١٩
وصلَت إلى أحواض السفن واحدةٌ من أكبر سفن الشحن، يُسمِّيها ألفارو سفينة شحن ببطنَين، بمقدمة ومؤخرة. ينقسم عمال الأحواض إلى طاقمَين. ينضَم سيمون إلى طاقم المقدمة.
في منتصف الصباح في أول أيام التفريغ، في المخزن، يسمع ضجةً على سطح السفينة ودوِيَّ صافرة. يقول أحد رفاقه: «إشارة الحريق. لنخرُج بسرعة!»
يشمُّ رائحة الدخان وهما يصعدان السُّلم. يتصاعد من مخزن المُؤخِّرة.
يجأر ألفارو من موضعه على جانب الجسر بجوار ربَّان السفينة: «ليخرُج الجميع! الجميع إلى الشاطئ!»
بمجرَّد أن يسحب عمَّال الشحن والتفريغ سلالمهم يسحب طاقم السفينة الأغطية على الفتحة الضخمة.
يسأل: «ألن يُطفِئوا النار؟»
يرد زميله: «إنهم يخنقونها. سوف تُخمَد في خلال ساعة أو اثنتَين. لكن الحمولة ستفسَد، لا شك في ذلك. ربما أيضًا نرميها للسمك.»
يجتمع العمَّال على رصيف الميناء. يبدأ ألفارو النداء على القائمة: «أدريان … أجوستين … ألكسندر …» تأتي الردود: «هنا … هنا … هنا …» حتى يصل إلى مارسيانو. «مارسيانو …» صمت. «هل رأى أحدكم مارسيانو؟» صمت. من الفتحة المسدودة يندفع الدخان إلى الهواء الساكن.
يسحب البحَّارة الأغطية مرةً أخرى. في التَّوِّ يغطِّيهم دخانٌ رماديٌّ كثيف.
يأمر ربَّان السفينة: «أغلقوا!» ولألفارو: «إذا كان رجُلُكَ هناك فقد انتهى.»
يقول ألفارو: «لن نتركه. سأنزل.»
– «لن تنزل طالما كنتَ المسئول.»
في الظهيرة يُعاد فتح غطاء الفتحة الخلفية لفترةٍ وجيزة. الدخان كثيفٌ كما كان. يأمر الكابتن بغَمر المخزن. يتم صرف عمَّال الأحواض.
يحكي أحداث اليوم لإيناس. يقول: «بالنسبة لمارسيانو، لن نعرف بالتأكيد حتى ينظِّفوا المخزن في الصباح.»
يسأل الولد وهو يدخل في أثناء المُحادثة: «ما الذي لا تعرفونه عن مارسيانو؟ ماذا حدث له؟»
– «تخميني أنه نام. كان مستهترًا واستنشَق قَدْرًا كبيرًا جدًّا من الدخان. إذا استنشَقتَ قَدْرًا كبيرًا جدًّا من الدخان تضعُف وتدوخ وتنام.»
– «وبعد ذلك؟»
– «وبعد ذلك أخشى أن أقول لن تستيقظ مرةً أخرى في هذه الحياة.»
– «تموت؟»
– «أجل، تموت.»
تقول إيناس: «إذا مات فسوف يمضي إلى الحياة الأخرى. وبالتالي لا حاجة للقلق بشأنه. حان وقت حمَّامك. هيا.»
– «هل يمكن أن يحمِّيَني سيمون؟»
لم ير الولد عاريًا منذ فترةٍ طويلة. يلاحظ ببهجة أن جسمه ممتلئ.
يقول، وهو يشطف آخر الصابون عنه ويلفُّه بفوطة: «قف. دعنا نجفِّف بسرعة، ثم يمكن أن ترتدي بيجامتك.»
يقول الولد: «أريد أن تجفِّفني إيناس.»
يُبلغ إيناس: «يريدك أن تجفِّفيه. لستُ جيدًا بما يكفي.»
ممدَّدًا في سريره، يسمح الولد لإيناس بالاعتناء به، بتجفيف ما بين أصابع قدمَيه، وفي الفرْجة بين ساقَيه. إبهامه في فمه؛ وعيناه مخدَّرتان بمتعةٍ هائلة تتابعانها بكسل.
تعفرُه ببودرة التلك وكأنه رضيع، وتساعده على ارتداء بيجامته.
