الخيوط الأولى
كانت كمية الطعام كبيرةً في هذا اليوم، في كلٍّ من وجبَتَي الظهر والمساء. لقد أتت حراسة نلسون بنتائجَ طيبة، فأمر الناظر رائدًا آخر بأن يبيت في المطبخ هذه الليلة؛ فلقد وضَح له الآن أن لصًّا غريبًا عن المدرسة كان يتسلَّل إلى المطبخ ليلًا، والكل نيام، فيسرق الطعام دون أن يشعُر به أحد، غير أن مبيت نلسون بالمطبخ لم يمكِّنه من السرقة في هذه المرة.
بعد أن فحص الناظر طعام العَشاء بنفسه، وخرج ليتمشى في الخلواتِ والشمسُ على وشك المغيب، كي يطلق العِنان لتفكيره في أمر السرقة. وبينما هو عائد من التل يخترق الشجيرات الواقعة خلف حجرات النوم، تعثَّر في شيءٍ طري وكاد يسقُط على الأرض، فانحنَى ليرى ذلك الشيء، فإذا به بطانية … استطاع أن يراها بوضوح، حتى في ذلك الضوء الخافت. كانت جديدةً ونظيفة، مما يقطع بأنها لم تكن في هذا المكان منذ وقتٍ طويل، فأيقن أنها لا بد وقد سقطَت من شخصٍ كان في عجَلة من أمره، فوقف يتلفَّت حوالَيه، حتى يحدِّد موضع البطانية تمامًا، وليستطيع أن يتذكَّره إذا لزم الأمر، ثم اتجه فورًا إلى مكتبه، واستدعى عليًّا رئيس الروَّاد، وأحضر مشعلًا حملَه علي، وعادا معًا إلى حيث تُوجَد البطانية.
– «أليست هذه إحدى بطاطين المدرسة يا علي؟»
– «نعم، يا سيدي! لا شك في هذا. إنني على يقينٍ من أنها بطانية محمد.»
– «حسَنٌ جدًّا. إنك كشَّاف، يا علي! تطلَّع حوالَيك، علَّك تجد أية آثارٍ لأقدام.»
طَفِق عليٌّ يبحث كما أمره الناظر، على ضوء المشعل. وما كاد يبتعد قليلًا حتى نادى الأستاذ بون، فلما وصل إليه، قال علي: «هنا، يا سيدي، آثارٌ لحذاءٍ من المطَّاط تصل إلى مكان البطانية، حذاءٍ ذي دوائرَ صغيرة في نعله.»
– «هذا عملٌ رائع، يا علي! وانظر في هذه الجهة أيضًا، بعيدًا عن البطانية.»
وسرعان ما اكتشف عليٌّ آثار أقدامٍ أخرى لنفس الحذاء، تتجه بعيدًا عن البطانية.
فقال الناظر: «إننا نتقدم في البحث بخُطًى واسعة. لا مراء في أن لصَّنا يلبس حذاءً ذا نعلٍ من المطَّاط به دوائرُ صغيرة، وقد كان في عجَلة من أمره، فلما سقطَت منه بطانية، لم يتوقف لأخذها؛ لأن الحِمْل كان عليه ثقيلًا … غير أنه يُحيِّرني سببُ سلوكه هذا الطريق؛ فلو استمَر في سيره خلال هذه الشجيرات، فإلى أين يقصد؟»
فقال علي: «يخرج من الحرج إلى الطريق المؤدي إلى القرية، يا سيدي!»
قال: «هذا محتمَلٌ جدًّا، يا علي! ويبدو أن لصَّنا قد أتى من هناك. أعتقِد أن أقصر طريقٍ من حُجرات النوم إلى القرية هو خلال هذه الشُّجَيرات.»
– «نعم، يا سيدي!»
فقال الناظر: «حسبُنا هذا الآن! يُخيَّل إليَّ أننا لن نستطيع أن نفعل أكثر من ذلك في هذه الليلة.»
وعندما رجَعا إلى المدرسة دخل الناظر حُجرتَه ومعه علي؛ حيث جلَسا يستريحان قليلًا، فقال الناظر: «أريد منك أمرَين، يا علي!»
فأجاب الرائد: «مُر، يا سيدي، تَجِدْني أطوعَ إليك من بنانك.»
قال: «أريد أن تعرف بطانية من هذه، وأن تُحاوِل معرفةَ ما إذا كان بالمدرسة مَن يلبَس حذاءً يُشبِه الحذاء الذي رأينا أثَره الليلة. فإن عثَرتَ عليه فقِسْ طُول نعل الحذاء وعَرْضه. افعَل هذا بتكتُّمٍ شديد، ولا تُطلِع أحدًا قَطُّ على مهمَّتك، ولكن كن حَذِرًا يا علي.»
– «سيمضي كل شيء كما أمرت، يا سيدي! وسأبذل كل ما في وسعي.»
انصرف عليٌّ راجعًا إلى حُجرة نومه دون أن يعلم أحدٌ أين كان، أو يدري عن خطَّته شيئًا. وبعد أن أوى الجميع إلى فِراشهم، واستغرقوا في نومٍ عميق، خرج الأستاذ بون وذهب إلى المكان الذي اكتشَف به أثَر الحذاء المطاط، وشَفَّ رسمًا على الورق لآثار الأقدام، ثم احتفظ بالرسم في مكتبه.
وفي اليوم التالي أرسل الناظر الأستاذ جون إلى القرية؛ حيث كان القوم يعرفونه حق المعرفة، وكانت حُجة الأستاذ جون البحث عن عاملٍ للمدرسة. أما الغرض الحقيقي من طوافه بالقرية فهو البحث عن البطاطين وهو يدخل ويخرج من بيوت سكانها، ولكنه لم يوفَّق إلى شيء. وقد حاول في أثناء حديثه إلى القوم أن يعرف ما إذا كان أحدٌ من سكان القرية قد ذهب في الصباح الماضي إلى المدرسة أو عاد منها. حاول ذلك دون جدوى.
وعاد إلى المدرسة ليُخبر الناظر بما فعل وقد أحَسَّ بالإخفاق في المهمة التي وُكلَت إليه؛ إذ كان يعتقد هو نفسه أن السارق من سكان تلك القرية. كذلك لم يوفَّق عليٌّ فيما كُلِّف به. لقد وجد تلميذَين أو ثلاثة لهم نفس نوع الحذاء، ولكن المقياس كان يختلف تمام الاختلاف عن مقياس الأثَر.
بعد أن دقَّ جرس نداء الأسماء في ذلك المساء، تحدَّث الناظر إلى عليٍّ والأستاذ جون، قائلًا: «أشكُر لكما مجهودَيكما. صحيحٌ أننا لم نتعرَّف على شخصية اللص، ولكننا، على ما أعتقد، قد ألقينا الرعب في قلبه. وعلى أية حال لا يجب أن نُغفِل المراقبة.»
فأجاب الأستاذ جون: «سآمُر جميع الروَّاد بالمراقبة الدقيقة.»