٢٠
يقترح: «ألم يَحِن الوقت لتُلقيَ بهذه الفوضى؟»
يقول الولد: «ليست فوضى. إنها أشياءُ أدَّخرها.»
يدفع الكرتونة بقدمه. «زبالة. لا يُمكِن أن تَكنزَ كل ما تصادفه.»
يقول الولد: «إنه مُتحَفي.»
– «حِمْل الزبالة ليس متحفًا. يجب أن تكون للأشياء قيمةٌ قبل أن يكون لها مكانٌ في مُتحَف.»
– «ما القيمة؟»
– «أن يكون للأشياء قيمة يعني أن الناس عمومًا يقدِّرونها، ويتفقون على أنها قيِّمة. لا قيمة لكوبٍ قديمٍ مكسور. لا أحد يقدِّره.»
– «أنا أقدِّره. إنه مُتحَفي، وليس مُتحفَك.»
يلتفت إلى إيناس. «ألا يحظى هذا بمباركتك؟»
– «دَعْه وشأنه. يقول إنه يشعُر بالأسف على الأشياء القديمة.»
– «لا يُمكِن أن تشعُر بالأسف على كوبٍ قديم بدون يد.»
يحدِّق الولد فيه غير قادر على الفهم.
– «الكوب ليست له مشاعر. إذا ألقيتَه بعيدًا فلن يهتم. لن يشعُر بالأذى. إذا كنتَ ستشعُر بالأسف على كوبٍ قديم، يُمكِن أيضًا أن تشعر بالأسف على» — ينظر حوله في سخط — «على السماء، والهواء، والأرض تحت قدمَيك. يمكن أيضًا أن تشعُر بالأسف على كل شيء.»
يستمر الولد في التحديق.
يقول: «الأشياء لا يُقصَد منها أن تبقى إلى الأبد. لكل شيءٍ نهايته الطبيعية. كان لهذا الكوب القديم حياته الطيبة؛ الآن حان الوقت ليعتزل ويُفسِح المجال لكوبٍ جديد.»
تستقر على وجه الولد النظرة العنيدة التي يعرفها الآن جيدًا. يقول: «لا! سأحتفظ به! لن أسمح لك بأن تأخذه! إنه ملكي!»
ولأن إيناس تستسلم له في كل مواجهة، كان يزداد عنادًا. لا يمُر يوم بدون جدل، بدون أصواتٍ ترتفع وأقدامٍ تركل.
يحثُّها على إرساله إلى مدرسة. يقول: «لن تستوعبه الشقة. يحتاج إلى مواجهة العالَم الواقعي. يحتاج إلى آفاقٍ أوسع.» لكنها تستمرُّ في المقاومة.
يسأل الولدُ: «من أين تأتي النقود؟»
– «يعتمد الأمر على نوع النقود في ذهنك. تأتي العملات المعدنية من مكانٍ يُسمَّى مصلحة سك العملة.»
– «هل تحصل من مصلحة سك العملة على نقودك؟»
– «لا، أحصل على نقودي من الصرَّاف في أحواض السفن. وقد رأيتَ ذلك.»
– «لماذا لا تذهب إلى مصلحة سك العملة؟»
– «لأن مصلحة سك العملة لا تمنحنا نقودًا. علينا العمل من أجلها. علينا أن نكسبها.»
– «لماذا؟»
– «لأن هذه هي الطريقة التي يسير بها العالم. لن يكون للنقود أية قيمة إذا لم نعمَل من أجلها، إذا سلَّمَت مصلحة سك العملة النقودَ للجميع.»
يأخذ الولد إلى مباراة في كرة القدم، ويدفع عند الباب الدوَّار.
يسأل الولدُ: «لماذا ندفع. لم ندفع من قبلُ.»
– «هذه مباراة البطولة، آخر مباراة في الموسم. في نهاية المباراة يحصل الفائزون على كعك ونبيذ. على أحدٍ جمع النقود لشراء كعك ونبيذ. إذا لم يحصل الخبَّاز على نقود مقابل هذا الكعك، فلن يستطيع شراء الدقيق والسكر والزبد للكعك التالي. تلك هي القاعدة: إذا أردْتَ أكل الكعك فعليك دفع مقابلٍ له. والأمر نفسه بالنسبة للنبيذ.»