إنه وقت النوم، لكنه لن يترك قصة مارسيانو تفوته. يقول: «ربما لا يكون ميتًا. هل يمكن أن نذهب ونُلقي نظرة، إيناس وأنت وأنا؟ لن أتنفَّس أي دخان، أعِد. هل يُمكِن؟»
– «لا معنى لهذا يا ديفيد. فات أوان إنقاذ مارسيانو. ومخزن السفينة ممتلئ بالمياه على أية حال.»
– «لا يا ولدي، السباحة في مخزنٍ مغمورٍ خطيرةٌ جدًّا، حتى بالنسبة لفنَّان الهروب. يمكن أن تُحاصَر ولا تعود أبدًا. بالإضافة إلى ذلك، فنَّانو الهروب لا ينقذون الآخرين، ينقذون أنفسهم. وأنت لست عجل بحر. لم تتعلم السباحة. حان الوقت لتفهم أن المرء لا يكون سبَّاحًا أو فنان هروب بمجرد التمني. يستغرق الأمر سنواتٍ من التدريب. على أية حال، لا يريد مارسيانو الإنقاذ، والعودة إلى هذه الحياة. وجد مارسيانو السلام. ربما يعبُر البحار في هذه اللحظة نفسها، ويتطلع إلى الحياة التالية. سوف تكون مُغامرةً عظيمةً بالنسبة له، أن يبدأ من جديد، ناسيًا كل شيء. لا يريد أن يكون عامل شحن وتفريغ بعد ذلك، وأن يحمل أجولةً ثقيلةً على كتفَيه. يمكن أن يكون طائرًا. يمكن أن يكون أي شيء كما يُحب.»
– «أو عجل بحر.»
– «طائرًا أو عجل بحر. أو ربما حوتًا ضخمًا جدًّا. ليست هناك حدود لما يمكن أن يكون في الحياة التالية.»
– «هل ستذهب أنت وأنا إلى الحياة التالية؟»
– «إذا متنا فقط. ولن نموت. سنعيش وقتًا طويلًا.»
– «مثل الأبطال. الأبطال لا يموتون، أليس كذلك؟»
– «لا، الأبطال لا يموتون.»
– «هل سنُضطَر إلى الحديث بالإسبانية في الحياة التالية؟»
– «لا بالتأكيد. من الناحية الأخرى، قد نُضطَر إلى تعلُّم الصينية.»
– «وإيناس؟ هل ستأتي إيناس أيضًا؟»
– «هذا ما تقرِّره هي. لكنني متأكد من أنك إذا ذهبتَ إلى الحياة التالية، فسوف تتبعُك إيناس. إنها تحبك كثيرًا جدًّا.»
– «هل سنرى مارسيانو؟»
– «بدون شك. ومع ذلك، قد لا نتعرف عليه. قد نعتقد أننا رأينا طائرًا أو عجل بحر أو حوتًا. ومارسيانو — مارسيانو سيعتقد أنه يرى فرس النهر بينما ما يراه في الحقيقة أنت.»
– «لا، أقصد مارسيانو الحقيقي، في أحواض السفن. هل سنرى مارسيانو الحقيقي؟»
– «بمجرد تجفيف المخزن سيرسل الكابتن الرِّجال ليأتوا بجسد مارسيانو. لكن مارسيانو الحقيقي لن يكون بيننا بعد ذلك.»
– «هل يمكن أن أراه؟»
– «ليس مارسيانو الحقيقي. مارسيانو الحقيقي غير مرئي لنا. وبالنسبة للجسد، الجسد الذي فرَّ منه مارسيانو، حين نذهب فيه إلى أحواض السفن يكون قد أخذ بعيدًا. سيفعل الرجال ذلك مع أول نور، وأنت ما زالت نائمًا.»
– «أُخِذ إلى أين؟»
– «أُخِذ ليُدفَن.»
– «لكن ماذا إن لم يكن ميتًا؟ ماذا إذا دفنوه وهو ليس ميتًا؟»
– «لن يحدث هذا. الناس الذين يدفنون الميت، حفَّارو القبور، حريصون على ألا يدفنوا شخصًا إذا كان حيًّا. يسمعون نبض القلب. يسمعون التنفُّس. لن يدفنوه إذا سمعوا حتى أضعف نبضة قلب. وبالتالي لا حاجة للقلق. مارسيانو في سلام …»
– «لا، أنت لا تفهم! ماذا إذا كان بطنه ممتلئًا بالدخان لكنه ليس ميتًا حقًّا؟»
– «رئتاه. نتنفَّس من رئتَينا، وليس من بطوننا. إذا أخذ مارسيانو الدخان في رئتَيه يكون ميتًا بالتأكيد.»
