سِرُّ جمعة
– «ما هذا، يا جمعة؟ ألا ترى أن كل شيءٍ قد أعِد في ترتيبٍ مُتقَن؟»
– «عَلامَ تتحدث، يا محمد؟»
– «أما ترى هذا الإعلان؟ إنه إعلانٌ عن رحلةٍ للكشَّافة في نهاية هذا الأسبوع.» ثم أشار محمد إلى إعلانٍ مثبَّت على لوحة الإعلانات بفِناء المدرسة.
كان ذلك عقب الأحداث البوليسية التي شغلَت رُوَّاد الفصول وناظر ومُدرِّسي مدرسة الحرية؛ فقد كان محمد وزميله جمعة، يتجوَّلان في فناء المدرسة. ولما وصَلا إلى لوحة الإعلانات، وقفا يستريحان بجانبها، ويُلقِيان عليها نظرةً قبل أن يدقَّ جرسُ بدء دروس الفترة المسائية، فوقع بصر محمد على ذلك الإعلان.
ثم استطرد يقول: «شيءٌ رائع جدًّا! لقد أخبرني مارك، رئيس فرقتنا، عن هذه الرحلة، ولكنه قال إن الناظر قد لا يوافق عليها؛ إذ يخشى علينا من الفهود التي تكثُر في ذلك التل.»
فقال محمد: «إذا أحضر الأستاذ جون قذَّافته فلا خطر علينا من تلك الضواري، إنه بارعٌ في الرماية.»
قال جمعة: «في هذه الرحلة فرصةٌ للتمرين على اقتفاء الأثَر، لا سيما وأننا سنُختبَر فيه قريبًا.»
فقال محمد: «يمكنك أن تتمرَّن على هذا، يا عزيزي … أما أنا فسأتمرَّن على التخاطُب بالإشارات؛ لأنني أجيد اقتفاء الأثَر، وينقصني التدريب على التخاطُب بالإشارات.»
وبينما هما يتحدَّثان أقبل نلسون (وقد أسدِل ستارٌ من النسيان على الدور الذي قام به في السرقات)، وانضَم إليهما أمام لوحة الإعلانات، فسأله جمعة: «أتعرف مكان تل لونجوي، يا نلسون؟»
فأجاب: «نعم. أعرف تل لونجوي. ولِمَ؟ إنه تلٌّ كبير يختفي وراء التلال الكثيرة المجاورة للمدرسة. ويُمكِنك أن ترى البحر من فوق قمته.» ثم أشار إلى سلسلة التلال المحيطة بالمدرسة في هيئة نصف دائرة، والتي تفصلها عن السهول الساحلية، ثم استطرد يقول: «تستغرق الطريق إليه ساعةً كاملة خلال الغابة.»
فقال جمعة: «إني أتوق إلى مثل هذه الرحلة! إنني أنتظرها بفارغ صبر، وأرجو أن يكون الطعام وفيرًا متعدِّد الألوان!»
وبينما هم يتحدَّثون عن الرحلة دقَّ الجرس فقطع حديثهم، وانصرف ثلاثتُهم إلى حجرات الدراسة.
بعد أن انتهى التلاميذ من الدراسة، ذهبوا في أصيل ذلك اليوم إلى النهر للاستحمام، ثم أخذوا يتحدَّثون عن الرحلة وهم فرِحون مرِحون. وكان الصغار منهم يقلِّدون الفهود وهي تَقفِز، فينقَضُّ كل تلميذ على الآخر وسط الماء ويُحدِث صوتًا مخيفًا كأصوات الوحوش الكاسرة، ويشتبك كل اثنَين في عراكٍ ثم ينفصلان ضاحكَين وهما يصرخان ويقذفان بعضهما البعض برشاش الماء.
