التربية الأخلاقية
لم يهمل ولاة الأمور شيئًا إهمالهم إنعام الفكرة في تأديب أطفالهم، وتعويدهم ما حَسن من الخصال وطاب من الخلال، ولعلهم ظنوا الأمر هينًا والخطب سهلًا، فحسبوا أنهم قادرون بلا فحص ولا بحث أن يودعوا طبائع صبيانهم ما شاءوا من المناقب، ولم يعلموا أن علم تهذيب النفوس علم صعب المأخذ وعر الملتمس، وحق لمغفله أن يخيب في تأديب غلامه، ومن نكب عن سواء السبيل كان حريًّا أن يضل، ومن عسف المسلك الخشن بلا سراج، لقي الويل. فترى الأمهات إذا أوصين الأبناء بشيء لم تكن الوصية نتيجة تمعن وتدبر يجريان على منهاج الحق والصواب، بل كانت نتيجة الوجدان الأقوى وقتئذ والشعور الأعلى، سواء كان ذلك شعور ارتياح أو وجدان غضب. ثم تختلف أوامر الأم ووصاياها باختلاف هذه الوجدانات. فإذا صحب هذه الوصايا قواعد أو سنن، فإنما هي ما توارثته الأجيال أو ألهمته ذكرى الطفولة أو تذكرته الأم عن الخدم والمربيات، وكلها قوانين سنها الجهل لا العلم.
- (١)
ألا ترى أيها الطفل أن أباك يفعل كذا وكذا.
- (٢)
أيها الطفل أنت صغير وهذا عمل الكبار.
- (٣)
أهم الأمور أن تسبق في مضمار الحياة وترتقي في درجات الحكومة.
- (٤)
ليس قيمة المرء مقدار نصيبه من مفاخر الحياة الدنيا، وإنما قيمته حظه من الآخرة.
- (٥)
لذلك كان الأفضل احتمال الظلم والأخذ بالعفو.
- (٦)
من اعتدى عليك فاعتدِ عليه.
- (٧)
لا تُحدث ضوضاء أيها الغلام.
- (٨)
لا يجب أن يتمسك الأطفال بالسكوت.
- (٩)
يجب أن تطيع والديك.
- (١٠)
وتعلم نفسك.
فيكون مَثَل الوالد في ذلك مَثَل الممثل المازح الذي يظهر على الملعب حاملًا تحت كل إبط حزمة من الورق، فإذا سأله المتفرجون: ماذا تتأبط؟ أجاب: أحمل تحت الإبط الأيمن أوامر، وتحت الأيسر إلغاء هذه الأوامر.
وتلك حال لا يرجى سرعة تبدلها، ولا يؤمل تغيرها، إلا بعد أجيال فهي كالنظامات السياسية لا تُصنع بل تنمو من ذات نفسها كما تنمو الشجرة، ثم لا يحس في الأوقات القصيرة نموها، على أن ذاك النمو يحتاج بعد إلى وسائط، ومن هذه الوسائط البحث.» أقول: لست ممن يعتقد رأي اللورد بالمرستون أن الأطفال أخيار بالطبع، بل ربما كانت عقيدتي إلى عكس ذلك أجنح وأميل، ولا كنت ممن يطابق الزاعمين أن الأطفال قد يبلغون بحسن السياسة أعلى منتهى الصلاح، كلا بل كنت ممن يرضى بقاء المساوي والنقائص، إذا نجح لطف التدبير في حذف بعضها وبتر شطرها. أما من ذهب إلى أنه قد يبلغ الكمال بأحكام الذرائع وإحصاف الأسباب، كان جاريًا على سنن الشاعر الكبير شيلي الذي نقم من العالم عوائده ونظاماته، وهتف بالناس أن اطرحوا سيئ عقائدكم، واهدموا منكر حكوماتكم، تبدلوا من بؤسكم نعمَى، ومن خوفكم أمنًا، ومن ضيقكم فسحًا. وكلا المذهبين غير جائز عند من تأمل أحوال البشر غير منفعل النفس ولا مستثار العواطف، على أنه لا حرج علينا أن نسعد بنياتنا وضمائرنا من أصبح لفرط حبه بني آدم وشدة عطفه عليهم يرجو لهم الكمال والسعادة، وصرفه فرط التشبث بالآمال عن كل شيء سوى ذلك، وفرط الولوع بالشيء البالغ حد التعصب الأعمى أمر لا بد منه لنجاح المطلب، فإنه لا شيء أبعث للعزم ولا أحث للهمة من الولع والشغف، ولولا اعتقاد الإنسان إمكان مطلبه الذي أُغرم به، لما خطا خطوة في سبيله، ولولا تلك الثقة العمياء التي تملأ الأفئدة، لما أخذ المصلحون قديمًا وحديثًا في نقض ما نقضوا وإبرام ما أبرموا. على أن جهلهم في اعتقادهم إمكان بلوغ الكمال ليس بضارهم، فإنهم وإن أعياهم نيل الكل لم يفُتهم الجزء، ولولا ذاك الولوع المفرط وتلك الثقة العشواء، لم ينالوا كلًّا ولا جزءًا.
ولو صح أن الأطفال قد تبلغ بذرائع مُحكمة أعلى ذروة الكمال، ثم أحاط الآباء علمًا بتلك الذرائع؛ لكنا مع ذلك غير قادرين على نيل بغيتنا؛ لأنه لا يتأتى للآباء التمسك بهذه الذرائع والتوصل بها إلى غاية المراد، إلا إذا توفرت فيهم شروط وخصال، أهمها؛ الصلاح وحُسن الخلق والفطنة والذكاء وضبط النفس والقدرة عليها عند الحاجة مما لم يجتمع في آدمي أبدًا، ولقد نرى الناس ينسبون الهفوات والعيوب للأطفال، ويخلون الآباء منها، شأنهم مع الحكومة إذ يبرئون الولاة من كل عيب، ويسِمون الرعية بكل شين، فيا عجبًا كيف تتغير أخلاق الآباء عند معاملتهم الأبناء، وعهدنا بالأخلاق ثابتة لا تتغير، إنا لنعاشر الناس ونعاملهم، ونعلم أنهم ذوو عيوب ونقائص لا تنفك تبدو لنا في بذاءتهم ووقاحتهم وخيانتهم وحمقهم وقسوتهم ومهانتهم وذلهم، فإذا نظرنا إليهم من وجهة معاملتهم الأطفال، نزعنا عنهم كل سوأة وعورة، وألقينا الذنوب على الأبناء ظلمًا منَّا وغُشمًا، والحقيقة أن سوء معاملة الآباء أصل أكثر ما يُنسب إلى عناد الأطفال وشكاستهم.
