إلى المدينة
ذهب الناظر مسرعًا إلى بيته، وبينما كان يُخرِج سيارتَه من الحظيرة، جرى مارك ليَلحقَ به. وسرعان ما ركب كلاهما، فانطلَقَت بهما السيارة في طريق المدينة كأنها السهم، هابطةً سفح التل. كانت الشمس في طريقها للغروب، وأخذَت تختفي وراء التلال البعيدة، وبدأ الليل يزحف خطوة، يسكُب الظلام في الوادي قطرةً قطرة. وكان مارك ينظر إلى الأستاذ بون من آنٍ إلى آخر، ولكن الناظر كان يقود السيارة في صمتٍ وعلى وجهه أماراتُ الصرامة. كان مارك قد سمع عن آخر أنباء نلسون، فأخذ يفكِّر في أنسب مكانٍ يُمكِن أن يبحثا عنه فيه. وأخيرًا تذكَّر أن لنلسون عمًّا يقطن بالمدينة، فأفضى إلى الناظر بهذا الأمر، فوافق على أن يبحثا عنه أولًا في بيت عمه.
انطلقَت السيارة تخترقُ شوارع المدينة في ضوء المصابيح، وكانت الطرقات هادئةً خالية من الأهلين في هذه الساعة. ولمَّا تركَت الطريق العام وانحرفَت إلى شارعٍ جانبي وجدا ضجَّة وأبصرا أناسًا كثيرين، فمرَّا بجماعاتٍ منهم محتشدين على ضوءٍ ينبعثُ من أحد الحوانيت الهندية. وكان مارك يعرفُ بيت عم نلسون فدَلَّ عليه الناظر.
وقفَت السيارة أمام بيتٍ كبيرٍ مبني من اللبِن ذي سقفٍ من القش ينبعث من داخله ضوءٌ شديد، وبلغ سمعَيهما أصواتُ أناسٍ يتحدثون، فقال مارك: «هل أدخل أنا أولًا؟»
– «نعم … أعتقد أن هذا أصوب، وسأتبعُك في الحال.»
نزل مارك من السيارة، واتجه نحو الباب الأمامي لذلك المنزل العتيق، وطرَق الباب، فلم يرُدَّ عليه أحد، ففتَحه ودخَل، فإذا به في رَدهةٍ صغيرةٍ مظلمة، وسمع أصواتًا خلف بابٍ على يمينه، فانحنَى نحو ذلك الباب، وأرهَف السمع، فالتقَط صوتًا يقول: «هذا الشراب الأوروبي غالي الثمن جدًّا، ولكنه في غاية الجودة … أعطني مزيدًا منه!»
فأجاب صوتٌ آخر: «هاكَ قَدحًا آخر، ولكن حذارِ من أن تُريقَه.» وعلى الرغم من عدم وضوح ذلك الصوت، فقد خُيِّل إلى مارك أنه يعرف صاحبه.
وقال صوتٌ ثالث: «لا عليك؛ فلدينا الكثير منه.» فعرَفه مارك من فَوره. إنه صوت نلسون.
لم ينتظر مارك ليسمع أكثر من هذا، فدفع الباب ودخل، وما إن خطا داخل الحجرة حتى شخَص وجهان ببصرَيْهما نحوه، ولمَح ظَهْر شخصٍ ثالث يُسرِع بالخروج من الباب الخلفي. وكانت الحجرة قد انتشَر في جوِّها دُخان لفائف التبغ، وامتلأَت برائحة الشراب … عرف مارك الوجهَين المتطلعَين إليه. إنهما وجها نلسون وعمِّه، فبادرهما بقوله: «السلام عليكم! كيف حالك، يا نلسون؟»
فأجاب هذا بخشونة: «ماذا تريد مني هنا؟» ونهض واقفًا، فانسكَب منه قدَحٌ كان بيده من فَرْط ارتباكه.
– «لا شيء … جئتُ لأبحث عنك ليس غير.»
– «ولماذا؟» وحاول أن يُخفي لِفافة تبغٍ كانت في يدَيه، والتفَت حوالَيه في عصبية، وأحدَق النظر في الباب خلفه.