– «ليس صحيحًا! قلتَ ذلك للتو! هل يمكن أن نذهب إلى أحواض السفن قبل أن يصل حفَّارو القبور إلى هناك؟ هل يمكن أن نذهب الآن؟»
– «الآن، في الظلام؟ لا، لا يمكن بالتأكيد. لماذا أنت توَّاق جدًّا لرؤية مارسيانو، يا ولدي؟ الجسد الميت ليس مهمًّا. الروح هي المهمَّة. روح مارسيانو هي مارسيانو الحقيقي؛ والروح في طريقها إلى العالم التالي.»
– «أريد أن أرى مارسيانو! أريد أن أشفط الدخان منه! لا أريد أن يُدفَن!»
– «ديفيد، لو كنا نستطيع إعادة مارسيانو بشفط الدخان من رئتَيه، لفعل البحَّارة ذلك منذ وقتٍ طويل، أعدُك. البحَّارة يحبُّوننا، ويحملون لنا المودَّة. لكنك لا تستطيع إعادة الناس إلى الحياة بشفط الدخان من رِئاتهم، لا تستطيع بعد أن يموتوا. هذا أحد قوانين الطبيعة. بمجرد أن تكون ميتًا تكون ميتًا. الجسد لا يعود إلى الحياة. الروح فقط تستمرُّ في الحياة؛ روح مارسيانو، روحي، روحك.»
– «ليس صحيحًا! ليست لي روح! أريد أن أنقذ مارسيانو!»
– «لن أسمح بهذا. سوف نذهب جميعًا إلى جنازة مارسيانو، وفي الجنازة تسنح لك الفرصة، مثل كل الآخرين، في أن تُقبِّله قبلة الوداع. هذا ما سيكون، وهذه هي النهاية. لن أناقش موتَ مارسيانو أكثر من هذا.»
– «لا تملك أن تقرِّر لي ما يفعل! لستَ أبي! سأسأل إيناس!»
– «يمكن أن أؤكد لك أن إيناس لن تذهب معك إلى أحواض السفن في الظلام. افهم. أعرف أنك تريد إنقاذ الناس، وهذا رائع، لكن الناس لا يريدون إنقاذهم أحيانًا. دع مارسيانو في حاله. مارسيانو رحَل. لنتذكَّر الأشياء الطيبة بشأنه، ونتركه وشأنه. هيا الآن: إيناس تنتظرك لتحكي لك قصة قبل النوم.»
•••
حين يتقدم للعمل في الصباح التالي، كان الشفط من المخزن الخلفي قد اكتمل تقريبًا. في خلال ساعة استطاع فريقٌ من البحَّارة النزول؛ وبعد ذلك بوقتٍ قصير، وعمال الأحواض يشاهدون في صمت من على رصيف الميناء، يحمل جسَد زميلهم الراحل، مربوطًا على نقَّالة، إلى ظهر السفينة.
يخطب فيهم ألفارو. يقول: «في خلال يومٍ أو اثنَين ستكون هناك فرصة لوداعٍ لائقٍ لصديقنا، يا رجال. والآن إلى العمل كالمعتاد. في المخزن فوضى رهيبة، وعلينا تنظيفُه.»
يقضي العمال بقية اليوم في المخزن، وأقدامهم في الماء، محاطين بالرائحة الحادة المنبعثة من الرماد المبلَّل. انفجَرَت كل أجولة الحبوب؛ ومهمتهم جرفُ كل هذه الفوضى اللزجة في دِلاء وتوصيلها بالتتابع إلى ظهر السفينة، ومن هناك تُلقى في الماء. إنه عملٌ تعيس، يتم في صمت في مكان الموت. حين يتذكَّره في شقة إيناس في ذلك المساء، يكون مُنهَكًا وكئيبًا.
يقول لإيناس: «أليس لديكِ أي شيء يُشرب، هل لديك؟»
– «آسفة، ليس لديَّ أي شيء، سأصنع لك بعض الشاي.»
يستغرق الولد في كتابه وهو منبطح على السرير. وقد نسي مارسيانو.
