٢
في الباص رقم ٢٩ يفحص استمارة العمل التي أُعطيَت له. ليست إلا ورقةً مقطوعةً من دفتر، مكتوبًا عليها: «حاملها وافدٌ جديد. يُرجى النظر في توظيفه.» ليس عليها ختمٌ رسمي، أو توقيع، عليها فقط الحرفان الأولان من اسم بي إكس. تبدو غيرَ رسميةٍ تمامًا. هل تكفي ليحصُل على وظيفة؟
إنهما آخر راكبَيْن ينزلان. ونظرًا لاتساع أحواض السفن تمتد أرصفة الميناء على النهر على امتداد البصر. إنها مهجورةٌ بشكلٍ غريب. يبدو أن هناك نشاطًا على رصيف واحد؛ سفينة شحن يتم تحميلها أو تفريغها، ورجال يصعدون سُلَّمها ويهبطون.
يقترب من رجلٍ طويل يرتدي أفرولًا ويبدو أنه مُشرِف العمليات. يقول: «طاب يومك. أبحث عن عمل. قال الناس في مركز إعادة التوطين إنني ينبغي أن آتي إلى هنا. هل أنت الشخص المناسب للحديث معه؟ معي استمارة.»
عامل ميناء؟ لا بد أنه يبدو مرتبكًا؛ لأن الرجل (رئيس العُمَّال؟) يقلِّد التمايل وحمولة على ظهره مترنحًا تحت ثقلها.
يهتف: «آه، عامل ميناء! آسف، إسبانيتي ليست جيدة. لا، لست عجوزًا جدًّا إطلاقًا.»
هل صحيح، ما سمع نفسه ينطق به للتو؟ هل هو حقًّا ليس عجوزًا جدًّا بالنسبة لعملٍ ثقيل؟ لا يشعُر بأنه عجوز، بالضبط كما لا يشعُر بأنه شاب. لا يشعُر بأنه في عمرٍ معيَّن. يبدو بلا عمر، إذا كان ذلك ممكنًا.
يقترح: «جرِّبني. وإذا قررْتَ أنني لست مناسبًا، أنصرف على الفور، بدون أية ضغينة.»
يقول رئيس العمال: «حسنًا.» يكوِّر الاستمارة ويقذفها في المياه. «يمكن أن تبدأ فورًا. الصغير معك؟ يمكن أن ينتظر هنا معي، إن أحببْتَ. يبقى تحت عيني. وبالنسبة لإسبانيتك، لا تقلق، ثابرْ. ذات يوم لن تشعر بأنها لغة، سوف تصبح مثل كل الأشياء.»
يلتفت إلى الولد: «سوف تبقى مع هذا الجنتلمان بينما أساعد في حمل الحقائب؟»
يومئ الولد. ويضع إبهامه في فمه مرةً أخرى.
اللوح الخشبي يكفي لرجل واحد فقط. ينتظر بينما ينزل عامل من عمَّال الشحن والتفريغ، وهو يحمل جوالًا منتفخًا على ظهره. ثم يصعد إلى ظهر السفينة ويهبط على سُلمٍ خشبي متين إلى المخزن. يستغرق الأمر برهة لتتكيَّف عيناه على الضوء الخافت. المخزن مكتظٌّ بأكياسٍ منتفخةٍ متماثلة، مئات منها، ربما آلاف.
يسأل الرجل الذي بجواره: «ماذا في الأكياس؟»
يريد أن يسأل عن وزن الأجولة، لكن ليس هناك وقت. إنه دَورُه.
يجثم رفيق ضخم على قمة كومة بساعدَيه المفتولَين وابتسامةٍ عريضة، من الواضح أن وظيفته وضع جوال على كتفَي العامل الذي ينتظر في الصف. يُدير ظهره، ويهبط الجوال؛ يترنح، ثم يقبض على الأطراف كما يرى الرجال الآخرين يفعلون، ويخطو خطوةً أولى، وثانية. هل يستطيع بالفعل تسلُّق السُّلم وهو يحمل هذا الوزن الثقيل، كما يفعل الرجال الآخرون؟ هل لديه القدرة على ذلك؟
يضع قدمه اليسرى على الدرجة السفلى من السلم. يقول لنفسه إنها مسألة توازن، الحفاظ على الثبات، عدم ترك الجوال ينزلق أو المحتويات تتحرك. بمجرد أن تبدأ الحركة أو الانزلاق، تضيع. تتحوَّل من عامل إلى مُتسوِّل يرتجف في سقيفة من الصفيح في فناءٍ خلفي لغريب.