فأي خلة حميدة تستفاد من أم تهز رضيعها وترجه لامتناعه عن الرضاع، وكيف يتعلم العدل من أب يوجع ابنه ضربًا إذا سمعه يتأوه من ألم صدمة أو وقعة؟ بل كيف يُرجى العطف والرحمة من غلام حمل إلى أبيه مخلوع أحد المفاصل فعالجه بالسوط والعصا؟ فهذه الفعال وإن كانت أقسى ما يأتيه الإنسان، نجدها مع ذلك عامة شائعة، لا نُحرم رؤيتها كل آن. وهي تبين تلك الجبلة التي يشرك الإنسان فيها فوارس الوحش، والتي تدفع القوي من النوعين إلى البطش بالضعيف، وأين الذي لم يرَ إحدى المربيات أو الأمهات تلطم طفلها إذا بدا منه قلق أو عناد لاختلال في صحته؟ أين الذي أبصر إحدى الأمهات وقد عثر ولدها فجذبت بذراعه عنفًا وصاحت به: «تبًّا لك». ثم لم يتبين في خلق الأم شراسة وحدَّة مزاج وسرعة حنق تؤذن بمستأنف تنافر بين الوالدة وغلامها، وتنذر بمقتبل خلاف يفضي إلى مشاحنات ومنازعات لا نهاية لها، أليس فقد الحنو وعدم الألفة وقلة الوفاق واضحة في حرمان الوالد ابنه كل مباح، كمنعه من اللعب الذي تتوق إليه طبيعة الطفل، ويحدث فقده ألمًا في الأعصاب، وكَنَهْيه أن يمتع بصره بما يقر عينه من أنيق المناظر، مثل ما يبهج ناظرك إذا أشرفت من نافذة القطار على ناضر الرياض ومونق البساتين، فقد ثبت من ذلك استحالة تعاطي خطة يضمن نظامها كمال آداب الإنسان لعدم كفاءة الآباء.
ولو وجدت الخطة الكافلة بالمراد، وكملت في الآباء الكفاءة للأخذ بها، لما أفادنا نظام الإصلاح العائلي مع اختلال ما عداه من الأشياء، فهب أن طفلًا لم يزَل به لطف التدبير ورفق السياسة، حتى قوَّما أخلاقه وثقَّفا آدابه وصقلا طباعه، فبرز إلى مزدحم الحياة أقوم ما يكون خليفة، وأعدل ما يرجى ضريبة، وأصفى ما ينتظر طبيعة. أتراك تحسب أنه يصادف نجاحًا، أو يلقي فلاحًا وسط الجمهور، وغالبه من الغلاظ الفظاظ القساة اللئام الجفاة السلائق ممن استغرقوا الخبائث واستوعبوا الرذائل؟ أم تكون حلاوة شمائله ورقة خلاله وطهارة سرائره نكبات تزيد شقاءه، ونقمات تضاعف بلاءه، وآفات تطيل عناءه؟
لذلك قضت طبائع الأمور أن يكون نظام الحكومة المنزلية والحكومة العامة ملائمًا لأخلاق الجمهور إن طابت الأخلاق حسن النظام، وإن خبثت ساء، فإذا احتيل في تحسين النظام والأخلاق باقية على حالها من اللؤم والفساد أوشك أن يكون التحسين ضارًّا؛ لذلك كان ما يلقاه الصبية من الآباء والمؤدِّبين من القسوة والخرق، إنما هو تمرين لهم وتعويد على ما سوف يكابدون من جهل الجمهور وعداءه، إذا غامسوا حومة الفساد.
فإذا قال قائل: وا غوثاه! لئن كان الأمر كما ذكرت، ليكوننَّ الأصوب أن يترك شأن التربية سدى، فلا يفكر طرفة عين في سبيل إصلاحه، قلنا له: ولا كل هذا نحن أولى من حث على بذل العناية في تحسين نظام التربية الأدبية، وأجدر من رجا إصلاحه، غير أنا نقول: إن تعديل هذا النظام لا يمكن أن يسبق سواه من التعديلات، وإنه لا يحصل إلا تدريجًا، وإن ما يمليه الحق والمروءة من التحسينات اللازمة لهذا النظام يجب أن يتصرف فيه بحسب ما تقتضيه دواعي أخلاق الجمهور وعاداته، وإن هذه التعديلات لا يسهل إجراؤها إلا إذا تحسنت طباع البلاد.
فإذا عاد القائل فقال: إذا كان الأمر كما ذكرت فلا فائدة في وضع نظام صالح للتربية الأخلاقية، إذا كان الجيل الحاضر أحط طباعًا من أن يستطيع الأخذ بأوامر ذاك النظام والعمل بوصاياه. قلنا: ولا كل ذلك، فما أنفع أن يكون ذلك النظام القيم بمرأى من القوم الضالين حتى يجعلوه غاية يؤمونها ونهاية يقصدونها، وإلا لجوا في جورهم وسدروا في ضلالهم.
وبعد ما قدمناه من القول ندعو القارئ إلى تأمل ما سنورده من ذكر أغراض التربية الأخلاقية ووسائلها، وسنبدأ بإيراد قواعد عامة نسأل القارئ أثناءها سعة الصبر وقلة الملل، ثم نثني بإيضاح تلك الوسائل.
إذا عثر الطفل أو اصطدم فأحس ألمًا، كان ذلك زاجرًا له أن يحذر تكرار الحادث المؤلم. وكذلك إذا قبض على الجمر، أو ألقى يده في ضرام الشمعة، أو صب على جلده ماءً سخنًا، كان من الألم الناتج درس لا يُنسى، ثم يبلغ من شدة تألمه أن لا يبعثه بعد على الفعل المنكر باعث، فقد بينت لنا الطبيعة فيما ذكرنا الآن من الأمثلة خير سُنة تتبع في تأديب الطفل، وما هي إلا أن يكون جزاء المذنب من جنس جنايته، حتى يكون له أقمع وأقدع، وقد يقول قائل: وكذلك كل عقاب يوقعه الآباء بأبنائهم هو من جنس جرائمهم. فأقول: كلا، إنما يرى ذلك الرجل البسيط الكليل الذهن الكهام اللب، وأما من رمى الأمور بطرف حديد، فانشقت له المشكلات عن حقائقها؛ أبصر بونًا بعيدًا بين عقاب الآباء وجزاء الطبيعة هذا بيانه:
فما أجدر الآباء أن يجعلوا عقاب الطفل المسيء نتيجة ذنبه وعاقبة جرمه، لا يزيدون فيها ولا ينقصون، ولا يبدلونها بنتائج متكلفة وعواقب مصنوعة.
