التربية العقلية
إن هناك علاقة متينة بين نظامات التربية المتعاقبة على ممر الأزمان وبين ما يعاصرها من النظامات الاجتماعية؛ إذ منشأ الجميع إنما هو العقل الإنساني، فإذا رجعت البصر في تاريخ الأمم، رأيت أن تربية الأطفال كان يؤخذ فيها بالقسر والقهر أيام كانت الناس تُرغم على الأديان والعقائد إرغامًا، فلما انعكست الحال وأساغ المذهب البروتستانتي للراشدين النظر في مسائل الدين، أحدث ذلك تغييرًا في خطة التربية ليتطابق النظامان ويتوافقا، فعادت التربية أسبابًا تعرض بها وجوه العلم على عين الذهن لتنتقدها، فتستجيد الخالص وتستهجن الزايف، وكذلك لما كان حكم الاستبداد والجبروت نافذًا في الأمم، إذ تضرب الأعناق على سفاسف الذنوب؛ كانت حال التربية من القسوة والغِلظة تشاكل طبائع الحكومات، فلم يكن إذ ذاك أسهل ولا أعم من اللطم والضرب بالسياط والعصي على أحقر الذنوب وأهونها، فلما فشت الحرية السياسية فألغيت القوانين المقيدة لأعمال الأفراد، وخفف قانون العقوبات؛ استوجب ذلك تعديلًا مشاكلًا في خطة التربية، ففُكت قيود الطفل، ورجع في تدبيره إلى وسائل غير العقوبات. وكذلك في أعصر الزهد والقشف، إذ يقيس الناس فضل المرء وتقواه بمقدار ما يحرم نفسه المناعم والملاذ. كانت التربية في ذاك الوقت مُقامة على دعائم الحرمان والمنع، فلما ذهب الدهر بتلك العقائد، وأصبح الناس لا يرون بأسًا في التنعم بالحلال الطيب من الملاذ وقصرت أوقات الشغل، وأطيلت أزمان الفراغ والاستراحة؛ أدرك الآباء والأساتذة وجوب إرخاء شهوات الطفل ما لم تتعدَّ حد الصواب، وإباحتهم ما تنزع إليه طباعهم من اللعب والمرح، فقد رأيت المشابهة بين النظام الاجتماعي والتعليمي في العصور المختلفة.
وهناك مشابهات أخرى سنوردها الآن؛ وهي المشابهات الكائنة بين الأسباب التي أحدثت ما ذكرنا الآن من التغييرات، ثم المشابهات الكائنة بين الوجوه المتعددة للرأي المتشعب الذي ساقت هذه التغييرات إليه، ولقد كان منذ بضعة قرون توحد في العقائد سواء في الدينية أو السياسية أو التعليمية، فكان الناس كلهم كاثوليك وملوكيين وأرسطاليسيين، حتى لم يخطر بخاطر إنسان في ذاك الحين أن يحدث تبديلًا في طريقة التعليم السائدة إذ ذاك، وهي الطريقة النحوية الصرفية التي تخرَّج عنها كل متخرج في تلك الأعصر، ثم كان ذلك العامل الفعال ألا وهو الولوع بتحقيق الحرية الشخصية، الذي أدى إلى النهضة البروتستانتية، ثم أحدث بعد تعددًا في المذاهب الدينية مستمر الزيادة، والذي أنشأ الأحزاب السياسية التي لا يزال يتولد عنها أحزاب جديدة كل عام، والذي ساق إلى الثورة العلمية ضد مذاهب العلم القديمة المسماة الثورة الباكونية (نسبة إلى منشِئها باكون الفيلسوف الإنكليزي)، التي أنتجت أفكارًا جديدة هذا الولوع بتحقيق الحرية الشخصية، قد أدى كذلك إلى تشعب في خطط التربية وتنوع في أساليب التعليم.
لما كانت التغيرات الدينية والسياسية والفلسفية والتعليمية إنما هي نتائج ظاهرية لسبب داخلي بعينه وهو الحرص على الحرية الشخصية؛ أوشكت أن تتوارد في وقت واحد.
وإنه وإن أنكر الكثيرون تعدد مذاهب التعليم، فقد يرى المتبصر أن في ذلك التعدد سبيلًا إلى اكتشاف المنهج الأوضح في فن التربية، ومهما نعى الناعون تشعب المذاهب الدينية، فلا يسع أحد إنكار ما يكون في تنوع المشارب التعليمية من تسهيل البحث بتقسيم العمل، ولو كانت الطريقة المثلى للتربية مما يملك، لكان في الخروج عنها حمق وضرر، فأما وقد أصبحنا نلتمس تلك الطريقة المثلى، فليس سبب أقرب إلى بلوغها من توزيع العمل على جملة البحاثين الفحاصين أولي المذاهب المختلفة والمفاسد المتنوعة؛ لكي يعمد كلٌّ عمده تحثه الغيرة على مذهبه، ويبعثه الأمل في إدراك الغاية المنشودة.
فإذا وضع الباحث خطته فخالط حقها باطل، لم يلبث الباطل أن يُكشف فيُطرح ثم يؤخذ بالحق محضًا زلالًا، فإذا اجتمعت الحقائق المختلفة المصادر ونبذت الغلطات، قام لدينا بناء مشيد من الحق، ومن نظر في منازل الرأي العام وهي ثلاثة؛ اتفاق الجُهال، ثم اختلاف البُحاث، ثم اتفاق العلماء؛ علم أن ثانيهما أصل للثالث، وإذا صح ذلك وجب علينا أن نغتبط بما قد يسوء البعض من اختلاف المذاهب التعليمية، ونثق أن في ذلك الاختلاف سببًا إلى حسن المآل.
وقد يحسن بنا الآن أن نتصفح ما وصل إليه أمر التربية لنعلم ما هُجر من المذاهب والمناحي وما جُدد، حتى إذا قابلنا بين ما حدث من التغيرات المختلفة، فرأيناها تنزع إلى منزع واحد، أخذنا في ذلك المنزع، والتمسنا بفضل التجارب من الذرائع ما نهتدي به إلى الغرض المطلوب، ولنبدأ الآن قبل البحث في خطائر الموضوع بالمقابلة بين مذاهب التعليم القديمة والحديثة.
إن قمع أحد العيوب يُعقب في العادة بفشوِّ ضده من النقص والعيب؛ ولذلك ترى أن الزمن الذي كان يُعنى فيه بخدمة الجسم وحده وتقويمه أُعقب بعصر جعل فيه الاهتمام بالعقل وحده البُغية الوحيدة لعامة الناس، حتى طفق الآباء والأساتذة يضعون الكتب بين الأطفال الذين لم تتجاوز أعمارهم الثلاث، واعتقد الناس أن اكتساب العلوم هو كل ما يحتاج إليه المرء، ثم يجيء بعد ذلك زمن يعلم فيه الناس أن كلا المذهبين مجاوز القصد خارج عن السواء، فيعدلون إلى جادة الصواب، ويميلون إلى الصراط الأسدِّ، فيرون واجب الجسم عدل واجب العقل فيعملون لكليهما. وقد استنكر الناس في الزمن الحاضر خطة الحفظ عن ظاهر الغيب، فشرعوا في تعليم جدول الضرب أثناء العمل وفي تعليم اللغات الأجنبية؛ يسلك بالتلميذ طرقًا هي أشبه شيء بالسنة الطبيعية التي تعلم بها الطفل لغته الأصلية بلا مُعين ولا مرشد، ويضمحل كذلك التعليم بواسطة القواعد، ويعتاض من ذلك التعليم بالجزئيات، إذ تُعرض الجزئيات مقرونة بعضها إلى بعض، فيُستنتج منها قانون كلي يرشد إليها، وقد تعاب الخطة الأولى — أعني خطة البدء — بذكر القواعد من حيث إنها سطحية؛ تعقل التلميذ عن النفاذ إلى أعماق العلم لاستبطان دخائله واستجلاء غوامضه، فأما أن يُعرض على التلميذ المعلومات الجزئية فيقارن بينها ويقابل، ثم ينتزع منها قاعدة كلية تشملها؛ فذلك هو التعليم الحق والخطة المثلى، فإن الحقائق لا تكون جمة الفائدة باقية المنفعة حتى يمتاحها الذهن من ينابيعها ويستثيرها من كنوزها، أما الحقائق التي تجيء بلا التماس ولا عناء فكالمال الحاصل عفوًا، كلاهما أوشك ضياعًا وأقرب زوالًا. كما أن القواعد الملقاة في الذهن بددًا المنبوذة فيه قددًا بدون أن تتفرع عن جزئيات تكون لها أصولًا؛ فإنما هي قواعد جديرة أن يذهب بها النسيان فتعود كأنها لم تكن. أما المواد التي يتناولها العقل قطعًا ويلتقمها لقمًا فتلك مواد جديرة أن لا تبيد أبدًا، فبينا تجد التلميذ المتعلم على طريقة القاعدة في حيرة عند نسيان القاعدة، تجد الغلام الذي تعلَّم على طريقة الجزئيات قادرًا على حل المسألة الجديدة قدرته على حل القديمة متى تشاكلا، ولقد تجد بين الذهن المشحون بالقواعد والآخر الممتلئ بالجزئيات من المخالفة والمغايرة، ما تجد بين كثيب الأنقاض المشوشة وبين تلك الأنقاض مرصوصة مرصوفة متماسكة متلاحمة، ثم لا يكون فضل هذه الأجزاء قاصرًا على تماسكها والتحامها، بل تجمع إلى ذلك مزية كبرى؛ وذلك أنها تصبح للذهن عاملًا فعالًا يُستخدم في الفحص والتدقيق والتفكير المطلق الحر والاستكشاف والاستطلاع مما يعجز عنه الذهن ذو القواعد.
ولقد أفضى استبدال القواعد بالجزئيات، وما يلزم ذلك من العدول عن تعليم المعاني المجردة قبل أن ترتسم في صحيفة الذهن تلك الصور المنتزعَة عنها هذه المعاني، قد أفضى ذلك إلى تأجيل علوم كانت تُلقى على التلاميذ في مبدأ دراستهم كعلوم النحو والصرف والبلاغة. وقد قال المسيو مارسيل: «ليست علوم النحو والصرف والبلاغة مما يُبتدأ به في تعليم الأطفال، ولكنها متممات ومكملات، فإنما هي قواعد تُجمع من التمرين، وما هي إلا ثمرة الاستنتاج التي تُجتنى بطول التأمل ومقابلة الحقائق.»
