مع الحكماء
كاتب ونديم
فاخر كاتب نديمًا فقال: أنا للجد وأنت للهزل، أنا للحرب وأنت للسلم، أنا للشدة وأنت للذة، فقال له نديم: أنا للنعمة وأنت للخدمة، أنا للحضرة وأنت للمهنة، تقوم وأنا جالس، وتحتشم وأنا مؤانس، تذوب لراحتي وتشقى لما فيه سعادتي، وأنا شريك وأنت معين، كما أنك تابع وأنا قرين.
مُعلِّم المُعلِّم
قال عمر بن عتبة لمعلم ولده: ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك؛ فإن عيونهم معقودة بعينيك، فالحسن عندهم ما أحببت والقبيح عندهم ما تركت، علمهم كتاب الله ولا تُملُّهم منه فيتركوه ولا تتركهم فيه فيهجروه، روِّهم من الحديث أشرفه ومن الشعر أعفه، ولا تنقلهم من عِلم إلى علم حتى يُحكموه؛ فإن ازدحام الكلام في القلب مشغل للفهم، وعلمهم سنن الحكماء وجنبهم محادثة السفهاء، ولا تتكل على عذر مني لك، فقد اتكلت على كفاية منك.
معافًى ومبتلى
مرض عمر بن العلاء فدخل عليه رجل من أصحابه فقال له: أريد أن أساهرك الليلة قال له: أنت معافى وأنا مبتلى، فالعافية لا تدعك تسهر والبلاء لا يدعني أن أنام، وأسأل الله أن يهب لأهل العافية الشكر، ولأهل البلاء الصبر.
الراهب
قال عمر البناني: مررت براهب في مقبرة وفي كفه اليمنى حصى أبيض وفي اليسرى حصى أسود، فقلت: يا راهب، ماذا تصنع هاهنا؟ فقال: إذا فقدت قلبي أتيت المقابر فاعتبرت بمن فيها، قال: وما هذه الحصى التي في كفك؟ قال: أما الحصى الأبيض فإذا عملت حسنة ألقيت واحدة منها في الأسود، وإذا عملت سيئة ألقيت من هذا الأسود واحدة في الأبيض، فإذا كان الليل نظرت، فإن زادت الحسنات على السيئات أفطرت وقمت إلى وردي، وإن زادت السيئات على الحسنات لم آكل طعامًا ولم أشرب شرابًا في تلك الليلة، هذه هي حالتي والسلام.
الزاهد
قال محمد بن رافع: أقبلت من بلاد الشام، فبينما أنا في بعض الطريق رأيت فتى عليه جبة من صوف وبيده ركوة فقلت: أين تريد؟ قال: لا أدري، قلت: من أين جئت؟ قال: لا أدري، فظننته موسوسًا، فقلت: مَن خلفك؟ فاصفر لونه حتى خُيِّل كفه قد صُبِغ بالزعفران، ثم قال: حلَّفني من لا يغيب عنه مثقال ذرة مما في الأرض والسماء، فقلت: رحمك الله، أنا من إخوانك، وممن يأنس إلى أمثالك فلا تقبض مني، فقال: إني والله أود لو جاز لي نزل القفار حتى أنفرد في وادٍ سحيق صعب المنال أو في غابة لعلِّي أجد قلبي ساعة يسلو عن الدنيا وأهلها.
فقلت: وما جنت عليك الدنيا حتى استحقَّت منك هذا البغض؟ فقال: جناياتها العمى عن جناياتها، فقلت: هل من دواء تُعالَج به من هذا العمى؟ فقال: ما أراك على هذا العلاج، فاستعمل الدواء أصبره.
فقلت: صف دواء لطيفًا، قال: فما دوائك؟ قلت: حِبْ الدنيا، فتبسم وقال: أي داء أعظم من هذا، ولكن أشرب السموم الطرية والمكاره الصعبة، قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم الوحشة التي لا أنس فيها والفرقة التي لا اجتماع معها.
