المُخبِرون
وصل الأربعة إلى المدرسة، فوجدوا جمعًا كبيرًا من التلاميذ ينتظرونهم وقد علَت الدهشة وجوههم. كانوا يرغبون في معرفة ذلك الأمر، الذي دعا الناظر ومن معه إلى الإسراع بالسيارة في تلك العجلة، والسبب الذي من أجله صَحِب الناظر الأستاذ جون والرائدَين معه! لا بد أن يكون هناك سِرٌّ خطير.
وسرعان ما أحاط بعضُ هؤلاء الطلبة بمحمد ومارك يستفسرون منهما عن سِرِّ هذه القصة، ويسألونهما عن مغامرتهما. أما الناظر فصَحِب الأستاذ جون إلى مكتبه، وجلسا يبحثان المسألة من شتى نواحيها، ويتشاوران فيما بينهما، فقال الناظر: «ما رأيك في هذا الأمر، يا أستاذ جون؟»
– «يبدو أن شخصًا ما، حاول سرقة عربة المدرسة.»
– «نعم، هذا ما تراءى لي أنا أيضًا. ومن الجليِّ أنه شخصٌ ماهر في قيادة السيارات. ولا أحد هنا في المدرسة يستطيع أن يقود السيارة بتلك المقدرة الفائقة غير سائق المدرسة … ولكنه ذهب إلى دار السلام منذ أربعة أيام، في إجازة. ومعنى هذا … أن السارق لا بد أن يكون شخصًا غريبًا.»
– «نعم، يا سيدي، لا بد أن يكون من المدينة لأنه، بحسب ما أعرف، لا يُوجَد بالقرية القريبة مِنا مَن يعرف قيادة السيارات.»
– «أتظن أن هناك علاقةً بين هذه المحاولة وسرقة البطاطين والأطعمة؟»
– «في اعتقادي أن هذا مُحتمَل جدًّا. وإن صح، فإنه يهدم فكرتي السابقة من أساسها؛ إذ كنتُ أظن أن السارق من سكان القرية.»
– «إنك على حق، يا أستاذ جون. إنني أميل إلى الاعتقاد بأنه شخصٌ من جهةٍ بعيدة عن هذه المنطقة، وربما كان من المدينة. يجب أن أخطِر الشرطة بهذه المحاولة، ولكني أريدُك أن تضَع خطَّة مع علي، للقبض على اللص إن حاول السرقة مرةً أخرى.»
– «حسَن! وسأدبِّر الأمر معه، يا سيدي.»
انصرف الأستاذ جون، فانزوى مع عليٍّ في مكانٍ قَصِي، بعيدًا عن الطلبة، وأخذا يستعيدان الأحداث وما يُمكِن عمله لمعرفة ذلك اللص الجريء، فقال الأستاذ جون: «إن الأمر ليتطلب استخدام جميع الروَّاد، وأظنهم جميعًا موضعَ ثقة، أليس كذلك، يا علي؟»
– «نعم، يا سيدي! ومن المحتمل أن يُمدُّونا بآراءٍ طيبة قد تُوصلُنا إلى حل ذلك اللغز.»
عُقد اجتماعٌ عاجل لرواد الفصول، فبَسَط أمامهم جون الأحداث التي وقعَت، ثم جلَس ينتظر تعليقاتهم … مضت فترة سكون لم يَنبِس خلالها أحد ببِنتِ شَفة، ثم تكلم علي، فقال: «وحتى إذا كان السارق غريبًا فلا بد أنه يعرف كل شيء عن المدرسة؛ لأنه عَرَف متى يسرق الطعام، ومتى يأخذ البطاطين!»