وقصارى القول: أن هذه العلوم هي أصول اللغة وفلسفتها، ولم يكُ من سنة الطبيعة أبدًا أن أمة من الأمم بدأت في تكوين لغتها بوضع القواعد والقوانين، وإنما تُخلق اللغة بادئ بدء فتتداول على الألسن ويُنظم منها الشعر وتُؤلف الخُطب أعصرًا مديدة، قبل أن يسنح بالخواطر أدنى فكرة في وضع قواعد للنحو أو الصرف أو البلاغة أو المنطق. ولم تمتنع قدماء اليونان من المناظرة حتى يضع لهم أرسطاليس علم المنطق. وقصارى القول: أنه لما كانت هذه العلوم مما يحصل بعد تكوُّن اللغة، وجب أن يتلقاها التلاميذ بعد تعلُّم اللغة.
وأهم ما ابتُكر حديثًا من خطط التربية هي خطة ترسيخ ملكات المشاهدة، فلقد فطن الناس بعد طول الغفلة إلى أن هناك سرًّا ومعنًى لما تبديه الأطفال من حب الاستطلاع باستعمال الحواس، وعلموا أن توَقد حركة الطفل وكثرة تلفُّته، وطرحه البصر كل مطرح ليس من لعب ولا تعمد ضرر، ولا هي حركات مجردة عن القصد، وإنما هي سبب طبيعي يتوصل به الطفل إلى إدراك معلومات تكون أسًّا لمستقبل معلوماته. فقد أدرك الناس معنى حكمة الفيلسوف باكون إذ يقول: «إن الموجودات مصدر العلوم الطبيعية، فإن أس النجاح في تلك العلوم أن يحيط الإنسان علمًا بالأجسام وصفاتها وأعراضها، وإلا فسدت أفهامه وكذبت نتائجه وخابت عملياته، وإنه متى أُهمل شحذ الحواس لم يسلم التعليم من النقص والضعف والشك مما يستحيل علاجه.» ولو تدبرنا الأمر لعلمنا أن تسديد النظر لم يزل قاعدة النجاح ودعامة الفوز، وليست فائدة المشاهدة والنظر قاصرة على المصور والنباتي والحيواني وعالم الكيمياء والطبيعة والفلك وما شاكلها والمهندس، بل قد تتعدى هؤلاء إلى الفيلسوف الذي من شأنه أن يشاهد ما غاب عن أبصار الدهماء من دقائق الأشياء، ثم إلى الشاعر الذي يمتاز عن غيره بإبصاره من غوامض الكائنات ما خفي عن أنظار الغير، حتى إذا أورده في نظمه أدركه الناس فوقع من ألبابهم ألطف موقع. ومن أهم التغييرات التي حدثت في طرق التعليم هي ذلك الشغف الشديد بجعل الدرس لاذًّا سارًّا، وهذا الشغف مبني على ما شوهد من أن التذاذ التلميذ بالدرس أكبر ضامن لفهمه واكتسابه، وأن ارتياح الغلام لما يُعرض عليه من المعلومات دليل على احتياج ذهنه في ذاك الحين إلى تلك المعلومات المعروضة، وذلك لأمور ترجع إلى إنمائه وتنويره، أما عدم ارتياح التلميذ إلى ما يلقى عليه، فدليل على عدم استعداد ذهنه لتلقيه، أو على سوء معرض الدرس ورداءة أسلوبه؛ لذلك يبذل المعلم الآن جهده في التوفيق بين أميال الطلبة وبين ما يتلقون من الدروس، ويستفرغ الوسع في اختيار ما يظنه لاذًّا للغلام، فيعرض في أعجب أسلوب وأبدعه، ثم يكون فرح التلميذ بالدرس وإقباله عليه الشاهد الأصدق على نجاح الدرس، حتى إذا بدت على التلميذ علائم الملل (ولا يعدم الإنسان طوارئ الملل مهما لذَّ له ما يباشر) وجب على الأستاذ أن يقطع الدرس ويصرف التلاميذ عنه؛ لذلك كثر الآن عدد ما بين الدروس من الفسح، واستحب التنزه في ضواحي المدن، وأوصى بالخطب المستميلة والأغاني، فقد اضمحل الحرمان والزهد من خطط التعليم كما اضمحلا من الحياة.
فما هي الصفة المشتركة بين هذه التغييرات؟ أليست هذه الصفة هي زيادة تطابق بين طرق التعليم والسنن الطبيعية تطابقًا يظهر أثره فيما تقتضيه طرق التعليم؛ لأن قمع الاستبداد المطلق على الأطفال وإطلاقهم يمرحون في أوائل أعمارهم كما يشاءون مما تفرضه الطبيعة، ويظهر أيضًا أثر ما بين قوانين التعليم والنواميس الطبيعية من التطابق في استبدال الدروس المحفوظة غيبًا بالدروس الشفهية الموضحة بالصور والأشكال والآلات، ويظهر أثره كذلك في استعاضة طرق الجزئيات بطرق القواعد، حتى يحصل في ذهن التلميذ من الجزئيات ما يصح أن تبنى عليه القاعدة، ويظهر أثر المطابقة المذكورة أيضًا فيما لا يزال يُبذل من السعي في تزيين الدروس وزخرفتها بأفانين اللذة؛ ليكون فيها مستمتع للأذهان ومنعم للقرائح وملهَى للبصائر ومبهج للنفوس، فإن التذاذ المرء بما يباشر من عمل هو أنجع وسيلة لنجاحه. يشهد بصدق ذلك أن اللذة التي يجدها الطفل في فحص ما يقع تحت نظره من الأشياء؛ هي أكبر الأسباب إلى فهمه كنه ما يفحص؛ لذلك لم يكن سعينا في تزيين الدروس إلى الطفل وتحبيبه إليه، إلا تنفيذًا منا لأحكام الطبيعة وتوفيقًا بين قوانينها وأعمالنا.
لذلك أصبحنا الآن نؤم تلك الحكم التي صرَّح بها الأستاذ بستالوزي منذ زمن طويل وهي؛ أن لا بد أن تجعل التربية مطابقة لأطوار العقل التي يتنقل بينها، فإن لتلك الأطوار ترتيبًا وتناسقًا مطردًا، وقد يبلغ العقل في كلٍّ منها حدًّا معلومًا، فالواجب علينا أن ندرك مبلغ العقل في أي طور، فنقدم له من المعلومات ما يناسبه في ذلك الطور ويلائمه. وقد زاد لهج الأساتذة باتباع هذا المذهب، يدل على ذلك كثرة أقوالهم فيه. قال المستر مارسيل: «إن المذهب الطبيعي في التربية هو أكمل مذهب.» وقال المستر وايز: «أولَى لك أن تترك الطفل يطلب من المعلومات ما يشاء، فإنه يكون في ذلك مؤتمِرًا بأوامر ذهنه، وهو أصدق من الغير.» وأكبر ضوامن النجاح أن تكون الأساتذة خدامًا لأذهان الأطفال يؤدون إليها ما تطلب وتحتاج.
- (١)
يجب في التربية أن يُسار من الأسهل إلى الأصعب، ومن البسيط إلى المركب.
ولما كان العقل كسائر الأشياء النامية يتحول في نموه من هيئة بسيطة إلى هيئة مركبة؛ وجب أن يكون أسلوب التربية مجانسًا لحالة العقل؛ أي أن يبتدئ بسيطًا، ثم يؤخذ في تركيبه شيئًا فشيئًا، وكما أن هذا القانون يجب أن يراعى عند تعليم الطفل علمًا على حدته، فكذلك يجب أن يراعى في تعليمه العلوم باعتبارها جسمًا واحدًا؛ أي أن يبتدئ بتعليمه علمًا ثم آخر ثم ثالثًا … إلخ؛ وسبب ذلك أن ملكات العقل تكون في غرة عمر الرضيع كامنة نائمة، ثم تهب واحدة واحدة، ولا تزال كذلك حتى تبرز جميعًا، حينئذ يبلغ الإنسان أشده، ولما كان الأمر كذلك وجب أن يبدأ التعليم بالعلم فالعلم، ثم لا يزال ازدياد العلوم موافقًا لازدياد الملكات حتى توافي خاتمة العلوم خاتمة الملكات على قدر.
- (٢)
وكذلك ترى نمو العقل كسائر النمو، إنما هو تحول من حالة انتثار وتبدد إلى حالة انتظام وتناسق، فهو لا يزال يرصف وينضد، ثم لا يبلغ حد كماله إلا عند بلوغ الرشد، وعلى حسب مبلغه من النظام والدقة تكون درجته في السداد والإصابة.
لذلك كانت حركاته الأولية بعيدة من الإصابة مثل الحركات الأولية للبصر واللسان، فكما أن العين الحديثة العهد بالدنيا لا تكاد تميز إلا بين الضوء والظلمة، فإذا مرَّ عليها الزمن فاعتادت المناظر قوي تمييزها للأشياء، حتى بلغت من حدة النظر بعد حين أنها تقدر أن تفرق بين متشاكل الألوان والأشكال التي يصعب التفريق بينها. كذلك العقل بينا هو في أول أمره لا يكاد يميز إلا بين الأشياء البعيدة الخلاف، إذا هو قد عاد أخيرًا يَسهل عليه إدراك الفروق الخفية الغامضة. ولتلك القاعدة المذكورة يجب أن تكون خطة التعليم مطابقة، إذ يستحيل علينا أن ندخل في الذهن الناشئ الفكرة الدقيقة، ولو لم يستحِل ذلك لما كان حميدًا، وقد يتمكن أي معلم من إدخال الألفاظ الضامنة لفكرة ما في ذهن الطفل، ولكن ما للألفاظ والفكرة؟ أيظن المعلم أن الطفل سيحصل بذلك على الفكرة المطلوبة، فإذا اختبر الطفل وجده بين حالتين؛ إما أنه قد استظهر ألفاظًا لا يفهم لها معنى، أو أنه لم يدرك إلا معنى معمًّى غامضًا، ولن يستطيع الطفل أن يفهم معاني ألفاظ القواعد التي يتلقاها حتى يزداد خبرة بالأشياء التي ترجع إليها هذه الألفاظ، وحتى تتضح الفروق الخفية المتشابهة وتبين الخواص الغامضة الملتبسة بطول المشاهدة وكثرة المباشرة؛ لذلك وجب علينا أن نكتفي في مبدأ التعليم بتلقين الفكر البسيطة السهلة، ثم يلزمنا مع ذلك أن ندأب في إيضاح تلك الفكر وبيانها، بأن نمكن الطفل من خبرة الأشياء الخاصة بها تلك الفكر؛ حتى يضمحل بذلك ما عسى أن يقع في الذهن من الخطأ عن الفكر المذكورة، ثم لا تُعطى القاعدة العامة حتى تتضح الفكر المؤلفة لها وتبين.