قلت: ثم ماذا؟ قال: السلوى عما تريد والصبر عما تحب، فإن أردت فاستعمل هذا وإلا فتأخر واحذر الغش؛ فإنه كقطع الليل المظلم، قلت له: دلني على عمل يقربني إلى الله عز وجل، فقال: يا أخي، قد نظرت في جميع العبادات فلم أر أفضل من البر والإحسان، ثم غاب عني ولم أرَه.
نعم الصديق
يُحكى أن رجلًا أراد صحبة إنسان فسأل بعض أصدقائه عنه فأنشده:
قال مثل هذا ينبغي أن تناط بمحبته القلوب ويطلع على خفايا السرائر والغيوب.
ذل المعصية وعز الطاعة
قال أبو علي الدقاق: ظهرت علة ليعقوب بن الليث أعيت الأطباء فقالوا له: في ولايتك رجل صالح يسمى سهيل بن عبد الله، لو دعا لك لعل الله سبحانه يستجيب له، فاستحضره وقال له: ادعُ الله سبحانه وتعالى لي، فقال سهيل: كيف يستجيب الله دعائي فيك وفي حبسك مظلوم؟ فأطلق كل من كان في حبسه، فقال سهيل عندئذ: اللهم كما أريته ذل المعصية فأره عز الطاعة، وخرج عنه فعوفي بعد مدة، واستدعى سهيل وعرض عليه مالًا فأبى أخذه.
الراهب وحب الدنيا
قال عبد الواحد بن زيد: مررت بصومعة راهب من رهبان الصين، فناديته: يا راهب، فلم يجبني، فناديته ثانية فلم يجبني، فناديته ثالثة فأشرف عليَّ وقال: يا هذا، ما أنا براهب، إنما الراهب من رهب الله عز وجل في سمائه وعظمه في كبريائه ورضي بقضائه وحمده على آلائه وشكره على نعمائه وتواضع لعظمته وذل لعزته واستسلم لقدرته وخضع لهيبته وفكر في حسابه وعقابه، فنهاره صائم وليله قائم، قد أسهره ذكر النار ومسألة الجبار، فذلك هو الراهب، أما أنا فكلب عقور، حبست نفسي بهذه الصومعة لأبعد عن الناس لئلا أعقرهم بلساني، فقلت: يا راهب، ما الذي قطع الخلق عن الله عز وجل بعد أن عرفوه؟ فقال: يا أخي، لم يقطع الخلق عن الله عز وجل بعد أن عرفوه إلا حب الدنيا وزينتها لأنها محل الذنوب والمعاصي، والعاقل من رمى بها عن قلبه وتاب إلى الله من ذنبه وأقبل على ما يُقربه من ربه.
عبد الله بن طاهر والرجل
وقف رجل لعبد الله بن طاهر في طريقه فناشده أن يقف له حتى ينشده ثلاثة أبيات، فوقف وقال له: قل فأنشد:
فأمر له بخمسين ألف درهم وانصرف.
سحنون والخصال الأربع
قال أحد الصالحين: رأيت سحنون بالطواف وهو يتماثل، فقبضت على يده وقلت: يا شيخ، بحق موقفك بين يديه، ألا أخبرتني بالأمر الذي أوصلك إليه؟ فلما سمع بذكر الموقف بين يديه سقط مغشيًّا عليه، فلما أفاق أنشد:
ثم قال: يا أخي، أخذت نفسي بأربع خصال أحكمتها، فأما الخصلة الأولى أني أمتُّ مني ما كان حيًّا وهو هوى النفس، وأحييت مني ما كان ميتًا وهو القلب.
وأما الثانية: فإني أحضرت ما كان غائبًا عني وهو حظي من دار الآخرة، وغيبت عني ما كان عندي حاضرًا وهو نصيبي من الدنيا.
وأما الثالثة: فإني أبقيت ما كان فانيًا عندي وهو النفي وأفنيت ما كان باقيًا عندي وهو الهوى.
