عودة إلى الكهف
أتيحَت لمارك فرصةٌ ثانية لزيارة الكهف؛ ففي اليوم التالي أعلن أستاذ العلوم أنه سيذهب مع التلاميذ بعد الظهر في رحلة إلى التلال المجاورة للمدرسة، لجمع الأزهار والنباتات التي تنبُت هناك، والتي يحتاجون إليها في دراستهم.
وبينما أخذ التلاميذ يتسلقون التل، كان مارك يفكِّر في الكهف. وكان في حاجةٍ إلى من يساعده. ولمَّا لم يكن محمد من بين تلاميذ فصله، فقد رأى أن يستعين بنلسون؛ لأنه الزميل الوحيد الذي يُمكِنه الاعتمادُ عليه، فقرَّر أن يُفضيَ إليه سرًّا بذلك الموضوع.
فذهب إلى نلسون، وانتحى به جانبًا، وقال له: «أيمكنك أن تساعدني في أمر، يا نلسون؟»
فأجاب نلسون على الفور بقوله: «نعم، بكل تأكيد. وأنت تعلم أني أتلهَّف إلى تأدية خدمةٍ لك.»
أسَرَّ مارك إلى نلسون باكتشافه للكهف، وبما وجدَه فيه، وبآثار عَجلات السيارة، وبالفكرة التي جالت بخاطره، ثم قال: «يجب أن أذهب اليوم إلى الكهف وألقِي عليه نظرة. وعلى ذلك فأنا لا أستطيع جمع النباتات التي يريدها الأستاذ … فهلَّا جمَعتَ لي يا نلسون مثل ما تجمع لنفسك؟»
– «بكل سرور، ولو أنني أفضِّل المجيء معك. وقد كان في نيتي الاختفاء بعيدًا عن التلاميذ لأعِد لنفسي كوبًا من الشاي. أما الآن فلن أجد متسعًا من الوقت لذلك؛ إذ عليَّ أن أجمع مجموعتَين من العيِّنات.»
جرى مارك يتسلق التل في سرعة، وابتعد عن رفقائه دون أن يفطن أحدٌ إلى ذلك. وعندما اقترب من الكهف، أخذ يمشي في حذَر. سمع صوتًا خافتًا من بعيد، صوتًا يصدُر رنينُه من قاع التل، ومن الناحية المواجهة للبحر، فوقف يُنصِت، فإذا به صوتُ سيارةٍ قادمة نحوه. فاختبأ بسرعة وسط الأحراج في مكان يستطيع منه أن يراقب مدخل الكهف. وبينما هو في مكمنه، سمع صوت السيارة يقترب، فخفَض رأسه في مخبئه.
وعندما سمع محرِّك السيارة يقف، استَرَق النظر من بين النباتات التي تُخفيه عن الأعين، فرأى سيارةً عتيقة، واقفة بقرب مدخل الكهف. وقد جلس رجل في مقعد القيادة، بينما تسلل اثنان إلى الكهف. أخذ مارك يُنعِم النظر في وجه السائق. كان رجلًا بدينًا، ذميم الخلقة، لم يَرَه من قبلُ، ولكي يستطيع التعرُّف عليه، ظل يحدِّق في وجهه بضع ثوانٍ، وما هي إلا لحظاتٌ حتى عاد الرجلان الآخران من الكهف يحملان الصندوق الثقيل الذي رآه أول مرة، وبينما هما يضعانه في السيارة، ترك السائقُ البدينُ مقعده، ونزل ينظُر حوله في جميع الجهات. ثم اتجه ببصره ناحية الأحراج التي اختبأ مارك خلفها. وكان مارك على يقينٍ من أن عينَي ذلك الرجل السمين الثقيل تستطيعان النظر خلال الفتحات التي بين أوراق الأشجار، فانكمَش وتراجع إلى الخلف قليلًا في مخبئه، وظل قابعًا فترةً خُيِّل إليه أنها دهر، حتى تحرَّكَت عينا الرجل في جهةٍ أخرى، وعندئذٍ تنفَّس الصُّعَداء، وعادت إليه طمأنينتُه.
صَعِد الرجلان بعد ذلك إلى السيارة، وصَعِد السائق خلف عَجلة القيادة، ثم استدار بالسيارة فسارت هابطةً أسفل التل.
وبقي هو في مكمنه حتى خفَت صوت السيارة، وتلاشى في ذلك الفضاء الواسع، فخرج من بين الشُّجيرات، وذهب إلى الكهف فوجده خاويًا كما توقَّع، ليس به سوى آثار الصناديق. ومهما كان الأمر، فقد أفاد شيئًا؛ إذ شاهَد بنفسه الرجلَين وهما ينقلان الصندوق من الكهف إلى السيارة، ورأى السائق، ورأى السيارة، وتعرَّف على شكلها تمامًا. بيد أن الرجال لم يُخلِّفوا وراءهم دليلًا ينمُّ عن العمل غير المشروع الذي يقومون به، كما لم يتركوا شيئًا يدُل عن شخصيتهم.
