء الدَّفعة الإنسانية والثورية لذلك المنطلق. ولم يكتفِ بلوخ بتقرير هذه العرضيَّة وذلك التناهي — اللذين يشترك في مُعاناتهما مع كثير غيره من فلاسفة العصر وبخاصة فلاسفة الوجود — وإنما توغل في مفارقة «اللحظة المعيشة» التي تَنْساب وتَفْلت منَّا مهما امتلأت تجربتها بالسعادة، وتَعْبُر وتزول مهما توهَّمنا أنها هي «لحظة الأبدية» والخلود، وابْتَهَلْنا إليها على لسان فاوست: «تَرَيَّثِي قليلًا فما أجمَلَك!» فنحن نخرج — في هذه اللحظة العميقة المُمْتَلِئة التي سرعان ما يُغَيِّبها ظلام «الماضي» — بمعرفةٍ يُمكن التَّعبير عنها على هذه الصورة: «أنا موجود، ولكنِّي لا أملِك نفسي»، فوجودي يفرُّ من قبضتي. ويُصبح السؤال الأساسي: متى يعيش الإنسان إذًا على الحقيقة؟! غير أن بلوخ لا يتوقَّف عند هذا السؤال الحزين، فالتجربة الأليمة بالتَّناهي الزَّماني والمحدودية المَكَانية التي تَتَخلَّل اللحظة الممتلئة، تجعله يكتشف «إمكان» التحقُّقِ الكامل والامتلاء غير المحدود في صميم ذلك الألم والحزن؛ ولهذا يفاجئنا — بعد القول السابق بأنه لا يملك نفسه — بهذه العبارة الواعدة: «ولهذا سنصِير في المستقبل»، وكأنما لَاحَ له بريق النور الدائم في ظلام اللحظة المعيشة؛ إذْ لو كان التعرُّف على السعادة الكامنة في هذه اللحظة أمرًا متعذِّرًا، لما أمْكَنَ أن يُصبح الافتقار إليها مُشكلة. وتجربة هذا الافتقار أو النقص دليل على أن الإنسان لا يُسَلِّم به ولا يَسْتسلِم له، وإنما يبذل جهده على الدوام لتجاوزه وملئه. يرى «بلوخ» أن الحنين والشوق إلى «الإنسانية الكاملة غير المحدودة» الذي يتمثَّل في الأمل والحلم «اليوطوبي» الدائم بمملكة الخلاص والحرية، هو المضمون الحقيقي للإبداع البشري في مختلف مظاهره الحضارية والثقافية والفنية والدينية … إلخ، سواء نظرنا إليه من خلال الحكايات الخرافية القديمة أو اليوتوبيات (المدن المثالية الفاضلة) الاجتماعية العديدة، أو في «الإيمان بوجود الله» في الديانات السماوية وغير السماوية، أو عبر الحضارات والفلسفات الشرقية والفكر الفلسفي اليوناني وفلسفة العصور الوسطى والحلم بمملكة الله المسيحية، مرورًا بفلسفة عصر النهضة ومذاهب الفلسفة الحديثة — وبالأخصِّ الفلسفة المثالية الألمانية عند هيجل وشيلنج في فلسفته المُتأخِّرة عن الطبيعة — حتى الفلسفات المعاصرة وبخاصة فلسفة الحياة وفلسفة الوجود، بجانب ما لا يُحْصَى من المذاهب والتيارات والاتجاهات والأعمال الأدبية والفنية — في الموسيقى والعمارة قبل كل شيء — ممَّا يكاد يستوعب مظاهر إبداع العقل البشري في الموسوعة الثرية الهائلة التي يضمها كتابه «مبدأ الأمل». والواقع أن هذا الكتاب الضخم لا يقلُّ أهمية عن ظاهريات الروح لهيجل، تسري فيه روح صوفية ودينية ووجودية تتفاعل مع اشتراكية ماركس وإنجلز والرؤى المختلفة عن نهاية العالم والتاريخ، والتبشير الثوري والمأساوي بحتمية الخلاص، في لغة متدفِّقة وغنيَّة بالصور الشاعرية — وإن كانت لا تخلو من الغموض والتشوُّش والبُعد عن التنظيم المنطقي والاتساق المنهجي! — وتُرَدِّد دعوةً ملِحَّة للإنسان أن يجد نفسه، وأن يتَّحِد بالوجود الكلي الواحد الذي أصبح رمزًا ﻟ «الماوراء» أو العالم الآخر وبديلًا عنه. وكأني ببلوخ قد خَلَط التصوف والمسيحية واليهودية والاشتراكية وسائر ما أبدعه الروح البشري وقَلَبَها جميعًا رأسًا على عقب، ثم راح يتجوَّل بين أنقاضها داعيًا إلى تحقيق «الأمل» الأكبر والأخير، مُردِّدًا صَيحتَه بأن العالم المادي والتاريخ والوجود الإنساني لم تتحقَّق كلها ولم تكتمل بعد.