يرفع قدمه اليمنى. يبدأ معرفة شيءٍ ما عن السلم: إذا أسندتَ صدرك عليه فإن وزن الجوال يحفظ توازنك، بدل أن يهدِّدك بفقدان التوازن. تجد قدمه الدرجة الثانية. تأتي من أسفل موجةٌ خفيفة من الاستحسان. يَصِر على أسنانه. ثماني عشرةَ درجةً يصعدها (عدَّها). لن يفشَل.
ببطء، خطوة خطوة، مستريحًا في كل خطوة، مستمعًا إلى قلبه المتسارع (ماذا لو أصابته نوبةٌ قلبية؟ أي ارتباك سيكون!)، يصعد. في القمة يتمايل، ثم يندفع إلى الأمام بحيث يتدلى الجوال على سطح السفينة.
يقف مرةً أخرى، ويشير إلى الجوال. ويقول، محاولًا السيطرة على لهاثه، ومحاولًا أن يبدو عاديًّا: «هل يمكن أن يُعطيَني أحدٌ يده؟» ترفع الأيادي المتطوِّعة الجوال على ظهره.
تظهر صعوبات اللوح الخشبي؛ يهتز برفق من جانب إلى جانب والسفينة تتحرك، ولا يقدم أي دعمٍ مما قدَّمه السُّلم. يحاول بأقصى جهده الحافظ على انتصابه وهو يهبط، حتى لو كان ذلك يعني ألا يرى موضع قدمَيه. يركِّز عينَيه على الولَد، وكان يقف ساكنًا بجوار المشرف، ويلاحظ. لا تدَعْني أسبِّب له خزيًا! يقول لنفسه.
يستدير ويترك جوال الحبوب يسقط في قاع العربة. يثب شابٌّ يلبس قبعةً مهترئةً بخفَّة مبتعدًا ويسحب الجوال إلى الأمام. يسقُط أحد الحصانَين كميةً من روث يتصاعد منه بخار. ينادي صوتٌ من خلفه: «ابتعد عن الطريق!» إنه العامل التالي، رفيق العمل التالي، مع الجوال.
يعود أدراجه إلى المخزن، يرجع بحمولة ثانية، ثم ثالثة. إنه أبطأ من رِفاقه (عليهم انتظاره أحيانًا)، لكنه ليس أبطأ بكثير؛ سوف يتحسَّن حين يعتاد على العمل ويقوى جسدُه. ليس عجوزًا جدًّا رغم ذلك.
ورغم أنه يجعلهم أبطأ، لا يشعر بأي عداء من الرجال الآخرين. على العكس، يقدِّمون له كلمةً مرحة أو اثنتَين، ويصفعونه على ظهره بوُد. إذا كان هذا هو تفريغ السفن وتحميلها، فإنها ليست وظيفةً سيئة. ينجز شيئًا على الأقل. يساعد على الأقل في نقل الحبوب، حبوب تتحول إلى خبز، دعامة الحياة.
تنطلق صفَّارة. يوضِّح له رجل بجانبه: «وقت الراحة. إذا كنت تريد أن تعرف.»
يتبوَّل الاثنان خلف سقيفة، ويغسلان أيديَهما من صنبور. يسأل: «هل هناك مكان يمكن أن يتناول فيه كوبًا من الشاي؟ وربما يجد شيئًا يأكله؟»
يقول الرجل: «شاي؟» ويبدو مندهشًا. «لا أعرف شيئًا عنه. إن كنتَ عطشان يمكنط استخدام كوبي؛ لكن أحضِرْ كوبك غدًا.» يملأ كوبه من الصنبور، ويقدِّمه له. «أحضِرْ رغيفًا أيضًا، أو نصف رغيف. إنه يومٌ طويل على معدةٍ خاوية.»