يحيِّيه: «أهلًا. كيف حال دون كيخوتة اليوم؟ ماذا سيفعل؟»
يتجاهل سؤاله. ويسأل وهو يشير: «كيف تُنطق هذه الكلمة؟»
– «وهذه الكلمة؟»
– «لا أريد أن أقرأ حروفًا. أريد أن أقرأ القصة.»
– «هذا غير ممكن. القصة مكوَّنة من كلمات، والكلمات مكوَّنة من حروف. بدون حروف لن تكون هناك قصة، أو دون كيخوته. لا بد أن تعرف الحروف.»
– «أرني كلمة خيالي.»
يضع سبابة الولد على الكلمة: «هذه.» الأظافر نظيفة ومقصوصة بعناية؛ بينما يده، وكان من المعتاد أن تكون ناعمة ونظيفة، مشقَّقة وقذرة، بوسخٍ يملأ الشقوق.»
يُغلِق الولد عينيه بشدة، يحبس نفَسه، ويفتح عينَيه. «خيالي.»
– «ممتاز. تعلَّمتَ التعرف على كلمة خيالي. هناك طريقتان لتعلُّم القراءة، يا ديفيد. الطريقة الأولى أن تتعلم الكلمات كلمةً كلمة، كما تفعل. والطريقة الأخرى، وهي أسرع، أن تتعلم الحروف التي تتكوَّن منها الكلمات. هناك سبعة وعشرون حرفًا فقط. بمجرد أن تتعلَّمها، تستطيع أن تتهجى الكلمات الغريبة بنفسك، بدون أن أخبرك في كل مرة.»
يهز الولد رأسه. «أريد أن أقرأ بالطريقة الأولى. أين المارد؟»
يغلق الولد عينَيه. ويعلن: «أنا أقرأ بأصابعي.»
– «لا يهم كيف تقرأ، بعينَيك أو بأصابعك مثل الأعمى، طالما تقرأ. أرني كيخوته، بحرف كيو.»
يطعن الولد الصفحة بإصبعه. «هذه.»
– «لا.» ينقل إصبع الولد إلى المكان الصحيح. «هذه كيخوته، بحرف كيو كبير.»
ينزع الولد يده مشاكسًا. «ليس اسمه الحقيقي — ألا تعرف؟»
– «قد لا يكون اسمه الدنيوي، الاسم الذي يعرفه به جيرانه، لكنه الاسم الذي اختاره لنفسه، والاسم الذي نعرفه به.»
– «إنه ليس اسمه الحقيقي.»
– «ما اسمه الحقيقي؟»
ينطوي الولد في نفسه فجأة. يُهمهِم: «يُمكِن أن تذهب. سأقرأ بنفسي.»
– «حسنًا جدًّا، سوف أذهب. حين ترجع إلى عقلك مرةً أخرى، حين تقرِّر أنك تريد تعلُّم القراءة بشكلٍ صحيح. اتصل بي وأخبِرني بالاسم الحقيقي لدون كيخوتة.»
– «لن أفعل. إنه سر.»
إيناس مستغرقة في مهام المطبخ. لم تلتفِت حتى وهو يغادر.
يمُر يوم قبل زيارته التالية. يجد الولد مستغرقًا في الكتاب كما كان من قبلُ. يحاول أن يتكلم لكن الولد يشير بنفاد صبر — «صه!» — ويقلب الصفحة بحركةٍ سريعةٍ خاطفة وكأن ثعبانًا يكمُن تحتها وقد يهاجمه.
تظهر الصورة دون كيخوته وهو يهبط، مربوطًا في مهدٍ من الحبال، إلى حفرة في الأرض.
يسأل: «هل تريد أن أساعدك؟ هل أخبرك بما يحدث؟»
يومئ الولد.
يأخذ الكتاب. «هذه حلقة تُسمَّى «كهف مونتسينوس». وقد سمع دون كيخوته كثيرًا عن كهف مونتسينوس، عزم على أن يرى بنفسه عجائبه الشهيرة. هكذا طلب من صديقه سنشو والعالِم الواسع الاطلاع — لا بد أن الرجل الذي يلبَس القبَّعة هو العالم الواسع الاطلاع — إنزاله إلى الكهف المظلم، وانتظار إشارته بفارغ الصبر لسحبه مرةً أخرى.
– «لساعةٍ كاملةٍ جلس سنشو والعالِم على فتحة الكهف.»
