٣
يستيقظ بمزاجٍ طيب، مفعمًا بالطاقة. لديهما مكانٌ للإقامة، ولديه وظيفة. حان وقت البدء في المهمة الأساسية؛ العثور على أم الولد.
تاركًا الولد نائمًا، ويتسلَّل من الغرفة. كان المكتب الرئيسي قد فُتِح للتو. آنا، وراء المنضدة، تحيِّيه بابتسامة. تسأل: «هل قضيتَ ليلةً طيبة؟ هل استقرَّ بك المقام؟»
– «شكرًا، استقرَّ بنا المقام. لكن الآن أسأل عن خدمةٍ أخرى. قد تتذكَّرين، سألْتُك عن تتبُّع أفراد العائلة. أريد العثُور على أم ديفيد. المشكلة أنني لا أعرف من أين أبدأ. هل تحتفظون بسجلات للوافدين إلى نوفيلا؟ وإذا كنتم لا تحتفظون، فهل هناك مكتبُ تسجيلٍ مركزي يمكن أن أستشيره؟»
– «نحتفظ بسجلٍّ لكلِّ مَن يمُر من خلال المركز. لكن السجلات لن تساعدك إن لم تكن تعرف ما تبحث عنه. سيكون لأم ديفيد اسمٌ جديد. حياةٌ جديدة، اسمٌ جديد. هل تتوقَّع مجيئك؟»
– «لم تسمع بي قط وبالتالي ليس لديها سبب يجعلُها تتوقَّع مجيئي. لكن بمجرد أن يراها الطفل سوف يتعرَّف عليها، أنا متأكِّد من ذلك.»
– «منذ متى انفصَلا؟»
– «إنها قصةٌ معقَّدة، لن أُثقِل عليك بها. لأقُل ببساطة إنني وعدْتُ ديفيد بأن أعثُر على أمه. أعطيتُه كلمتي. وبالتالي هل يمكن أن أُلقيَ نظرةً على سجلَّاتكم؟»
– «كيف يساعدك ذلك بدون اسم؟»
– «تحتفظون بنُسَخ من الدفاتر. سوف يتعرَّف عليها الولد من الصورة. أو أنا. سوف أعرفها حين أراها.»
– «لم تقابلها قط لكنك سوف تتعرف عليها؟»
– «أجل. منفصلين أو معًا، هو وأنا سوف نتعرَّف عليها. أنا واثق من ذلك.»
– «وماذا عن هذه الأم المجهولة الاسم نفسها. هل أنت متأكد من أنها ترغب في لمِّ الشمل مع ابنها مرةً أخرى؟ قد أبدو قاسية حين أقول ذلك، لكن معظم الناس، حين يصلون إلى هنا، يفقدون الاهتمام بالارتباطات القديمة.»
– «هذه الحالة مختلفة بالتأكيد. لا يمكن أن أشرح السبب. الآن: هل يمكن أن أُلقيَ نظرة على السجلات؟»
تهز رأسها. «لا، لا يمكن أن أسمح بذلك. لو كان معك اسم الأم لاختلف الأمر. لكن لا يمكن أن أسمح لك بالبحث في ملفاتنا بناء على رغبتك. ليس فقط ضد اللوائح، إنه عبثي. لدينا آلاف المداخل، آلاف الآلاف، أكثر من أن تحصيها. وبالإضافة إلى ذلك، كيف تعرف أنها مرَّت من خلال مركز نوفيلا؟ في كل مدينةٍ مركزُ استقبال.»
– «أعترف، لا معنى له. ومع ذلك، أتوسل إليك. الطفل بدون أم. إنه ضائع. لا بد أنك رأيْتِ كم هو ضائع. إنه في الليمبو.»
يخيِّم صمتٌ طويلٌ بينهما.
يقول: «أستطيع أن أفعل ذلك في وقتٍ متأخرٍ من الليل. لن يعرف أحد. سأكون هادئًا، سأكون حذرًا.»