وأما الرابعة: فإني آمنت بالأمر الذي منه تستوحشون وفررت من الأمر الذي إليه تشتكون، ثم ولَّى عني يقول:
زاهد في الطريق
قال بعضهم رأيت في طريق مكة فتى يتبختر في مشيته كأنه صحن داره، فقلت له: ما هذه المشية يا فتى؟ فقال: هذه مشية الفتيان خُدَّام الرحمن، ثم أنشد:
فقلت له: وأين زادك وراحلتك؟ فنظر إليَّ منكرًا قولي ثم قال: أرأيت عبدًا ضعيفًا قاصدًا مولى كريمًا حمل إلى بيته طعامًا وشرابًا؟ فلو فعل ذلك لأمر الخُدام بطرده عن بابه، إن المولى جلَّت قدرته لما دعاني إلى القصد إليه أورثني حسن التوكل عليه، ثم غاب عني وما رأيته بعد.
خير الدواء
مر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في أحد شوارع البصرة، فإذا هو بحلة كبيرة والناس حولها يمدون إليها الأعناق ويشخصون إليها الأحداق، فمضى إليهم ينظر ما سبب اجتماعهم، فإذا فيهم شاب حسن الشباب نقي الثياب عليه هيئة الوقار وسكينة الأخيار وهو جالس على كرسي والناس يأتون بقوارير من الماء وهو يداوي المرضى ويصف لكل واحد منهم ما يوافقه من أنواع الدواء، فتقدَّم إليه وقال: عليك السلام أيها الطبيب ورحمة الله وبركاته، هل عندك شيء من أدوية الذنوب فقد أعيا الناس دواؤها؟ فرفع الطبيب رأسه بعدما رد السلام وقال: أتعرف أدوية الذنوب بارك الله فيك؟ قال: نعم، قال: صف وبالله التوفيق، قال: تذهب إلى بستان الإيمان فتأخذ من «عروق» حسن النية ومن «حَبِّ» الندامة و«ورق» التدبير و«بذر» الورع و«ثمر» العفة و«أغصان» اليقين و«لب» الإخلاص و«قشور» الاجتهاد و«عروق» التوكل و«أكمام» الاعتبار و«ترياق» التواضع، تأخذ هذه الأدوية بقلب حاضر وافركها بأنامل من التصديق وكف من التوفيق، ثم نضعها في «طبق» التحقيق، ثم نغسلها بماء الدموع، ونضعها في «قدر» الرجاء، ثم توقد عليها بنار الشوق حتى ترغي زبد الحكمة، ثم نفرغها في «صحاف» الرضا، وتروَّح عليها بمراوح الاستغفار ينعقد لك من ذلك «شَربة» جيدة تشربها في مكان لا يراك فيه أحد غير الله، فإن ذلك يزيل عنك الذنوب حتى لا يبقى عليك ذنب، ثم أنشأ الطبيب يقول:
ثم شهق شهقة فارق بها الحياة الدنيا: فقال والله إنك لطبيب الدنيا وطبيب الآخرة، ثم أمر بتجهيزه ودفنه.
داء ودواء
قال أبو القاسم الجنيد: أُرِّقت ليلة فقمت إلى وردي فلم أجد ما كنت أجد من الحلاوة، فأردت أن أنام فلم أرقد، فقعدت فلم أطق القعود، ففتحت الباب وخرجت، فإذا برجل مغطى بعباءة مطروح على الطريق، فلما أحس بي رفع رأسه وقال: يا أبا القاسم، إلى الساعة؟ فقلت: قمت يا سيدي من غير موعد، فقال: بلى، سألت مُحرِّك القلوب أن يحرك إليَّ قلقك، قلت: قد فعل، فما حاجتك؟ قال: متى يصير داء النفس دواءها؟ قلت: إذا خالفت النفس هواها صار دواؤها، فأقبل على نفسه فقال لها: اسمعي، لقد أجبتك بهذا الجواب سبع مرات، فأبيتِ إلا أن تسمعيه من الجنيد، فقد سمعت، وانصرف عني ولم أعرفه ولم أقف عليه.