وقد ينتصر للآباء من يقول: «ما عقوبات الآباء لأطفالهم إلا طبيعية وما هي إلا نتائج سيئاتهم، وماذا يكون غضب الوالد وشتمه الطفل وضربه إياه إلا العواقب الطبيعية لما جناه واقترفه؟»
فأقول: ليس قولك هذا بحق صريح، وإنما هو باطل مشوب بشيء من الحق، ولا أعارضك في أن غضب الوالد أو الأم عاقبة طبيعية لإساءة الطفل، وأن ما يحدث ذلك الغضب في نفس الطفل من لواذع المضض ولوادغ الندم هو وازع قوي للطفل، ثم أقول بعد ذلك: إن وعيد الآباء للأطفال وشتمهم لهم وضربهم إياهم ربما كان غير مستنكر في حالة واحدة، أعني بها حالة الآباء السيئي التدبير مع الأبناء الأشراس ذوي العقوق والعصيان، وقد قدمنا أن نظام التربية كنظام الحكومة كلاهما يلائم طباع المحكومين، فالأطفال الفظاظ الأخلاق أبناء الآباء الفظاظ المعاملة لا ينقادون إلا بالوسائل الفظة، وخضوعهم لتلك الأحكام الفظة أعظم مرشح لهم للجهاد في معترك الحياة الفظة التي لا بد لهم من مكافحة أهوالها.
أما أهل الطبقة المهذبة فلن تجدهم يسلكون بأبنائهم ذوي اللين والدماثة، إلا كل خطة دمثة كفيلة بتهذيب الطفل وتأديبه.
ولقد آن أن نفسر للقارئ بالأمثلة ماذا نريد بقولنا: إن عقوبات الآباء يجب أن تكون طبيعية لا غير طبيعية، وسنصطلح على تسمية العقوبات غير الطبيعية بالعقوبات «الأجنبية».
من أشيع سيئات الأطفال وأعمها تشويههم رونق المنزل بتفريق لعباتهم في أنحائه، فترى الطفل إذا مُنح لعبة مما يولع به الغلمان، أو أُهدي باقات من الأزهار أو ما يشبهها من الطرف، فشرع يبددها وينثرها حتى يملأ بها البيت، فشوَّش نظام غرفه وشوَّه وجوهها، لم يعاقب المجرم على ذلك بأكثر من التوبيخ واللوم مما لا يجدي نفعًا، ثم تعاني الأم أو إحدى بناتها أو الخادمة ما تعاني من لمَّ ما تشعث من هذه الأشياء، وضم ما تفرق، فهذا العقاب ليس بطبيعي، بل الطبيعي أن يلزم الطفل إصلاح ما أفسد، فيُجبر على جمع ما نثر من أضغاث الريحان، أو تأليف ما فرق من آلات لهوه، حتى يكابد عناء ما جلبته إساءته، على أن تنظيم المتبدد هو ما يجب أن يعقب تبديد المنتظم تلك حقيقة لا ننفك نشاهدها ما حيينا، وأمر لا نزال نجربه، فما أحق الطفل أن يتمرن عليه من مبدأ نشأته! ثم إذا أبى الطفل أن يصلح ما أفسد فوقعت الكلفة على بريء من جناية الطفل؛ كان العقاب الطبيعي أن يُحرم الغلام بعد من تناول تلك الأشياء والاستمتاع بها، فإذا تاقت نفسه إلى شيء منها فطلبه فقوبل بالرد والمنع؛ شعر عند ذلك بألم شديد فاتك. وحسبك بما يجد الإنسان من العذاب إذا حرمت شهوته مبتغاها، وحجزت صاديتها عن المنهل العذب، وهي أظمأ ما تكون، فهل بعد ذلك تأديب للمسيء؟ كلا. ثم يتعلم الطفل من ذلك أنه إنما تكسب الملاذ بالعمل والكدح. وهاك مثلًا آخر:
طالما سمعنا بعض الأمهات وهي توبخ ابنةً لها لتوانيها عن موافاة أتراب لها ينتظرنها بفناء البيت، حتى يذهبن جميعًا للنزهة في بعض الأطراف، وهكذا يغلب السهو على مثل هذه الفتاة، فلا تذكر لبس ثيابها حتى ينتهي أترابها من ذلك ويجتمعن للمسير؛ عند ذلك تلعن الأم ابنتها، ويبلغ منها الغضب مبلغه، ولا يخطر ببالها (بل ربما خطر الفكر فرفضته) أن تترك الفتاة تعاني شر ما اكتسبته يدها، ونحن نعلم أن التباطؤ يستوجب فقد فائدة كان يحرزها عدمه، فتارة يفقد المتأخر صفوة ما يباع في الأسواق من الأمتعة، وتارة يفقد القطار فيتجرَّع بذلك غصة أليمة، فإنما يحذر المرء الإبطاء في حاجاته، خشية أن يفقد بسببه فائدة أو فرصة، فلِم لا يؤدب الطفل المتراخي في شئونه بالحرمان؟ فيذوق مرارة التواني، فيحرص في مستقبله على إنجاز كلما يتعاطى من أمره، ولِم لا تقضي الأم وقد أحفظها تباطؤ ابنتها بحرمانها مصاحبة أترابها إلى حيث يلهون وينعمن؟ وفي ذلك مزدجر ومرتدع لن تراها في الشتم واللعن اللذين يكسبان الشعور جمودًا وصلابة وصممًا عن كل ناطق بخير وهاتف برشد.
وإليك مثالًا ثالثًا: إذا أتلف أو أضاع الطفل متاعًا له لقلة اهتمام به، كان العقاب الطبيعي له أن يذوق حسرة الفقد، كذلك تجزي الطبيعة من الرجال والنساء من جرَّت غفلته ضياع شيء من حاجته، ولا نقصد بالمثال الذي ذكرناه إلى أحوال صغار الأطفال، إذ يتلفون لعباتهم لكي يعلموا كنه اللعبة وأجزاءها، وهي غريزة في الإنسان إذا نظر شيئًا لم يكن رآه من قبل؛ تولدت فيه رغبة شديدة إلى فهم حقيقته، فيحتال لذلك، ولا يقر قراره حتى يصل علمه إلى ما يستريح إليه. وإنما نقصد إلى حالات كبار الأطفال الذين يعلمون كنه أشيائهم وفوائدها، فإذا كان إهمال أمثال هؤلاء الأطفال داعيًا إلى تلف متاع، أو فقد آلة؛ فليس من الحكمة والصواب أن يبعث الوالد حنوه ورحمته على إعاضة غلامه بدل ما فقد بعد التوبيخ والشتم، فإن هذا عين الخطأ والخرق، وإنما العدل والقصد أن لا يعاض المذنب من مفقوده بدلًا، حتى يألم لوعة الفَقد والحرمان، فيكون في مستقبل أيامه أضن بأمتعته وأشد محافظة عليها.
فهذه أمثلة ذكرناها وتوخينا فيها البساطة؛ لنبين للقارئ الفرق بين العقوبات الطبيعية والأجنبية. وقبل أن نعرض العويص الصعب من الأمثلة، نرى أن نظهر ما لهذه العقوبات الطبيعية على غيرها من الفضائل.
