التذمُّر
دق ناقوس الطعام بمدرسة الحرية، فاصطَف التلاميذ في الفِناء، ثم ساروا إلى قاعة الطعام، وهي بهو فسيح ممتد الأطراف. وما هي إلا لحظةٌ حتى كان صليل الملاعق والأطباق المعدنية وأوعية الحَسَاء يملأ الجو عندما جلَس الطلبة إلى الموائد وشرعوا يقتسمون الطعام. وأخذ صخَب حديثهم يعلو بعد ذلك، ولكن الصمت سادَهم فجأةً عندما نهض فتًى يافعٌ عريض المَنكِبَين، وتوسَّط القاعة وصاح يأمرهم بالسكون، ثم بدأ يُصَلي. وما كاد ينتهي من صلاته حتى عاد الصخَب من جديد، وشَرَع الأولاد يتناولون ما أمامهم من طعام.
جلس «علي»، ذلك الفتى الطويل القامة، رئيس روَّاد الفصول بهذه المدرسة، إلى مائدته، وأخذ نصيبه من الطعام وبدأ يأكل. ولمَّا التفَت إلى جاره «نلسون» رأى على وجهه علاماتِ التذمُّر، وقد أخذ يُبدي ملاحظتَه على الطعام، قائلا بصوتٍ مرتفع ينم عن التبرُّم البالغ: «ما هذا؟ مرةً أخرى يُقدَّم إلينا اليوم فول، ومع هذا فإن كميَّته قليلةٌ جدًّا، لا تكاد تُشبِع طفلًا صغيرًا.»
حدَجَه عليٌّ بنظرةٍ نكراء، وقال: «لا بُد أن مَعدتَك ضخمة كالقِربة، يا نلسون.»
فردَّ عليه نلسون بقوله: «حسَن! إذا كان الأمر كما تقول، ومَعِدتي كما تصف، فأعطني نصفَ ما أمامك من الفول.» وبدا التجهُّم يرتسم على وجهه المكتنز السمين.
فأجاب علي: «ولكني لم أقُل إن مَعِدتي أصغر من مَعدتِك.» وكسَر لقمةً من رغيفه وغمَسَها في الفول، ثم أردف يقول: «انتظر حتى آكل أنا كفايتي، ثم أعطيك ما يتبقَّى.»
وإلى المائدة المجاورة جلس محمد، وهو تلميذٌ صومالي، كان قصير القامة، أسمر البشرة، حاد التقاطيع، وقد بدت على وجهه أمارات التذمُّر من قلة الطعام، فأخذ يشكو قائلًا لمارك الجالس عند الطرف الآخر من المائدة: «لقد ضقتُ ذَرْعًا بهذا الفول. خذ طعامي فلستُ أريده.» ثم أعطاه صَحْفته.
فشكَره مارك وقد التمعَت عيناه سرورًا، وقال: «الآن، وقد حصَلتُ على نصيبك من الفول، علاوةً على نصيبي منه، يمكنني أن أقول حقًّا، إني قد نلتُ كفايتي. الغريب، في هذه الأيام، أن الطعام يقلُّ يومًا بعد يوم! إنه يتناقَص بشكلٍ واضح.»
والتفت إليه تلميذٌ آخر، وقال: «يبدو أنه سوف يتناقص ويتناقص، حتى لا نجد آخر الأمر ما نأكله.»
فعَلَا الضحك بين التلاميذ، وأخذ كل فردٍ يعلِّق على قلة الطعام؛ إذ جعلوا منه موضوعًا للدُّعابة والنكات، حتى رنَّ في القاعة صوتٌ يعرفه الجميع، يقول: «ما كل هذه الثرثَرة والضجَّة؟»
نظر الأولاد حولهم، فإذا بالأستاذ جون، مدرس الرياضة، يقف خلفهم؛ فقد خرج من حجرته يستطلع الأمر عندما سمع ضجةً تتعالى من المطعَم. لم يكن طويل القامة، كان في الثلاثين من عمره، ولكنه كان بالغ القوة رغم نحافته، يقوم بتدريس الرياضة، ويُشرِف على كرة القدم بالمدرسة، ويرأس فرقة الكشَّافة. ولمَّا كان مرحًا حاضر النكتة فقد أحبَّه التلاميذ والتفُّوا حوله. وواصل الأستاذ حديثه فقال: «أتأكلون أم تهرِّجون؟ … لقد علا ضجيجُكم بصورةٍ مُفزعة.»
فقال تلميذ: «عذرًا يا أستاذي … لقد كانت ضجَّتُنا بسبب الطعام؛ فلَم يأتِنا منه اليومَ ما يكفي.»
فقال الأستاذ جون: «ليس هذا بالأمر الجديد. هذا ما تقولونه دائمًا.»
ونهض محمد وقال: «ولكن كمية الطعام التي جاءَتنا اليوم تقلُّ كثيرًا عما اعتَدناه من قبلُ، كما أنه رديءٌ للغاية.»
ثم قام تلميذٌ آخر، وقال: «إننا يا أستاذي تلاميذُ في مدرسةٍ ثانوية، ولسنا أطفالًا في مدارس الروضة حتى تُقدَّم لنا مثل هذه الكمية الضئيلة!»