سعدون المجنون
قال مالك بن دينار: دخلت جبَّانة بالبصرة، فإذا أنا بسعدون المجنون فقلت له: كيف حالك؟ قال: يا مالك، كيف يكون حال من أصبح وأمسى يريد سفرًا بعيدًا بلا أهبة ولا زاد، ويقدم على رب عدل حاكم بين العباد؟ ثم بكى بكاء شديدًا، فقلت: ما يُبكيك؟ فقال: والله ما بكيت حرصًا على الدنيا ولا جزعًا من الموت والبلاء، ولكن بكيت ليوم مضى من عمري لم يحسن فيه عملي، أبكاني والله قلة الزاد وبُعد المفازة والعقبة الكئود، ولا أدري بعد ذلك أأصير إلى الجنة أم إلى النار؟
فسمعت منه كلام حكمة فقلت له: إن الناس يزعمون أنك مجنون، فقال: وأنت اغتررت بما اغتر به بنو الدنيا؟ زعم الناس أني مجنون وما بي جُنة، ولكن حب مولاي قد خالط قلبي وأحشائي وجرى بين لحمي وعظمي، فأنا والله من حبِّه هائم مشغوف، فقلت: يا سعدون لِمَ لا تجلس الناس وتخالطهم؟ فأنشد يقول:
خذوا الحكمة
قال ذو النون المصري: وُصف لي رجل من أهل المعرفة في جبل «أكام» فقصدته، فسمعته يقول بصوت حزين وبكاء وأنين:
قال ذو النون: فتبعت الصوت، فإذا بفتى حسن الوجه جميل الصوت، وقد ذهبت تلك المحاسن وبقيت رسومها، نحيل قد اصفر واحترق، وهو يشبه الولد الحيران، فسلَّمت عليه فرد عليَّ السلام وبقي شاخصًا يقول:
قال: يا ذا النون، ما حداك إلى طلب المجانين؟ قلت: أومجنون أنت؟ قال: نعم، وماذا تريد؟ قال: مسألة، قال: سَلْ، قلت: أخبرني ما الذي حبَّب إليك الانفراد وقطعك عن المؤانسين وهيَّمك في الأدوية والجبال؟ فقال: حبي له هيمني وشوقي إليه هيجني، قال: يا ذا النون، هل أعجبك كلام المجانين؟ قلت: أي والله أشجاني، ثم غاب عني فلم أدرِ إلى أين ذهب.
الزاهدة
قال ذو النون المصري: رأيت امرأة تسبح على طريق النيل وعليها مدرعة من شعر ومقنعة من صوف، فقلت لها: يرحمك الله، ليس السباحة للنساء، فقالت: إليك يا مغرور، ألست تقرأ كتاب الله؟ قلت: بلى، قالت: اقرأ.
فقلت: إنها مُلمَّة بالعلم، فقلت لها: وبأي شيء عرفت الله؟ قالت: عرفت الله بالله، وعرفت ما دون الله بنور الله، فقلت لها: وما اسم الله؟ قالت: إن اسم الله هو الأعظم.
المسافر الحزين
قال عبد الواحد بن زيد: رأيت راهبًا وعليه مدرعة شعر سوداء، فقلت: ما الذي حملك لبس السواد؟ قال: هو لباس المحزونين وأنا من أكبرهم، فقلت له: ومن أي شيء محزون؟ قال: إني أُصبت في نفسي، وذلك أني مت لها في معركة الذنوب، فأنا حزين عليها، ثم أسبل دمعة، قلت: وما الذي أبكاك الآن؟ قال: ذكرت ما مضى من أجلي ولم يحسن فيه عملي، فبكائي لقلة الزاد وبُعد المفازة وعقبة لا بدَّ لي من صعودها، ثم لا أدري أين تهبط بي على الجنة أم إلى النار؟ ثم أنشد:
ثم أستأذنني وذهب لأنه صار وقت الصلاة فرجعت من حيث أتيت.
