القبض على المهرِّبين
دوَّت الصَّفَّارة في وقتها المناسب تمامًا؛ فعندما سمع الرجلان الآخران صياح زومبي هُرِعا إلى الكهف فوجداه يناضل مارك. وعندما انطلقَت الصفَّارة، صاح الأولاد وهم ينقَضُّون على المهرِّبين، فخُيِّل إلى المجرمين أن زبانية الجحيم قد انطلقَت من عِقالها، فأرخى زومبي من قبضته، ووثَب واقفًا على قدمَيه ليواجه الخطر الجديد.
ما هي إلا لحظة حتى كان الأستاذ جون وتلاميذُه يُحيطون بالرجال الثلاثة إحاطة السوار بالمعصم، وبدأ نضالٌ مرير داخل الكهف.
وشرع الأولاد يُثخِنون الرجال ضربًا بعِصِيِّهم، ثم رأَوْا أن عِصِيَّهم لن تُجديَهم نفعًا في هذه المعركة، فألقوا بها جانبًا، وانقَضُّوا على المهرِّبين انقضاض الضباع الجائعة على الثيران، فأخذ ثلاثةٌ منهم يقاتلون زومبي البدين القوي العملاق، بينما انبرى الأستاذ جون وتلاميذُه الثلاثة الآخرون إلى الرجلَين الآخرَين، وطَفِقوا يتدحرجون فوق الأرض، فامتلأ الجو بالصُّراخ، ودوَّى المكان بالصِّياح، وردَّد الهواء صوت الضربات واللكمات والركلات.
في وسط ذلك المعمعان، صاح الأستاذ جون يقول: «مارك … أين أنتَ يا مارك؟»
كان مارك لا يزال طريحًا على الأرض خائر القوى … فلمَّا سمع اسمه نهض واقفًا. وفي هذه اللحظة أبصر شيئًا يلمع في يد زومبي قد انتزعه من منطقة في وسطه … لقد استَلَّ زومبي سكينًا من حزامه ليطعَن بها مهاجميه؛ فما إن رأى يدَه تهوي نحو رقبة نلسون حتى هجَم عليه مارك في سرعةٍ خاطفة، فقبض على ذراعه القوية ولواها في عنف وأخذ منها السكين … وعندما رأى الأستاذ جون السكين تلمع، رفع مؤخر بندقيته، وهوى به على رأس زومبي.
فترنَّح جسم زومبي كما تترنَّح دوحةٌ ضخمة اقتلعَتها عاصفةٌ هوجاء. وقد انبعثَت من فمه أنَّة ألَم، وارتمَى على الأرض لا يتحرك.
اشتبك جمعة ومحمد مع أحد رجال زومبي، وكان لا يقل عنه قوة، فألقَياه على ظهره، ولكنه قاتَل كالكلب الهائج، يعَضُّ ويرفس ويخدِش وجهَيهِما بأظافره الطويلة الحادَّة القذرة. وأخيرًا أمسك بذراعَيهما وجذبهما بقوة نحوه على الأرض، وانقلب يبرك فوقهما يبغي الفتك بهما، وكاد يتغلب عليهما لولا أن هبَّ لنجدتهما زملاؤهم الذين كانوا يقاتلون زومبي، فانقَضُّوا على ذلك الرجل وأوسعوه ضربًا بعِصِيِّهم وركلًا بأحذيتهم، حتى اضطُر إلى ترك جمعة ومحمد، وانبرى إلى هؤلاء الثلاثة، فإذا بجمعة بجذبه من قفاه فيُوقِعه على الصخر، ويبرك فوق صدره ورأسه بينما الهِراوات تنهال كالمطر على جسمه وفخذَيه من كل جانب.