- (٣)
يجب أن تكون تربية الطفل مطابقة في النظام والأسلوب لتربية الأمم، يؤيد هذه الحقيقة سببان؛ أولهما سبب وراثي، فإذا صح أن الناس يشبهون أسلافهم خَلقًا وخُلقًا، وإذا صح أن بعض المظاهر العقلية كالجنون مثلًا يتناقل في الذريات المتعاقبة لأسرة بعينها في سن بعينها، وإذا صح أن ما يرثه الإنسان عن سلفه من الجنسية هو جوهري لا تؤثر فيه العوامل على اختلاف أنواعها، حتى إن الرضيع الفرنسوي ليشب رجلًا فرنسويًّا ولو نشأ بين قوم أجانب، وإذا كان ما ذكرناه من هذه الحقائق يشمل الطبع البشري قاطبة وضمنه العقل، نتج من ذلك أن الإنسان سيسلك في التعليم السبيل الذي سلكه النوع الإنساني قبل؛ لذلك يجب علينا أن ننهج بالطفل في أمر تعليمه القصد الذي نهجه العقل العام قدمًا، أعني أن تربية الطفل يجب أن تكون صورة دقيقة للمدنية بحذافيرها، وقد ثبت أن نمو المدنية ورقيها قد كان اضطراريًّا، وأن الضرورات التي دعت إلى ذلك ثابتة في الطفل ثبوتها في النوع؛ لذلك كان إجراء تربية الطفل مجرى المدنية في نموها ورقيها أمرًا اضطراريًّا، وتفصيل ذلك أن العقل الإنساني لما وجد نفسه محاطًا بالمسائل الصعبة والمشاكل العويصة، ثم أبصر نفسه مضطرًّا إلى حل هذه المسائل والمشكلات؛ دأب دأبه في الوصول إلى غرضه طورًا بالمقارنة وتارة بالفحص وآنًا بالفرض وآونة بالتجربة، حتى بلغ من العلوم ما بلغ، ومن ذلك يستنتج أنه لا طريق إلى اكتساب العقل الإنساني العلوم إلا طريقة المقارنة والبحث والتجربة والفرض التي ذكرناها، ولما كانت علاقة عقل الطفل بمسائل الكون ومشاكله هي نفس علاقة العقل العام بتلك المسائل؛ نتج إذن أن عقل الطفل لن يدرك كنه المسائل المذكورة إلا بالطريقة التي سلكها العقل العام في الصدد المذكور.
- (٤)
ومن نتائج البحث الأخير أنه يجب في كل علم أن يدرج من الشيء المكتسب بالسماع والاستعمال إلى الشيء المستفاد من النظر والاستدلال، فإن الرقي الإنساني يرينا أن القواعد والقوانين لعلم ما مأخوذة أبدًا من صناعة العلم المذكور، فإن الطبيعة التي جُبل عليها الإنسان تقضي بأنه يستعان بمعرفة المسموع والمحسوس على إدراك المعقول المتصور؛ أي إنه يجب أن يسبق العمل والتجربة استنتاج القواعد العلمية وترتيبها، فإنما القواعد العلمية هي أجزاء العلم منظمة منسقة، ولا يتأتى تنسيق مواد العلم وتنضيدها قبل معرفتها، فيجب إذن أنه يبدأ في كل علم بالتجربة العملية، ولا يؤخذ في التعقل والاستنتاج إلا بعد أن تجتمع عند الإنسان ذخيرة وافرة من المشاهدات. ومثال ذلك أنه لما كان تكوُّن اللغات وبلوغها أبعد غايات الفصاحة وأكمل حالات البلاغة، إنما يكون قبل الشروع في وضع القوانين لها من نحوية وصرفية وبيانية … إلخ، وجب في تعليم اللغات أن يبدأ بتحفيظ الطفل ألفاظها وتراكيبها، فإذا تم عنده محصول وافر كان من السهل حينئذ أن يعلم القواعد والقوانين الخاصة باللغة.
- (٥)
وهذه نتيجة أخرى تنتزع من القاعدة السابقة؛ وهي أنه يجب في التربية أن يهتم كل الاهتمام بتأييد المبدأ الآتي وهو تعليم الطالب نفسه. يجب تشجيع الطلبة على إجراء عمليات البحث والفحص والاستدلال والاستنتاج بأنفسهم، يجب أن يقلل من إخبارهم بقدر الإمكان، وأن يفروا على قدر الإمكان باستنتاج النتائج لأنفسهم، فإن الإنسانية قد بلغت من الرقي مبلغها بفضل تعليم النفس وحده، وأسطع دليل على أن أعظم النتائج إنما تبلغ بأن يسير الفرد على سُنة المجموع؛ هو ما نرى من فرط نجاح أولئك النوابغ الذين يحرزون قصب السبق بفضل تعلمهم الخصوصي، أعني قيامهم بتربية أنفسهم، فأما الذين نشئوا على الخطة المتبعة في المدارس، ولم يزالوا يعتقدون بأن النجاح موقوف على هذه الخطة، فلا يرجو أحدهم أن يصير يومًا ما أستاذًا لأستاذه، على أنه لو تذكر هؤلاء أن الأشياء ذات الأهمية الكبرى الخاصة بكل ما يحيط بنا إنما يتعلمها الإنسان بلا مساعد، أو تذكروا أن الإنسان يتعلم كذلك لغة قومه بلا مساعد، أو تذكروا تجارب الحياة والحكمة الخارجة عن نطاق المدرسة التي يستفيدها كل صبي بنفسه، أو لاحظوا حدة الذكاء التي تميز الكثيرين من الأطفال المهملين، والتي يبديها هؤلاء الأطفال في كل ما يزاولون ويمارسون، أو تذكروا كم عقول قد اقتحمت عقبات نظام تعليمنا الفاسد وقطعت ظلماته إلى ما هو أَوعر وأخشن، ثم أفضت ناجحة بعد تذليل كل هذه العقبات، ثبت لهم جليًّا أنه إذا رتبت دروس التلميذ أمامه على النسق الصحيح والنظام الصالح؛ أمكن كل تلميذ متوسط الكفاءة اجتياز ما يعترضه من العقبات بالمساعدة القليلة، أين الذي راقب ما يدور بذهن الطفل من الملاحظة والبحث والاستنتاج الدائبة، أو أصغى إلى الملحوظات الدقيقة التي يبديها عما يدخل في نطاق مداركه، فلم يرَ أن هذه القوى التي يظهرها الطفل حقيقة أن تتناول من المعارف كل ما لم يخرج عن نطاقها دون مساعدة البتة، وإنما تلك الضرورة التي نجدها لموالاة إخبار التلميذ عن كل شيء ناشئة من بلادتنا لا من بلادته. فنحن لا نبرح نجذب التلميذ من الحقائق التي تلذه وتهمه والتي لا ينفك يلتمسها من طبعه، ثم نعيضه من هذه معلومات فوق مداركه؛ فهي لذلك لا تلذه، فإذا نبا عنها ذهنه أكرهناها في ذلك الذهن بالتهديد والعقاب، ولا يعدم حرماننا التلميذ ما يطلبه طبعه واستكراهنا إياه على ما ينبو عنه ذاك الطبع عواقبه من إفساد الملكات وتبغيض المعارف عمومًا إلى التلميذ، فإذا أصبحت هذه البلادة التي ألحقناها بالتلميذ، وأصبح كذلك استمرار خطة التعليم غير الصالحة سببًا إلى أن التلميذ لا يفهم أي شيء إلا بالتفسير؛ استنتجنا من ذلك أن التعليم لا يصح أن يكون إلا هكذا، فترَانا إذا أدتنا طريقتنا إلى العجز، جعلنا العجز سببًا إلى اتباع هذه الطريقة؛ لذلك كانت تجارب المعلمين ليست حقيقة أن تتخذ حجة ضد الخطة التي نؤيدها، ومن أبصر ذلك أبصر أيضًا أنه لا بأس من اتباع نظام الطبيعة في جميع الأحوال والأدوار؛ فليتلطف الأستاذ في منح الذهن كل فرصة لتربية نفسه سواء في الكبر أو الصغر، وليس بغير ذلك يمكننا إبلاغ الملكات غاياتها في القوة والنشاط.
- (٦)
وهذا السؤال الآتي خليق أن يكون ميزانًا توزن به قيمة أيُّما طريقة من طرق التربية؛ هل تُهيج الطريقة في طبع الطالب لذة وسرورًا؟ وإذا أشكلت علينا أفضلية إحدى الطرق على غيرها فالتبس علينا أيهما أكثر مطابقة للقواعد السالفة الذكر، حق لنا إذ ذاك أن نعوِّل في أمرنا على هذا السؤال الذي جعلناه ميزانًا لقيمة الطريقة، بل لو ثبت نظريًّا أن هذه الطريقة أفضل من تلك ثم خابت الطريقة الثابتة الفضل في تهييج اللذة والسرور؛ كانت تلك الطريقة جديرة أن تنبذ ظهريًّا؛ لأن غرائز الطفل أصدق وأحق بالثقة من احتجاجاتنا وأدلتنا، فأما من جهة ملكات المعرفة (أعني اكتساب المعارف)؛ فمعلوم أنه في حالة الصحة الذهنية لا ترى عملًا مصلحًا لصحة الذهن نافعًا له إلَّا كان مع ذلك لاذًّا ممتعًا، وكل عمل متلف فاسد ألفيته كذلك مملًّا عديم اللذة، وليس النفور الذي يبديه الطفل للدرس من غرائز الطفل؛ كلا بل هو نتيجة نظامه المختل. قال فلنبرج: «علمتني التجارب أن الكسل في الأطفال منافٍ تمام المنافاة لما جُبلوا عليه من النشاط وكثرة الحركة، حتى أصبحتُ لا أشك في أن ذلك الكسل إذا لم يكن نتيجة سوء التعليم، فهو لا محالة ناشئ من علة جسمية.» وما ذاك النشاط السريع التدفق من الطفل إلا مباشرة تلك اللذة التي يبعثها التعليم الصالح، على أن هناك بعضًا من القوى الذهنية العليا مما لم تبلغ مبلغًا كبيرًا في الأمة على العموم، ولم توجد بمقدار عظيم إلا عند البالغين أرقى الدرجات، ما لم يتهيأ بعد لما يُراد منه من المجهود، ولكن هذه بفضل دقتها وتركبها يجيء وقت تمرينها في آخر أدوار التعليم الصحيح، فهذه الملكات العليا لا تحمل على الشغل إلا متى بلغ التلميذ السن التي يستطاع فيها استخدام بواعث مخصوصة بتلك السن؛ ليتسنى بذلك مقاومة الكراهية التي يحدثها الدرس مباشرة باللذة المستدعاة بالواسطة. فأما فيما سوى هذه من الملكات المنحطة عنها، تكون اللذة الناشئة من أعمال الذهن في تعاطي الدرس هي الحاث الصالح على تناول ذاك الدرس، بل هي مع إحكام النظام لا تحوج إلى حوادث خلافها، حتى إنه إذا انصرف المعلم عنها إلى غيرها، كان هذا دليلًا واضحًا على خطئه وتنكيبه عن الصراط المستقيم، ولا تزال التجارب تُخرج لنا كل يوم طريقة تحدث اللذة بل الابتهاج والجذل، ثم تجد سائر الأدلة قد أثبتت لنا أن هذه الطريقة هي الصالحة الصحيحة.