فتساءل الأستاذ جون: «أحقًّا يا أولادي، أن كمية الطعام قليلةٌ إلى هذا الحد، وأن طَهوَها رديء؟»
ما كاد الأستاذ جون يُلقي بهذا السؤال حتى أجاب كافة الطلبة بصوتٍ واحد يقولون: «نعم يا أستاذ جون؛ فالكمية قليلةٌ جدًّا، والطهو رديء للغاية.»
دوَّت القاعة بهذه العبارة؛ إذ صدَرَت من جميع الموائد في وقتٍ واحد، ورفع التلاميذ أيديَهم وفيها الصحاف خاوية.
فقال الأستاذ جون: «إذن يجب أن أتحرَّى هذا الأمر.» وذهب إلى مائدة الرائد وسأله: «ما هذا الذي أسمَعُه عن قلة الطعام يا علي؟»
كان عليٌّ يأكل، وفي فمه لقمة خبز، فتبلَّغها بسرعة ونهض واقفًا، وقال في أدبٍ جم: «كل ما سمِعتَه حق، يا أستاذي! … إن الطعام يقلُّ يومًا بعد يوم. لقد ظل يتناقَص طَوال هذا الأسبوع بدرجةٍ ملحوظة حتى غدا ما يصلنا منه لا يكفي ثُلثَ عدد التلاميذ. وكانوا يصبرون في الأيام الماضية على مضَض، حتى بلغ النقص حدًّا لا يُمكِن السكوتُ عليه، فجاهَروا بالشكوى والتذمُّر.»
وقف الأستاذ جون يفكِّر بضع لحظات، وقد قطَّب، وأخذ يدقُّ الأرض بقدمه في حركةٍ عصبية، ثم التفَت إلى عليٍّ وقال له: «بمجرَّد أن تفرغَ من طعامك، تعالَ إلى حجرتي لنذهَب معًا، فنرى الطاهي وأمين المخزن.»
كان بعض التلاميذ قد فرغوا فعلًا من طعامهم، وخرجوا ليغسلوا صِحافَهم في أحواض الغسيل. وكان الصغار منهم يغَنُّون في أثناء مسيرهم، ويَنقُرون بالملاعق على الصِّحاف على وَقْع النَّغم. أما عليٌّ رئيس الروَّاد، فما إن انتهى من الطعام حتى ذهب من فَوره إلى حجرة الأستاذ جون.
والتقى الأستاذ جون وعليٌّ بالطاهي، فلما سألاه عن كمية الطعام أخبرَهما بأنه طبخ كل ما تسلَّمه من الطعام، ووزَّعه بالتساوي على الموائد. وكان هذا الطاهي في خدمة المدرسة منذ عشر سنواتٍ معروفًا بالأمانة، فلم يسَع الأستاذَ جون إلا أن صدَّق قوله، ثم قام بعد ذلك بجرد الأطعمة الموجودة بالمخزن، فلم يجد بها نُقصانًا. ورأى أن كميات الأطعمة كانت تُصرَف كاملةً كل يومٍ إلى الطاهي، وتُسلَّم إليه ليلًا، فيضعُها بالمطبخ، ويُغلِقه حتى اليوم التالي.
حار الأستاذ جون في أمر ذلك الطعام. أيتهِم الطاهي بعد هذه السنوات العشر، والذي كان خلالها مثال الأمانة والصدق؟ أم يتهِم أمين المخزن وقد ثبَت قيامه بالعمل على خير وجه؟ وأخيرًا قال علي: «أليس من المحتمل، يا أستاذي، أن يكون هناك شخصٌ ما يقوم بسرقة الطعام ليلًا من المطبخ، والطاهي لا يستطيع اكتشاف السرقة في الصباح؛ لأنه لا يدري شيئًا عن مقدارها ولا عن وزنها؟»
استَصوَب الأستاذ جون هذه الفكرة، فقال: «هذا أمرٌ مُحتمَل يا علي! من الممكن جدًّا أن يتسلَّل امرؤٌ إلى المطبخ ليلًا، والتلاميذ نيام، ولا أحد يرقُد بجوار المطبخ، ولا تُوجد أنوارٌ بالفِناء بين حُجرات النوم والمطبخ. إذن، فأنا أعرف ماذا نفعل! يجب أن يقوم رُوَّاد الفصول بحراسة المطبخ ليلًا، بالتناوُب فيما بينهم. كل رائدٍ يبيتُ ليلةً هناك، حتى إذا تسلَّل اللص إلى المطبخ قبَض عليه، أو صرَخ، فيُسرِع الجميع إلى مساعدته.»
فقال علي: «الرأي كما ذكَرتَ، يا أستاذي. سأنصرف الآن فأدبِّر هذا الأمر مع بقية الروَّاد.»
عقد عليٌّ اجتماعًا لروَّاد الفصول، وأخبرَهُم بما اقتَرحَه الأستاذ جون، ثم قال: «ستنام في المطبخ هذه الليلة، يا نلسون. فإذا جاء السارق سمعتَه. وعندئذٍ انفُخ في صَفَّارتك تجدنا جميعًا إلى جانبك.»
فأجاب نلسون: «سمعًا وطاعة، أيها الرئيس.» ثم أضاف، مازحًا: «إذن فسأنال حَفنةً كبيرة من الفول السوداني نظير سهري في هذه الليلة، وأجرًا لقيامي بحراسة المطبخ.»
فقال علي: «كيف تجرؤ على هذا القول؟» وهزَّ إِصبَعَه مهدِّدًا وهو يقول: «ألا تعلم أن الروَّاد لا يتقاضَون أجرًا؟»