– «لماذا؟»
– «لماذا؟ الإجابة على كل لماذا تسألها؟ الأسئلة، في الماضي والحاضر والمستقبل؛ لأن هذه هي الطريقة التي يسير بها العالم. العالم لم يُصنَع بما يتوافَق معنا، يا صديقي الصغير. علينا نحن التوافُق معه.»
يفتح الولد فمه ليرُد. بسرعة يضغط إصبعًا على شفتَيه. يقول: «لا. لا مزيد من الأسئلة. اهدأ وشاهد كرة القدم.»
بعد المباراة يعودان إلى الشقة. إيناس مشغولة عند الموقد؛ تفوح رائحة لحمٍ محروقٍ في الهواء.
تنادي: «وقت العشاء! اذهَب واغسِل يدَيك!»
يقول: «أذهب الآن. إلى اللقاء، أراك غدًا.»
تقول إيناس: «هل لا بد أن تذهب؟ ألا تودُّ البقاء ومشاهَدتَه وهو يتناول عشاءه؟»
المائدة مُعدَّة لواحد، للأمير الصغير. من المقلاة تنقل إيناس قطعتَين رقيقتَين من السُّجق إلى طبقه. في قوسٍ حولهما تضع أنصافَ البطاطس المسلوقة، وشرائحَ من الجزر، وقطعًا صغيرة من القرنبيط، تقطر عليها دهنًا من الطاسة. بوليفار، وكان نائمًا بجوار النافذة المفتوحة، ينهَض ويتقدَّم.
يقول الولد: «السجق! السجق أفضل طعام.»
يعلِّق لإيناس: «لم أرَ سجقًّا منذ وقتٍ طويل. من أين تشترينه؟»
– «حصل دييجو عليه. إنه صديق لشخص في المطبخ في البنسيون.»
يقطِّع الولد السجق إلى قِطع، ويقطِّع البطاطس، ويمضغ بقوة. يبدو غير قلق تمامًا من راشدَين يقفان بجواره، أو الكلب وهو يُريح رأسه على ركبته، ويُراقب كل حركاته.
تقول إيناس: «لا تنسَ الجزَر. يجعلك ترى في الظلام.»
يقول الولد: «مثل القط.»
تقول إيناس: «مثل القط.»
يأكل الولد الجزَر. يسأل: «فيم يفيد القرنبيط؟»
– «القرنبيط مفيد لصحتك.»
– «القرنبيط مفيد لصحتك، واللحم يجعلك قويًّا، صحيح؟»
– «صحيح، اللحم يجعلك قويًّا.»
يقول لإيناس: «لا بد أن أذهب. اللحم يجعله قويًّا، لكن ربما ينبغي أن تفكري مرتَين قبل أن تطعميه سجقًّا.»
يقول الولد: «لماذا؟ لماذا ينبغي أن تفكر إيناس مرتَين؟»
– «بسبب ما يضعونه في السجق. ما يدخل في السجق ليس مفيدًا لك دائمًا.»
– «ماذا يضعون في السجق؟»
– «حسنًا، ماذا يضعون في اعتقادك؟»
– «لحمًا.»
– «أجل، لكن أي نوعٍ من اللحم؟»
– «لحم الكنغر.»
– «الآن أنت سخيف.»
– «لحم الفيل.»
– «يضعون في السجق لحم الخنزير، ليس دائمًا بل أحيانًا، والخنازير ليست حيواناتٍ نظيفة. لا تأكل العشب، مثل الأغنام والماشية. تأكل كل ما يصادفها.» ينظر إلى إيناس نظرةً خاطفة. تُحملِق فيه بدَورها في صمت. «تأكل البراز على سبيل المثال.»
– «من المرحاض؟»
– «لا، ليس من المرحاض. لكن إذا صادفَت برازًا في حقلٍ تأكله. بدون أن تفكِّر مرتَين. إنها آكلة نباتات وحيوانات، مما يعني أنها تأكل أي شيء. تأكل حتى بعضها البعض.»
تقول إيناس: «ليس صحيحًا.»
يقول الولد: «هل في السجق براز؟» ويترك شوكته.
حتى «يقول هُراء، لا تستمع له، ليس في سجقك براز.»
يقول: «لا أقول إن في سجقك برازًا حقيقيًّا. لكن فيه لحم براز. الخنازير حيواناتٌ قذرة. لحم الخنازير لحم براز. لكنه رأيي فقط. لا يتفق معي الجميع. قرِّر بنفسك.»