وافَق كثيرٌ من الروَّاد عليًّا على ذلك الرأي، ثم تحدَّث مارك فجأة، فقال: «لي ملاحظةٌ أخرى على مباراة كرة القدم. لقد سُرقَت السيارة عندما كنا جميعًا في الملعب. لا بد أن يكون هناك اتفاقٌ على ذلك؛ إذ سُرقَت في الوقت الذي لم يكن أحدٌ منا فيه قريبًا من حظيرة السيارات. نعم، لا بد أن يكون السارق شخصًا يعرف الكثير عن المدرسة.»
فقال الأستاذ جون: «هذه ملاحظةٌ دقيقة، يا مارك. أظنك اكتشَفت شيئًا بالغ الأهمية.»
وقال نلسون: «أما أنا، فلستُ من هذا الرأي؛ فجميع المدارس تُبقي الطعام في المطبخ ليلًا، وجميع المدارس تقوم بالتدريس في الصباح، وعندئذٍ يكون التلاميذ بالفصول ولا يكون أحدٌ منهم بحُجرات النوم. وكثيرٌ من المدارس يُقيم مباريات كرة القدم بعد ظهر يوم الخميس، وهذه كلها أمورٌ معروفة؛ لذلك فإني أعتقد أن السارق شخصٌ غريب تمامًا عن هذه المنطقة.»
انضَم ثلاثة أو أربعة روَّادٍ آخرين إلى رأي نلسون.
فقال الأستاذ جون: «حيث إننا نختلف في هذا الأمر، فلنتركه الآن جانبًا، ولنتحدث في شيءٍ آخر. أقترح أن تؤلَّف لجنةٌ خاصة لمراقبة ما يحدُث من جرائم، ومحاولة البحث عن المجرم، فإذا فتحنا عيوننا كما يجب، وأرهَفْنا سَمْعَنا، فقد نلتقط دليلًا ما يساعد على حل هذا اللغز.»
فقال علي: «أتقصد أن نصير مُخبِرين، يا سيدي؟»
فأجاب الأستاذ جون: «لا أعتقد أن لنا المقدرة والتدريب الكافيَين لنكون مخبرين. ومع كلٍّ، فلا مانع من أن نعتبر أنفسنا مخبرين.»
ظل الروَّاد مدة يومٍ أو اثنَين، بعد هذا الاجتماع، يجوسون خلال كل مكانٍ بحثًا عن شيءٍ قد يتصل بالجريمة من قريبٍ أو من بعيد، فقام بعضهم بفحص عجلة القيادة بالسيارة عسى أن يكون عليها بصماتُ أصابعِ شخصٍ غريب، فوجدوا كثيرًا من البصمات، ولكنها لم تكن إلا بصمات الناظر؛ فهو آخر من قاد تلك السيارة. وفحَص بعضٌ آخر باب الحظيرة، وقرَّروا أن السارق كسر القُفل بآلةٍ ثقيلةٍ غير حادة. بيد أن هذا كله لم يُوصلْهم إلى التعرُّف على السارق، أو يقرِّبهم من الحقيقة. وأخذ فريقٌ ثالث يتسمَّع حديث الصبيان، مختفين وراء الأبواب أو خارج نوافذ حجرات النوم.
عرف الروَّاد ما يقوله عنهم سائر التلاميذ، ولكنهم رغم هذا لم يعرفوا شيئًا يُمكِن أن يساعد على الوصول إلى سِر تلك السرقات، ولم ينجح في هذا غير مارك الذي جاء بأول خيط؛ فبعد ظهر يوم الجمعة كان يسير في المنطقة التي رؤي السائق فيها في اليوم السابق، وأخذ يفحَص المنطقة بعناية. وظل زُهاءَ ساعةٍ يفحَص ويفتِّش دون جدوى، وفجأةً عثَر على آثار أقدام لحذاءٍ بنعله ثقوبٌ مستديرة. وطَفِق يتبعُها بدقة، حتى لمَح قطعةً من القماش تتدلى من شُجيرةٍ شائكة، يبدو أنها قُطعَت من قميص صاحب آثار الأقدام وهو يجدُّ في الفرار، فعاد مارك وأخبر الأستاذ جون بما رأى، وأطلَعه على قطعة المنسوج، فسُر الأستاذ بذلك الاكتشاف أيما سرور، وقال: «هذا يُثبِت أنه نفسُ الشخص الذي سرق البطاطين والعربة، فإذا أمكنَنا العثور على شخصٍ له نفسُ آثار الأقدام، وله قميصٌ من ذلك القماش، نكون قد قبضنا على اللص.»