– «ما العالِم؟»
– «العالم رجل قرأ كتبًا كثيرة وتعلَّم أشياءَ كثيرة. لساعةٍ كاملة جلس سنشو والعالِم حتى شعرا في النهاية بشدَّة في الحبل وبدآ يسحبان، وهكذا يأتي دون كيخوته ويظهر في النور.»
– «لم يمت دون كيخوته.»
– «لا، لم يمت.»
يتنفَّس الولد الصُّعَداء. يقول: «هذا رائع، أليس كذلك؟»
– «أجل، هذا رائع بالطبع. لكن لماذا اعتقَدتَ أنه ميت؟ إنه دون كيخوته. إنه البطل.»
– «هو البطل وهو ساحر. تقيِّده بالحبال وتضعه في صندق وحين تفتح الصندوق لا يكون هناك، هرب.»
– «أوه، هل اعتقدتَ أن سنشو والعالِم قيَّدا دون كيخوته؟ لا، إذا قرأتَ الكتابَ بدل الاكتفاء بالنظر إلى الصور وتخمين القصة، لعرَفتَ أنهما يستخدمان الحبل لسحبه من الكهف، وليس لتقييده. هل أواصل؟»
يومئ الولد.
– «بلطفٍ يشكُر دون كيخوته صديقَيه. ثم يمتِّعهما برواية كل ما حدث في كهف مونتسينوس. قال إنه رأى، في الأيام الثلاثة والليالي الثلاث التي قضاها تحت الأرض، الكثير من المشاهد العجيبة، لا سيما مساقط المياه التي لا تُسقِط شلَّالاتُها قطراتٍ من المياه بل ماساتٍ متلألئة، ومواكب من الأميرات في أروابٍ من الحرير، وحتى، أعظم أعجوبة على الإطلاق، الليدي دولسينيا تمتطي فرسًا بيضاء بلجامٍ مرصَّع بالجواهر، وقد توقفَت وتحدثَت معه بعطف.
قال سنشو: لكن سمُوك مخطئ بالتأكيد، لأنك لم تقضِ تحت الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ بل ساعة على الأكثر.
قال دون كيخوته برزانة: لا، يا سنشو، غبتُ ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ؛ إذا بدت لك مجرد ساعة، فلأنك نمتَ وأنت تنتظر، وغفلتَ عن مرور الوقت.
كان سنشو على وشك أن يجادل، لكنه يتراجع، متذكرًا مدى ما يُمكِن أن يكون عليه دون كيخوته من عناد. قال، وهو ينظر إلى العالِم الواسع الاطلاع ويغمز: أجل، سموك، لا بد أنك محق؛ لثلاثة أيام كاملة وثلاث ليالٍ كاملة كنا نحن — الاثنَين — في سُبات، حتى عودتك. لكن نتضرَّع إليك أن تحكي لنا المزيد عن الليدي دولثينيا وما جرى بينها وبينك.
نظر دون كيخوته برزانة لسنشو، وقال: أوه، يا صديقي القليل الإيمان، متى تعرف، متى تعرف؟ وخيَّم عليه الصمت.
حكَّ سنشو رأسه. وقال: سمُوك، لن أنكر أن من الصعب أن أصدِّق أنك قضيتَ ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ في كهف مونتسينوس بينما بدا لنا أنها مجرَّد ساعة؛ وهكذا لن أنكر أن من الصعب أن أصدِّق أن هناك في هذه الدقيقة نفسها كتائب من الأميرات تحت أقدامنا، وسيدات يقفزن على أفراس بيضاء كالثلج، وما شابه. الآن إذا كانت الليدي دولثينيا قد منحت سمُوك علامة على حقيقتها، مثل ياقوتةٍ حمراء أو ياقوتةٍ زرقاء من لجام مطيَّتها، تستطيع أن تريها لمتشكِّكَين بائسَين مثلنا، وسوف تختلف المسألة.
فكَّر دون كيخوته: ياقوتة حمراء أو ياقوتة زرقاء. ينبغي أن أُريَك ياقوتةً حمراء أو ياقوتةً زرقاء برهانًا على أنني لا أكذب.
قال سنشو: إذا جاز التعبير. إذا جاز التعبير.
وإذا أريتُك مثل هذه الياقوتة الحمراء أو الياقوتة الزرقاء، يا سنشو، ماذا بعدُ؟
أسقط على ركبتي، سمُوك، وأقبِّل يدك، وأتوسَّل إليك أن تسامحني على شكِّي فيك. وسأكون تابعك الأمين إلى نهاية الزمن.»