ولعل هذه القواعد المرشدة ستكون قليلة الإقناع عند أغلب الناس إذا تُركت على هذه الصورة النظرية؛ فلأجل بيان كيفية تطبيقها بالأمثال أولًا ولأجل إعطاء بعض الملاحظات الخصوصية المتعددة ثانيًا، نريد الآن أن ننتقل من نظريات التربية إلى عملياتها.
يجب أن يكون كتاب الهجاء مشتملًا على جميع أصوات اللغة، وهذه الأصوات ما يجب تعليمها في كل عائلة منذ أوائل الطفولة، فيجب أن يقوم الطفل الذي يقرأ كتاب الهجاء بتعليم هذه الأصوات للرضيع في مهده بكثرة التكرار، وإن كان الرضيع لما يستطع التفوه بالأصوات المذكورة حتى تنتقش على صحيفة ذهنه بكثرة التكرار.
فإذا أضفنا هذا القول إلى ما ذكر الأستاذ المذكور في بعض أقواله عن تربية الطفل؛ من أنه يجب على الأم أن تجعل أول دروس الرضيع تعليم الأسماء والمواضع والعلاقات والخواص ووظائف الأعضاء الظاهرة؛ وضح لنا جليًّا أن أفكار بستالوزي في التعليم العقلي الأولي هي أفكار غير ناضجة لم تمكنه من اكتشاف أصوب الطرق وأقومها؛ ولكي نجيد فهم هذا الموضوع دعنا نتأمل ما يقتضيه علم النفس في هذا المبحث.
إن أول ما ينطبع في ذهن الرضيع هي الإحساسات البسيطة (التي لا تتجزأ) الناشئة من الضوء والمقاومة والصوت، وهذا أمر طبيعي؛ وهو أن الإحساسات المركبة لا تحصل في الذهن قبل حصول الإحساسات البسيطة التي تؤلفها، فهذه الأشكال لا تحصل صورها في الذهن حتى يكتسب شيئًا من العلم بالضوء في خواصه ودرجاته وبالمقاومة في قواها المختلفة؛ لأنه من المعلوم أن الأشكال المنظورة إنما تدرَك بواسطة أنواع الضوء المختلفة والأشكال الملموسة بواسطة أنواع المقاومة، وكذلك الأصوات البيِّنة النطق الصحيحة المخرج لا تُعرف قبل معرفة الأصوات غير البيِّنة ولا الصحيحة المخرج التي تؤلفها، وكذلك في كل أمر آخر. وبناءً على هذه القاعدة وهي التدرج من البسيط إلى المركب، يجب أن نمد الطفل بوفرة من الأشياء المشتملة على أجناس المقاومة ودرجاتها المختلفة، وبوفرة من الأشياء العاكسة للضوء في صفاته ومقاديره المختلفة، وبوفرة من الأصوات المتباينة في الشدة والمادة؛ وأوضح دليل على أن غرائز الأطفال تثبت صحة هذه النتيجة؛ ما تراه من شدة سرور الطفل عندما يعض لعباته ويلمس أزرة أخيه اللامعة ويجذب شوارب أبيه. وكيف أن الأشياء البهيجة الألوان تستغرق ذهنه، وكيف يتلألأ وجهه سرورًا عند سماع ألفاظ المداعبة من مربيته أو طقطقة أصابع الضيف أو أي صوت لم يكن سمعه قبل. ولحسن الحظ ترى أن ما تتبعه المربيات مع الأطفال من الأعمال المعتادة تفي بجزء عظيم من حاجات التربية الأولية، على أنه لا تزال بعد أمور هامة تستوجب من الاهتمام أكثر مما يظن بادئ بدء، والملكات أثناء ذاك النشاط المنبعث من ذاته الذي يصحب زمن نشئها وارتقائها تكون أشد تأثرًا بالمؤثرات منها في أي زمن آخر. ولما كانت هذه المواد الأولية مما يلزم إتقانه، وبما أن إتقانها يستدعي زمنًا، أصبح من الاقتصاد في الزمن أن يُشغل الطور الأول من الطفولة في إجادة تحصيل هذه العناصر الأولية، لا سيما وأن هذا الطور لا يستطاع فيه سوى ذلك.
ولا يفوتنا أن في إنالة الطفل ما يطلبه ذهنه من الصور فائدة لصحته ومزاجه. ولولا ضيق المجال لحسن بنا أن نورد هنا بعض الإرشادات إلى أصح الطرق أن يُتبع في هذه التربية الأولية، ولكنه يكفي مع مراعاة قانون النشوء والارتقاء القاضي بالتدرج من الشيء غير المحصور إلى الشيء المحصور أن نقول إنه ينبغي لإنماء الملكات أن يبدأ بجعل الطفل يميز بين الأضداد ذات الفروق الواضحة الساطعة؛ فيبدأ بعرض الألوان الشديدة التباين والأصوات الشديدة الاختلاف في القوة والطبقة والمواد البعيدة البون في الصلابة والنسيج، ثم ينبغي بعد ذلك التباطؤ في التدرج من هذه إلى الأشياء التي هي أقرب شبهًا وأدنى نسبًا.
وإذا انتقلنا بعد ذلك إلى دروس الأشياء التي هي تكملة لتلك التربية الأولية، جدر بنا أن نلاحظ أن الخطة المتبعة في تعليم هذه الدروس هي مناقضة للخطة الطبيعية التي يستدعيها الطبع الإنساني سواء في الطفولة وما بعدها.
قال المستر مارسل: «يجب أن يعلم الطفل كيف أن أجزاء شيء ما يأتلف بعضها ببعض، ولكن دروس الأشياء تدرَّس للأطفال بمجرد القول؛ على أن من نظر إلى حياة الطفل اليومية، علِم أن كل ما يستفيده الطفل من المعلومات الخاصة بالأشياء يستفيده من ذات نفسه، وأن صفات الصلابة والثقل الخاصة ببعض المظاهر، واختصاص بعض الأشخاص بأشكال وألوان مخصوصة، وحدوث أصوات بعينها من حيوانات ذات أشكال معينة؛ كل هذه أشياء يستفيدها بنفسه. وكذلك في عصر الرجولة حينما تَفقد المعلمين ترى أن ما يستفيده الإنسان من المشاهدات والاستدلالات في كل حين للاهتداء والاسترشاد كله يُكتسب بلا معين ولا مساعد. وعلى قدر دقة هذه المشاهدات وصحة هاتيك الاستدلالات يكون سبق الإنسان في مضمار الحياة. وإذا كانت حياة الطفل والرجل تدل جليًّا على صحة هذا القانون الطبيعي، وهو أن المشاهدة هي أُس التعلم، فهل يصح بعد ذلك أن نسير على عكس ذلك في دور المراهقة أعني ما بين الطفولة والرجولة، فنعدل عن طريقة التعليم بالمشاهدة إلى طريقة التعليم بالإملاء والحفظ؟ أليس من الطبيعي أن نسير في جميع أدوار العمر على طريقة واحدة؟ ألا ترى أن الطبيعة لا تزال تذكرنا بطريقتها المثلى في كل آن وبرهة لو أن لنا عيونًا تبصر وعزائم تمضي؟ أي شيء أجلى من شغف الطفل بالانعطاف النفسي؟ فانظر إلى الطفل الصغير الذي تُجلسه على ركبتك كيف يقذف بلعبته في وجهك لتنظرها، وكيف إذا حك المنضدة بأصبعه المبلول فحدث لذلك صرير التفت وحدد إليك نظره، كأنما يقول لك: «اسمع هذا الصوت الجديد.» ثم انظر إلى كبار الأطفال إذ يدخلون على أمهاتهم، فيصيح أحدهم: «انظري يا أماه، ما أعجب ذلك الشيء!» «يا أماه أبصري ذلك!» وهي خصلة كان الأطفال يسترسلون فيها لولا حماقة الأمهات اللائي يعترضن تلك الطبيعة الحميدة بقولهن للطفل: «اسكت لا تشغلنا.»
ثم انظر كيف إذا خرج الطفل للنزهة مع مربيته انقلب إليها من حين إلى آخر يحمل الأزهار ليطلعها على نضارتها، ويحدو بها إلى أن تعترف معه بتلك النضارة والرونق. ثم انظر إلى الطفل كيف أنه إذا بهره منظر جديد انبرى يصِفَه، والألفاظ من حدة الشوق والقلق تتدفق من لسانه، لو أن هناك من أعاره أذنًا مصغية؟! أليست نتيجة ما نقول بيِّنة واضحة؟ ألم يتضح لنا وجوب اتباعنا هذه الغرائز العقلية؟ وأنه ليس علينا إلا تنسيق هذه الطريقة الطبيعية وتنظيمها، وأنه ينبغي لنا أن نصغي إلى كل ما يريد الطفل أن يذكره عن شيء ما، ثم نسوقه إلى أن يقول جميع ما يملي عليه الفكر بخصوص هذه الأشياء، ونلفت بصره أحيانًا إلى ما لم يكن رآه قبل بقصد تعويده على دقة النظر حتى يعود يُبصر الأشياء بلا إرشاد إليها. ثم انظر إلى الأم اللبيبة كيف تلقي على طفلها هذه الدروس الأولية، تجدها تعلمه مع التدريج أسماء الخواص البسيطة مثل الصلابة واللين واللون والطعم والحجم، ترَ الطفل يبذل الجهد في إعانتها على نجاح هذا الدرس، بأن يطبق أسماء هذه الصفات على الأجسام المشتملة عليها، فيغدو عليها بهذا الشيء قائلًا لها: هذا صلب، ويروح بذلك قائلًا: ذاك أحمر، وكلما لفتت نظره إلى صفة جديدة في شيء جديد ذكرتها بمناسبة الخواص التي تعلمها قبل، حتى يعُود الطفل بفضل قوة التقليد قد تَعوَّد سرد هذه الصفات متتابعة كأنها في نظام. وإذا عرضت عليه الشيء ليسرد خواصه فأغفل بعضها كانت فرصة لإدخال عملية السؤال، فتسأله: هل بقي هناك صفات لم يذكرها بعد؟ وربما عجز عن ذلك، فتتركه برهة في حيرة ثم تخبره بما أعيي عليه، فإذا تكرر هذا التمرين علم الطفل ماذا يعمل في مثل ذلك، حتى إذا عاد إليه بعد فقالت له الأم: «إني أعلم من خواص هذا الشيء فوق ما ذكرت»؛ تحركت في نفسه الأنفة والنخوة، وأنعم النظر في ذلك الشيء، وروأ في الأمر وأرهف الفكرة، فتَنْحَل له المسألة ويعرف ما أريد منه، ثم يمتلئ فرحًا بنجاحه وتشاركه الأم في فرحه.