أما جمعة فكان يفكِّر فيما عسى أن يحمل التلاميذ معهم من الطعام في تلك الرحلة، وهل سيستطيع أن يحصُل على نصيبٍ يفوق نصيب زملائه، أو هل سيكون التوزيع عادلًا، ثم أفاق من تفكيره فخلع ملابسه، وعندئذٍ رأى مارك يَسْبح وسط النهر، فأسرع بخلع سرواله، وجرى إلى الشاطئ، وقفز في الماء، وأخذ يضرب المياه بسواعده الفتية القوية حتى وصل إلى مارك، الذي كان يناضل وسط اليم ضد التيار القوي، فقال له جمعة: «ماذا أعدَدتُم لنا من الطعام في هذه الرحلة، يا مارك؟»
استدار مارك ليرى محدِّثه، فإذا به جمعة، فقال له: «أهذا أنت، يا جمعة؟ لقد صدَق ما تكهَّنتُ به من أنك لن تفكِّر في شيء لهذه الرحلة غير الطعام، وعلى أية حال اطمئن، يا عزيزي. أعدَدنا صنوفًا كثيرة بكمياتٍ كبيرة، ولكننا سنحملُها نحن أنفسنا، وسنقطع الأحطاب والأخشاب من الغابة لطَهوِها. وستكون هناك مباراةٌ بين الفرق، ستنال أول فرقة تُعِد الشاي والطعام قبل غيرها جائزةً ثمينة.»
قال هذا وغطَس تحت سطح الماء، فإذا بجمعة يُمسِك بساقه فجأةً ويجُرُّه إلى الأعماق؛ حيث تصارعا في قاع النهر حتى بُهرَت أنفاسهما وشعَرا بالاختناق، فصَعِدا إلى صفحة النهر وهما يضحكان.
فقال جمعة: «هل سيُرافقنا الأستاذ جون، يا تُرى؟»
– «نعم. وسيُحضِر معه قذَّافتَه. هيا بنا نتسابق في السباحة إلى الشاطئ.»
شرع مارك وجمعة يَسْبحان نحو الشاطئ، وكلٌّ منهما يعمل جاهدًا ليصل إلى الشاطئ قبل الآخر، ولكن النضال بينهما كان سجالًا طَوال الوقت، حتى وصَلا إلى حيث يُوجَد الأولاد في المكان الضَّحل. وكان التلاميذ يرشُّون بعضهم بعضًا بالماء، وكسا بعضُهم جسمه بالصابون قرب الشاطئ.
أبصر التلاميذ جمعة ومارك يسبحان بجِد، فأدركوا أنهما يتسابقان، فوقفوا يشجِّعونها بعباراتٍ حماسية، فقال علي: «هذا رائع يا جمعة! إنك تسبح بمهارة يا مارك! هيا أسرِعا، نريد أن نرى مَن منكما سيفوز على الآخر! ليخرُج مِن الماء كل مَن فيه ليُفسِح لهما المكان. هيا، أسرِعا! مرحى! مرحى! اسبَحا بأسرعِ ما يُمكِنكما!»
وصل المتسابقان إلى البَر، فصفَّق لهما الجميع، وجرى البعضُ إليهما مهنئًا بتعادلهما.
وعندما كان مارك يرتدي ملابسه، لاحظ عُلبةً معدنية تسقط من جَيب قميص جمعة، فقال له: «انتَبِه، يا جمعة. لقد سقط من قميصك شيء.» ثم انحنَى ليلتقطه فإذ به عُلبةٌ صغيرةٌ من الصفيح مطلية باللون الأزرق، وقرأ على أحد أركانها «لفائف تَبغ من صُنع لندن»، ثم لاحظ أن العلبة جديدة.
ناول مارك زميله العلبة، قائلًا: «أرى أنها عُلبة لفائف تبغ!» تلفَّت جمعة حوالَيه وهو يأخذ العلبة من مارك، خشية أن يكون قد لمحَها أحد من التلاميذ الواقفين قربه، ثم فتحها وقدَّمها إلى مارك ليرى ما فيها. كانت مليئة باللفائف لم تنقُص واحدة، وكانت مبطَّنة بورقٍ فضي، ثم أحذها منه ثانية، وقال: «سنُدخِّن الليلة سويًّا، يا عزيزي!»
فقال مارك: «شكرًا، يا جمعة. لقد امتنعتُ عن التدخين منذ أن صرتُ رائدًا. لا بد أن أكون قدوةً حسنة لتلاميذ فصلي، وأنت تعلم هذا، ولكن كيف حصَلتَ على هذه العُلبة؟ إنها إنجليزية، غالية الثمن. إنها من نفس النوع الذي كان يدخِّنه الناظر عندما عاد من إنجلترا.»
قال: «أعطانيها رجلٌ أعرفه في المدينة.» ووضع العلبة في جيبه، ثم واصل حديثه قائلًا: «نعم، إنها من النوع الفاخر، ولكني لا أهتم بنوعها طالما هي لفائف تبغ.»