الحقيقة أخيرًا
دقت الساعة دقاتها الست من مساء ذلك اليوم، تعلن موعد اجتماع الروَّاد. ودخل روَّاد الفصول حجرة مكتب الناظر، فوقفوا في صفَّين عن يمين وشمال، بينما جلس الأستاذ بون إلى مكتبه مهمومًا مُمتقَع اللون يتميَّز غيظًا يكاد ينفجر من الغضب. وما هي إلا لحظاتٌ حتى دخل الأستاذ جون يتبعه نلسون، فجلس الأستاذ جون في مقعد إلى جانب مكتب الناظر، ووقَف نلسون أمام الأستاذ بون وقد طأطأ رأسه ووجَّه بصره نحو الأرض حتى لا يلتقي نظره بنظر أحدٍ من زملائه. وخيَّم السكون على الغرفة برهة، قطعه الناظر بقوله: «أصغِ إلي، يا نلسون. لقد عوَّلتُ على أن أقوم معك بتحقيقٍ عادل … ولسوف أمنحك مهلة الإفصاح عن دورك في هذا الموضوع، والدفاع عن نفسك. وإني لأقول لك إن الأدلة ضدك قوية، وكلها تشير إلى أن لك يدًا في جميع السرقات التي وقعَت بالمدرسة؛ لهذا جمعتُ رُوَّاد الفصول ليشهدوا محاكمتك. أما إذا كنتَ لا تزال مصممًا على التزام الصمت وعدم إيضاح الموقف، استدعيتُ الشرطة وسلمتُك إليهم.» ثم أمسك بسماعة المسرَّة وتركَها بُرهة في يده.
ساد السكون المكان، ونظر مارك إلى نلسون، الذي كان لا يزال مطأطَأ الرأس ولم ينبِس ببِنت شَفة. وتكلم الأستاذ جون محاولًا أن يحُث نلسون على تفسير تصرُّفاته الأخيرة. غير أن نلسون ظل على صمته. وساد الهدوء ثانية، وتوتَّرت أعصاب الجميع، وبان الجِد والخوف على وجوههم. ومرَّت لحظات ولحظات … كان السكون فيها شاملًا، حتى إنَّ مارك كان يسمع دقَّات الساعة التي حول معصمه.
وأخيرًا قال الناظر: «آسفٌ لما سيحدث يا نلسون. لم تُتِح لي حرية التصرف. ليس أمامي إلا أمرٌ واحد … ومع كل فسأعطيك فرصةً أخرى إذا قرَّرتَ أمام جميع زملائك الروَّاد أنْ لا يد لك في موضوع السرقات إطلاقًا، وبذا أعتبرك بريئًا. وإلا، فكما سبق أن قلتُ لك، سأستدعي الشرطة الآن وأسلِّمك لهم.»
اتجه بصر كل واحد من الموجودين نحو نلسون. وأخيرًا رفع نلسون رأسه، فالتقَت عيناه بعينَي الأستاذ بون، ثم التفَت إلى الروَّاد، فحبس الجميع أنفاسهم انتظارًا لما سيقوله، وكلهم أملٌ في أن ينطق بكلمةٍ تبرئه. فارتعشَت شفتا نلسون وهو يهمُّ بالكلام وعيناه محدِّقتان في الناظر، ثم قال: «أنا … أنا … أنا … لا أستطيع … أن أعطي كلمة شرف.» اكتأب سائر الموجودين، وأحسُّوا بخيبة أمل، ثم طأطأ رأسه ثانية … إذن فنلسون مذنب!
تنفَّس الناظر الصُّعَداء، ومد يده ليلتقط سماعة المسرة، وعندما أمسك بها، تحدَّث قائلًا: «أريد مفتش الشرطة.»
وهنا تقدَّم مارك نحو الناظر، وقال: «أتأذن لي في الكلام يا سيدي؟»
نظر الأستاذ بون مدهوشًا إلى وجه مارك المتحفِّز، وقال وهو يبتسم ابتسامةً خفيفة: «ماذا بوسعك أن تقول والموقف جِد واضح؟»
قال: «لديَّ الدليل، يا سيدي، على أن نلسون ليس هو اللص الذي نَجِدُّ في البحث عنه.»
دهِش كل فرد، واتجه ببصره نحو مارك، وأشرق وجه نلسون.
أخذ الأستاذ بون ينتقل ببصره من مارك إلى المسرة، ثم إلى مارك ثانية، وقال: «لنسمع ماذا ستقول.» ثم أعاد السماعة في موضعها.
فقال مارك: «أتتذكَّر، يا سيدي، آثار الأقدام التي وجدناها في المكان الذي سقطَت فيه البطانية من السارق، وكذلك في المكان الذي طارَدْنا فيه سائق السيارة؟ لقد وجدتُ حذاءً يطابق تلك الآثار، وأظنُّني أعرف صاحبه، كما أنني وجدتُ قطعة قماشٍ أخرى تُطابِق التي وجدناها على الأشجار بقرب آثار الأقدام، وأعتقد أني أعرف صاحبها أيضًا … وجدتُ ذلك الحذاء، وقطعة المنسوج تلك، تحت مقعد سيارة المدرسة اليوم. لم تكونا في ذلك الموضع قبل اليوم، إذن فلا بد أنهما وُضِعا هناك اليوم! لا يُوجَد غير شخصٍ واحد يمكن أن يضعهما هناك اليوم. إنه سائق سيارة المدرسة. وعلى ذلك أقرِّر بأن سائق سيارتنا كان السارق في كل مرة. كان غائبًا عندما حدثَت السرقات. وكان المفروض أن يذهب إلى دار السلام، بيد أنني أظنه بقي في مكانٍ ما قريبٍ من المدرسة.»