أنطولوجيا أو نظرية الوجود الذي لم يتحقق بعد (الليس-بعد)
ليس الإحساس أو الوعي الأليم ﺑ «لا واقعية» الوجود المُتحقِّق في اللحظة السعيدة المُمتلئة مقصورًا على التجربة الإنسانية، فظلام اللحظة المعيشية المنقضية لا يكمن فينا وحدنا، وليس أمرًا ذاتيًّا وحسب، وإنما هو ماثل كذلك خارجنا، سارٍ ومتغلغلٌ في كلِّ شيء. إنه صورة من «الظلام الموضوعي» الكامن في كل موضوع. بهذا نصل إلى القضية الميتافيزيقية الأساسية: إن الوجود الفعلي المَحْض يفجِّر حدوده الخاصة ويتخطَّى نفسه، وهذا الوجود الأجْوَف الخالص الذي يَحتوينا لا يُهدِّئ من نزوعه الدائب شيئًا، فهو لا يصبر أبدًا على «اللا» الكامنة في «الأنا أكون» أو في «الهو يكون» ولا يُطِيقها؛ ولذلك يتطلَّع على الدوام إلى «الأمام» والجديد، ويتطور بنفسه نحو «الليس-بعد» أو «الوجود الذي لم يتحقق بعد» الذي يرتسم أمامه. هذه «الليس-بعد» أشْبَه ما تكون بنوع من النَقْص الذي يتعيَّن عليه أن يتجاوز نفسه، هي أشبه بذلك «الرعب من الخلاء» الذي كان يُحِسُّ به القدماء ويشعرون بضرورة ملئِه بالوجود، وتخطِّيه بالنزوع المستمرِّ إلى الواقع المُتحقِّق. وهذا النزوع نفسه تعبير عن «الجوع» الذي يرى بلوخ أنه دافع أساسيٌّ داخلٌ في «بِنية» كلِّ موجود، أي إنَّه بِلُغة الفلسفة المختصَّة «مقولة أنطولوجية».
ومع الأمل وبالأمل يصبح «الليس-بعد» أو «غير المُتحقِّق بعد» هو «إمكان» الوجود على المستوى الإنساني. وكما تشعر «الذات» بأن عدم تحققها أو «عدم امتلائها» هو الذي يدفعها أبدًا إلى ضرورة تَجاوُز وضعها الحاضر الذي لا ترضى عنه ولا تكتفي به — وبذلك تمثل نموذج «الذات الطبيعية» التي تُحفِّز الطبيعة المادية والحيوية إلى تجاوز نفسها في أشكال متجددة باستمرار — فإن «الأمل» في رأي بلوخ ليس مجرَّد «حلم يَقَظة»، ولا هو مجرَّد فكرة أو اعتقاد أو ميل يحرِّك الإنسان في كلِّ فعل يُقدم عليه وكلِّ إبداع يوَفَّق إليه، وإنما هو — قَبل ذلك — الخاصية الأساسية والمُقولة الرئيسية للوجود من حيث هو وجود. ويرتبط هذا بتصوُّره الطَّريف عن المادة الذي سنقف الآن عنده وقفة قصيرة.