يقول الولد، وهو يدفع طبقه بعيدًا: «لا أريد المزيد. يمكن أن يأكله بوليفار.»
تقول إيناس: «خلِّص طبقك وسأعطيك شيكولاتة.»
– «لا.»
تقول إيناس وهي تلتفت إليه: «أتمنى أن تشعُر بالزهو بنفسك.»
– «إنها مسألة صحة. صحة أخلاقية. إذا أكلتِ خنزيرًا تصبحين مثل خنزير. جزئيًّا. ليس تمامًا، بل جزئيًّا. تنضمِّين للخنزير.»
تقول إيناس: «أنت مجنون.» وتخاطب الولد: «لا تستمع إليه، لقد جُن.»
– «لستُ مجنونًا. يُسمَّى التجسيد. وإلا فلماذا تعتقدين بوجود أكَلَة لحوم البشر؟ آكل لحوم البشر شخصٌ يتعامل مع التجسيد بجدية. إذا أكلنا لحم شخصٍ آخر نجسِّد ذلك الشخص. هذا ما يؤمن به آكل لحوم البشر.»
يسأل الولدُ: «ما آكل لحوم البشر؟»
تقول إيناس: «آكلو لحوم البشر متوحِّشون. لا تقلق، لا يُوجَد هنا أكلة لحوم البشر. أكلة لحوم البشر مجرَّد خرافة.»
– «ما الخرافة؟»
– «قصة من سالف الأيام ليست صحيحةً بحالٍ من الأحوال.»
– «احكِي لي خرافة. أريد أن أسمع خرافة. احكي لي خرافة عن الإخوة الثلاثة. أو عن الإخوة في السماء.»
– «لا أعرف شيئًا عن الإخوة في السماء. والآن أكمل عشاءك.»
– «إذا كنتِ لن تحكي له عن الإخوة، فاحكي له عن ذات الرداء الأحمر. احكي له عن كيف يلتهم الذئب جدة الفتاة الصغيرة ويتحول إلى جدة، جدة ذئب. بالتجسيد.»
ينهض الولد ويسكب الطعام من طبقه في وعاء الكلب، ويضع الطبق في حوض المطبخ. ويلتهم الكلب السجق.
يعلن الولد: «سأكون منقذًا. سيُعلِّمني دييجو في حمَّام السباحة.»
يقول: «رائع. ماذا تخطِّط لأن تكون أيضًا، بجانب منقذ وفنَّان هروب وساحر؟»
– «لا شيء. هذا كل شيء.»
– «إخراج الناس من حمامات السباحة والهروب من الصناديق والقيام بحيل هوايات، لا مهنة، ليست عملًا أساسيًّا. كيف ستكسب عيشك فعليًّا؟»
يُلقي الولد نظرةً خاطفة إلى أمه، وكأنه يبحث عن مرشد. ثم يقول بجرأة: «لن يكونَ عليَّ أن أكسب عيشي.»
– «علينا جميعًا أن نكسب عيشنا. إنه جزء من الحالة الإنسانية.»
– «لماذا؟»
– «لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ لا نجري محادثةً حقيقيةً بهذه الطريقة. ماذا تأكل إذا قضيتَ وقتك وأنت تنقذ الناس وتهرب من السلاسل وترفض العمل؟ من أين تحصل على الطعام لتكون قويًّا؟»
– «من المحل.»
– «سوف تذهب إلى المحل ويعطونك طعامًا. بدون مقابل؟»
– «أجل.»
– «وماذا يحدث إذا تخلى الناس في المحل عن كل طعامهم بدون مقابل؟ ماذا يحدث حين يكون المحل خاويًا؟»
يرُد الولد، برزانة، وابتسامة صغيرة وغريبة على شفتَيه: «لماذا؟»
– «لماذا ماذا؟»
– «لماذا يكون المحل خاويًا؟»
– «لأنه إذا كان لديك «س» من أرغفة الخبز وتخلَّيتَ عنها كلها بدون مقابل فلن يكون عندك أرغفة أو نقود تشتري بها أرغفةً جديدة؛ لأن «س» ناقص «س» يساوي صفرًا. يساوي لا شيء. يساوي الخواء. يساوي معدةً خاوية.»