السيدة العجوز
قال صالح: رأيت في محراب داود عجوزًا عليها مدرعة شعر، وقد كُفَّ بصرها وهي تصلي وتبكي، فتركت صلاتي ووقفت أنظر إليها، فلما فرغت من صلاتها رفعت وجهها إلى السماء وأنشدت:
الطريق إلى الله
قال السري السفطي: قعدت يومًا أتكلم بجامع المدينة، فوقف عليَّ شاب حسن الشباب فاخر الثياب ومعه أصحابه، فوعظت فسمعني أقول في وعظي: «عجبًا لضعيف كيف يعصي قويًّا؟!» فتغير لونه وانصرف، فلما كان الغد جلست في مجلسي، وإذا به قد أقبل فسلَّم وصلَّى ركعتين وقال: يا سري؟ سمعتك بالأمس تقول: «عجبًا لضعيف كيف يعصي قويًّا» فما معناه؟ فقلت: لا أقوى من المولى ولا أضعف من العبد وهو يعصاه، فنهض وخرج، ثم أقبل في الغد وعليه ثوبان أبيضان وليس معه أحد وقال: يا سري، كيف الطريق إلى الله تعالى؟ فقلت: إن أردت العبادة فعليك بصيام النهار وقيام الليل، وإن أردت الله عز وجل فاترك كل شيء سواه تصل إليه، ولا تسكن إلا المساجد والخرائب والمقابر، فقام وهو يقول: والله لا سلكت إلا أصعب المسالك والطرق، وولَّى خارجًا.
فلما كان بعد أيام أقبل إليَّ غلمان كثيرة فقالوا: ما فعل أحمد بن يزيد الكاتب؟ فقلت: لا أعرفه، إلا أن رجلًا جاء بصفة «كذا وكذا» فجرى معه «كذا وكذا» ولا أعلم حاله، فقالوا: بالله عليك، متى عرفت حاله عرفنا ودلنا على داره، فبقيت سنة لا أعرف خبرًا، فبينما أنا ذات ليلة بعد العشاء جالس في البيت، وإذا بطارق فأذنت له بالدخول، فإذا أنا بالفتى وعليه قطعة من كساء في وسطه وأخرى على عنقه وبيده زنبيل فيه نوى، فقبَّل بين عيني وقال: يا سري، أعتقك الله من النار كما أعتقتني من رِقِّ الدنيا، فنظرت فأومأت إلى صاحبي أن أمضي إلى أهله فأخبرهم، فمضى، فإذا بزوجته قد أقبلت ومعها ولده وغلمانه، فدخلت وألقت الولد في حجره وعليه حُلي وحُلل وقالت له: يا سيدي، أرملتني وأنت حي، وأيتمت ولدك وأنت حي.
قال السري: فنظر إليَّ وقال: يا سري: ما هذا وفاء؟ ثم أقبل عليهما وقال: والله إنكما لثمرة فؤادي وحَبَّة قلبي، وإن هذا ولدي وأعز الخلق عليَّ، إلا أن هذا السري أخبرني أن من أراد رضا الله انقطع عما سواه، ثم نزع ما على الصبي وأراد أخذ ما معه فقال المرأة، والله لا أقدر أن أرى ولدي في هذه الحالة، وانتزعته منه، فحين رآها قد اشتغلت به نهض وقال: قد ضيَّعتم عليَّ ليلتي، بيني وبينكم الله، وولى خارجًا، فضج أهل الدار بالبكاء فقالت المرأة: إن عاد يا سري أو سمعت عنه خبرًا فأعلمني إن شاء الله.
فلما كان بعد أيام أتتني عجوز، وقالت: يا سري، في جهة كذا غلام يسألك الحضور، فمضيت، فإذا أنا به مطروح على الأرض وتحت رأسه لبنة، فسلمت عليه ففتح عينيه وقال: يا سري، ترى يغفر لي الله تلك الجنايات؟ فقلت: نعم، قال: أيغفر للذين مثلي؟ قلت: نعم، قال: أنا غريق، قلت: هو ملجأ الغرقى، قال: يا سري يوجد معي دراهم من لقط النوى، إذا أنا مت فاشترِ أنت ما أحتاج إليه وكَفِّني ولا تُعلم أهلي لئلا يُغيِّروا كفني بحرام، فجلست عنه قليلًا، ففتح عينيه، وقال: لمثل هذا فليعمل العاملون، ثم مات.