تصور المادة
عرفنا أن «الإمكان» هو أهمُّ مقولات «أنطولوجيا» الليس-بعد أو الوجود الذي لم يتحقق بعد. ولكي يحدِّد بلوخ هذه المقولة بوصفها إمكان وجود «شيء» في سبيله إلى التحقُّق الفعلي، نَجِدُه يرجع إلى مفهوم المادة عند أرسطو ويتأمَّله من وجهة نظر جديدة؛ فليست المادة هي الوجود بالقوة أو بالإمكان كما نعرف جميعًا فحسب، (كاتا-تو-ديناتون) — أي المادة الأولى التي تمكِّن لظهور الصورة العينية الملموسة — وإنما هي — قبل كلِّ شيء — «الموجود الكامن في الإمكان (ديناموي أون)، أي المبدأ الميتافيزيقي للوجود المُمكن ذاته. ويُؤكِّد بلوخ — دون أن يستطيع العثور في هذه المرَّة على سَنَد من أرسطو! — أن المادة تُبدِع من ذاتها — بفضل الإمكان الكامن فيها وحده — جميع أشكال وجودها المُتنوع، ومن أدنَى مستوياته إلى أعلاها، وهو مستوى الحياة العقلية: «فهي تختمر في «اللا»، وتتولَّد في «الليس-بعد»، وتَحمِل كل شيء وتشعر به وتشمَله، أي إنها تشمل نفسها أيضًا. إنَّ المادة لَتَكون في حركة دائبة، حين تكون في علاقتها بالمُمكِن الذي تنفتِحُ عليه في داخلها وجودًا لم يَبْرُز أو لم يظهر بعد، وهي ليست سلبية أو مُنفعلة كالشَّمع، وإنما تحرِّك نفسها أثناء تَشَكُّلها على صُوَرٍ مختلفة، وحتى الطبيعة غير العضوية لها يوطوبياها …»
هكذا يكون بلوخ قد قدَّم تصوُّرًا جديدًا للمادة بعد أن تَتَبَّع فكرتَها، كإمكانٍ غير محدود منذ أرسطو وابن سينا وابن رشد وابن جبيرول حتى ممثلي «اليسار الأرسطي» في أواخر العصور الوسطى، ومن جوردانو برونو في عصر النهضة حتى اسبينوزا في القرن السابع عشر، إلى أن اكتملت — في رأيه — في المادية الجدلية والتاريخية عند ماركس وإنجلز (راجع في هذا كتابه الطريف عن ابن سينا واليسار الأرسطي، فرانكفورت مطبعة زوركامب). والمهم في هذا كله أنه قد توسَّع في تصوُّره للمادة أكثر بكثير مما فعلت المادية الجدلية؛ فلم يكتفِ بأن يفهمها فهمًا تاريخيًّا واقتصاديًّا، وإنما جعلها المنبع الدائم لإمكانيات مُتجَدِّدة تتخَلَّق في أشكال مختلفة على مستوى الطبيعة العضوية وغير العضوية، في الكون والإنسان على السواء. وقد ذهب إلى أن الطبيعة المادية هي الأساس الذي يقوم عليه كل تاريخ ممكن، وبالأخص تاريخ العمل البشري المُناضل الواعي الذي يُغيِّر من الطبيعة نفسها دون أن ينفصِل عنها. ومعنى هذا أن تاريخ البشرية جزء من تاريخ الطبيعة، وإن كان في الوقت نفسه هو الضِّدُّ المقابل لها؛ لأنه يقوم على الوعي.
ولما كانت المادة نفسها — كما رأينا الآن — مُتَفَتِّحَة على إبداع الجديد من الناحية الكيفية، ومُتَضَمِّنة من ناحية القوَّة أو الإمكان لكلِّ أشكال التَّحقُّق المُقبلة التي تكمن في داخلها قبل ظهورها أو بالأحرى قبل إظهارها بالفعل، فإن الوَعْي البشري — بما في ذلك اللاوعي وما قبل الوعي، وبوصفه تأمل المادة لذاتها! — يُمكن أن يعكس مَجال الإمكان لِمَا لم يُوجَد أو لِمَا لم يَتحقَّق بعدُ. وهنا يكمُن مبدأ «الأمل» ومقُولته الأساسية — وهي الإمكان أو «الليس-بعد» — التي تحتل مكانة بالغة الأهمية في رؤية بلوخ الفلسفية.