في تلك اللحظة صَلصَل الجرس يجمع التلاميذ، فذهب الأستاذ ومارك إلى مكان وقوف التلاميذ، فوجدَهم الأستاذ جون مصطَفِّين استعدادًا لقدومه — وبدأ ينادي الأسماء. كانوا جميعًا حاضرين، ولما بلغ اسم محمد، نادى: «محمد جمعة.»
فلم يرُدَّ عليه أحد.
وأعاد النداء: «محمد جمعة … محمد.»
ولكن لا مجيب على ندائه.
هل يعرف أحدُكم أين محمد؟ ولمَّا لم يرُدَّ عليه أحد، نادي الاسم الثاني: «موسى!»
– «موجود يا سيدي.»
– «نعمان.»
– «موجود، يا أستاذ!»
– «نلسون.»
فلم يرُدَّ عليه.
قطَّب المعلم جون، وقال لنفسه: «تلميذان غائبان!» ثم استمر يُنادي بقية الأسماء. وكان سائر الباقين موجودين.
بعد أن صرف الأستاذ جون التلاميذ، أمَر عليًّا بأن يحاول العثور على الطالبَين الغائبَين، ثم يعود إليه ليُخبره بأمرهما، فانصرف عليٌّ مهمومًا قلقًا خشية أن يكون قد أصابهما أذًى، أو يكون للسارق يدٌ في غيابهما، فعوَّل على أن يسأل عنهما كل فرد، ويبحث في كل مكان. وصمَّم على ألا يعود إلى أستاذه أو يبيت ليلتَه في سريره إلا إذا اطمأن عليهما … فكَّر في الذهاب أولًا إلى حجرات النوم … وبينما هو في طريقه إليها، مَر بجانب معمل المدرسة، فإذا به يسمع أنينًا خافتًا آتيُا من حجرة المعمل، فاقشَعَر بدنُه، ووقف يُنصِت بإمعان، فسمع الصوت ثانية، فعاد أدراجه، ودار حول مبنى المدرسة ودخل الرَّدهة، ثم إلى المعمل. كان الضوء خافتًا جدًّا حتى إنه لم يتبيَّن شيئًا، ولكن بدا له أن صوت المتأوِّه يصدُر من خلف مكتب المدرس، فاتجه نحوه، وأطَلَّ برأسه، فإذا بأسفل المكتب شخصٌ مكوَّم يئن ويتوجع، فقال بانزعاج: «من أنت؟»
فرَدَّ عليه الشخص بأنَّةٍ لم يستطع عليٌّ أن يفسِّر منها حرفًا، فقال ثانيًا: «تكلَّم!» وانحنَى ليجذبه من خلف المكتب. ولشَدَّ ما كانت دهشة عليٍّ عندما رآه تلميذًا مقيَّد اليدَين والرجلَين بحبل، وقد رُبط حول فمه برباطٍ سميك.
فقال مأخوذًا: «ربَّاه! ما هذا؟ إنه محمد!» ثم انحنَى ليفُك قيوده وليحلَّ الرباط، فلما انتهى من ذلك، قال: «كيف حدث لك هذا يا محمد؟»
لم يُجِب محمد، وإنما صدَرَت عنه أنَّة، وبقي في مكانه لا يتحرك.
فقال علي: «هل إصابتُك بالغة؟»
أمسك محمدٌ رأسَه بيدَيه ولم يتكلم، فأسرع عليٌّ نحو الباب وشرع يصيح بأعلى صوته طالبًا النجدة.