فأخذت الدراهم واشتريت مما يحتاج إليه وسرت نحوه، فإذا الناس يدعون فقلت: ما الخبر؟ فقيل: مات ولي من أولياء الله، نريد أن نصلي عليه، فجئت وغسَّلته وصلينا عليه ودفناه، فلما كان بعد مدة وفد أهله يسألون خبره، فأخبرتهم بموته، ورأيت امرأته فأخبرتها بحاله، فسألتني أن أريها قبره، فقلت: أخاف أن تغيروا أكفانه، فقالت: لا والله، فأريتها القبر وبكت وأمرت بإحضار شاهدين فحضرا فأعتقت جواريها وأوقفت عقارها وتصدَّقت بمالها ولزمت قبره حتى ماتت.
أصحاب القبور
قال صدفة بن مرداس البكري: نظرت إلى ثلاثة قبور على مشرف من الأرض مما يلي بلاد طرابلس، وعلى كل واحد منها شيء مكتوب، وإذا هي قبور مُسنَّمة على قدر واحد مصطفة بعضها إلى جنب بعض ليس عندها غيرها، فعجبت منها ونزلت إلى القرية القريبة منها، فقلت لشيخ جلست إليه: لقد رأيت في قريتكم عجبًا، قال: وما رأيت؟ فقصصت عليه قصة القبور، قال: فحديثهم أعجب مما رأيت، فقلت: حدثني بأمره، قال: كانوا ثلاثة إخوة، أحدهم أميرًا كان يصحب السلطان ويأمر على المدائن والجيوش، والثاني تاجرًا موسرًا مطاعًا في ناحيته، والثالث زاهدًا قد تخلى بنفسه وتفرد لعبادة ربه، فحضرت المنية أخاهم العابد، فاجتمع عند أخواه، وكان الذي يصحب السلطان قد وُلِّي بلادنا هنا، وكان قد أمره عليها عبد الملك بن مروان وكان في إمرته ظالمًا غشومًا، فلما حضرا عند أخيهما قالا له: ألا توصي؟ قال: والله ما لي مال أوصي به، ولا لي على أحد دين فأوصي به، ولا أخلف من الدنيا شيئًا فأسلبه، فقال له أخوه الأمير: يا أخي، قل ما بدا لك وما تشتهيه أن يُفعل، فهذا مالي بين يديك فأوصِ منه بما أحببت واعهد إليَّ بما شئت لأفعله، فسكت عنه ولم يجبه، فقال أخوه التاجر: يا أخي، قد عرفت مكسبي وكثرة مالي، فلعل في قلبك حاجة من الخير لم تبلغها إلا بالاتفاق، فهذا مالي بين يديك فاحكم فيه بما أحببت لأنفذه لك، فأقبل عليهما وقال: لا حاجة لي في مالكما، ولكن أعهد إليكما عهدًا فلا يخالفني فيه أحد، قالا: اعهد، قال: إذا مت فغسِّلاني وادفناني على مشرف من الأرض واكتبا على قبري هذا الشعر:
ثم قال: فإذا فعلتما ذلك فأتياني كل يوم مرة على ثلاثة أيام متوالية لعلكما تتعظان بي.