مقولة الإمكان والليس-بعد
عرفنا أن العالم الموضوعي عالم لم يكتمل بعدُ؛ ولذلك ينعكس على وعي الذات البشرية في صورة السُّخط على واقعها والرغبة في تجاوز معطياته. ومبدأ الأمل هو القوة الفعالة المُغَيِّرة لهذا العالم، وقد تطوَّر عن جذرين أساسيَّين، أحدهما وجودي (أنطولوجي)، والآخر إنساني (أنثروبولوجي).
أمَّا عن الجانب الأنثروبولوجي، فيرى «بلوخ» أن الدوافع هي الأصل في السلوك الإنساني، وأن التاريخ يحرِّكه دافعان هما الجوع والأمل؛ فأوَّل ما يُواجه الإنسان هو الحاجة أو الافتقار و«اللا — تملك». إنه لا يملك ما يجب أن يملِكَه لكي يَصِل إلى حدِّ الرِّضا والإشباع؛ ولهذا يتجاوز «الهُنَا والآن» باستمرار نحوَ ما لم يحصل عليه بعدُ، حتَّى إذا تملَّكَه تَجاوَزَه من جديد إلى غيره. هذه «اللا» ليست مجرَّد سلبٍ أو نفيٍ منطقيٍّ، وليست عَدَمًا ولا مواجهة للموت الحاضر فينا وفي كلِّ ما هو موجود — كما عند بعض فلاسفة الوجود مثل هيدجر، أو بعض الوجوديين مثل سارتر — وإنما هي المحرِّك أو المسار الجدلي للواقع الطبيعي وللوعي.
من هذا التحديد الأنثروبولوجي اشتَقَّ «بلوخ» التحدِيدَات الأنطولوجية والمقولاتيَّة التي ذكرناها. ولقد سبق ﻟ «سارتر» في كتابه «نقد العقل الجدلِيِّ» أنْ وصَفَ الإنسان بأنه هو الكائن المُحتاج، ولكنَّه لم يَستخلِص من هذه الحقيقة سوى تأكيد انتقالِه من المجال الطبيعي والحَيَوي إلى المجال الاجتماعي والإنتاجي، وتقرير أصل العمل. أما «بلوخ» فيتوسَّع في الحقيقة السابقة، ويرى أن العَوَز أو «اللا — تَمَلُّك» — باعتباره البناء الأنثروبولوجي للإنسان — من حيث هو كائن يتَّسِم بالوعي والاحتياج والافتقار — هو علامة «اللا» الكامنة في الوجود، أي علامة تركيبه أو بنائه الجدلِيِّ نفسه. واللاوجود ليس نفيًا للوجود ولا عدَمًا، وإنما هو النفي أو السَّلب الكامن في الوجود نفسه، والذي يُمكن «رفعه» أو إلغاؤه وصولًا للوجود ذاته. وهذا تعبيرٌ عن المقولة الأساسية في فلسفة بلوخ، وهي مقولة الليس-بعد — كما سبق القول — التي ترتبط بدورها ارتباطًا وثيقًا بمقولة الإمكان المُبدع — إذا جاز هذا التعبير — في صميم تركيب المادة، أو بالأحرى «وعي» المادة أو «ذاتها».
مَمْلَكة الحريَّة والاكتِمَال والامْتِلاء
ما هي نتيجة «عملية الصَّيرُورَة» الهائلة هذه؟ إنها في الواقع تَحتَمِل أمرين يبدو أنْ لا ثالث لهما؛ فإمَّا أن تُخفق وتُؤدي إلى الترَدِّي في «العَدَم»، وإمَّا أن تُوَفَّق فَتُفضِي إلى «الكل». وإذا تمَّ لها التوفيق ارتفع كلُّ اغترابٍ، وتحقَّقت في النهاية تلك الوحدة الجوهرية المُبتَغَاة بين الموجود والوجود، ولا ينفكُّ بلوخ يُهيب بهذه النهاية أو هذه الغاية المُتَمَنَّاة بكلِّ الأسماء المُمكنة التي تدلُّ على المدلول الأكمل المأمول؛ فهو: الجديد والنهائي والكل والموجود الكامل، وهو النور والخير الأقصى والمملكة، وهو في آخر المطاف يتسَمَّى بأعزِّ وأجمل الأسماء على الإطلاق فيصبح هو «الوطن».