– «ما «س»؟»
– ««س» أي رقم، عشرة أو مائة أو ألف. إذا كان لديك شيء وتخلَّيتَ عنه، فلن يكون عندك بعد ذلك.»
يغلق الولد عينَيه ويبدو وجهه مضحكًا. ثم يبدأ القهقهة. يُمسِك جيبة أمه ويضغط وجهه على وركها ويقهقه ويقهقه حتى يحمرَّ وجهه.
تقول إيناس: «ما هذا، يا حبيبي؟» لكن الولد لا يتوقَّف عن الضحك.
تقول إيناس: «من الأفضل أن تنصرف. إنك تزعجه.»
– «إنني أعلِّمه. إذا أرسلتِه إلى المدرسة، فلن تكون هناك حاجةٌ لهذه الدروس المنزلية.»
بلانكو طائرٌ هادئ، وحتى خامل يسمح بأن يُؤخَذ في نزهات ويجلس على رسغ الولد أو على كتفه أحيانًا. لا يُبدي أي مَيلٍ للتحليق بعيدًا، أو للتحليق عمومًا.
يقول للولد: «أعتقد أن جناحَي بلانكو مقصوصان. وهذا يفسِّر لماذا لا يطير.»
يقول الولد: «لا. انظر! يقذف الطائر في الهواء. يرفرف بجناحَيه بفتور، يلفُّ مرةً أو اثنتَين، ثم يستقر على كتفه مرةً أخرى ويسوِّي ريشه بمنقاره.
يقول الولد: «يقول السنيور حمامة إن بلانكو يمكن أن يحمل رسائل. يقول إنني لو تُهتُ يمكن أن أربط رسالةً في ساق بلانكو، وسوف يعود بلانكو إلى البيت، ثم يأتي السنيور حمامة ويعثر عليَّ.»
– «ذلك لطيفٌ جدًّا من السنيور حمامة. سيكون عليك أن تحمل معك قلمًا رصاصًا وورقة، وقطعةً من الخيط لتستطيع ربط الورقة في ساق بلانكو. ماذا ستكتب؟ أرني ما سوف تكتبه حين تريد أن تُنقَذ.»
إنهما يعبران الملعب الخالي. في حفرة من الرمل يُقرفِص الولد، وينعم السطح، وبإصبعٍ يبدأ الكتابة. يقرأ من فوق كتفه: أوه ثم إي ثم حرفًا لا يستطيع تحديدَه ثم أوه مرةً أخرى ثم إكس وإكس مرةً أخرى.
ينهض الولد. يقول: «اقرأه.»
– «أجد صعوبة. هل هو بالإسبانية؟»
يومئ الولد.
– «لا، أستسلم. ماذا كتبت؟»
– «يقول، اتبع بلانكو، بلانكو أفضل أصدقائي.»
– «حقًّا. كان من المعتاد أن يكون فيدل أفضل أصدقائك، ومن قبله الملك. ماذا حدث بحيث لم يعُد فيدل صديقك وحل مكانه طائر؟»
– «فيدل كبير جدًّا بالنسبة لي. فيدل فظ.»
– «لم أرَ قط أن فيدل فظ. هل قالت لك إيناس إنه فظ؟»
يومئ الولد.
– «فيدل ولدٌ رقيق تمامًا. أنا معجب به وكنتَ أنت أيضًا معجبًا به. اسمَح لي بأن أقول لك شيئًا. يشعُر فيدل بالأذى لأنك لم تعُد تلعب معه. في رأيي أنك تعامل فيدل معاملة سيئة. إنك، في الحقيقة، تعامله بفظاظة. في رأيي أنك ينبغي أن تقضي وقتًا أقل مع السنيور حمامة على السطح ووقتًا أطول مع فيدل.»
ينقل الولد الطائر على ذراعه. يقبل التوبيخ بدون احتجاج. أو ربما ببساطة يترك الكلماتِ تمُر مرور الكرام.
– «بالإضافة إلى ذلك، أعتقد أنك ينبغي أن تخبر إيناس أن الوقت حان لتذهب إلى المدرسة. ينبغي أن تُصِر على ذلك. أعرف أنك ذكي جدًّا وقد علَّمتَ نفسك القراءة والكتابة، لكن لا بد أن تكون قادرًا على الكتابة مثل الآخرين. لا فائدة من إرسال بلانكو برسالةٍ مربوطةٍ في ساقه إن لم يستطع أحدٌ قراءتها، ولا حتى السنيور حمامة.»