فمن فضل هذه الخطة أنها تُفطن الغلام إلى إدراك الأسباب والنتائج، فإذا لزمها عاد ذلك الإدراك قويًّا كاملًا. وخير للمرء أن يفهم العواقب عن خبرة من أن لا يزال يحذرها من مؤدِّبه، والطفل المفرط في أمره يستفيد مع ما يجنيه من سوء عاقبة التفريط حنكة، كالتي يكتسبها الكبير من التجربة، لا كالطفل الذي إن جنى جناية لم يؤتَ من الجزاء ما يريه سوء العاقبة، فإذا كبر لقيت به صروف الزمن غرًّا مغفلًا واهن الحيلة، فإذا اعتاد الغلام أن ينتظر من سخط المؤدب عقاب جنايته، كاد يعتقد أنه لا عقوبة على الذنوب إلا سخط المؤدِّب، فإذا زالت عنه مراقبة المؤدِّب فرفع عنه ذلك السخط؛ ظنَّ في ارتفاعه زوال مغبات الآثام، فأقدم على الذنوب إقدام الآمن وخامة العاقبة، فوقع في كل ضيق وكربة.
قال خبير بضرر هذه الخطة: «رأينا شبابًا أساء المربون تأديبهم غلمانًا فلم يبصروهم العواقب، فنشئوا أغرارًا حمقى لا تكف جورهم حدود، ولا تدعم عملهم قواعد، أهمل رياضتهم المؤدِّبون صغارًا، فراضتهم الخطوب كبارًا، فمنهم من أذعن وانقاد، ومنهم من جمح فأصبح حرب الأمن والسلام وآفة البشر.»
ومن فضل الخطة أيضًا أنها خطة عدل صراح، لا يسع الغلام المذنب إلا اعترافه بما تجري عليه من سنن القصد ومنهاج الحمق، ومن لقي من الجزاء نتيجة إساءته، كان أحرى أن لا يعد نفسه مظلومًا من الذي يقع عليه العقاب الأجنبي، فانظر إلى الوليد الذي لا يبرح يتلف ثيابه غير مكترث، فهو لا يألو تلويثًا لها وتمزيقًا، أتراه إذا كافأه الوالد على ذلك بالضرب أو الحبس لا يعد نفسه مضيمًا مهضومًا، ثم هو إلى أن يبيت يبكي شجوه ويندب مصابه أقرب منه إلى التفكير في التوبة وعقد النية على الإنابة، ولكن لو أمر المجرم أن يصلح ما أفسد بقدر إمكانه، فينظف ما لوَّث ويرمم ما مزق، فإنه يشعر بعدل الجزاء، ويرى ارتباط النتيجة بالسبب، ثم إذا لزم المؤدِّب مع غلامه تلك السُّنة، لا يغادرها قيد إصبع، فنال المذنب شرَّ عمله، ألا تراه يصبح أشد اتقاءً للذنوب، وأكثر تبصرًا في العواقب، وأخلق أن لا يحسب نفسه مظلومًا.
ومن فضل الخطة أيضًا أنها تحمي الآخذ والمأخوذ بها من أن يملك أيهما الغضب، فهي خطة بريئة الساحل من بوادر الجهل وفوارط الحنق؛ لأن الآخذ بها من مؤدب لا يكاد يغضب لجناية الغلام حتى يسكن من غضبه أنه لا بأس عليه مما جنى الغلام، وأن المذنب ملزم أن يصلح ما أفسد، وكذلك الطفل لا ينال من الألم والعذاب بإصلاح الفاسد ما يحدثه الضرب والحبس، ولن ترى أحمق من المؤدِّب الذي يعد كل جرم يأتيه الغلام إساءة لشخصه، فيوقع نفسه بذلك في عناء دائم، يزيده ما يتولاه بنفسه من إصلاح ما أفسد الطفل.
وكذلك لا يحنق الطفل على والده إذا علم أن العقاب لم يحدث منه مباشرة، بل رأى أن الوالد ما زاد على أن كان منفذًا لعقاب الطبيعة، ولكنه يحنق على والده ويمقته إذا وقع منه العقاب مباشرة بالضرب أو الحبس. وليعلم القارئ أن الخطة أكفل بالنجاح؛ لما فيها من المحاسنة والملاينة، ولا يزال في الأمثال السائرة أن الفلاح موكل بالملاطفة، والفشل مقرون بالمخاشنة، ولم يرَ أمر أخذ فيه بالعنف والغلظة، فلم يعُق ذلك من تمامه، على أن أفسد ما يكون العنف والغلظة إذا وقعا بين الوالد وولده؛ لما في ذلك من إضعاف ما بينهما من صلة الحنان الذي لا يتم النفوذ إلا به. ومن علم أن للطبيعة قانونًا يدعى اصطحاب الأفكار، ومعناه اقتران الأمور المتناسبة في ذهن الإنسان؛ أيقن أن البغض في نفس المرء مقرون أبدًا بكل شيء يحدث أذًى وألمًا، وعلى قدر الألم يكون اضمحلال الألفة، حتى تذهب وتخلفها البغضة والنفرة، فإذا دام على الولد عذاب الوالد، محا أثر المودة من صدر الابن، وأقام على طللها بيتًا للضغينة. وكذلك إذا رأى الوالد من غلامه كثرة السخط والإنكار، وتبين في وجهه طول العبوس والتقطيب؛ نزع من قلبه الحنان والعطف حتى يستحكم الجفاء والكره بين الطرفين.
وخلاصة القول أن لخطة الجزاء الطبيعي على غيرها أفضال؛ أولها: ما يستفيد الطفل بها من الحنكة؛ لفرضها عليه التبصر في العواقب، فيميز بذلك بين النافع والضار. ثانيها: أن الغلام إذا رأى أنه لم ينَل من العقاب إلا كسب يده، كان جديرًا أن يبصر عدل الجزاء. ثالثها: أنه إذا أقر بعدل العقوبة، وأنها من فعل الطبيعة، لا من عمل إنسان، هانت عليه، فلم يغضب لها غضبه لو كانت من صنع بشر. وكذلك الوالد إذا ترك الطبيعة تجري في عقاب الغلام مجراها، كان ذلك أحرى أن لا يوغر صدره ويهيج غيظه. رابعها: أنه إذا سكنت عواصف الغضب بين الطرفين، خمدت في الجوانح نيران البغضاء، واطمأنت القلوب وائتلفت.