بَيْدَ أن اكتمال مادة العالم لا يمكن أن يمرَّ على الإنسان أو يمرَّ عليه الإنسان مرور الكرام؛ فامتلاء الوجود أو الوجود الممتلئ متوقف على جُهدِه ومبادرته. إذا تنَكَّر ﻟ «اليوتوبيا» — أو بالأحرى لوعيه بها وحركة شوقه المُلِحِّ إليها — أمكن للعالم أن يَسقُط في حضيض «العَدَم»؛ ذلك أن العالم هو «مختبر» نجاته المُمكِنَة أو «معمل» خلاصه المُحتَمَل. وبين الذات البشرية والذات الطبيعية «الصائرة» علاقة باطنية وثيقة. ويؤكد هذه العلاقة أن فاعليَّة الذات البشرية التي تستجيب لأحلامها اليوطوبية هي التي تستطيع أن تُظهر الكائن أو الموجود «الكامن» في العالم في حالة صيرورة. (وكأني ببلوخ يريد للإنسان أن يتقمَّص شخصية «اللغز» الخالد سُقراط ليقوم بدور «القابِلَة» التي تساعد أُمَّنا الطبيعة على الولادة والإبداع المتجدِّد أبدًا).
ويُهاجم بلوخ تلك الفلسفات التي تفترِض — أثناء عملية التوحيد سالِفة الذِّكر بين الموجود والوجود — تحقُّقَ موجود مُسبق أو مِعيار قَبْلي أو أوَّلي؛ فمثل هذا الافتراض من شأنه أن يَستَبعِد صيرورة الجديد الواقعي، ولن يكون في الحقيقة إلَّا نوعًا من النُّكوص أو التراجع. صحيح أنًّ النَّواة الذاتية هي شرط إمكان الوحدة التي يُرْجَى تحقُّقُها، إلا أنها تظلُّ بالضرورة «شرطية» أو افتراضية، ومن ثَمَّ لا يجوز مقارنتها بالروح الهيجلي المُطلق ولا بالمُثُل أو الصور الأفلاطونية المُتَعالية؛ بل إنَّ بلوخ — المُصِرَّ على ماديَّتِه المَزعومة برغم كلِّ الأنفاس الدينية والصوفية والمِثاليَّة التي بَثَّها فيها — لَيَصِلُ به الأمر إلى حدِّ الرفض العنيد لفعل الخلق الإلهي؛ لأنَّ الموجود الأكمل وهو الله سبحانه لا يُمكن في زعمه أن يُوجَد إلا في نهاية التَّطور المُنبَثقِ من صميم الإمكان الخالص لا في بدايته كما يعتقد المؤمنون.
اليوتوبيا المضادة
وأخيرًا يعترِف «بلوخ» بأن الموت يضع مشروع أمله موضِع الشكِّ، ويُثير حوله عاصفة التَّساؤُل. غير أن الموت في رأيه ليس هو الكلمة الأخيرة، ولا يُمكن أن تخرج «يوتوبياه المُضادَّة» مُنتصِرة على اليوتوبيا الاشتراكية الإنسانية التي يصفها بأنها هي وحدها اليوتوبيا «الواقعية».
ولكن كيف يتصوَّر هذا الانتصار على الموت؛ أي على «اليوتوبيا المضادة» المُتربِّصَة بالواقع الكوني وبالواقع الإنساني في كلِّ لحظة من لحظات اليَقَظة والأحلام؟ هل يتَحَقَّق — كما قال في كتابه المُبكِّر «روح اليوتوبيا» (١٩١٨م) — عن طريق نوع من النُّضوج التدريجي الذي ينتهي إلى عَملية «معرفة ذاتيَّة» على المُستوى الكوني؟ أم يمكن التخلُّص من اليوطوبيا الضِّدِّ المُمِيتة، أو على الأقلِّ التهوين من رُعبها وخطرها باللجوء إلى حلم الجماعة الاشتراكية العادلة الكاملة، هذه الجماعة التي سيَحْيَا في ظلِّها الإنسان الذي أصبح في النهاية إنسانًا مُتفرِّغًا للسَّعادة المُبدِعة أو الإبداع السعيد؟!