وكذلك تفرح الأطفال كافة عندما يظهر لهم ما ينطوون عليه من القوى والملكات، فيرغب أحدهم في الازدياد من الظفر، ويذهب في طلب الأشياء ليذكر خواصها لأمه. وكلما تفتحت ملكاته أضافت الأم إلى ما عرفه من الخواص صفات جديدة متدرجة من الصلابة والطراوة إلى الخشونة والنعومة، ومن اللون إلى الصقال، ومن الأجسام البسيطة إلى المركبة، وكذلك تزيد الأم في تعقيد الأمر كلما زادت قوة الطفل، فتدأب في زيادة إجهاد ملكة التفاته وذاكرته، ولا يفوتها المحافظة على بقاء لذته ونشاطه، بأن لا تزال تعرض عليه المناظر والمؤثرات الجديدة مما يستطيعه ذهنه، وأن لا تزال تسره بالفوز على الصعائب الصغيرة التي لا تخرج عن طاقته، وهي في عملها ذلك لم تزد على اتباع حركة النفس، تلك الحركة المنبعثة بلا واسطة، التي لم تزل تجري منذ عهد الطفل بالحياة الدنيا، أعني أن الأم لم تزد على تأييد عملية النشوء والارتقاء، تأييدها على الصورة التي يقتضيها سلوك الطفل الغريزي.
ومحقق أن هذه الطريقة هي أجدر الطرق بتمكين عادة الملاحظة والنظر الواسع الذي هو الغرض المقصود من هذه الدروس، فإما أن تقول للطفل هذا الشيء وتريه ذلك، فما هو بتعليمه سعة النظر والملاحظة، وإنما هو جعله وعاء لملاحظات الغير، وتلك خطة مليئة بإضعاف القوى الخاصة بالتربية الذاتية (تعليم الإنسان نفسه) لا بتقوية هذه القوى، ومليئة لذلك أن تحرم الطفل ذلك السرور الناشئ من النشاط الظافر والعمل الفائز، وهي كذلك خطة تقدم للطفل المعارف اللذيذة الخلابة في صورة معلومات إملائية اعتيادية، فتحدث في نفس الطفل ذلك الملل والسآمة والبغض التي طالما تبديها الصبية تلقاء دروس الأشياء. فأما اتباع الخطة التي أسلفنا تفصيلها، فما هو إلا قيادة الذهن إلى غذائه الملائم، والجمع بين شهوات الذهن وبين الشيئين المجانسين لها، وهما الحب الصحيح والرغبة في التعاطف (تعاطف المعلم والتلميذ في الدرس)؛ حتى يحرز الطفل باجتماع هذه الثلاث الالتفات المتناهي في الشدة، مما يشحذ المدارك فتبلغ أقصى الكمال والحدة، ويعتاد الذهن من مبدأ أمره على مساعدة الذات التي لا بد له من الأخذ بها في مستقبل العمر.
والواجب في دروس الأشياء أن لا يقتصر على تغيير الطريقة المتبعة في تعليمها، بل أن يوسع كذلك نطاق الأشياء، ويمد في شأو تعليمها، فيجب أن لا تقصر الأشياء على محتويات المنزل، بل أن تشمل مع ذلك محتويات الحقول والمزارع والمحاجر والسواحل، ثم يجب أن لا تنقطع هذه الدروس مع طور الطفولة الأول، بل أن تستمر مع المراهقة حتى تندمج — في خفاء — مع مباحث العلم الطبيعي، وليس علينا في ذلك إلا اتباع الإرشادات الطبيعية.
أي سرور أعظم مما يجده الطفل لدى جمعه الأزهار الجديدة، ومراقبته الحشرات التي لم يكن نظرها من قبل، أو لدى خَزْنِه الحصى والأصداف؟ وأي الناس لا يعتقد أن المعلم يقدر بفضل مشاركته الطفل في سروره وعمله أن يمعن بذلك الصغير إلى حيث يشاء من درجات الفحص والتنقيب عن تراكيب هذه الأشياء وصفاتها؟ وكل عالم نباتي استصحب الأطفال في غدواته بين الغابات وروحاته، لا بد أن يكون قد شاهد فرط اهتمام الصبية بمشاركته في أبحاثه، وكيف أنهم يجدون في البحث عما يلتمسه من النبات، وكيف يبالغون في الالتفات إليه حينما يفحص هذه النباتات، وكيف يبهرونه بكثرة الأسئلة وكل تابع للمذهب الباكوني (نسبة إلى باكون رأس فلاسفة الإنكليز)، أعني كل خادم للطبيعة صادق ومفسر لأسرارها يقول بوجوب اتباع الخطة السالفة الذكر، ومتى عرف الطفل الخواص البسيطة للأجسام، وجب حينئذ أن يُساق إلى خبرة الأشياء التي يصادفها في غدوه ورواحه؛ ليقف على خواصها الدقيقة الغامضة؛ لأن ما يبدو في هذه الأشياء لأول وهلة، إنما هي الخواص البسيطة الظاهرة مثل ألوان أطباق الزهر وعددها وأشكالها وأشكال العيدان والورق هذا في النبات، أما في الحشرات فمثل الأجنحة والأرجل والقرون وألوانها، فإذا عرفت هذه قدم للطفل ما وراءها من الحقائق، أعني دقائق النبات والحشرات ودخائلها وغامض خواصها، ويكون مرمى هذه الخطة هو إغراء الطفل بأن يطمح أبدًا إلى استغراق وصف ما يحاول وصفه حتى لا يترك فيه مقالًا لقائل.
ونحن ننتظر أن نسمع من أناس كثيرين قولهم: «إن هذا مضيعة للوقت والجهد، وإنه أولى للأطفال أن تشتغل بنقل المكتوبات وحفظها؛ حتى يرشحوا بذلك أنفسهم لأعمال الحياة.» ثم نأسف لشيوع هذه الأفكار الفجة والآراء السقيمة. ومع سكوتنا عن تبيين شدة الحاجة إلى تربية المدارك على نسق منظم وعظم قيمة التمرينات السالفة الذكر بصفتها أسباب لقضاء هذه الحاجة، فإنَّا مستعدون أن نثبت فضلها من وجهة المعلومات المستفادة منها. فإذا كان الغرض أن لا تكون الناس إلا جماعة يقضون الساعات بالنظر في الدفاتر لا تتجاوز أفكارهم ما يحترفون به من المهن والصناعات، وكان لا يراد بهم إلا أن يكونوا مثل الرجل الذي لا تتعدى ملاذه الجلوس في إحدى الحدائق يدخن ويشرب النبيذ، أو مثل صاحب المزارع الذي لا يعرف عن الغابات إلا أنها أماكن للصيد والقنص، والذي أكبر مزاياه أنه يعرف تقسيم الحيوان إلى صيد ومواشٍ وهوام — إذا كان ذلك فلا حاجة إلى تعلم شيء لا يعين على زكاء الغرس وامتلاء المخازن، أما إذا كان هناك غرض أشرف من جعلنا آلات عمالة، إذا كان للأشياء المحيطة بنا فوائد خلاف فضلها في جلب المال، وإذا كان للإنسان ملكات أرقى من الملكات الحسية والاكتسابية، وإذا كانت الملاذ الناتجة من الشعر والفنون الجميلة والعلوم والفلسفة لها أقل قيمة، إذا كان كل ذلك وجب أن تنشط في الطفل تلك الرغبة الغريزية الباعثة له على اجتلاء محاسن الطبيعة وفحص مظاهرها، ولكن هؤلاء الماديين الذين يكفيهم أن يخرج أحدهم إلى هذه الدنيا ثم يتركها دون أن يعرف ماهيتها أو محتوياتها؛ ليسوا من الحق على شيء، وسيعلم الناس أن العلم بقوانين الحياة مفضل على كل علم غيره، وأن قوانين الحياة هي أُس الحركات الجسمية والعقلية، بل أُس جميع الأعمال المنزلية والتجارية والسياسية والأخلاقية، وأن هذه القوانين ضرورية لتنظيم السلوك الشخصي والاجتماعي. وسيرى الناس أن جوهر هذه القوانين واحد في جميع العالم الحيوي، وأنه لا يمكن معرفتها في مظاهرها المختلطة حتى تدرس في مظاهرها البسيطة، ومتى ثبت ذلك ثبت أيضًا أن ما نبذله من إعانة الطفل على تحصيل المعلومات الخاصة بما يخرج عن منزله مما يولع به الطفل، وما نبذله كذلك من تشجيعه على اقتناء هذه المعلومات عينها أثناء الشبيبة؛ إنما هو إغراء له بأن يخزن في ذهنه المواد التي تكون له في المستقبل خير ذخر ينتفع به في الاستنتاجات العلمية التي يسترشد بها في جميع أعماله.
وما ينتشر الآن من اعتراف الناس بفائدة فن الرسم في التربية، إنما هو أحد الشواهد الدالة على تحسن الآراء فيما يتعلق بالتربية العقلية، وليس المعلمون في ذلك إلا عاملين بما لم تزل تأمر به الطبيعة وتحث عليه، وكلنا يعرف ما لا تبرح الأطفال تأتيه من رسمهم صور الرجال والمنازل والأشجار والحيوانات مما يحيط بهم، ومن تصفحهم الكتب المملوءة بالصور الذي هو من أكبر لذاتهم، ثم تحملهم غريزة التقليد على الطمع في إحداث مثل هذه الصور، ثم جهدهم في تمييز ما يرونه من الأشياء العجيبة، إنما هو تمرين غريزي للمدارك وواسطة إلى إبلاغها في الدقة والقوَّة درجة أعلى.
ولو أن المدرسين ينقادون لإرشادات الطبيعة في اختيار أحسن الطرق لتعليم فن الرسم؛ لكانوا أحسن صنعًا، أي الأشياء يبدأ الطفل بتمثيلها؟ هي الأشياء الجسيمة والخلابة بجمال لونها؛ هي الأشياء التي تتعلق بها لذائذه وشئونه مثل الآدميين الذين استفاد منهم جملة إحساسات وعواطف، ومثل البقر والكلاب التي تلذه منها مظاهرها المختلفة، ومثل المنازل التي لا يبرح يراها والتي تدهشه بحجمها وتباين أجزائها.