– «أستطيع قراءتها.»
– «تستطيع قراءتها لأنكَ كتبتَها. لكن القضية كلها بشأن الرسائل أن يستطيع الآخرون قراءتها. إذا تهتَ وأرسلتَ رسالةً للسنيور حمامة ليأتي وينقذك، فلا بد أن يستطيع قراءة رسالتك. وإلا فعليك أن تربط نفسك بساق بلانكو وتطلب منه الطيران بك إلى البيت.»
ينظر إليه الولد بارتباك. ويقول: «لكن …» ثم يفهم أنها نكتة ويستغرق الاثنان في الضحك.
إنهما في ملعب البلوكات الشرقية. وكان يدفع الولد على الأراجيح، إلى أعلى، فيصرخ خوفًا ومتعةً. والآن يجلسان جنبًا إلى جنب، يحبسان أنفاسهما، ويستمتعان بآخر شفق.
يسأل الولدُ: «هل يمكن أن تنجبَ إيناس توءمَين من بطنها؟»
– «بالطبع يمكنها. قد لا يكون شائعًا لكنه مُحتمَل.»
– «إذا أنجبَت إيناس تَوءمَين يمكن أن أكون الأخ الثالث. هل يكون التوءمان معًا دائمًا؟»
– «ليس عليهما أن يكونا، لكنهما يفضِّلان ذلك عادة. التوءمان يُعجَب كلٌّ منهما بالآخر بشكلٍ طبيعي، مثل النجمين التوءمَين. إذا لم يكونا معًا، فقد يتجوَّلان منفصلَين ويضيعان في السماء. لكن حب كلٍّ منهما للآخر يربطهما معًا. يربطهما معًا حتى نهاية الزمن.»
– «لكن النجمَين التوءمين ليسا معًا، ليسا معًا في الواقع.»
– «ليسا، ذلك أكيد، ليسا مقيدَين كلٌّ منهما بالآخر في السماء، هناك فجوةٌ صغيرة بينهما. هكذا تسير الطبيعة. فكِّر في المحبين. إذا قيِّد المحبَّان كلٌّ منهما بالآخر طول الوقت فلن يحتاجا إلى أن يحب كلٌّ منهما الآخر. سيكونان واحدًا. لن يكون هناك شيءٌ يحتاجان إليه؛ لهذا تُوجَد فجوات في الطبيعة. إذا حزمت كل الأشياء معًا بشدة، كل شيء في العالم، فلن نكون هناك أنت أو أنا أو إيناس. لن نتحدث أنت وأنا معًا مباشرة، لن يكون هناك إلا الصمت — الوحدة والصمت. وهكذا — عمومًا — من الأفضل وجود فجوات بين الأشياء، أن نكون أنت وأنا اثنَين بدلًا من واحد.»
– «لكن يمكن أن نسقط. يمكن أن نسقط في الفجوة. في الشق.»
– «الفجوة ليست مثل الشق تمامًا. الفجوات جزء من الطبيعة، جزء من حقيقة الأشياء. لا يمكن أن تسقط في فجوة وتختفي. هذا لا يحدث. الشق مختلف تمامًا. الشق كَسرٌ في نظام الطبيعة. يشبه أن تقطع نفسك بسكِّين، أو تمزِّق صفحة إلى اثنتَين. تواصل القول إن علينا أن نحذر الشقوق، لكن أين هذه الشقوق؟ أين ترى شقًّا بينك وبيني؟ أرِني.»
يصمت الولد.
– «التوءمان في السماء مثل التوءمان على الأرض. إنهما أيضًا مثل الأرقام.» هل هذا كله صعب بالنسبة لطفل؟ ربما. لكن الولد سوف يستوعب، لا بد أن يتمنى ذلك — يستوعبه ويفكر فيه وربما يبدأ رؤية المعنى فيه. مثل واحد واثنَين. واحد واثنان ليسا الشيء نفسه، بينهما اختلاف وهو فجوة لكنه ليس شقًّا. هذا ما يجعل العد ممكنًا بالنسبة لنا، ننتقل من واحد إلى اثنَين بدون أن نخشى السقوط.»