الواقع أن هذا هو الذي يحاوله بلوخ في كتابه الأكبر «مبدأ الأمل». غير أنه لا يقتصِر على ذلك، بل يشير إشارات غامضة إلى نوع آخر من الحياة (التي لا يُهدِّدُها كابوس «هادم اللذات ومفرق الجماعات» كما نقول في أمثالنا العربية)، أو نوع آخر من «الإمكان» الذي لا يعرِف الفناء المُرتبط بالصَّيرورة على الدَّوام؛ ذلك أن الموت الذي يمثِّل القضاء المُطلق على كلِّ مضمون مستقْبَلِيٍّ، هذا الموت نفسه الذي يتَهدَّد الفرد والكون على السواء، سوف يَنغمِسُ ويذوب في تلك الحالة الأخيرة أو الحالة «الجوهرية» التي تستضيء ﺑ «الفرح المعلن» وﺑ «أنوار الحق الكامنة». عندئذٍ لا يكون الموت نفيًا ﻟ «اليوتوبيا» وأهدافها، بل سيكون على العكس من ذلك نفيًا لكلِّ ما لا ينتمِي في هذا العالم لليوتوبيا. وعندئذٍ لا ينطوي مضمون الموت نفسه على الموت؛ لأنه سيكون نوعًا من الكشف عن المضمون الجديد المُكتسب للحياة، وإظهار اللبِّ أو الجوهر الحقيقي إلى النور.
بِمثلِ هذه الصُّور المَجَازيَّة والشاعرية المُحيِّرة يحاول فيلسوف الأمل أن يعبِّر عن التحوُّل المُنتظر للعالم والتاريخ نحو الأمل الأخير.
(٦-٣) نقد وتقييم
يمكن إجمال النقد الموجَّه إلى فلسفة بلوخ من ناحيتين. الأولى تتعلَّق برؤيته الثورية الحالِمَة من داخلها، أي بِبِنْيَتِها الموضوعية والمعرفية واللغوية، والثانية برأي الماركسية التقليدية التي تَتَّهِمُهَا — كما تقدَّم — بتحريفِ الماركسية «العلمية» والواقعية، وإدخال عناصر إنسانية ومثالية وصوفية ودينية مُتَعدِّدَة تُخالف حقيقتها وتَخلَع عليها طابعًا «يوتوبيًّا» يَتعارض مع علْمِيَّتِها وثَورِيَّتِها.
أمَّا عن الناحية الأولى فيمكن القول بأن اعتقاده بقدرة الخيال اليُوتوبي على اكتشاف طريق الإنسان إلى نفسه، وتحقيق حلمه الأخير — الذي لَمَحَ تباشير فَجْرِه في الحاضر — قد ساعده على تفسير الأعمال الكبرى في الحضارة البشرية تفسيرًا خِصبًا ومُثيرًا للتفكير والتأمل. غير أن هذا التفسير بكلِّ ألوانه وتَنويعَاتِهِ ظلَّ بعيدًا عن السياسة بقدرِ قُربِه من التَّصوُّف، وغريبًا عن الماركسية «الحرفية» بقدر انتمائه إلى النزعة الإنسانية والمثالية؛ فتحليلُه للواقع مُختلف عن التحليل الماركسي لعلاقات الإنتاج الرأسمالية، ولا يجمعه به إلا القليل الذي يقتصِر على الروح النقدية العامة والعناوين والشعارات الكبرى. والحق أن فهمه للإنتاج والمُمارسة والوعي والمادة والجدل والمجتمع الاشتراكي … إلخ أغنى بكثير من فَهْم ماركس وأتباعه التقليديين؛ ولكن من حقِّ هؤلاء أيضًا أن يسألوه: هل هذه ماركسية جديدة أم ماركسية صوفية ومثالية ووجودية وإنسانية … إلخ لم تُبقِ منها إلا على الاسم؟!
