صراعٌ مع النمر
وصلَت فرقة مارك إلى المكان الذي سيُعسكِرون فيه على منحدرات تل لونجوي؛ حيث يُمكِن رؤية السهل الساحلي المنبسط حتى البحر، الذي يبعُد عنهم بعشرة أميال. وكانت أشعة الأصيل تسقط كالتبر على صفحة ماء البحر الصافي، فيُخيَّل إلى الرائي أنها النُّضار أذيب في الفضة. بيد أن الوقت لم يكن ليسمَح لهم بالوقوف لمشاهدة جمال الطبيعة؛ إذ كانت فرقةٌ أخرى قد سبقَتْهم إلى هناك. وسرعان ما أمر مارك رفاقه بالاحتطاب وإشعال النار والبدء بإعداد الطعام؛ فقد بدأَت المباراة لمعرفة مَن سيُعِد طعامه قبل الآخر. وما هي إلا دقائقُ حتى وصلَت الفرقتان الأخريان. ودوَّى جانب التل بصوت سقوط الفئوس على الأخشاب وصياح الغلمان. وانطلَق الأولاد بزيِّهم الكاكي منتشرين في كل موضع. بعضهم يُحضِر الماء من الينبوع القريب، وبعضهم يُحضِر الحطب اللازم لإشعال النار، والبعض يجثو على الأرض ينفُخ النيران المتمرِّدة كي تلتهب بقوة. وعلى مقربةٍ منهم وقف الأستاذ جون تعلو شفتَيه ابتسامة الغبطة والرضى، وفى يده بندقيَّته على أهْبة الاستعداد لأي خطرٍ يقع.
ثم صاح مارك، قائلًا: «أحضِر الوقود، يا جمعة! فهذه النار لا تشوي صرصورًا، مِن المؤكَّد أنها لا تكفي لطهو وجبةٍ كاملة.»
فقال جمعة: «ها أنا ذا آتٍ!» قال ذلك بينما كان يتوغَّل بعيدًا في الغابة الكثيفة يبحث عن أغصانٍ جافَّةٍ سَهْلة القطع، وسار في حَيْطة وحَذَر، فلم تبرح مخيِّلتَه مغامرةُ فرقته مع ذلك الأفعوان، فلما رأى كومةً كبيرة من الأغصان الجافة المتساقطة أسفل بعض الشجيرات، أخذ يقلِّب بصَره حوالَيها بإمعان، ثم قال لمحمد الذي كان يرافقه: «دُر حول الأغصان قُبالتي، وراقب ما يحدُث عندما ألقِي حجرًا وسطها.»
فلما ألقى الحجر توقَّع أن يسمع حفيفَ ثعبان، ولكنه بدلًا من ذلك سمع زمجرةَ حيوانٍ بين الشجيرات، زمجرةً لم يكن ليتوقَّعها إطلاقًا.
أخذ جمعة حجرًا آخر، وألقاه حيث ألقى الحجر الأول، وقال: «ماذا هناك؟ أترى شيئًا، يا محمد؟»
فأجاب: «لم أرَ شيئًا حتى الآن، ولكنَّ هناك جسمًا ضخمًا بين تلك الشجيرات.» وتوقَّف عن الكلام بُرهة، ثم واصل يقول: «أتظُن هذا الشيء نمرًا؟»
فقال جمعة: «لقد نسيتُ كل شيء عن النمرة. ربما كان ذلك. وعلى أية حال، اذهب ونادِ الأستاذ جون، وسأبقى هنا أراقب المكان.»
جرى محمد عائدًا إلى المعسكر، بينما ظل جمعة واقفًا في مكانه لا يتحرَّك، وقد ثبَّت بصَره على ذلك الجسم الذي رآه خلف الأغصان، وأمسك بالفأس في يده على استعدادٍ ليضرب بها الحيوان إن خرج من مكمنه. وما هي إلا لحظاتٌ حتى حضر المدرس بقذَّافته يصحبُه ستة من الصبيان جذبَتْهم إشاعة العثور على نمرٍ قُرب المعسكر.
وتساءل الأستاذ جون: «هل رأيتَ شيئًا يا جمعة؟»
– «حتى الآن، لم أبصِر شيئًا، يا سيدي، هل أرمي حجرًا بين الأشجار؟»
– «انتَظِر قليلًا.» ثم التفَت إلى الأولاد، وقال: «أما أنتم أيها الغلمان، فقِفوا في دائرة حول الأشجار. وعندما آمركم، اصرُخوا جميعًا بأعلى صوتكم، واقذفوا أحجارًا وسط الشجيرات. بهذا يخرج أيُّ حيوانٍ يكون مختبئًا هناك.»
وفي الحال اصطف الأولاد في دائرة حول الأشجار، بينما وقف الأستاذ جون مستعدًّا بالبندقية، ليُطلِق النار على أي حيوانٍ يظهر من بين الأحراج، ومرَّت لحظات قال بعدها: «هيا، اصرُخوا!»