فلما مات فعلا ذلك، فكان أخوه الأمير يركب كل يوم في جنده حتى يقف على القبر فيقرأ ما تيسر ويبكي، فلما كان في اليوم الثالث جاء كما كان يجيء مع جنده فنزل وبكى، ولما أراد الانصراف سمع أنَّةً من داخل القبر كاد يتصدع لها قلبه، فقام مذعورًا فزعًا، فلما كان في الليل رأى أخاه في منامه فقال: يا أخي، ما الذي سمعته من داخل قبرك؟ فأجاب: أُخبرت أنك رأيت مظلومًا فلم تنصره ولكن استعد لملاقاتي، قال فأصبح مهمومًا، ودعا أخاه وخاصته وقال: ما أرى أن أخي أراد بما أوصانا أن نكتبه على قبره غيري، وإني أشهدكم أني لا أقيم بين أظهركم، وترك الإمارة ولزم العبادة، فكتب أصحاب عبد الملك بن مروان إليه في ذلك فكتب أن خلُّوه وما أراد، فصار يأوي الجبال إلى أن حضرته الوفاة في الجبل وهو مع الرُّعاة، فبلغ ذلك أخاه، فأتاه وقال: يا أخي، ألا توصي؟ فقال: مالي من مال فأوصي به، ولكن أعهد إليك عهدًا: إذا أنا مت وجهزتني فادفنني بجانب أخي واكتب على قبري هذين البيتين:
قال: ثم توافيني ثلاثة أيام بعد موتي فادعُ لي لعل الله يرحمني.
فلما مات فعل به أخوه ذلك، فلما كان اليوم الثالث من إتيانه جاء على حسب عادته وبكى عند قبره، فلما أراد الانصراف سمع رجَّةً في القبر كادت تذهب بعقله، فرجع مقلقلًا، فلما كان في الليل إذا بأخيه قد أتاه في منامه، قال: فحينما رأيته وثبت إليه وقلت: يا أخي، أأتيتنا زائرًا؟ قال: هيهات يا أخي، بعُد المزار فلا مزار وقد اطمأنت بنا الدار، فقلت: كيف يا أخي؟ قال: ذاك مع أئمة الأبرار، قلت: وما أمرنا عندكم؟ قال: من قدَّم شيئًا من الدنيا وجده، فاغتنم وجودك قبل فقدك.
قال: فأصبح أخوه معتزلًا من الدنيا متخلفًا عنها، ففرَّق أمواله وقسَّم أرزاقه وأقبل على طاعة الله عز وجل، ونشأ له ابنٌ حسن الشباب والهيئة، فاشتغل بالتجارة، فحضرت أباه الوفاة فقال له: يا أبتِ، ألا توصي؟ قال: يا بني ما بقي لي مال لأوصي به، ولكن إذا أنا مت فادفنني إلى جنب عمومتك واكتب على قبري هذين البيتين:
وإذا فعلت ذلك فقاعدني بنفسك ثلاثًا وادعُ لي، ففعل الفتى، فلما كان في اليوم الثالث سمع من القبر صوتًا اقشعر له جلده وتغيَّر لونه ورجع مصفرًّا إلى أهله، فلما أتاه الليل أتاه أبوه في منامه وقال له: يا بني، أنت عندنا عن قريب، والأمر ناجز، والموت أقرب من ذلك، فاستعد لسفرك وتأهب لرحلتك، وحوِّل جهازك من المنزل الذي أنت عنه ظاعن إلى المنزل الذي أنت فيه مقيم، ولا تغتر بما اغتَّر به قبلك الغافلون من طول آمالهم فقصَّروا عن أمر ميعادهم، فندموا عند الموت أشد الندامة، وأسفوا على تضييع العمر أشد الأسف، فلا الندامة عند الموت تنفعهم ولا الأسف على التقصير ينقذهم من شر ما يلقاه المغبونون يوم الحشر، فبادر ثم بادر ثم بادر.
فدخلت على الفتى ثاني يوم فقصها عليَّ وقال: ما أرى الأمر إلا وقد قرب، فجعل يوزع ماله ويتصدق ويقضي ديونه ويستحل من خلطائه ومعامليه ويرتد عنهم، كهيئة رجل قد أنُذر بشيء فهو يتوقعه ويقول: قال أبي: «بادر ثم بادر ثم بادر» فهي ثلاث ساعات، وقد مضت أو ثلاثة أيام وأنَّى لي بها وما أراني أدركها، أو ثلاث سنين وهو أكثر ذلك، فلم يزل يقسم أمواله ويتصدق حتى إذا كان في اليوم الثالث من ليلة هذه الرؤيا دعا أهله فودَّعهم ثم أغمض عينيه ومات.