وتأتي المشكلة الأساسية في أنطُولوجياه (نظريته في الوجود) وهي مُشكلة «الإمكان» الذي يَدْفع المادة إلى تحقيق أشكالٍ متجدِّدَة من الموجودات الفعلية، فهل تتكافأ قوَّة هذا الإمكان مع الواقع الفعلي المُتحقِّق أو المُنتظَر تَحقُّقُه في مُستقبل الكون والإنسان؟ وما هي طبيعة هذه القوَّة الكامِنَة وراء الطَّاقات المُذهِلَة للإبداع والتجدُّد؟ وحتى لو حاولنا تحدِيدَها، فهل يَتَنَاسَب أيٌّ من هذه التَّحديدات معَ أي مفهوم مادِيٍّ للمادة؟ من الواضح أن بلوخ لا يواجه مثل هذه الإشكالات — إن واجَهَهَا أصلًا — إلا بعبارَاته الوَرديَّة المُرْبِكَة التي تُضاعف من شكِّ القارئ في «ماديَّته» الصوفية والذاتية العجيبة التي تَقصُر عن الوفاء بالمفاهيم العلمية للمادَّة والتطوُّر الكوني في العلم الحديث.
أضف لما سبق مشكلة «الأمل» الذي حوَّله إلى مقولة إنسانية وأنطولوجية دون أساس أو تبرير مقنع. أليس تَحوُّل التَّجربة الذاتية التي نُسمِّيها الأمل إلى مقولة تُطبَّق على التاريخ في مجموعِه وعلى الوجود نفسه، من قبيل تَحميل الأمور فوق ما تَحتَمِل؟! ألم يَنحُ به هذا الأمل إلى الإسراف في التَّفاؤل بحيث كاد أن ينسَى قوَّة الشرِّ في التاريخ، وأن يتجاهل القوى المُدمرة للطبيعة في غمرة حماسِه لقُوَاها المُبدِعة؟ صحيح أنه يتحدَّث عن الموت و«يوتوبياه المضادة»، ولكن يبدو أنه لم يتَذَكَّر الدرس الجدلِيَّ الهيجلي عن ضرورة مواجهة الموت وتجاوزه بالموت نفسه، واستحالة الانتصار على الشرِّ إلَّا بالاستسلام الكامل له (كما في عقيدة الفداء المسيحيَّة) أو بمُعَاناته إلى آخِرِ المَدَى والصمود المُتَعالي عليه (كما عند الرواقية) أو التَّمَرُّس على التَّحَرُّر والخلاص منه ﺑ «إطفاء» كل رغبةٍ وشهوَةٍ (كما في البوذية). والنتيجة هي أن تصَوُّرَه للمادة والمادي مرادفٌ لتصوُّرِه للوجود والإبداع إلى حدِّ الوقوع في تحصيل الحاصل، وأن فلسفته تتحوَّل بالتدريج إلى «الواحدية» التي تشترك مع «وحدة الوجود» في عناصر وأوجه شبه عديدة.
ونَصِل إلى منهَجِه في التَّفكير وأسلوبه في التَّعبير فَنَجِدُه يتخَلَّى عن دقَّةِ التَّركيب وصرامة الاتِّساق والاستنتاج المَنطقي، ويُسَلِّم قِيَادَه لأجنحة التصوير الشاعري ومفاجآت الإشراق الحدْسي، ويُلقي القارئ في شبكة مُعقَّدة من الصور والأقوال المجازية والخطابية المُتحمسة التي تَتَّجه للإثارة والتأثير أكثرَ ممَّا تتَّجه للإقناع والبرهان، (وقد كان هذا هو الانتقاد الأساسي الذي طالما وجَّهه إليه بعضُ أصحاب النظرية النقدية مثل هوركهيمر وأدورنو).
وأمَّا من الناحية الثانية التي تتعلَّق بردُود الماركسيين التقليديِّين أو الحرفِيِّين عليه، فيمكن إيجازها في اتِّهامه بالنزعة الإنسانية المجرَّدة التي تَقِف موقفَ الحِيَاد من صراع الطبقات، ومحاولة إقامة الاشتراكية على أُسُسٍ مثالية وصوفية مُضادَّةٍ لأُسُسِها الواقعية المُرتكزة على المُمارسة والعمل السياسي بقيادة الحزب (الذي طَالَمَا اصطَدَم به فيما كان يُسَمَّى بألمانيا الديمقراطية). والنتيجة أن الاشتراكية «العلمية» أصبحت عِنده مُجرَّد فكرة إنسانية عامة، ودافعًا أخلاقيًّا أو دعوة إلى الحرية والعدالة والكرامة وغيرها من المُطْلَقات «التعبيرية» (نسبةً إلى الحركة الأدبية والفنية المعروفة التي تشبَّع بها في بداية حياته ودافع عنها كثيرًا ولم يَنْجُ من تأثِيرِها على تفكيرِه وأسلوبِه).