فإذا سأل سائل فقال: لا ننكر صواب هذه الخطة في الذنوب الصغيرة، فإذا أقدم الغلام على الكبائر كالسرقة والغش والظلم، فماذا نصنع؟ قلت: قبل الإجابة عن هذا السؤال أذكر للسائل بعض أمثلة:
كان لنا صاحب يعيش في بيت أخت له، وقد تعهد بتربية ابن لها وابنة، وكان لا يحمله على ذلك إلا الحنان وصلة الرحم، فأصبح الطفلان تلميذيه داخل المنزل، رفيقيه خارجه، فكانا يصحبانه في غدواته وروحاته، فيتلبثون جميعًا على المعاهد، ويتلومون على منابت الخضر والزهور، ثم يقبلون على أديم الأرض يفحصون الثرى عن جذور النبات فيستخرجونها، ثم يقبل الطفلان على خالهما فيوسعانه أسئلة عن خواص كل صنف من النبات، مما يدل على فرط ابتهاجهما بما يباشران، وفضل عجبهما مما يبصران، فلا يألو الخال ريًّا لغلة استغرابهما، وإشباعًا لسغب حيرتهما، وناهيك بما في ذلك من السرور والفائدة.
فلا جرم إذا أصبح الطفلان يجدان في خالهما مستماح لذة لا ينفد، ومستقى منفعة لا ينزح، وقصارى القول: أن الخال أفضى من نفسي الطفلين إلى منزلة لم ينلها أب ولا أم. فلما سألناه كيف بلغ من الوليدين ذاك المبلغ؟ قال: إنما أدركت ذلك بأمور أنا مكتفٍ بتفصيل أحدها الآن، فاعلموا — رعاكم الله — بينما نحن سامرون بالدار ذات ليلة، وقد احتجت إلى شيء لي كائن بإحدى زوايا المنزل، فطلبت إلى ابن أختي أن يذهب ليحضره، إذا به قد بلغ من فرط إصغائه إلى قصة تلقيها عليه عجوز من معارف أسرته، أنه أهمل شأني وأنعم إقباله على العجوز، فلم أكرر عليه الطلب، ولم أغضب، بل لم يحدث بي أدنى تغير، ثم قمت على هينة مني، فمضيت في حاجتي، وعدت بها، فلما فرغت العجوز من قصتها وقامت، انقلب إليَّ الطفل يطلب ما عندي من الفاكهة والحديث، فأعرضت عنه ولاقيته بانقباض وجفوة، فشق عليه ذلك، ولحقته له لوعة وكرب، وذهب لمكان نومه حزينًا نادمًا، فلما أصبحت سمعت وقع أقدام خارج حجرتي، ثم طرق الباب، ففتحت وإذا بالغلام يحمل طستًا فيه ماء سخن فوضعه بين يدي، ثم أخذ يتلفت ليرى ماذا بقي عليه أن يصنع لأجلي، وقال بعد لحظة: «أين حذاؤك يا خالي؟ أظنه في ساحة المنزل.» ثم خرج مسرعًا فعاد به على عجل.
وبأمثال هذا الفعل أمكنني أن أجعل له من الندم ولذع الضمير أبلغ مربٍّ وأنفذ مؤدِّب، حتى قويت إرادة الغلام، وعاد غلَّابًا على أهوائه قمَّاعًا لشهواته.
وقد أصبح هذا الخال اليوم أبًا لذرية لا تعدو الحقيقة إذا قلت إنهم أسعد خلق الله لرفق أبيهم بهم وحسن سياسته لهم، فهم يجدون له من برحاء الشوق وجدان العاشق بالحبيب، وينتظرون عودته انتظار المحب رجع الرسول، فإذا رأيتهم ضحوة وقد تركهم لعمله رأيت ذوي لهف يكثرون التلفت إلى البكرة، وإذا أبصرتهم عصرًا وقد دنت أوبة أبيهم أبصرت ذوي ولع يتطلعون إلى الأصيل. ثم هم يشتاقون الأحد لخلو أبيهم يومئذ من العمل، فترى الوالد يقود أولئك البنين بالكلمة فيستحثهم باللفظة اللينة ويكبحهم بالقولة الخشنة، فإذا بلغه عند عودته أن أحدهم قد أساء أخًا له، لم يعد أن يتجهمه ويعرض عنه، فيجد الطفل في ذلك من الألم ما لم يكن يحدثه الضرب، فيبكي طويلًا. ويكون من تأثير هذه السياسة أن الطفل إذا غاب عنه أبوه لا يزال يخشى سخطه، فيتجنب ما يسخطه، حتى لقد يبلغ من بعضهم الحرص على طاعة الوالد في غيابه، أنه لا ينفك يسأل أمه هل وقع منه ذنب يغير قلب أبيه، ولقد حدث منذ أيام أن أحد هؤلاء البنين دفعه فرط المرح في غياب أمه إلى قص خصلة من شعر أخيه، وجرح ذراعه بموسي، فلما سمع أبوه بذلك تجافى عنه ليلته وصبيحتها، فبلغ من تأثر الغلام لذلك الجفاء أنه تضرع إلى والدته. وقد همت ذات يوم بالخروج، فطلب إليها البقاء مخافة أن يجرئه غيابها على إتيان ما يسخط والده.
ذكرنا ذلك المثال لنبين للقارئ كيف ينبغي أن تكون العلاقة بين الوالد والولد؛ لما لها من عظم الشأن في علاج ما عساه يبدو في الوليد من منكر الخبائث، على أنه يجدر بنا قبل تناول هذا المبحث أن نظهر للقارئ كيف أن مسالمة الصبي ومياسرته قد يفضيان إلى توليد الصحبة والصداقة بينه وبين أبيه.
لا يرى الصبية في الأمهات والآباء إلا أناسًا جمعوا لهم بين العداوة والصداقة؛ والصبية يعتقدون ذلك لما تشهد به دلائل الأحوال، ثم لا يتحولون عن اعتقادهم، وكيف وهم أبدًا بين ملاطفة من الوالدين ومغالظة، وتدليل وتبكيت، ولين وعنف، ومساعفة ومكابرة، فيصبح الصبية لذلك مهبطًا لمتباين الآراء ومثوى لمتضارب العقائد، فترى الأم إذا قالت لابنها إنها أخص أصدقائه؛ اكتفت بالقول، وفرضت على الصبي تصديقه إياها، وباءت باعتقادها ذلك التصديق في الطفل. ويفهم الوليد من أمثال قولها: «إني أعلم منك بصالحك.» وقولها: «أنت قاصر عن إدراكها اليوم ولعلك ستشكرني غدًا.» وقولها: «كل ذلك لمنفعتك.» يفهم الوليد من أمثال هذه الألفاظ أن أمه أحرص الناس على نجاحه، ثم يجد من فعلها ما يكذب تلك الأقوال، ولما كان الوليد يقصر ذهنه عن إدراك ما عساه، يكون من حسن عواقب قسوة الأم، ولكنه يدرك بحسه آلام تلك القسوة، كان جديرًا أن يداخله الشك فيما تدعيه الأم من الاهتمام بمصالحه، والسعي في سبيل سعادته، وكان الواجب على الأمهات ألا يغفلن عن ذلك، ولا ينتظرن من الطفل اعتقادًا غير ما ذكرنا، وكيف ولو أصبحت إحداهن وسط أترابها بحالة طفلها، فلقيت من أولئك الأتراب نهرًا وعذلًا ولطمًا ودفعًا، لما عبأت وتلك حالها بما يعدها المؤدِّبات من حسن المآل وهناء العاقبة.
