الخطوط التي ورثها الخط العربي
كان سكان العالم الإسلامي قبل أن يفتحه المسلمون يكتبون بخطوط البلاد الأصلية، ويتكلَّمون لغاتها السريانية والآرامية واليونانية في العراق والشام، والقبطية بمصر، والفارسية في بلاد فارس، والتركية في التركستان بما وراء النهر، والبربرية في شمال أفريقيا، فلمَّا جاء الإسلام أخذ العنصر العربي يتغلَّب على عناصرهم، والخط العربي يتغلَّب على خطوطهم، واللغة العربية تتغلَّب على ألسنتهم، والإسلام يتغلَّب على أديانهم، حتى ساد الإسلام عليهم جميعًا، وانتشر الخط العربي بينهم، وعمَّت اللغة العربية البلاد الواقعة غربي دجلة وهي العراق والشام ومصر وأفريقيا والسودان، وصارتْ تُعَدُّ بلادًا عربية وأكثرها مسلمون، وانقرضت الخطوط واللغات التي كانتْ منتشرة فيها إلَّا بقايا قليلة من السريانية في بعض القُرى المتباعدة من الشام والعراق، أمَّا شرقي دجلة بفارس والتركستان والهند فقد ساد الإسلام فيها أيضًا، وانتشرت اللغة العربية بين أهل العلم، ولكن ألسنة البلاد ظلَّتْ حيةً يتفاهمون بها إلى الآن، أمَّا الخط العربي فقد انتشر بالإسلام بين الجميع، وإليك مجمل انتشاره، وذكر الخطوط الذي ورثها في سَيْرِه.
ولمَّا انتشر في مصر ورثَ «القلم القبطي» المشتق من القلم اليوناني، كما ورثت اللغة العربية اللغة القبطية فيها، وذلك أنه في سنة ٨٧ﻫ في عهد عبد الله بن عبد الملك أمير مصر من قِبَل الوليد بن عبد الملك نُقِل ديوان مصر من القبطية إلى العربية، وجُعِلت الكتابة في جميع دواوينها باللغة العربية (وبالخط العربي بالطبع)، فبادت القبطية في مصر شيئًا فشيئًا، حتى نسِيَتْها العامَّة القبطية تمامًا، فصارتْ لغةً صناعيةً لا تُستعمل إلَّا في بعض الكنائس القبطية، قال المسيو ماسبيرو في كتابه «تاريخ المشرق»: «وقد استمرَّ استعمال اللغة عند الأهالي مدة عشرة قرون بعد تلاشِي الكتابة بها، ولم يَنْعَدِم اللسان القبطي من أفواه الأمة إلَّا في السنين الأولى من القرن السابع عشر»، وهكذا ورث الخط العربي ولغته في مصر الخط القبطي ولغته، كما ورث في المغرب القلم البربري عند قبائل البربر الشمالية.
ولمَّا انتشر في سوريا ورث جملة خطوط، منها القلم الروماني واليوناني عند الحكومة، والقلم السرياني والسامري، وأضعَفَ القلم العبري عند الأهالي، كما ورثت اللغة العربية فيها اللغة اليونانية واللاتينية الرسميتين واللغة السامرية وغيرها من اللهجات الآرامية الغربية عند الشعب كاللهجة النصرانية الفلسطينية.
ولمَّا انتشر في بلاد الجزيرة والعراق ورث الخطوط الآرامية كالسرياني وغيره، كما ورثت اللغة العربية فيها اللغة السريانية وغيرها من اللهجات الآرامية الشرقية كالآرامية المانوية (لغة أتباع ماني) والآرامية اليهودية البابلية، وعلى الجملة فالخط العربي واللغة العربية ورثا في سوريا والعراق وما يَلِيهما الخطوط واللهجات الآرامية الشرقية والغربية، كما ورثت اللغة الآرامية وخطها من قبلُ كثيرًا من الخطوط واللغات الشرقية القديمة كالخط الفينيقي والخط المسماري الذي كان شائعًا في أكثر الممالك القديمة، وكاللغة البابلية والآشورية والعبرية والفينيقية وغيرها.
فمن كل ذلك يظهر لنا جليًّا ما أشرنا إليه في تمهيدنا السابق، وهو أنَّ اللغة العربية كانت تسير في نموِّها وانتشارها مع فتوحات العرب، فأين حلَّ العرب، حلَّتْ لغتهم، وأبادت اللغة الأصلية للإقليم الجديد كما رأيتَ، وكذلك الخط العربي، فقد كان يسير في انتشاره معَها جنبًا لجنب، ولكنه تجاوَزَها وسار مع الإسلام، فأينَ حلَّ الإسلام حلَّ الخط العربي، وأبادَ خط الإقليم الجديد الإسلامي، وهذه الخصيصة لم تُوجَد إلَّا في اللغة العربية وخطها، وذلك — كما قلنا — بفضل الإسلام، فكم من أمةٍ علا شأنُها في مجتمع الأمم ودوَّخَت البلدان، ولم تَستَطِعْ أن تُقِيم للغتها أو لخطها شأنًا، وبقي هذا الشأن بعدها إلى الآن:
وهيهات أنْ يتسنَّى ذلك لأحدٍ من الشعوب الحاضرة أو المُقْبِلة، وسرعان ما كانت الجماعات المندمِجة في العرب أو المعتَنِقة للإسلام تتناسَى لغتَها، وتُهمِل خطَّها، وتأخذ عن الإسلام لغتَه أو خطَّه ما خلا بضعةَ أصقاعٍ انتشر فيها الإسلام، ولم يُفسَح للعرب أجلٌ حتى ينشروا فيها لغتهم أو خطهم ليُستعملا فيها لغير الأشياء الدِّينية حتى لا يجعلوا مُستثنًى لهذه القاعدة.