أما الرجل الثالث فقد أراد الهروب، لولا أن غلامًا واحدًا تشبَّث بحزامه رغم اللكمات التي كان يَكيلُها له الرجل، فاستجمع الصبي كل قواه وسدَّد ضربةً شديدة بطَرَف حذائه إلى قصبة ساق الرجل، فخَرَّ جاثيًا على إحدى ركبتَيه، وعندئذٍ أسرع الغلام بلكمةٍ إلى أنفه جعلَت الدم ينبثق منه، وبركلةٍ في بطنه. غير أن عنف الضربة جعلَ الرجل يثور ويهُب واقفًا ليُعاود نضال الصبي من جديد. كل هذا والباقون مشغولون عنهما، لا يَدْرون بما يجري بينهما. وأخيرًا صوَّب الرجل لكمةً إلى صدر الولد فأبعَده عنه، واندفع يعدُو خارج الكهف صوب الطريق إلى أسفل التل.
في تلك اللحظة فزع كل فرد من صوت سيارةٍ مندفعة من الطريق نحو الكهف. وكان ضوء مصباحيَها القوي ينفُذ خلال الشجيرات فيُعمي الأبصار، ثم وقفَت أمام مدخل الكهف.
وما كادت السيارة تقف حتى قفَز منها الضابط ومعه أربعةٌ من رجاله، وصاح قائلًا: «أأنت هنا، يا أستاذ جون؟ هل قبضتَ على المهرِّبين؟»
خرج الأستاذ جون إلى الضابط عندما سمع صوته، وقال: «نعم، قبضنا على اثنَين منهم. غير أنهم كانوا ثلاثة، واستطاع الثالث أن يهرُب في أثناء القتال. وعلى أية حال، فقد وجدنا مارك بخير. وهذا ما كان يُقلِق بالي ويُبلبِل خاطري.»
فقال الضابط: «معذرةً لتأخُّرنا؛ فقد انفجَرَت إحدى عَجلات سيارتنا، فاستغرَق إبدالها بعض الوقت. وعندما وصلنا إلى سفح التل، أخبرنا أحد غلمانك بأنك صَعِدتَ إلى الكهف، ثم سمعتُ صياحًا وضجيجًا فأسرعتُ نحو مصدرهما. أين المهرِّبان اللذان قبضتَ عليهما؟»
أمر الضابط رجاله بوضع الأصفاد في أيدي زومبي وزميله. وكان زومبي لايزال فاقدًا وعيه. وقد عَرفَه الضابط لأول وهلة، وقال: «كنا نشك منذ زمنٍ بعيد في مسلك زومبي، ولكننا لم نستطع إثبات شيء ضده؛ إذ كان يتصرَّف بحذَرٍ بالغ. وإن مأمور القسم سيقدِّم لك عظيم الشكر عندما يعلم بالقبض عليه متلبسًا بالتهريب، يا أستاذ جون! والآن، أين مارك؟!»
تقدَّم مارك من الضابط، وقال: «ها أنا ذا، يا سيدي!»
فقال الضابط: «أين الصناديق التي يقول الأستاذ جون إنهم نقلوها من القارب إلى السيارة؟»
كان الألم ما فتئ يُبرِّح برأس مارك، فأخذ يستجمع ذاكرته، ثم أشار إلى داخل الكهف وإلى السيارة الواقفة على مسافةٍ قريبة خلف الأحراج، وقال: «بعضها في الكهف، والباقي لايزال في تلك السيارة العتيقة، يا سيدي!»
دخل الضابط مع مارك الكهف ومن خلفهما بقية التلاميذ، فأضاء مصباحه الكهربي، وتجمَّع حولهما بقية الغلمان، فرأى الضابط صندوقَين في الركن الأيمن البعيد، فأخذ يقرأ ما عليهما على ضوء مصباحه، ثم قال: «نعم، إنهما كانا فعلًا في إحدى البواخر قريبًا؛ فهذا تاريخ تصديرهما من إنجلترا مكتوب عليهما، مما لا يدع مجالًا للشك في تهريبهما.» … ثم أمر أحد رجاله بفتح الصندوقَين، ففتحَهما بفأسٍ كانت معه، وأخرج محتوياتهما، فقال الضابط: «إنها كما تكَهَّنتَ يا مارك … لفائف تبغ، وبانجو وأشياءُ أخرى ممنوعة. وما من ريبٍ في أن ضريبة الجمارك لم تُدفَع عن كل هذه الأشياء. وعلى أية حال، فالبانجو ممنوعٌ من دخول البلاد. وهذا وحدَه عملٌ يُعاقِب عليه القانون أشد العقاب.»