فقال مارك: «لقد وجدنا محمدًا!»
عندئذٍ ظهر الناظر واقفًا عند الباب، ومن خلفه ينتشر ظلام الرَّدهة، فاتجهَت نَحوَه أنظار الجميع. أما هو فألقى نظرةً صوب نلسون، وقال: «أرى أنك في حفلٍ صاخب، يا نلسون، أهذا عمك؟»
أومأ نلسون برأسه، ووقف متشبثًا بحافة المائدة، وقد ارتسمَت على وجهه أمارات الخوف والخجل، وألقى لِفافة التبغ من يده على الأرض قبل أن يراها الناظر، الذي خاطب عم نلسون بقوله: «معذرة، يا سيدي! اغِفر لي مجيئي إلى منزلك على هذه الصورة. ولكن نلسون هنا، وهو تلميذي وتحت رعايتي ومسئوليتي. ولا ينبغي له أن يكون هنا هذه الليلة، ويجب أن يعود إلى المدرسة.»
بدا بوضوح أن عم نلسون لم يكن متمالكًا نفسه، فوقف يترنَّح رغم محاولته الثبات. لم تُطاوِعه قدماه، ولم تَقوَيا على حَمْل جسمه. فابتسَم ببلاهة للناظر، وقال: «مرحبًا بك، يا سيدي، في منزلي … هلا تفضَّلتَ بالجلوس؟»
فأجاب الأستاذ بون بحدَّة: «كلا. شكرًا لك. تعالَ معنا يا نلسون. هيا بنا إلى المدرسة.»
طَفِق نلسون ينظر؛ مرةً إلى الأستاذ بون، ومرةً أخرى إلى مارك. وأدرك أنه وقَع في الفخ، فهَزَّ كتفَيه وسار خارجًا؛ إذ لم يجد مفرًّا من المسير. بيد أنه كان مضطربًا في مِشْيته، ولم يَقوَ على الاحتفاظ بتوازنه، واضطُر إلى أن يميل بجسمه على مارك، ورائحة الدخان تنبعث من فمه.
بقي مارك متأبطًا ذراع نلسون وكان يسير بخطًى وئيدة؛ إذ كان يجرُّه جرًّا حتى خرجا من البيت، فوقف نلسون في الهواء الطلق، فكأنما قد أفاق من نَشوته. وكان الناظر قد سبقَهما، فجلس في مقعد القيادة بالسيارة.
تردَّد نلسون، وحار في أمره. هل يركب بجانب ناظر المدرسة، أو يَفِر، أو ماذا يفعل! فلما أبصر الناظر حَيْرته، أمَر بخشونة أن يركب إلى جانبه. وعندئذٍ صدع بالأمر، ورَكِب مُرغمًا. أما مارك فجلس في المقعد الخلفي يراقب نلسون مراقبةً دقيقة خشية أن يحاول القفز من السيارة والهرب، فثبَّت نظره عليه متحفزًا للإمساك به إن بدَرَت منه أية حركة لمحاولة الفرار، ولكن نلسون لم يُحاوِل ذلك قط، بل بقي في مكانه مُطأطَأ الرأس خِزيًا وخَجلًا.
ما إن عادوا إلى المدرسة حتى أمر الناظر بأن يُحبَس نلسون في غرفة المرضى، وحظَر على جميع الطلبة الاتصال به. ولم يُبدِ نلسون أيَّ احتجاجٍ على هذا التصرُّف.
بعد أن حُبس نلسون، اتجه الناظر نحو مارك، وقال: «شكرًا يا مارك. لقد كنتَ عونًا كبيرًا ومساعدًا قويًّا في البحث عن ذلك الوغد والقبض عليه. وإني لآسف لكل ذلك التعَب. يبدو أن الأمور ستكون جِدَّ عصيبة ضد نلسون.»
لمَّا عاد مارك إلى حجرة نومه، وجد عليًّا ينتظره هناك، فأخبَره بكل ما حدث. وكان عليٌّ يُصغي بانتباه. ولمَّا فرغ، حيَّاه تحية المساء، وأوى كلٌّ منهما إلى فراشه.