ما إن قال هذا حتى دوَّى المكان بصيحةٍ جماعيةٍ عالية، وانهال وابلٌ من الأحجار أسفل الأشجار، فانبعثَت زمجرةٌ غاضبة، ثم سمعوا خشخشة الأغصان والأوراق عندما تحرَّك وراءها جسمٌ ضخم. وفي الحال رفع الأستاذ جون بندقيته إلى كتفه، وصوَّبها نحو الحيوان، ووضَع إصبعَه حول الزناد، وانتظر في لهفة بينما صاحت دائرة الأولاد صيحةً أخرى، وأمطَرَت المكان بسيل من الحجارة — وفي تلك الآونة زأر الحيوان زأرةً مدوِّية اهتَز لها التل. وفجأةً تكسَّرَت الأغصان، وظهَر من بينها عينان غاضبتان تقدَحان شررًا.
فصاح جمعة، يقول: «ها هو ذا، إنه نمر.» وكان قُبالته تمامًا. عندما سدَّد الأستاذ جون قذَّافته ناحية النمر، وأطلَق منها رصاصة. اندفع النمر من بين الأغصان الجافة، فلم تُصِبه الرصاصة، فاستقر واقفًا عن يسار جمعة مباشرةً وزمجَر، ثم انطلق يَعْدو في الطريق المؤدِّي إلى المعسكر.
ولمَّا رأى الأستاذ جون أن قذيفته لم تبلُغ هدفها، خفَض بندقيته وصاح: «خلفه، أيها الأشبال.»
انطلق الأولاد جميعًا في كتلةٍ واحدة خلف النمر يصيحون بأعلى صوتهم إنذارًا لزملائهم بالمعسكر أن يكونوا على حذَر. وكان عليٌّ هناك يتولى الإشراف نيابةً عن الأستاذ جون، فلما سَمِع الصيحات الأولى أمَر الأولاد بترك النار وما فوقها، والوقوف بسرعة في دائرة حول المكان الذي ضرَبوا فيه خيامهم. ولمَّا أبصر النمر يجري نحوهم، أمر الواقفين في طريقه أن ينتَحوا جانبًا، حتى يستطيع أن يدخل في ساحة المعسكر الذي يُحيط به بقية الغلمان. ودخل النمر وسط تلك الساحة يَقْلب في طريقه قُدور العظام وهو يقفز في ذعر ووحشية، ويتلفَّت حوالَيه.
فصاح عليٌّ في الأولاد: «صيحوا بأعلى أصواتكم!»
فلما سمع النمر الصِّياح من كل جانب، جثَم خلف صخرةٍ عاليةٍ ضخمة بوسط المعسكر، وزمجر في غضب.
وفي هذه اللحظة أقبل الأستاذ جون وجماعتُه، وفي الحال أمر الأولاد بالصياح، وسار هو ببطء ناحية النمر والبندقية عند كتفه على أهْبَة الانطلاق. فأدار النمر وجهه نحوه، واستجمع قواه ليقفز ويهجُم عليه. ولمَّا صار الأستاذ جون على بُعدٍ قريب من الوحش، سكت الأولاد وأنصَتوا ليَرَوا ما سيحدُث بعد ذلك.
ثم توقف عن السير، وسدَّد البندقية نحو النمر، وضغَط على الزناد، وفي اللحظة نفسها اندفع النمر يريد الانقضاض عليه، وارتفع في الهواء، ولكن الرصاصة أصابَتْه، فسقط على الأرض يتلوَّى ويزأر، فأطلَق عليه الأستاذ جون قذيفةً أخرى، وعندئذٍ سكنَت أعضاؤه، وتمدَّد فوق الأرض جثةً هامدة.
ساد السكون برهة، ثم صاح الأولاد جميعًا في صوتٍ واحد، قائلين: «مرحى! مرحى!» وهم يندفعون نحو أستاذهم لتهنئته بهذا الفوز المبين، وليَرَوا النمر المقتول.
فقال علي: «إنا لَنَدين لك بالشكر، يا سيدي؛ فقد أنقذتَنا جميعًا.» وتقدَّم نحوه مصافحًا.
فقال الأستاذ جون: «هذا وداعٌ للسيد نمر، ولكنه أفسَد علينا المسابقة. وليس من العدل في شيء أن نستَمِر فيها الآن.»
فقال مارك: «إنك لعلى حق، يا سيدي؛ إذ أضاعت فرقتي وقتًا طويلًا في البحث عن النمر. وربما كان لنا الحق في المكافأة لاكتشافِنا إياها.»
فقال الأستاذ جون: «طبعًا أنت ترى أن اقتراحك معقول، بيد أن رؤساء الفرق الأخرى لا يَرونَه كذلك … وهم لن يوافقوا على ذلك … كلَّا! سنعقد نفس المباراة مرةً أخرى. وعلى أية حال، من منكم لديه الآن قدحٌ من الشاي لي؟ إني أشعُر بظمأ بعد قتل ذلك الوحش.»
وما هي إلا لحظاتٌ حتى كان أمام الأستاذ أربعة أقداحٍ من الشاي؛ إذ صمَّمَت كل فرقة على أن تقدِّم له قدحًا … فشَرِبها جميعًا.