ولننظر الآن صواب الخطة التي نوصي بها، وما تنتجه من حسن العاقبة، وتلك الخطة هي أن تحذر الأم جعل نفسها آلة عذاب للطفل، بل تتوخى أن جعل نفسها خليلًا حميمًا له، بأن لا تزال تحذره الوقوع في الضرر، ولنضرب لذلك مثلًا: أن طفلًا حمله فرط الولوع باكتشاف سرائر الأشياء أن يأخذ قطعة ورق ويحرقها في ضرام الشمعة ليقف على كنه هذا العمل، فترى الأم التي لم تتعود فحص الأمور كما هو شأن معظم النساء، تسرع باختطاف الورقة من الغلام وتنهاه عن العودة إلى مثل هذا الفعل. أما إذا كان الله قد منَّ عليه بأم راجحة العقل تبصر في فعل الغلام شغفًا باستطلاع الحقائق، وتعلم ما يكون في منعها الغلام قضاء وطره من الضرر، فتقول في نفسها: إن في منعي الغلام حيلولة دون ما كان يفيده من تجربة، وقد يمكنني إنقاذ الطفل من النار، ولكن ماذا يفيد هذا وماذا يؤمننا أنه لا يعود إلى مثل هذا الفعل مرة ثانية فيحرق نفسه، حيث لا منقذ له فلا آمن عليه حتى يذوق ألم النار فيخافها، ثم لا يخفى ما في منع الغلام من قتل ما عسى أن يكونه فيه من روح التأمل والاستطلاع، على أنه لا خوف عليه ما دمت معه، ولست ناسية ما يداخل قلبه من بغضي إذا منعته؛ لأنه لا يشعر بالألم الذي أنقذته منه، ولكنه يشعر بالألم الذي أحدثه به، وهو عكس أمله وردع رغبته، فلا جرم أن يحرج صدره عليَّ، وما عليَّ إلا تحذيره وتركه، ثم إنقاذه من جسيم الأذى، ثم تعقب استنتاجها هذا بأن تنادي بطفلها أن ارجع عما أنت فيه، فإذا أبى كما هو مرجح كانت عاقبة هذا الإباء جمة المنافع، فأول فوائدها؛ أنها تفيد الطفل تجربة تكون أكفل الأشياء بسلامته، وثانيها أنها تُفهم الطفل أن تحذير أمه إياه لم يكن إلا لفرط إشفاقها عليه وحرصها على مصلحته، فتزيد ثقته بها وحبه إياها.
على أنه يجب منع الطفل قطعيًّا إذا كان فيما يحاوله خطر كبير، كإتلاف عضو من أعضائه، أو نحو ذلك، أما فيما عدا ذلك فيجب أن تتبع خطة التحذير والنصح، لا خطة المحافظة والاحتياط، ولا تخلو هذه الخطة من إحداث محبة بين الوالد والولد أقوى وأشد مما هو كائن الآن بين معظم الآباء وأبنائهم.
وإذ قد بينا الآن ما تولده خطة العقاب الطبيعي من حسن الألفة بين الوالد والولد، فلنعد الآن إلى السؤال السابق وهو: كيف تسلك هذه الخطة في الذنوب الكبيرة؟ فاعلم بادئ بدء أن هذه الذنوب الكبيرة أنزر وقوعًا وأصغر خطرًا مع الخطة التي نحن بصددها منها مع خطة العقاب الأجنبي، فإن سوء الخلق في الطفل الذي هو أصل الجرائم، إنما هو نتيجة تهييج غضب الطفل وإثارة بغضه بالعقوبات غير الطبيعية التي يعتدها الطفل ظلمًا وعدوانًا، فإن النفور والوحشة اللتين يجلبهما تواتر العقاب الأجنبي على الطفل، يضعفان رأفته ويغلظان كبده، ولما كانت الرأفة عقالًا للسيئات، كان في زوال الرأفة انطلاق هذه السيئات بالشر والأذى على كل من قدر عليه الطفل. ولا عجب أن ترى الوليد الذي تلك حاله يكثر إيذاء إخوته وأقاربه، فإنما يحمله على ذلك أمور اضطرارية، منها التقليد الذي هو من غرائز النفس، ومنها أنه مغيظ محنق وغر الصدر يتلهف للانتقام لنفسه، ولما كان لا يحدِّث نفسه بالانتقام من ظالمه، أصبح لا يستريح إلا أن يوقع انتقامه بشخص آخر، فهو لا يزال يطلب العلل لعشرائه، حتى يلصق بأحدهم علة بحق أو باطل، ثم ينفث على ذلك المتهم ما أوغر صدره من سم الظلم والجور، فينفحه نفحة الأفعوان الصل.
ولو عومل الطفل بالرفق واللين والعقاب الطبيعي، لقام الارتياح والطمأنينة في صدره مقام القلق والغيظ، فكان أرفق بعشرائه، وكذلك الذنوب التي هي أخطر وأكبر مثل السرقة والكذب، لا تروج مع خطة العقاب الطبيعي، وقد نرى أن النفور العائلي هو مصدر عظيم لهذه الجرائم، فمن أوضح القوانين الإنسانية أن الشخص الذي يُحرم الملاذ الطيبة يحرص على الملاذ الخبيثة، فمن فقَد الملاذ الودادية طلب الملاذ الذاتية؛ ولذلك كان تمنع الأطفال بمناعم المودة الأبوية يصرفهم عن التماس اللذات في مناديح الغش والدنايا.
فإذا لم يكن في حسن معاملة الآباء زاجر عن اقتراف الكبائر كالسرقة والكذب كما هو مشاهد أحيانًا؛ كانت خطة العقاب الطبيعي هي خير رادع وقادع، فانظر بماذا تقضي العقوبة الطبيعية على السارق مثلًا، تقضي عليه بردِّ المسروق إذا كان لا يزال لديه، وبتقديم عوضه إذا لم يوجد عنده. فإذا كان السارق هو الطفل لزمه أن يرد ما سرقه، أو ينقص من راتبه ثمن المسروق.