والواقع أن الماركسيين الذين جرَّدُوه من حقِّه في وصف نفسه بأنه ماركسي، قد شَهِدوا بمواقِفِه التقدُّمية العديدة بعدَ لجوئه إلى ألمانيا الاتحادية «الرأسمالية» قبل التوحيد الأخير للشطرين؛ ولكن هذه المواقف التقدُّمية لم تُعْفِه — من الناحية الموضوعية — من النقد والهجوم الحادِّ عليه؛ فهو في رأيهم قد حوَّل الماركسية — تحت تأثير الفلسفة المثالية والفلسفات «البرجوازية» المُتأخرة — إلى وجودية مَقلوبة، وضعت «الأمل» مكان «القلق» و«اليأس» والفشل والهم … إلخ، كما أن فلسفته التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى قد عبَّرت تعبيرًا فرديًّا عن احتجاج البرجوازية الصغيرة على الرأسمالية، وضلَّلت سُخطها عليها بمذهبه «العلماني» في الخَلاص الذي سَاقَها في مَتَاهَةِ حلم يُوتوبي غامض بعالم أفضل وأكمل. بذلك شَغَل الناس عن بناء الاشتراكية الواقعية وعن الصراع الحقيقي مع الرأسمالية بنزعته «اليوتوبية» التي ربما تكون قد نفَّست عن سخطهم على الرأسمالية وضِيقهم بالانحلال والرَّجعية، ولكنَّها أثبتَتْ عجز اشتراكيته المِثالية عن إِحدَاث أي تأثير أو تغيير سياسي وعملي. ويصل الأمر إلى حدِّ اتِّهامِه بسوء النيَّة والتآمر على تخريب الماركسية — اللينينية من داخلها، فعلاقة الذات — الموضوع التي يَضَعُها بديلًا عن العلاقة الأساسية بين المادة والوعي، وإدماج العناصر الذاتية والمثالية (كالميل والدافعية والغائية …) في مفهومه عن المادة الذي يَختلِف كلَّ الاختلاف عن المادية الجدلية، ويَحُول دون معرفة المادة معرفةً موضوعية، وإضفاؤه طابعًا إنسانيًّا عامًّا على مفهوم الاغتراب بدلًا من ربطه — كما فعل ماركس — بالتناقضات والصراعات الاجتماعية، وتصويره للشيوعية في صورة الحالة الأخيرة التي تَتَطَلَّع إليها أحلام البشر ونِضَالهم وآمالهم ومُثُلهم وتتمُّ عندها وحدة الذات والموضوع؛ كلُّ ذلك وغيره قد حادَ به عن تحليل أوضاع الإنسان ونقدِها من خلال العلاقات الاجتماعية والصراعات الطَّبقية، ودَفَعَه إلى تصويرها في صورة مثالية مجرَّدة تحت تأثير الأنثروبولوجيا البرجوازية، وإلى تحويل التاريخ كُلِّه إلى تاريخ للخَلاص والأمل الذي لن يُجدِي شيئًا في الكفاح من أجلِ بناء الاشتراكية.
مهما يكن من شيء فإن الزَّلزَلَة الأخيرة في النُّظُم الاشتراكية الأوروبية واتِّجاهها المَلمُوس نحو الديمقراطية رُبما يساعد مع الزمن على إصدار الحُكْم المُنصف على محاولة «بلوخ» لتجديد الماركسية وصَبغِها بصِبغةٍ إنسانيةٍ شاملةٍ. ولعلَّ هذه الصبغة الإنسانية الشاملة — الآملة في المُستقبل والخلاص والوحدة الكلية في ظلِّ المجتمع الإنساني العادل والسعيد — هي أكثر جوانب فلسفته تأثيرًا على فلاسفة مدرسة فرانكفورت ورُؤاهم اليوتوبية التي غَلَبَ عليها التَّشاؤم أو الشُّذُوذ والعَدَمِيَّة والفوضوية كما سبق القول.