ثم في أي عمليات الرسم يكون أعظم التذاذه؟ في التلوين. وقد يقنع الطفل بالقلم الرصاص إذا أعوزته الألوان، فأما إذا رزقه الله صندوق الصبغات وفرشة الصبغ؛ فذلك الكنز الأنفس والذخر الأثمن. وليس رسم الشكل في نظر الطفل إلا أمرًا ثانويًّا، فهو لا يفعله إلَّا ليكون سلمًا إلى الأمر الأهم أعني التلوين، ولا يرى الطفل نعمة أعظم من تكليفه تلوين جملة من الحروف، على أن هذه الطريقة (أعني الابتداء مع الطفل بالتلوين) مهما خطأها مدرسو الرسم الذين يبدءون بترسيم الخطوط، أقول: هذه الطريقة هي الطريقة المثلى لانطباقها على القوانين البسيكولوجية (قوانين علم النفس). وكان الواجب أن يجعل ذاك الشغف بالألوان الذي يبدو في الأطفال، ولا يزال يصحب الكثير منهم طول أعمارهم واسطة لحث التلاميذ على رسم الأشكال الصعبة وغير المألوفة حتى يجيدوا نقلها، فتكون لذة التلوين المكافأة المستقبلة على ما يتجشم التلميذ من عناء التخطيط، ولا يصح أن تكون إساءة الطفل في رسم الأشكال وقلة دقتها سببًا إلى إنكارنا ما جُبل عليه من المواهب الإلهية، وليس الأمر هو هل يجيد الطفل الرسم، ولكن الأمر هو هل تنمو فيه ملكاته، وأول الأشياء هو أن يكتسب الطفل بعض الاقتدار على أصابعه وشيئًا من معرفة التشابه. والتمرين الذي ذكرناه آنفًا هو أقوم السبل إلى بلوغ ذلك، بما أنه مما يأتيه الطفل عفوًا واجدًا فيه لذة كبيرة.
ومعلوم أنه في أوائل الطفولة لا يمكن أن تكون هناك للرسم دروس رسمية، فهل يكون ذلك سببًا إلى أن نقمع في الطفل ما يبذل من الجهد لتعليم نفسه، أو نسكت عن تأييد ذلك الجهد وتعضيده؟ كلَّا، بل يلزمنا عكس ذلك. ولو أننا أعطينا الأطفال قطعًا صغيرة من الخشب ليصبغوها، وخرطًا بسيطة ليلونوا حدودها، لم يكن هذا التمرين قاصرًا على إنماء ملكة التلوين، بل تعدى إلى إفادة الأطفال بعض العلم بأشكال الأشياء والبلاد، وبعض القدرة على إجادة تحريك الفرشة، ولو استعنا بواسطة الأشكال الخلابة على تقوية غريزة الرسم في الأطفال، مهما أساءوا في نقل هذه الأشكال؛ لنتج عن ذلك أنهم متى بلغوا السن التي تُلقى فيه دروس الرسم وجدت لهم ملكة لم تكن لتوجد لولا ذلك، ولأفاد ذلك اقتصادًا في الوقت، ورفع كثيرًا من المئونة عن عاتق المعلم والتلميذ.
-
الخط البسيط في الرسم هو علامة تمد بين نقطتين.
-
الخطوط بالنسبة لنوعها في الرسم تنقسم إلى قسمين:
- (١)
مستقيمة وهي أقرب الأبعاد بين نقطتين مثل أ ب.
- (٢)
ومنحنية وهي علامات ليست بأقرب الأبعاد بين النقطتين.
- (١)
ثم يتلو هذا ذكر الخطوط الأفقية والعمودية والمائلة والزوايا المختلفة الأصناف والأشكال المتنوعة التي تؤلف من الخطوط والزوايا. وقصارى القول: أن الكتاب المذكور لا يخرج عن كونه «أجرومية أشكال مع التمرينات». وبذلك تكون طريقة الابتداء بتحليل العناصر التي نبذناها في تعليم اللغات قد رجع إليها في تعليم الرسم، فنكون قد اتبعنا طريقة الابتداء بالمعين بدل اتباعنا طريقة البدء بغير المعين، وعوَّلنا على خطة تقديم المعقول على المحسوس والأفكار على التجارب، وكون هذا عكس للترتيب الصحيح هو ما لا يحتاج إلى تكرار. وقد قيل بمناسبة العادة المتبَعة وهي البدء قبل تعليم لغة ما بتدريس أجزاء الكلام ووظائفها: أنها مثل البدء قبل تعليم المشي بإعطاء الطفل سلسلة دروس عن أعصاب الساق وعضلاتها وعظامها، وهذا كذلك مثل افتتاح صناعة الرسم بتعاريف الخطوط، مما لا يوصل إليه إلا بعد تحليل الأشكال المراد رسمها، وهذه الاصطلاحات بغيضة غير لازمة، وهي تبغِّض الفن إلى التلميذ من مبدأ الاشتغال. ومن العجب أن المدرسين يسلكون هذه الطريقة المنكرة بقصد تعليم التلميذ ما سوف يستفيده مع المزاولة من حيث لا يشعر، وكما أن الطفل يستفيد معاني الألفاظ عفوًا مما يدور حوله من المحادثات دون أن يستعين بالمعاجم، كذلك يستفيد في لذة وهينة مما يسمع من الملحوظات المبداة عن الأشياء والصور وعن مرسوماته نفسه. تلك الاصطلاحات العلمية التي لو أعطيت له بادئ بدء كابد منها لغزًا عويصًا مضجرًا.
وإذا كانت قواعد التعليم العامة التي وضعت مما يعوَّل عليه أقل تعويل؛ وجب أن نجعل تعليم الرسم شفعًا لتلك المجاهيد التي يبذلها الطفل الصغير في نقل الأشكال، والتي ذكرنا أنها جديرة بالتأييد والتشجيع، ومتى أفلح ذلك التمرين الاختياري في إفادة الطفل شيئًا من مهارة الكف ومعرفة التناسب، قام في ذهنه — ولو على وجه الإبهام — فكرة عن صور الأجسام كما تبدو في المنظور بأبعادها الثلاثة، ومتى أمكن الطفل بعد المحاولات العديدة أن ينقل الصور على القرطاس، وإن لم يفُق في ذلك أطفال الصين الذين يُضرب بهم المثل في سوء الصنعة، أقول متى كان ذلك؛ حسن بنا أن نلقن الطفل حينئذ درسًا ابتدائيًّا في رسم المنظور بواسطة الأدوات المعدة لذلك. وربما أزعج قولي هذا بعض الناس، ولكن ذلك الدرس مما لا يخرج عن طاقة الطفل العادي الذهن، وذلك أن يقام أمام الطفل على المنضدة لوح من الزجاج، ثم يُجعل من وراء هذا اللوح شيء ما، ثم يُسأل التلميذ أن يثبِّت بصره فيما وراء الزجاج، ثم يُنقط بالحبر على اللوح المذكور نقطًا تقابل أو تخفي أركان الشيء المنظور، ويُسأل عقب ذلك أن يصل بين هذه النقط بالخطوط، ليرى أن الخطوط الممدودة ستُخفي أو تنطبق على حدود الشيء المذكور، فإذا جُعل على ظهر اللوح قرطاس من الورق، اتضح للطفل أن الخطوط التي مدها تمثل الشيء الذي أبصره من وراء الزجاج، وليس أمر هذه الخطوط قاصرًا على كونها تشابه حدود الشيء، بل إن الطفل ليوقن بذلك التماثل؛ لأنه طبق الخطوط بيده على الحدود المذكورة، بل إنه ليؤكد لنفسه صحة ذلك إذا رفع القرطاس فاتحدت الخطوط والحدود؛ ثم يكون لذلك في نفسه موقع جديد مدهش، هذا خلاف استفادته هذه الفائدة الآتية؛ وهي أن الخطوط المرسومة على سطح ما بأطوال واتجاهات مخصوصة، قد تمثل خطوطًا أخرى كائنة في الفراغ ذات أطوال واتجاهات أخرى، فإذا نُقل الشيء عن مكانه بالتدريج، نبه الطفل إلى أن يرى كيف أن بعض الخطوط تقصر حتى تخفى عن العيان، وبعضها يظهر للعيان ويتطاول.
وليس ذلك كل ما في الأمر، بل إن في أمثال هذا التمرين فرصة لتنبيه الطفل من حين لآخر إلى تقارب الخطوط المتوازية، وإلى سائر الحقائق الرئيسة في فن المنظور، فإذا كان ممن عُوِّدوا الاعتماد على النفس، ثم اقتُرح عليه أن يرسم الشيء دون الاستعانة بالزجاج، فرِح بالاقتراح، وأشرق له ونشط في رسم الشيء بالنظر وحده. وهكذا يجعل من الأغراض الهامة أن يحدث الطفل دون مساعدة البتة صورة للشيء تماثل ما أحدث على الزجاج، وهكذا تجتمع له بالتدريج ملكة المشاهدة، ويعتاد رسم المرئيات بهذه الطريقة السهلة الجذابة الحسية المنطبقة على العقل التي تكفيه شر الطريقة المزرية بالفهم، أعني طريقة الرسم نقلًا عن المرسومات. وزد على هذه الفوائد أن الطفل يتعلم بهذه الطريقة من حيث لا يشعر حقيقة الصور وماهيتها، (وهي أنها رسوم للأشياء كما تبدو حالة ظهورها على مستوً يمتد بينها وبين العين)، فإذا بلغ الطفل السن التي يكون فيها أهلًا للبدء في فن المنظور العلمي، كان قد أحاط علمًا بقواعد هذا الفن من الحقائق.
جرت العادة في تربية الأطفال باستعمال المكعبات عند تعليم الحساب، فلتستعمل كذلك في تلقيه مبادئ الهندسة؛ لأن هذه المكعبات صلبة ملموسة، فهي تكفينا مئونة التعريفات السخيفة والإيضاحات المتعلقة بالنقط والخطوط والسطوح التي لم تخرج عن كونها معانٍ مجردة يعجز عنها ذهن الطفل. والمكعب فضلًا عن كونه يمثل من مبادئ الهندسة عددًا وفيرًا مثل النقط والخطوط المستقيمة والمتوازية والزوايا … إلخ إلخ، فإنه قابل للتجزؤ إلى أجزاء مختلفة، وقد عرف الطفل هذه الأجزاء في الأعداد، فيسهل الآن عليه الآن أن يقارن بين أقسامها المتعددة وبين العلاقات الكائنة بين تلك الأقسام، ومن ثم ينتقل إلى الكرات التي يستمد منها معرفة الدائرة والمنحنيات عمومًا … إلخ إلخ.