تستمر الراحة عَشْر دقائقَ فقط، ثم يستأنف التفريغ. حين يطلق المُشرِف صافرتَه مؤذنًا بانتهاء اليوم، كان قد حمل واحدًا وثلاثين جوالًا من المخزن إلى رصيف الميناء. في يومٍ كامل ربما يستطيع حمل خمسين. خمسين جوالًا يوميًّا: طنَّين تقريبًا. ليس قَدْرًا كبيرًا. يمكن لرافعة نقل طنَّين مرةً واحدة. لماذا لا يستخدمون رافعة؟
يقول: «إذا أحضرتَ رافعة، يمكنك الانتهاء من تفريغ الحمولة في عُشر الوقت. حتى لو كانت رافعةً صغيرة.»
يوافق المشرفُ: «يمكنك. لكن ما الهدف؟ ما الهدف من إنجاز العمل في عُشر الوقت؟ ألا تبدو وكأنها حالة طوارئ؟ نقص في الغذاء على سبيل المثال.»
ما الهدف؟ يبدو سؤالًا حقيقيًّا، وليس صفعةً على الوجه. يقترح: «لنستطيع تكريس طاقاتنا لمهمةٍ أفضل.»
– «أفضل من ماذا؟ أفضل من إمداد رفيقنا الإنسان بالخبز؟»
يهزُّ كتفَيه. ينبغي أن يُبقِيَ فمه مغلقًا. من المؤكد أنه لن يقول: أفضل من أن نجُر حمولاتٍ ثقيلةً مثل البغال.
يقول: «نحتاج إلى نسرع أنا والولد. لا بُد أن نعود إلى المركز في السادسة، وإلا اضطُرِرْنا للنوم في العراء. هل أعود صباح الغد؟»
– «بالطبع، بالطبع. لقد أحسنْتَ.»
– «هل يمكن أن أحصل على مقدَّم من أجرتي؟»
– «أخشى أنه لا يمكن. لا يأتي المسئول عن دفع الأجور حتى الجمعة. لكن إن كنتَ بحاجة إلى مال» ينقِّب في جيبه ويُخرج حَفْنة عملاتٍ معدنية «ها، خذ ما تحتاج إليه.»
– «لسْتُ متأكدًا مما أحتاج إليه. أنا جديدٌ هنا، وليست لديَّ فكرة عن الأسعار.»
– «خذها كلها. يمكن أن تعيدها إليَّ يوم الجمعة.»
– «شكرًا. إنه عطف شديد منك.»
– بالتأكيد. يرعى فتاك وأنت تعمل ثم يختم هذا كله بإقراضك المال. لا يتوقَّع هذا من مشرف.
يقول، ملتفتًا إلى الولد: «لا شيء. كنت ستفعل الشيء نفسه. إلى اللقاء أيها الفتى. أراك متألقًا ومبكرًا في الصباح.»
يصلان إلى المكتب بالضبط والمرأة ذات الوجه الصارم تغلق. ولم تكن هناك أية علامة على وجود آنا.
يسأل: «أية أخبار عن غرفتنا؟ هل وجدْتِ المفتاح؟»
تعبس المرأة. «اتبع الطريق، خذ المنعطف الأول يمينًا، وابحث عن مبنًى طويلٍ مسطَّح، يُسمَّى المبنى سي. اسأل عن السنيورا فايس. وسوف تريك غرفتك. واسأل السنيورا فايس إن كان يمكنك استخدامُ غرفة الغسيل لغسل ملابسكما.»
يفهم التلميح ويحمرُّ خجلًا. بعد أسبوع بدون حمام بدأت الرائحة تفوح من الولد؛ ولا شك أن رائحته أسوأ.
يريها نقوده. «هل يمكن أن تُخبريني عن قيمة هذا المبلغ؟»
– «ألا تعرف العَد؟»
– «أعني، ماذا يمكن أن أشتري به؟ هل يمكن أن أشتري وجبة؟»
– «المركز لا يقدِّم وجبات، الفطور فقط. لكن تحدَّثْ مع السنيورا فايس. وضِّحْ لها موقفَك. قد تستطيع مساعدتك.»