– «هل يمكن أن نذهب يومًا ونرى التوءمَين في السماء؟ هل يمكن أن نذهب في سفينة؟»
– «أعتقد ذلك، إذا استطعنا العثور على النوع المناسب من السفن. لكن الوصول إليهما يستغرق وقتًا طويلًا. التوءَمان بعيدان جدًّا. لم يزُرهما أحدٌ بعدُ، في حدود معرفتي. هذا» — يضرب بقدمه على الأرض — «هو النجم الوحيد الذي زُرْناه نحن البشر.»
يحدِّق الولد فيه بارتباك. ويقول: «هذا ليس نجمًا.»
– «إنه نجم. إنه فقط لا يبدو مثل نجم عن قُرب.»
– «إنه لا يسطع.»
– «لا شيء يسطع عن قرب. لكن عن بُعدٍ كل شيءٍ يسطع. أنت تسطع. وأنا أسطع. النجوم تسطع بالتأكيد.»
يبدو الولد منشرحًا. يسأل: «هل كل النجوم أرقام؟»
– «لا. قلتُ إن التوءم مثل الأرقام، لكنها مجرد طريقة في التعبير. لا، النجوم ليست أرقامًا. النجوم والأرقام أشياءُ مختلفةٌ تمامًا.»
– «أعتقد أن النجوم أرقام. أعتقد أن هذا رقم ١١» — يشير بإصبعه إلى السماء — «وهذا رقم ٥٠ وهذا رقم ٣٣٣٣٣.»
– «آه، هل تقصد أننا يمكن أن نعطي لكل نجم رقمًا؟ يمكن أن تكون هذه بالتأكيد طريقة لتحديدها، لكنها طريقةٌ مملَّة جدًّا، غير ملهمةٍ جدًّا. أعتقد أن من الأفضل أن تكون لها أسماءٌ حقيقية، مثل الدب ونجم المساء والتوءم.»
– «لا، سخيف، قلْتُ كل نجم رقم.»
يهز رأسه. «كل نجم ليس رقمًا. النجوم مثل الأرقام في جوانبَ قليلة، لكنها في معظم الجوانب مختلفة تمامًا. على سبيل المثال، النجوم متناثرة في السموات بشكلٍ فوضوي بينما الأرقام مثل أسطول من السفن يُبحِر بنظام، كل سفينة تعرف مكانها.»
– «يمكن أن تموت. الأرقام يمكن أن تموت. ماذا يحدث لها حين تموت؟»
– «الأرقام لا يمكن أن تموت. النجوم لا يمكن أن تموت. النجوم خالدة.»
– «الأرقام يمكن أن تموت. يمكن أن تسقط من السماء.»
– «ليس صحيحًا. النجوم لا يمكن أن تسقط من السماء. النجوم التي يبدو أنها تسقط، الشهب، ليست نجومًا حقيقية. وبالنسبة للأرقام، إذا سقط رقم من الصفوف، سيكون هناك شَق، كَسر، والأرقام لا تسير بهذه الطريقة. لا يُوجَد أبدًا شَق بين الأرقام. لا يضيع رقمٌ أبدًا.»
– «يُوجَد! لا تفهم! لا تتذكَّر أي شيء! يمكن أن يسقط رقمٌ من السماء مثل دون كيخوته حين سقط في الشق.»
– «دون كيخوته لم يسقط في شق. نزل إلى كهف، مستخدمًا سُلمًا مصنوعًا من الحبال. على أية حال، دون كيخوته خارج الموضوع. إنه ليس حقيقيًّا.»
– «إنه حقيقي! إنه بطل!»
– «آسف. لم أقصد أن أقول ما قلتُ. بالطبع دون كيخوته بطل وهو بالطبع حقيقي. قصدتُ أن أقول إن ما حدث له لم يعُد يحدث للناس. يعيش الناس حيواتهم من البداية إلى النهاية بدون أن يسقطوا في شقوق.»
– «إنهم يسقطون! إنهم يسقطون في الشقوق ولم تعد تستطيع رؤيتهم لأنهم لا يخرجون. أنت نفسك قلتَ ذلك.»
– «الآن تخلط بين الشقوق والحُفَر. تفكَّر في الموتى الذين دُفنوا في قبور، في حُفر في الأرض. القبر يصنعه حفَّارو القبور باستخدام مِعول. ليس شيئًا غير عادي مثل الشق.»
هناك حفيف الملابس وإيناس تظهر من الظلام. تقول بانزعاج: «كنتُ أنادي وأنادي. ألا يسمع أحدٌ أبدًا؟»