ومتى أصبح للطفل بعض التضلع من معرفة الأجسام، جاز أن ينتقل إلى السطوح، وقد يمكن أن يجعل هذا الانتقال سهلًا جدًّا، وذلك أن يجزأ المكعب إلى طبقات رقيقة توضع على قرطاس، فيرى الطفل من المستطيلات السطحية عدد ما هنالك من الأجزاء، ثم تطبَّق هذه الطريقة على الكُرات، وبذلك يمكن الطفل أن يبصر كيف تتكوَّن السطوح، فيسهل عليه تصورها في أيما جسم.
بذلك يكون الطفل قد اكتسب هجاء الهندسة وقراءتها، فينتقل حينذاك إلى كتابتها.
وأسهل الطرق — وأحكمها لذلك — هو أن توضع هذه المسطحات على الورق، ثم يُسأل التلميذ أن يطوف بالقلم حواليها، فإذا تُكرر ذلك فلتوضع المسطحات على مقربة من الطفل، ثم يُسأل أن يرسمها بالنظر على الورق. انتهى كلام المستر وايز.
ومتى توفر عند الطفل — بفضل ما يماثل طريقة المستر وايز — ذخر وافر من الأفكار الهندسية، أمكننا أن نتقدم بالطفل خطوة بتمرينه على قياس الأشكال المرسومة بالعين اختبارًا لصحتها، وبذلك نبعث في الطفل الحرص الشديد على مراعاة الدقة في رسم تلك الأشكال، مع تنبيهه إلى أن هذه الدقة من أصعب الأشياء وأوعرها.
ولا شك أن الهندسة (كما يفهم من منطوق اللفظة) مما يرجع أصله إلى الطرق التي كان يوجدها الصناع وغيرهم لقياس قواعد المباني ومساحات الأماكن وما شاكلها، فلم يكن هناك باعث على كنز حقائق هذا العلم إلا فوائدها المادية؛ لذلك وجب أن يجعل اشتغال الطفل بهذه الحقائق الهندسية بناءً على ظروف تشابه تلك التي كانت داعية الجنس البشري إلى مزاولة ذلك الفن، أعني أن يُترك الطفل في الأحيان وحده إلى الورق المقوى الذي أعده لبناء المنازل الورقية، وإلى الصبغ التي هيأها لرسم الزخارف، وإلى شتى الأشغال النافعة التي يسوقها إليها الأستاذ المتفنن، أقول يُترك الطفل وحده إلى كل هذا ليسعى سعيه ويكدح كدحه، كما يفعل البنَّاء المجتهد حتى يعرف مقدار ما يكابد الإنسان من المشقة في إنجاز الأعمال، قاصرًا اعتماده على حواسه المجردة، ثم متى بلغ الطفل بعد رياضة حواسه السن الجديرة بأن يستعمل فيها آلة البركار (البرجل) لم يزل مع سروره بهذه الآلة المحققة لاجتهاداته البصرية معوقًا عن بلوغه منتهى الدقة بعدم توفر سائر الآلات الهندسية، وخير له أن يُترك على هذه الحالة مدة معينة لسببين؛ أحدهما: أنه لما يبلغ السن الجديرة بما هو أرقى مما ناله. ثانيهما: أنه من المستحسن أنه يشعر بازدياد حاجته إلى الوسائل النظامية، وإذا أريد أن لا يزال اكتساب المعارف مصحوبًا باللذة، وإذا كانت أكبر مزايا العلم في أوائل الرقي البشري كما في أوائل الرقي الطفلي هي خدمته للصناعة؛ ظهر جليًّا أن خير المقدمات للهندسة هي طول التمرن على ما بيناه من تلك العمليات النافعة، التي ستسهل جدًّا بفضل الهندسة فيما بعد. ثم لاحظ أن الطبيعة ترشدنا هنا كذلك إلى المنهج القويم، وحسبك دليلًا على ذلك شدة ولع الأطفال بتقطيع الأوراق قصد البناء والتصوير، وهو ولع لو عني بتقويته في الطفل وتوجيهه إلى المقصد الصحيح؛ لم يقتصر على تمهيده السبيل إلى الأفكار العلمية، حتى يفيد التلميذ كذلك من خفة اليد ما هو مفقود عند أغلب الناس.
فإذا بلغت ملكات الملاحظة والاختراع الحد المقصود، انتقل التلميذ إلى الهندسة المتعلقة بالحلول النظامية، فيتلقى دروسها بغير براهين، ثم يجب أن يكون هذا الانتقال كسائر الانتقالات التعليمية مبنيًّا على المناسبة مع المحافظة على علاقة الهندسة المذكورة بالصناعة البنائية (أعني ما يشتغل بها الأطفال، إذ يبنون من الورق وخلافه بيوتًا وأمثلةً لأشياء مختلفة)، فترى في إعطائك الطفل الشكل ذا المثلثات تصنعه له من الورق المقوى وتكليفك إياه أن يصوِّر مثاله مزيتين؛ الأولى: أن هذه عملية لاذَّة، والثانية: أنها فاتحة صالحة. فيجد الطفل حين يحاول ذلك أنه يلزمه أن يرسم أربعة مثلثات متساويات الأضلاع مرتبة في مواضع معينة، ولما كان لإعواز الطريقة المحكمة يعجز عن إنجاز هذه العملية بالدقة، ظهر له بوضع المثلثات في مواضعها المخصوصة، أنه لا يقدر أن يلائم بين أضلاعها، وأن زواياها لا تجتمع في رأس واحد، حينذاك يبين له كيف أنه يستطاع برسم دائرتين أن يُحكم رسم هذه المثلثات بلا تخمين، ثم ما أخلق الطفل بعد ما صادف من الخيبة أن يعرف قيمة هذه الفائدة الجديدة. وبعد إعانته على حل أول مسألة بقصد تفهيمه ماهية الطرق الهندسية، يُترك وشأنه لممارسة ما يُعرض عليه من المسائل وحلها جهد استطاعته، فليس على الطفل إلا قليل من الصبر والأناة حتى يقدر على المسائل الآتية: وهي تنصيف الخطوط والزوايا ورسم المتوازيات والأشكال العديدة الأضلاع وما شاكلها. ثم يسار به تدريجيًّا من هذه إلى ما هو أصعب وأشكل. ولو كان من المعلم بعض الحذق في إرشاد الطفل وتدبيره، لاستطاع الأخير أن يهتدي وحده في مغامض هذه المسائل، وعسى أن كثيرًا من الذين تخرَّجوا على النظام القديم يتلقون كلامنا هذا بالريبة والشك، على أن أقوالنا مبنية على حقائق ليست بالقليلة ولا بالخاصة.
وقد رأينا من الصبية من وجد في حل تلك المسائل من اللذة ما جعله ينتظر درس الهندسة، كأنه أشهر حوادث الأسبوع. وقد سمعنا أثناء الشهر الماضي عن إحدى مدارس البنات أن بعض فتياتها يتبرعن بجزء من وقت فراغهنَّ لحل المسائل الهندسية. وجاءنا عن مدرسة أخرى أن بناتها فضلًا عن ذلك قد أصبحت إحداهنَّ تنشد الناس شيئًا من المسائل الهندسية؛ لتقضي في حله أيام الفسحة. نذكر هذين الخبرين على مسئولية مدرسي هذين المدرستين، وهما برهان دامغ على إمكان التربية الذاتية وعظم فوائدها. وهكذا يصبح أحد فروع المعارف الذي نجده مع التعليم الاعتيادي يابسًا بل كريهًا؛ يصبح باتباع الطريقة الطبيعية لاذًّا عظيم الفائدة. نقول عظيم الفائدة؛ لأن النتائج ليست قاصرة على اكتساب الحقائق الهندسية، بل هي في الغالب تُحدث تغيرًا كبيرًا في العقل، وقد حدث مرارًا أن من كان قد بلَّد ذهنَه التمريناتُ المدرسية المعتادة بقواعدها الفكرية وواجباتها العسيرة واستظهاره المحفوظات، أقول من كان قد بلَّد ذهنه ثم أنقذه الحظ من أنه يكون وعاء يتلقى كل ما يفرغ فيه، واعتاض من هذه الحالة السيئة التنقيب والاكتشاف؛ كان في ذلك إيقاظ لذهنه وتهييج. فمتى أفلحت الصلة والألفة (بين التلميذ والمعلم) في تخفيف تلك الهيبة والثبوط اللذين يحدثان من سوء التعليم، وقام عند التلميذ من المثابرة ما يكفي لحل مسألة واحدة؛ نشأ في الصبي من تحول الشعور ما يؤثر في جميع طبعه، حتى يعود التلميذ قد وثق بنفسه، وعلم أنه يمكنه كغيره أن يعمل عملًا. وكلما تتابعت مناجحه اضمحل كابوس اليأس، حتى يلقى مصاعب سائر الدروس ببأس شديد ضامن للنجاح.