سي ٤١، مكتب السنيورا فايس، مقفول ومغلق كما كان من قبلُ. لكن في البدروم، في ركن تحت السُّلم مُضاء بلمبةٍ واحدةٍ عارية، يصادف شابًّا يسترخي في كرسي ويقرأ مجلة. بالإضافة إلى زي المركز باللون البني الداكن يرتدي الشاب قبعةً مستديرةً صغيرة بطوق تحت الذقن، مثل قبَّعة قردٍ يؤدي دورًا.
يقول: «مساء الخير. أبحث عن السنيورا فايس المراوغة. هل لديك فكرة عن مكانها؟ خُصِّصتْ لنا غرفة في هذا المبنى، والمفتاح معها، أو المفتاح الرئيسي على الأقل.»
ينهض الشاب، يسلِّك حنجرته، ويرُد. ردُّه مؤدَّب لكنه ليس مفيدًا في النهاية. إذا كان مكتب السنيورا فايس مغلقًا فمن المحتمل أنها عادت إلى بيتها. وبالنسبة للمفتاح الرئيسي، إذا وجد أي مفتاح فهو في المكتب المغلَق نفسه. والأمر نفسه بالنسبة لمفتاح غرفة الغسيل.
يسأل: «هل يمكن على الأقل أن توجِّهنا إلى الغرفة سي ٥٥. سي ٥٥ هي الغرفة المخصَّصة لنا.»
بدون كلمة يقودهما الشاب إلى دهليزٍ طويل عَبْر سي ٤٩، سي ٥٠ … سي ٥٤. يصلون إلى سي ٥٥. يُحاوِل فتح الباب. ليس مغلقًا. يلاحظ بابتسامة وينسحب: «انتهت مشاكلكما.»
سي ٥٥ غرفةٌ صغيرةٌ بدون نوافذ، مفروشة بشكلٍ بسيطٍ جدًّا؛ سرير لشخصٍ واحد، خزانة أدراج، وحوض غسيل. على خزانة الأدراج صينيةٌ عليها صحن فنجان فيه مكعَّبان ونصف من السكَّر. يعطي السكَّر للولد.
يسأل الولدُ: «هل علينا البقاء هنا؟»
– «أجل، علينا البقاء هنا. لوقتٍ قصيرٍ فقط. بينما نبحث عن شيءٍ أفضل.»
في الطرف البعيد من الدهليز يكتشف مقصورة استحمام. ليس هناك صابون. يخلع ملابس الطفل، ويخلع ملابسه. معًا يقفان تحت تيارٍ رفيع من الماء الفاتر وهو يفعل أقصى ما يمكن لينظِّف نفسه والطفل. ثم، والطفل ينتظر، يُمسِك بملابسهما الداخلية تحت التيار نفسه (الذي يتحول بسرعة إلى منعش ثم بارد) ويدعكُها. عاريًا تمامًا، والطفل بجانبه، يقطع الدهليز العاري عائدًا إلى غرفتهما ويغلق الباب. بفوطتهما الوحيدة يجفِّف الطفل. ويقول: «اذهب الآن إلى السرير.»
يشكو الولدُ: «جائع.»
– «اصبرْ. سنحصل على وجبة فطورٍ كبيرةٍ في الصباح. أعدُك. فكِّرْ في ذلك.» يدُسُّه في السرير، ويقبِّله قبلة قبل النوم.
– «قلتُ لك سنمكُث هنا ليلةً أو اثنتَين، حتى نجد مكانًا أفضلَ نقيم فيه.»
– «لا، أقصد لماذا نحن هنا؟» يشمل تلميحه الغرفة، والمركز، ومدينة نوفيلا، وكل شيء.
– «أنت هنا لتجد أمك. وأنا هنا لأساعدك.»
– «لكن بعد أن نجدها، لماذا نحن هنا؟»
– «لا أعرف ما أقوله. نحن هنا للسبب نفسه الذي يُوجَد من أجله كل شخصٍ آخر. مُنِحنا فرصةً لنعيش وقَبِلنا هذه الفرصة. شيءٌ عظيم أن نعيش. أعظم شيءٍ على الإطلاق.»
– «لكن لماذا ينبغي أن نعيش هنا؟»
– «هنا مقابل أين؟ ليس هناك مكانٌ آخرُ غير هنا. الآن أغلق عينَيك. حان وقتُ النوم.»