أطل الأولاد برءوسهم ليَرَوا ما تحويه الصناديق، فقال جمعة يتندَّر: «ربَّاه! إن ما بالصندوقَين من تبغٍ لَيَكفي الأستاذ جون طَوالَ حياته، أو لعشر سنواتٍ على الأقل!»
فقَهقَه الأستاذ جون ضاحكًا عندما سمع اسمه مقترنًا بالفكاهات! وقال: «لا فائدة من النظر إلى لفائف التبغ، يا جمعة. إن الضابط سيأخذها جميعًا ويُرسِلها إلى مفتِّش الجمارك ليُصادرها!»
فقال الضابط: «سأترك أحد رجالي يحرُسُها حتى نُرسِل في إحضارها.»
خرج الأولاد من الكهف، وأخذوا ينظرون إلى الأفق وقد بان البحر من بعيدٍ يلمع في ضوء الفجر الوردي الأنامل، فقال الأستاذ جون: «قد حان موعد رجوعنا إلى المعسكر؛ فالجميع هناك ينتظروننا على أحَرَّ من الجمر!»
فسأل نلسون فجأة: «أين عليٌّ وفرقتُه، يا سيدي؟»
قال: «رحماك، يا إلهي! لقد نسيتُهم تمامًا. ربما يكونون قد ضلوا الطريق. يجب أن نبحث عنهم ونحن عائدون.»
اصطَفَّ الأولاد في طابورٍ واحد، وأخذوا يَهبِطون التل، يتقدَّمهم الأستاذ جون، وبينما هم سائرون، مرَّت بهم سيارة الشرطة تحمل زومبي ورفيقَه أسيرَين في حراسة رجال الشرطة بالجزء الخلفي من السيارة، وقد أمسكوا بالمسدسات في أيديهم خشية أن يُحاوِلا القفز من السيارة.
لم يتقدم الأولاد في سيرهم طويلًا حتى سمعوا صوتًا آتيًا من الأحراج على يمين الطريق، فوقفوا ليَرَوا ماذا هناك، فإذا بعليٍّ يخرج ويُحيِّي الأستاذ جون، قائلًا: «عِم صباحًا، يا سيدي! ماذا حدث لكم مع المهرِّبين؟ لقد ضلَلتُ الطريق مع فرقتي.»
فقال الأستاذ جون: «انتهى كل شيء على ما يُرام، يا علي. أنقذنا مارك، وقبضنا على اثنَين من المهربين، أما ثالثهم فقد استطاع أن يُفلِت منا.»
فقال علي: «كلا، يا سيدي! لم يُفلِت. لقد قبضنا عليه؛ فبينما نحن واقفون في جنح الظلام، إذا بشخصٍ يجري وسطنا مباشرة، فخطر ببالي أنه ربما يكون واحدًا من المهرِّبين، فاحتفظنا به حتى نتحرَّى أمره.»
قال: «هذا رائع منك، يا علي! والآن يُمكِننا أن نعود إلى المعسكر مرتاحي البال.»
وما هي إلا لحظات حتى خرجَت فرقة عليٍّ من بين الأحراج، وبينهم المهرِّب الهارب، يُجلِّل رأسه الخزي والخجل، فسار الجمع كله أسفل التل حتى بلغوا سيارة المدرسة؛ حيث كانت تنتظرهم، فركبوها، واحتفظوا بأسيرهم بينهم مقيَّد اليدَين. وسرعان ما وصلَت بهم إلى المعسكر، وقد أخذ التعب منهم كل مأخذ، ونال منهم الجوع، ولكنهم كانوا مغتبطين لنجاحهم في عملهم البطولي. وبعد أن استراحوا ونالوا شيئًا من الطعام، قاد عليٌّ والأستاذ جون أسيرَهم إلى المدينة، وسلَّموه إلى الشرطة.