نيط بي سالفًا تعليم العلوم الرياضية، فوجدت أن في تلقين مؤلفات إقليدس والهندسة القديمة على العموم ما يجذب أذهان الطلبة، ويحلو في نفوسهم. ولكني كثيرًا ما كنت ألفت الصبية عن محتويات الكتاب، وأعمد إلى ملكاتهم في مزاولة ما لم يتضمنه صفحاته، وكان هذا التنكيب عن الطريق المضروب يُحدث في أول الأمر نفورًا عند التلاميذ، حتى تبدو على أحدهم دهشة الطفل وسط القوم الأجانب، على أنه نفور لا يلبث أن يزول، فإذا بلغ الثبوط من التلميذ منتهاه شجعته بما يُنقل عن العالم الكبير نيوتون، إذ يقول: إنه لا فرق بينه وبين غيره من الناس إلا الصبر والأناة، أو ما يُنقل عن ميرابو إذ يأمر خادمه وقد نسب الاستحالة إلى أحد الأشياء؛ أنه لا يعود البتة إلى ذكر الكلمة السخيفة، فإذا بعث هذا الكلام في فؤاده الروح والأنس وفي جنانه الثقة والعزم، عاد إلى عمله باسم الثغر متهلل الجبين، وهي طلاقة وإن كانت لا تخلو من شائبة الشك، إلا أنها دلالة على ثبات العزيمة وصحة النية على مزاولة العمل. حينئذ كنت أبصر الصبي قد توقدت عيناه فرحًا، وانقلب إليَّ وبه من الحبرة والابتهاج ما يقارب تلك الأريحية التي كانت تأخذ العالِم أرشميدس لدى اكتشافه الحقائق، ثم يصيح الغلام بي قائلًا: «سيدي لقد حللت المسألة»، فأعظم بقيمة ما كان يهبُّ حينذاك في نفس الغلام من الثقة بالنفس! التي متى انبعثت في مجموع التلاميذ ودبت في نفوسهم، خطوا في سبيل الدراسة خطوة شاسعة مدهشة، وكان من عادتي أن أخبر التلاميذ بين مزاولة قضايا الكتاب وبين معالجة ما هو خارج عنه، فلم يكن منهم مطلقًا أنهم فضلوا قضايا الكتاب. وكنت لا أبرح أمد لهم يد المساعدة، ولكنهم لم يبرحوا يردون تلك اليد الممدودة. كيف وقد ذاق الصبية حلاوات الظفر الذهني؟! فهم لا ينفكون يبغون من ذلك الزيادة. وطالما نظرت الحيطان منقوشة برسومهم، والعمدان إلى غير ذلك مما يدل على شدة شغفهم بذلك الفن، كل هذا وأنا من حيث ما يسمونه قواعد البيداجوجيا (علم التربية) فارغ الوعاء لا أعلم شيئًا مطلقًا، ولكني أخذت بالقوانين الطبيعية، واجتهدت أن أجعل الهندسة من وسائل التربية لا من فروعها، وقد توَّج الله عملي هذا بالفلاح، وكان من أسعد أوقاتي تلك الساعات التي كنت أقضيها في هذه الدروس أرقب فيها تفتح أذهان الصبية ونماءها. انتهى كلام الأستاذ تندال.
ويحسن الآن بنا أن نضيف بعض كلمات بخصوص هذين المبدأين الكبيرين؛ أهم مبادئ التربية وأقلها نصيبًا من العناية والالتفات، أعني مبدأ كون التعليم يجب أن يكون في جميع أدوار العمر تعليمًا ذاتيًّا؛ أي إن التلميذ يكون أستاذ نفسه، ولا يكون المعلم إلا دليلًا. ومبدأ أن تكون حركة الذهن أثناء التعليم لاذة دائمًا، وإذا كانت قواعد البسيكولوجية (علم النفس) تقضي بأن يتدرَّج المعلم من البسيط إلى المختلط، ومن غير المحصور إلى المحصور، ومن الذاتي إلى المعنوي، أصبح المبدآن اللذان هما؛ كون التعليم ذاتيًّا وكونه كذلك لاذًّا معيارين يُعرف بهما أيعمل بأحكام البسيكولوجيا أم هذه الأحكام لا تُتبع. وحقًّا إذا كانت هذه القواعد أعني التدرُّج من البسيط إلى المختلط، ومن الذاتي إلى المعنوي، ومن غير المحصور إلى المحصور، إذا كانت هذه هي أهم أحكام علم «النماء العقلي»، فإن المبدأين السالفي الذكر؛ أعني كون التعليم ذاتيًّا وكونه لاذًّا؛ هما أهم أحكام «صناعة إحداث النماء العقلي»؛ لأنه إذا كانت طبقات الدراسة مدرَّجة بحيث لا تحوج أو لا تكاد تحوج التلميذ في صعودها إلى مساعدة الغير، فلا بد أن تكون هذه الطبقات الدراسية مطابقة لطبقات النماء الذهني، وكذلك إذا كان تدرُّج التلميذ في هذه الطبقات مصحوبًا باللذة، نتج أن هذا التدرُّج لا يكلف ذهنه من العمل إلا المقدار الصالح الموافق.
هذا وإن في جعل التربية عملية نماء ذاتي فوائد أخرى خلاف صحة ترتيب الدروس؛ أولها: أن هذه الطريقة تجعل لآثار التعليم في الذهن من التمكن والوضوح ما يضمن لها البقاء، وهذا ما لا تفيده الطرق الاعتيادية. فكل فائدة يستفيدها التلميذ بنفسه، وكل مسألة يحلها بذاته، يصبح لها أكثر ملكية مما لو كانت أتته بطريق آخر، ثم يكون من النشاط الذهني الذي يستلزمه النجاح في استفادة المعارف وحل المسائل، ومن استجماع الذهن الذي هو كذلك من شروط ذلك النجاح، ومن الطرب الناشئ عن النجاح المذكور، يكون من كل هذه ما يسجل الحقائق في ذاكرة التلميذ بكيفية لا يستطيعها مجرد سماع المعلومات من أفواه المعلمين أو أخذها من بطون الكتب وأجواف الكراسات، بل لو خاب التلميذ في عمله لكان فيما وصلت إليه الملكات بالكد والجهد من فرط الحدة واليقظة ما يثبت الجواب — عند إعطائه — في الذاكرة تثبيتًا لا يفي به كثرة التكرار مع عدم إجهاد الملكات. ثم اذكر أن هذه الطريقة تستوجب استمرار تنظيم المعارف المكتسبة، وأن الحقائق والنتائج المستفادة على هذه الصورة تكون من طبعها مقدمات لنتائج مستأنفة، أعني وسائل لحل مسائل جديدة، حتى يكون حل مسألة الأمس عاملًا في تحصيل مسألة اليوم. وبذلك تتحول المعلومات لأول دخولها في الذهن إلى غذاء يذهب في تكوين الملكات وإنمائها، فتكون هذه المعلومات في الحقيقة عوامل للتفكير، وليست مجرد سطور مخطوطة على صحيفة الذاكرة، كما هي الحالة في طريقة الاستظهار (الحفظ غيبًا). ثم اذكر أيضًا ما تستدعي هذه الطريقة؛ طريقة التعليم الذاتي من التربية الأخلاقية، هذه الخطة التي تحمل الذهن على الكد في طلب غذائه توَلد عند التلميذ الجرأة على اقتحام العقبات، واستجماع الذهن في صبر وأناة، والمثابرة رغمًا من الخيبة والإخفاق، وهذه صفات يحتاج إليها مستقبل حياة التلميذ.
ولنا كلمة كذلك عن المبدأ الثاني، أعني كون طريقة التعليم يجب أن تبعث في التلميذ نشاطًا لاذًّا، ليست لذته لحسن نتائجه؛ بل لكونه نشاطًا صالحًا صحيحًا في ذاته، واتباعنا هذا المبدأ فضلًا عن منعه إيانا من الإخلال بالرقي الطبيعي للذهن، ترى له كذلك فوائد كبيرة. فإنه ما دمنا لا نعود إلى الآداب القاضية على التلميذ بالحرمان والزهد — هذه الآداب التي هي أجدر أن تسمى قِلة آداب — ما دمنا لا نعود إلى ذلك كانت موالاة اللذة للتلميذ في ذاتها من أكرم المقاصد وأشرف الأغراض. وحقًّا إن الشعور اللاذ لأحث لحركة الذهن وأنهض لنشاطه من شعور الفتور أو الكراهية، وليس أحد إلا ويعلم أن كل ما لذ للإنسان قراءته أو سماعه أو رؤيته كان أعلق بالذاكرة مما يكره على رؤيته أو سماعه أو قراءته، فإن الملكات في حالة اللذة تنشط إلى ما يُعرض عليها وتخف له، أما في حالة الاستكراه فإنها تباشر الدرس في كسل وفتور. بيد أن الذهن يكون نهبًا للهواجس الخالبة وغنيمة للخواطر الجاذبة. ثم أضف إلى ذلك ما يوجده الدرس الكريه عند التلميذ من خوفه ما عساه يحدث من الشر والأذى لعجزه عن إتقانه وإجادة فهمه، فيطير ذهنه من ذلك الخوف شعاعًا، وتتضاعف بذلك وعورة الدرس ويزداد بعدًا على المدارك؛ ينتج من هذا أنه على قدر لذة الدرس يكون فلاح التعليم، بشرط أن تتبع سائر المبادئ التعليمية الصحيحة.
وليذكر الناس كذلك أن لِلذاذة الدرس أو لكراهته نتائج أخلاقية خطيرة، والذي يقارن بين وجهي التلميذين — المتلذذ بالدرس الرائق الشائق والمتأفف من الدرس البغيض الممقوت يزيد ألمه العجز والوعيد والعقاب — أقول من قارن بين وجهي هذين وحاليهما، حكم بأن طباع الأول تنعم وتصلح وطباع الثاني تشقي وتفسد. وكل من لاحظ ما للنجاح أو للخيبة من التأثير في الذهن، وما للذهن على البدن من السلطان؛ أبصر أن في حالة اللذة والنجاح خيرًا وفائدة للمزاج والصحة، وفي عكس ذلك خطرًا من الكآبة الدائمة والجبن المستمر، بل خطرًا من ضعف في البدن مزمن ووهن لازم. وثم نتيجة أخرى لكراهة الدرس عظيمة الأذى وهي أن علاقة التلميذ بالمعلم — بعد توفر أسباب التعليم الأخرى — تكون ودية نافعة أو عدائية ضارة على حسب لذة الدرس أو بشاعته، والإنسان بطبيعته يتأثر بما تورده عليه الذكرى من الأفكار المتسلسلة المصطحبة، أو كما يقول الفلاسفة: الإنسان خاضع لقانون اصطحاب الأفكار وتسلسل الخواطر، فالمؤدب الذي يتولى عذاب الصبية لا يخمد له في قلوبهم لهيب البغضاء، والذي يتولى إعانتهم وقضاء حاجاتهم وتمهيد سبلهم وتذليل عقباتهم والفرح بفلاحهم ذلك خليق منهم بالألفة والحب، ولا يخفى ما للألفة من حسن التأثير في سياسة التعليم ونظامه. وقد قال الأستاذ بيلانز: «إذا أجري تعليم الأحداث طبق الواجب، كان اغتباطهم بالدرس مثل اغتباطهم باللعب، بل ربما كانوا أشد اغتباطًا بتمرين القوى الذهنية منهم برياضة العضلات.»
وآخر ما نذكر من مزايا جعل التعليم ذاتيًّا، وبالتبعة لاذًّا، هو أن التعليم الذاتي لا ينقطع بانقطاع الدراسة المدرسية، والتعليم ما دام إجباريًّا كان خليقًا أنه يُهجر متى رُفع عن التلميذ قهر الوالد والمؤدب والعكس بالعكس، وإذا صحت قوانين تسلسل الخواطر، وصح أن الناس يبغضون كل ما ذكَّرهم مؤلم الحوادث وسيئ الأحوال؛ صح كذلك أن الدروس البغيضة تبغِّض العلم إلى الطالب، كما أن الدروس الحبيبة تحبب إليه العلم.