وفي ذلك تنغيص له يزيده غضب الوالد عليه، فأما أن يُظهر الوالد غضبه بضرب الغلام وشتمه كما هو المعتاد في أصغر من هذه الجريمة؛ فذلك كما أسلفنا وبيل الغب وخيم العاقبة، فإن فيه اقتلاعًا لجذور المودة من أفئدة الأبناء، حتى يزهدوا في آبائهم، ومتى زهد الابن في أبيه، أصبح لا يعبأ بغضبه، إلا لما يصحب ذاك الغضب من الأذى، فإذا وقع ذلك الأذى لم يحفل الطفل رضي أبوه أم سخط.
ومتى بلغ الطفل هذه الحال، هان عليه غضب أبيه، بل ربما وجد في غضب أبيه روحًا على كبده وبردًا في حشاه، فكان تمنيه هذا الغضب هو الباعث له على ارتكاب الجريمة، وما ذاك بغريب؛ لأن الغلام يكره أباه، وغضب من نكرهه سرور لنا، أما إذا صفا قلب الغلام لأبيه وصحت له مودته، عد غضبه بلوى يطول لها كمده وندمه، فلا يقدم على الجرم إشفاقًا على أبيه من لوافح الغيظ، وصونًا له من لواسع الحنق، فإذا أقدم مرة امتنع من العودة.
فانظر الفرق بين الخطتين، تجد أن ندم الطفل على ما فقد من رضى والده في أفضل الخطتين يقوم مقام العقوبة البدنية في أردئهما، وبينما يكون في أسوأ الخطتين إثارة خوف الطفل وبغضه، ترى أن أحسنهما تبعث أسف الغلام، وحسرته على ما جنى، وتحرك رغبته في إصلاح ما بينه وبين أبيه، وهكذا تكون خطة العقاب الطبيعي صالحة سواء في الصغائر والكبائر، ومليئة بكف الجرائم، لا بل باقتلاع جذورها من نفس الطفل.
والحق يقال: إن الغلظة مجلبة الغلظة، والرقة مدعاة الرقة، ومن عومل بالقسوة أوشك أن يكون قاسيًا، ومن عومل بالرحمة فلا يعدو أن يصبح رحيمًا، والاستبداد العنيف سواء كان في حكومة المنزل أو حكومة البلاد، جدير أن يدعو إلى ارتكاب الجرائم، بينما يكون في الملاطفة والملاينة حسم الخلاف وإرضاء القلوب حتى يؤمن الإقدام على الآثام.
ونختم المقال بسرد عدة مواعظ نصوغها للإيجاز على هيئة أوامر فنقول: اقنع في تربية أخلاق الطفل بالسياسة الرفيقة والخطة الوسطى، ولا تولع بالجهد العنيف والمذهب الأسمى، واعلم أن المرتبة العالية في معارج الأخلاق لا تبلغ إلا بالأناة والرفق، فإنك إذا علمت ذلك كنت مليًّا أن لا يحرج صدرك ما لا يزال يبدو لك من عيوب الوليد، وكنت قمينًا أن تقل من وعيدك، وتلين من قسوتك عليه، مما يوغر صدره عليك، ويغذو ضغينته لك، فاحفظ ذلك واجتنبه ما استطعت، واعلم أن من أنجع الوسائل في تهذيب الطفل أن تعدل به عن طرق الاستبداد الذي يُحدث في النفوس الطيعة خشوع الذلة، وفي الأبية شغب المغالظة، ثم لا تنسَ ما يقتضيه إيقاع العقاب الطبيعي من تسكين غضب المؤدِّب.
ولقد يسوءنا أن ما يأتيه معظم الآباء من تأديب الغلام، إنما هو إلقاء غضبهم على الأطفال بأي صورة يخرج فيها ذلك الغضب، فاللطم والدفع والشتم الذي يفيضه المؤدِّب على غلامه إنما هي دلائل غيظه، وأحق بأن تكون من وحي الاغتياظ، لا من رغبة في إصلاح الطفل، فإذا تأنى المؤدِّب بعد وقوع الذنب برهة قدَّر أثناءها العقاب الطبيعي ووزنه، كان له من تلك البرهة مسكِّن لغضبه، فضبط نفسه، وملك زمامها، فسكنت ريح جهله، ووقع طائر شره.
ثم احترس أن يبلغ بك الوقار وقلة التأثر لأفعال الوليد مبلغًا تكون معه كالآلة الصماء، واعلم أن في ظهور الفرح والغم عليك في حالتي إحسان الغلام وإساءته حاثًّا له على الخير وقادعًا عن الشر. وما كنا لنحذر المؤدِّب وضوح دلائل السرور والحزن لما يأتيه غلامه، وإنما نحذره سورة الغضب وثورة الغيظ، وما تستدعيان من العقاب المفسد، لا ترج لدى الطفل حظًّا وافرًا من البر وكرم الطباع، فإن الناس مهما بلغوا من التمدن، فإنهم نسل أمم متوحشة، ثم لا بد أن يشبه ابن آدم في أصغر سنه أسلافه المتوحشين، فتنم طباعه عن أخلاقهم، كما تشبه صورة وجهه خلق أولئك السلف، فيكون مفرطح الأنف كبير الشفتين بعيد ما بين العينين إلى غير ذلك، وهذا سبب ما نبصر للأطفال من شدة الميل إلى الظلم والسرقة والكذب. ومن العجب أن هذه الخبائث إذا فقدت من المؤدِّبين من يقمعها، فإنها لا تلبث أن تتأثر بتغير صورة الوجه، وأن ما يُنسب إلى الأطفال من البراءة أمر صحيح إذا قصدت إلى براءتهم من العلم بفنون الشر، لكنه خطأ إذا قصدت إلى براءتهم من غرائز السوء، وأصدق شاهد على ذلك أن الأطفال إذا تُركوا في إحدى المدارس بلا مراقب، كانوا أقسى على بعضهم من الكبار، وكلما صغرت سنهم زادت قسوتهم.
وليس من الصواب أن يطمح بالطفل إلى أرقى درجات الأخلاق، كلا، بل ليس من الصواب أن يغالي المؤدِّبون كل المغالاة في حث الوليد على الفضائل، فإنه ليس من أحد إلا ويعلم ما يعقب النبوغ العقلي في الأطفال من النقص، فليعلم الناس أيضًا أن نبوغ الوليد في الفضيلة معقب أيضًا بنقص وضعف، فإن القوى الأخلاقية العالية في الإنسان دقيقة التركيب؛ ولذلك كانت بطيئة التكون، لهذا السبب أصبح إسراع المؤدِّبين في إكمال هذه القوى يستدعي بعض التعويق لنمائها، فلا تبلغ حقها في القدر؛ ولذلك ترى الفتيان الذين كانوا في طفولتهم أمثلة البر والكرم قد عرض لأخلاقهم على تقدم السن شيء من السوء والشر، حتى أنزلهم من الأخلاق منزلة لا ترضي، كما أن الرجال الذين تراهم أمثلة الفضل لم يكونوا في طفولتهم بمكان من المكارم.