يُغلِق الكتاب.
يقول الولد: «و؟»
– «ولا شيء. هذه نهاية الفصل. حتى الغد ليس هناك المزيد.»
يأخذ الولد الكتابَ من يدَيه، ويفتحه مرةً أخرى على صورة دون كيخوته وهو مربوط بالحبل، يحدِّق بجدية في محيط الجسم المطبوع. يقول بصوتٍ منخفض: «أرِني.»
– «أريك ماذا؟»
– «أرني نهاية الفصل.»
– «لكن هل أظهر دون كيخوتة لسنشو الياقوتة الحمراء.»
– «لا أعرف. السيد بنينجيلي لا يقول. ربما أظهرَها، وربما لم يُظهِرها.»
– «لكن هل كانت معه ياقوتةٌ حمراء حقًّا؟ هل كان حقًّا تحت الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ؟»
– «لا أعرف. ربما يكون الزمن بالنسبة لدون كيخوته غير الزمن بالنسبة لنا. ربما ما يكون بالنسبة لنا غمضة عين يكون دهرًا كاملًا بالنسبة لدون كيخوته. لكن إذا كنتَ مقتنعًا بأن دون كيخوته صَعِد من الكهف بياقوت أحمرَ في جيبه، فعليك أن تكتبَ كتابكَ وتقول ذلك. ثم نُعيد كتاب السيد بنينجيلي إلى المكتبة ونقرأ كتابك بدلًا منه. ومع ذلك، لسوء الحظ، قبل أن تستطيع كتابة كتابك لابد أن تتعلَّم القراءة.»
– «يمكنني أن أقرأ.»
– «لا، لا يمكنك. يمكنك أن تنظر إلى الصفحة وتحرِّك شفتَيك وتختلق قصصًا في رأسك، لكنها ليست قراءة. تحتاج القراءة الحقيقية الالتزام بالمكتوب في الصفحة. عليك التخلي عن خيالاتك. عليك التوقُّف عن السخافة. عليك التوقُّف عن أن تكون رضيعًا.»
لم يتحدث للطفل قَط من قبل بهذه المباشرة، بهذه القسوة.
يقول الطفل: «لا أريد القراءة بطريقتك. أريد القراءة بطريقتي. كان هناك رجلٌ له مأثرةٌ مزدوجة وحاجة ناندي ناندي ناندي، وحين يركب يكون حِصانًا وحين يمشي يكون بورس.»
– «ليس إلا هُراء. ليس هناك شيءٌ اسمه بورس. دون كيخوته ليست هُراء. لا يُمكِنك أن تصنع هُراءك فقط وتتظاهر بأنك تقرأ عنه.»
– «يُمكِنني! ليس هُراء ويُمكِنني أن أقرأ! ليس كتابك، إنه كتابي!» وبتجهُّم يعود لتقليب الصفحات بعنف.
– «على العكس، إنه كتابُ السيد بنينجيلي الذي وهَبه للعالم؛ وبالتالي فهو ينتمي لنا جميعًا — لنا جميعًا بمعنًى ما، وللمكتبة بمعنًى آخر، لكن ليس لك وحدَك بأي معنًى. وتوقَّف عن تمزيق الصفحات. لماذا تُعامِل الكتاب بهذه القسوة؟»
– «لأن. لأنني إذا لم أُسرِع فسوف تنفتح فجوة.»
– «تنفتح أين؟»
– «بين الصفحات.»
– «هُراء. ليس هناك شيءٌ اسمه فجوةٌ بين الصفحات.»
– «هناك فجوة. إنها داخل الصفحة. لا تراها لأنك لا ترى أي شيء.»
تقول إيناس: «توقَّف عن هذا الآن!»
للحظة يعتقد أنها تخاطب الطفل. للحظة يعتقد أنها انتبهَت في النهاية لتُوبِّخه على عناده. لكن لا، تحدِّق فيه هو.
يقول: «اعتقَدتُ أنك تريدين أن يتعلم القراءة.»
– «ليس بكل هذا التشاحُن. اعثُر على كتابٍ أبسط. دون كيخوته هذا صعبٌ جدًّا بالنسبة لطفل. أرجِعه للمكتبة.»
يتشبَّث الولد بالكتاب بقوة: «لا! لن تأخذَه! إنه كتابي!»