وعندما دار على عقبَيه ليخرج من الكهف، اصطدَمَت قدمه بشيء أحدَث صوتًا معدنيًّا، فانحنَى والتقَطه وخرج به ليتفحَّصَه في الضوء.
«ما هذا؟! إنه عُلبةٌ مليئة بلفائف التبغ، ومن نفس النوع الذي رأيتُه يسقُط من جمعة، لا بد أن أسأله عن مصدرها مرةً ثانية.»
ولمَّا رجع إلى زملائه على الجانب الآخر للتل، كان نلسون ينتظره ومعه حزمةٌ كبيرة من النباتات، فسأله في لهفة: «هل وجدتَ شيئًا جديدًا؟»
قال: «نعم، آمل أن أكون قد وُفِّقتُ في معرفة شيءٍ جديد، على الأقل.» وأخبره بقصة السيارة العتيقة، وبعثوره على عُلبة لفائف التبغ.
فقال نلسون: «اسمع، يا مارك، أنا الذي سأسأل جمعة، في هذه المرة، عن مصدر هذه اللفائف. لقد سألتَه أنت مرةً من قبل، فإن عُدتَ إلى سؤاله ربما ساورَتْه الشكوك وأنذَر المهربين.»
قال: «هو كذلك، يا نلسون. هلُم بنا إلى المدرسة، حتى لا يعُدُّونا غائبين.»
تناول نلسون طعام العَشاء في تلك الليلة، وبعد أن انتهى من ذلك شاهَد جمعة يخرج من المطعم، فتَبِعه، وقال له في لهجةٍ عابرة: «تُرى؟ ماذا سيفعل الأستاذ جون بجلد النمر الذي ساعدناه في سلخه؟»
فقال جمعة: «ألا تعلم، يا نلسون، أنه أهداه إلى المدرسة لتصنع منه مِيدَعةً لحامل الطبل الكبير؟»
قال: «هذا كرمٌ بالغ منه!» وسكت قليلًا، ثم قال: «وأنتَ كريمٌ أيضًا … أعطني لِفافة تبغ.»
فقال جمعة على الفور: «ومن أنبأك أن معي لفائف تبغ؟ ثم إنك لا تدخِّن!»
قال: «هيا، أخرِج اللفافة … أنا أعرف أن معك لفائفَ تبغ. لستُ رائدًا، الآن. وأنت تعرف هذا.»
وضع جمعة يدَه في جيبه، وأخرج العُلبة الزرقاء في تردُّد، ثم أخرج منها لِفافة، وناوَله إياها.
فقال نلسون في سذاجة: «كم كلَّفَتك هذه العُلبة؟»
تلفَّت جمعة حوالَيه ليتأكد من أنهما وحدهما في ذلك المكان، ثم همَس قائلًا: «لايهمُّني أن أخبرك بأمر هذه اللفائف، يا نلسون، رغم أنني لا أخبر به أحدًا غيرك. هذه العُلبة أعطانيها صديقٌ لي بالمدينة. لقد أخذها بدَوره من صديقٍ له يعمل على إحدى البواخر.»
فقال نلسون: «أيُمكِنه أن يُحضِر لي بعضًا منها؟»
قال: «يمكنك أن تطلب منه إذا ذهبتَ إلى المدينة.» فقال نلسون في براءةٍ ظاهرة: «ولكني لا أعرفه.» قال جمعة: «إنه سائق سيارة، يعرفه أغلب الناس، وهو رجلٌ ضخمٌ بدين، يميل إلى مصادقة الناس … ولِمَ تُجهِد نفسك في البحث عنه؟ إن عمَّك يعرفه حق المعرفة.»
اكتفى نلسون بهذه المعلومات، وانصرف ليبحث عن مارك، فلما التقى به، قال له: «حصَل جمعة على لفائف التبغ من سائقِ سيارةٍ بدين.»
دهِش مارك، وقال: «من سائقِ سيارةٍ بدين؟ لا بد أنه الرجل الذي رأيتُه عند الكهف اليوم. لقد تأكَّدتُ الآن من أنهم يُهرِّبون لفائف التبغ الإنجليزية، دون أن يدفَعوا عنها الضريبة الجمركية المقرَّرة.»
فقال نلسون: «هذا صحيح. وربما كانوا يهرِّبون أشياءَ أخرى أيضًا.»