توقَّف مارك عن الحديث بُرهة، واتجه ببصره نحو نلسون، فإذا به يومئ برأسه علامةً على الموافقة. وعندئذٍ أكمل مارك حديثه، قائلًا: «عندما ذهبتُ معك، يا سيدي، لنبحث عن نلسون في منزل عمه، سمعتُ صوتًا، قبل أن ندخل الحجرة. وأظنُّني عرفتُ صاحبه. ولمَّا دخلتُ الحجرة، تسلل شخصٌ خارجًا من الباب الآخر. لقد نسيتُ كل شيءٍ عنه حتى سمعتُ نفس الصوت مرةً ثانية. إنه صوت سائق سيارة المدرسة. إذن فقد كان السائق مع نلسون في بيت عمه.» أصغى كل فردٍ بانتباهٍ إلى حديث مارك. وزالت عن وجه نلسون كآبتُه، وانفرجَت أسارير الناظر؛ إذ أحَسَّ وكأنما حِملٌ ثقيل قد أزيح عن صدره، فقال: «هل كان السائق معك، في الليلة الماضية، يا نلسون؟»
قال: «لقد عرف مارك كل شيء، فلا فائدة من الإنكار إذن. لقد عرف شخصية اللص، وليس بوسعي أن ألتزم الصمت والتستُّر بعد ذلك.»
كان نلسون يتكلم بلهجة الواثق من نفسه، كما كان يتكلم في سابق عهده، فاستطرد يقول: «اللص هو سائق سيارة المدرسة. أنا على يقينٍ من هذا؛ لأنني أنا الذي ساعدتُه.» ثم جال ببصره، بجُرأة حول الغرفة، كما لو كان يريد أن يتحدى من يرغب في معارضته.
فنظر إليه الأستاذ بون، وهو لا يكاد يصدِّق ما يسمع، وقال: «لماذا ساعدتَ السارق في أمرٍ تعرف أنه غير مشروع؟»
قال: «كنتُ أعلم أنه غير مشروع، يا سيدي. ولم أكن راضيًا عن معاونته، ولكنه اضطَرَّني إلى ذلك، ولم أجد مفرًّا من مساعدته.»
توقَّف نلسون عن الكلام بُرهة، غير أن نظرات الأستاذ بون جعلَته يواصل حديثه، فقال: «عمي مَدينٌ لسائق المدرسة بمبلغٍ كبير، مَدينٌ له بمائة جنيه. وقد عجز عن سداده في الموعد المحدَّد، فهدَّدني السائق بأنه سيسجن عمي إن لم أساعده في سرقاته؛ ولذلك اضطُرِرتُ مُكرَهًا إلى فعل ما كنتُ أعلم أنه إثم، من أجل عمي.»
حَكَّ الأستاذ بون ذقَنه بيده، وقال: «الآن فهمتُ كل شيء. وبالطبع، كان يجب ألا تفعل ذلك مهما كان الأمر. وعلى أية حال، سأستدعي الشرطة للقبض على السائق.»
تناوَل الناظر السماعة وطلَب الشرطة. وبينما هو ينتظر الرد، التفَت إلى مارك، وقال: «إنك وحدَك صاحب الفضل في جلاء غموض هذه القضية، يا مارك. لقد سُرِرتُ أيما سرور لما قمتَ به من عملٍ بوليسي. وأنصحك بعد أن تتخرج، أن تلتحق بكلية الشرطة لتصبح مخبرًا حقيقيًّا، إذا راقك ذلك.»
ابتسَم مارك مزهوًّا، والغبطة تملأ نفسه لثناء أستاذه عليه.
نظر الأستاذ بون إلى نلسون، وقال: «أما أنت، يا نلسون، فأعتقد أني أستطيع أن أقبل عُذرك، ولو أنك لن تصبح رائدًا بعد ذلك. ولا تنسَ أنك نجوتَ بفضل جهود مارك، فصالِحْه واشكُره.»
صافَح نلسون زميله مارك بحرارة، وشكَره بعباراتٍ رقيقة تنمُّ عن تقديره لعمله، واعترافه بجميله. ولما رأى الارتياح مرتسمًا على وجهَي أستاذَيه ارتاح باله، واطمأن خاطره، وانصرف ليُصلِح ما بينه وبين محمد.
في تلك اللحظة كان شخصٌ ما يخاطب الأستاذ بون في المسرة، وسرعان ما كان رجال الشرطة في طريقهم إلى المدرسة للقبض على اللص. وبذلك أُسدِل الستار على قصة المُخبرِين بمدرسة الحرية.