أقلل من أوامرك للغلام، فلا تلجأ إلى الأمر حتى تُجبر عليه، فإنك إن أمرت فعصيت كان عقابك للطفل أجدر بأن يدعى انتقامًا؛ لما نالك به من إساءة المعصية، من أن يكون وسيلة إلى تهذيبه، ومن ذا الذي سمع أحد الآباء وقد طغا غضبه على وليده لعصيان أوامره وهو يصيح بالطفل: «كيف جسرت على معصيتي؟ ستعلم الآن من منا أشد وأغلب فيمتاز الحاكم من المحكوم.» أقول: من ذا الذي سمع أمثال هذه الألفاظ من والد لولده، فلم يرَ فيها ذلك العتو والطغيان الذي يكون من السلطان المستبد الجبار لمن تمرد عليه من رعيته، وكان أولى بالمؤدِّب الصالح أن يكون في رفقه بالغلام أشبه بالقاضي المصلِح منه بالملك المفسد، فيؤثر اجتناب القهر على الأخذ به، فإذا دعتك ضرورة إلى الأمر فأمرت بشيء، فاطلب إلى غلامك إجابته وتشدد في ذلك، ولا يغلبنك عليه غالب، ولا يستنزلنك عنه مستنزِل، وإذ وجب عليك هذا، لزمك أن تتدبر ما تقدم عليه من أمرك الغلام، فتزنه وتتبصر في عواقبه، وتنظر هل تستطيع الثبات على عزمك، فإذا فعلت ذلك كله، فانبذ إلى وليدك الأمر، وألزمه بتنفيذه مهما كلفك ذلك من الضرر، وليكن ما يصيب الغلام في حالة العصيان من عقابك مثل الجزاء الطبيعي لا مناص منه، ولا راد لنازله. فليعلم الطفل عن محتوم جزائك أنه في لزومه أشبه بما يجد من حر الجمر إذا لمسه، فكما أنه يثق من الجمر بالألم إذا مسه؛ يثق كذلك بعقوبتك إذا خالفك، فيحترم قوانينك كما يحترم أحكام الطبيعة. واعلم أن من أخطر سقطات التربية عدم الثبات على رأي؛ لما يسبب ذلك من زيادة الجرائم، وهي حال لا تزال تشاهَد في البلاد التي لا يُنهج فيها قانون محدد مضروب؛ ولذلك كان أفسد المؤدِّبين وأضرهم من لا يكاد يرى الرأي حتى ينبذه، أو يعزم العزم حتى يتركه، فتراه أبدًا يتهدد ولا يفعل، ويعاقب على الذنب بعينه؛ طورًا بالعنف وتارة باللين، كما توحي إليه الأهواء القلقة الخفاقة، فما أخلق ذلك الاضطراب والتقلب أن يُسقطا المؤدِّب في عين وليده، ويغريا الغلام بالإقدام على الإثم؛ لما يطمع فيه عند ذلك من خفة العقوبة أو عدمها، كل ذلك محدث فسادًا في الخلق، هيهات أن ينجع في إصلاحه طول المعالجة بالتجارب، وإن خطة استبداد في التربية يلزمها المؤدِّب فلا يحيد عنها شعرة؛ لخير من خطة رفق لا تلزم. وقصارى القول: أنه يجب على المؤدِّب أن يجتنب العنف جهده، فإذا وجد أن لا بد من العنف والاستبداد فليستبد.
واعلم أن القصد من التربية أن تجعل من غلامك فتى يحكم نفسه لا آلة يتحكم فيها الغير؛ لذلك وجب عليك أن لا تزال تحذف من سلطتك عليه الجزء بعد الجزء، فتبدله من تلك الأجزاء المحذوفة رأيًا وحزمًا في ذهنه يدبر بهما نفسه، غير أنه يجب استعمال السلطة المطلقة مع الطفل إذا كان من الصغر بحيث لا يميز بين النافع والضار، فإذا شبَّ وترعرع؛ فابذل جهدك في تبصيره العواقب، ثم اعمل في التخلي من تدبيرك إياه تدريجًا، واكلًا ما تتركه من أمره إلى الطبيعة، فإذا سلكت بوليدك هذا المذهب فبلغ رشده؛ فأخلق به أن تراه فتًى قد عجم الدهر عُوده وحلب أشطره، أما إذا عوَّدت غلامك الطاعة العمياء لإرادتك، فلا ترجُ به إذا كبر ورفعت عنه سلطتك إلا غرًّا طائش اللبِّ خوار القناة، لا يستقيم إلا أن تقوده كما يُقاد البعير.
ثم لا يحزنك ما قد تراه للطفل من الاستبداد بالرأي، فإنه نتيجة ما منحَته الأعصر الحديثة للطفل من الحرية إزاء ذلك القهر الذي كانت تذل له النفوس في القرون السالفة، واعلم أن الطفل الإنكليزي الحرَّ سيكون أبا الرجل الإنكليزي الحر، ولولا الأول ما كان الثاني. وقد قالت أساتذة الألمان: إن سياسة عشرة من صبية الألمان لأسهل علينا من تدبير صبي إنكليزي؛ لما لذاك الأخير من شدة الشكيمة وطماح العنان. أفيرضى الإنكليز أن تصبح أطفالهم أسلس عنانًا وأليَن شكيمة، فإذا كبروا رأيت لهم خشوع الألمان وضرعهم ورقهم السياسي، أم يود الإنكليز أن يزيدوا طفلهم حرية فيعود رجلًا أبيَّ الضيم حميَّ الأنف؟
ثم اعلم أن التربية الصحيحة عمل شاق عويص المطلب، بل ربما كان أوعر الأمور مسلكًا، على أنه قد يقوم بالتربية أدنى العالم وأجهلهم، فيحاولونها بالضرب والسبِّ اللذين ربما تأتيهما الكلاب في زجر صغارهنَّ، أما إذا أردت التربية الصحيحة فالتمسها في جملة وسائل كالاطلاع على كتب التربية وأعمال الحذق في تدبير غلامك، وتوخي الرفق في سياسته، وتحري الصبر، وتحدي الحلم، واللين في معاملته. فيجب عليك أن تُعمل الفكر في تمييز ما يأتيه الطفل عن لؤم وما هو مدفوع على فعله بطبيعته.
ثم ينبغي عليك أن تعامل كل طفل بحسب طبعه، ثم تغير في معاملتك متى آنست في طبع الغلام تغيرًا وانتقالًا إلى طور جديد، ثم يجب عليك مع ذلك أن تلتفت إلى نفسك، فتنزهها عن العناد والاستبداد وحب السلطة. بلى، إنه ينبغي لك أن تقرن إلى تأديب غلامك تأديب نفسك، فإذا فعلت ذلك عادت مساعيك بالنفع لك ولغلامك.