الفصل الثالث
الأديان ومحافظة الأمم على الخطوط
إنَّ محافظة المسلمين على الخط العربي في أنحاء العالم وكتابتهم به لغاتهم ليس أمرًا
خاصًّا بهم لا مثيل له عند غيرهم من الأمم، بل يكاد يكون عامًّا عند أهل الأديان الأخرى
من
أهل الكتاب وغيرهم في كل الأزمان، فإنَّنا نرى اليهود من وقت تفرُّقهم إلى الآن يتخذون
لغة
البلد الذي يستوطنونه لغةً لهم فيكتبونها بخطهم العبري كما يكتبون اليوم اللغة العربية
واللغة الفارسية واللغات الإفرنجية كالألمانية والإسبانيولية وغيرها بالخط العبري،
١ وينشرون به الكتب والجرائد في كثير من المدن الكبيرة، كما نرى في الآستانة،
فإنه تصدر فيها جرائد إسبانيولية حرفها عبراني، وهكذا في نيويورك جرائد ألمانية حرفها
عبراني، بل وللآن تصدر في تونس جرائد عربية بلهجة تونس العامِّية حرفها عبراني، واليهود
في
مصر وسوريا وغيرها يكتبون اللغة العربية بالحرف العبري من قديم، كما في مؤلفات موسى بن
ميمون
٢ (شكل
٣-١) وترجمة التوراة لسعيد الفيومي،
٣ وغيرهما، ويستعمل اليهود القرَّاءون في القديم هذه الحروف أيضًا في كتابة
التركية وهي اللغة الدارجة بينهم، فترى من ذلك أنهم حافظوا على خطهم ولم يحافظوا على
لغتهم.
وكذلك عند النصارى، فإنَّ السريان في الشام والجزيرة لمَّا دخل الإسلام بلادَهم،
وغلبت
اللغة العربية على ألسنتهم ظلُّوا حينًا يكتبونها بالحرف السرياني الذي كانوا يكتبون
به
لغتهم الأصلية ويُسمُّون هذه الكتابة «بالقلم
الكرشوني Carshùn»، ولم يكن استعمال هذا القلم محصورًا في المارونيين واليعاقبة
فقط، بل قد امتدَّ استعماله أيضًا إلى الملكيين، وقد طبعوا به كتبًا عديدة منها الإنجيل،
وبين أيدينا نسخة منه طُبعتْ في باريس سنة ١٨٢٧ على هذا الشكل.
وكذلك الأرمن واليونان في الآستانة وفي البلاد العثمانية الآن، فإنَّهم يُصدِرون فيها
جرائد حرفها أرمني ولغتها تركية، وأخرى رومية حرفها يوناني ولفظها تركي، ولهم أدبيات
أرمنية
تركية وأدبيات يونانية تركية؛ وسبب ذلك أنهم جميعًا يعرفون اللغة التركية، ويتجنَّبون
الخط
العربي، فيضطرون إلى كتابة التركية بخطوطهم الوطنية التي يتمسَّكون بها بسبب
الدِّين.
وهذا النوع الأخير، وهو كتابة اللغة التركية بالحروف اليونانية شائعٌ ومستفيضٌ إلى
الآن
في مطبوعات الآستانة الدِّينية التي يستعملها القرمنليون المقيمون بآسيا الصغرى، فإنَّهم
يستعملون التركية والأحرف اليونانية لكتابة كتبهم المقدَّسة، مع أنه ليس في عروقهم من
الدم
اليوناني ما لا يزيد على وجه التقريب عمَّا في عروق السوريين الملكيين، ولكن البطريركية
العامة تبذل جهدَها في أنْ تَعُدَّ نفسَها يونانية الأصل.
٤
وكذلك الكاثوليك اللاتينيون المقيمين بالبلغار، فإنهم يستعملون البلغاري مكتوبًا بالحروف
اللاتينية بدل الحروف البلغارية.
وكما كان عند كُهَّان مصر من الوثنيين، فإنَّهم كانوا يعدُّون الحرف الصوري (الهيروغليفي)
٥ مقدَّسًا، فينقشون به صلواتهم أو آثارهم مع وجود الحرف الديموطيقي،
٦ وهو أخفُّ على الأيدي.
وكما عند البوذيين الآن، فإنَّهم في شمال آسيا يؤْثِرون القلم التبتي، وفي جنوبها
القلم
البالي بالنسبة إلى أحد آلهة الهنود.
وكما عند المجوس من أتباع زرادشت، فإن القلم الفهلوي (البهلوي) لا يزال شائعًا ومستعملًا
لتدوين كتب الدِّين عندهم، والزرادشتيون يَعُدُّون اللسان الفهلوي أيضًا لسانًا مقدَّسًا؛
لأنه لغة دِينهم فيفضِّلون تدوينَه به، وقد أسلَفْنا في الكلام على اللغة الفارسية أنَّ
اللسان الفهلوي أخذَ بالزَّوال أمام العربية شيئًا فشيئًا حتى ذهب عن الألسنة، ولكنه
ظلَّ
في الكتب، ولا سيَّما كتب الدِّين القديم على مذهب الزرادشتية.
وأمثلة ذلك كثيرةٌ عند الأمم، ولا عجب؛ فإنَّ كثيرًا من الأمم، ولا سيَّما أهل الأديان
منهم يتبرَّكون بالخط الذي كانتْ تُكتَب به لغة دِينهم، ويَعُدُّونه أثرًا دِينيًّا،
إنْ لم
يعتبروه جزءًا من الدِّين، فهم يحافظون عليه أكثر من محافظة بعضهم على لغته (كما رأيتَ
عند
اليهود وغيرهم)، ويؤْثِرونه على غيره من الأقلام التي كانوا يستعملونها قبلَ اعتناقِهم
أديانَهم، فيئول الأمرُ إلى إماتة تلك الخطوط، ولكي يتبيَّن جليًّا أنَّ الدِّين من أقوى
الأسباب الفاعِلة في انتشار الخطوط واللغات واندثارها، وإحيائها إماتتها، نأتي هنا على
ذكر
الخطوط التي ماتتْ بانتشار الخط العربي ونُتْبِعه باللغات التي ماتتْ بانتشار اللغة
العربية.