لكنها لا تنتبه إليه. تقول ناظرةً من فوق كتفه: «أهلًا! هل نهضْتَ للتو؟»
يلتفت. في المدخل يقف الولد، أشعثَ، حافي القدمَين، في ملابسه الداخلية، وإبهامه في فمه، وما زال شبه نائم.
يقول: «تعالَ! قل أهلًا لآنا. آنا ستُساعِدنا في بحثنا.»
يسير الولد ببطء بينهما.
تقول آنا: «سأساعدك، لكن ليس بالطريقة التي تطلبها. ينسى الناسُ هنا ارتباطاتهم القديمة. ينبغي أن تفعل مثلَهم؛ انسَ الروابط القديمة، لا تتبعْها.» تمُد يدَها، تنكشُ شعر الولد. وتقول: «أهلًا، أيها الرأس النعسان! ألم تنسَ بعدُ؟ اطلب من والدك أن يُنسِيَك.»
ينظر الولَد إليها ثم يعيد الكرَّة. يُهمهِم: «نسيت.»
تقول آنا: «ها. ألم أقل لك؟»
إنهما في الباص، في الطريق إلى أحواض السفن. الطفل، بعد فطور حقيقي، أكثر بهجةً من الأمس بالتأكيد.
يقول: «هل نذهب لرؤية ألفارو مرةً أخرى. ألفارو يحبُّني. يتركُني أصفِّر بصفَّارته.»
– «رائع. هل قال إنك يمكن أن تُناديَه بألفارو؟»
– «أجل، هذا اسمه. ألفارو أفوكادو.»
– «ألفارو أفوكادو؟ حسنًا، يتذكَّر، ألفارو رجلٌ مشغول. لديه الكثير من الأشياء بجانب الاهتمام بالطفل. ينبغي أن تحرص على ألا تُعطِّلَه.»
يقول الولد: «إنه ليس مشغولًا. يقف فقط وينظر.»
– «قد يبدو لك أنه مثل الوقوف والنظر، لكنه في الحقيقة يُشرِف علينا، يرى أن السفن تفرغ في الوقت المناسب، يرى أن كل شخصٍ يفعل ما يفترض أن يفعله. إنها وظيفةٌ مهمة.»
– «يقول إنه سوف يعلِّمني الشطرنج.»
– «رائع. سوف تُحب الشطرنج.»
– «هل سأكون مع ألفارو دائمًا؟»
– «لا، سوف تجد بسرعة أولادًا آخرين لتلعبَ معهم.»
– «لا أريد أن ألعب مع أولادٍ آخرين. أريد أن أكون معكَ ومع ألفارو.»
– «لكن ليس طول الوقت. ليس جيدًا بالنسبة لك أن تكون مع الكِبار طول الوقت.»
– «لا أريد أن تسقط في البحر. لا أريد أن تغرق.»
– «لا تقلق، سأحرص حرصًا شديدًا على ألا أغرق، أعِدُك. يمكن أن تُبعِد عن ذهنك مثل هذه الأفكار السوداء. يمكن أن تتركَها تطيرُ بعيدًا مثل الطيور. هل ستفعل ذلك؟»
لا يردُّ الولَد. يقول: «متى نعود؟»
– «نعودُ عَبْر البحر؟ لن نعود. نحن هنا الآن. هنا نعيش.»
– «إلى الأبد؟»
– «إلى الأبد. سرعان ما نبدأ البحث عن أمك. بمجرد العثور على أمك، لن تنتابك أية أفكار عن العَودة.»
– «هل أمي هنا؟»
– «إنها في مكانٍ ما قريب، تنتظرك. تنتظرك وقتًا طويلًا. وسوف ينقشع كل شيءٍ بمجرد أن تضع عينَيك عليها. سوف تتذكَّرها وسوف تتذكَّرك. ربما تظنُّ أنك نسيت، لكنكَ لم تنسَ. ما زالت لديك ذكريات، لكنها مدفونة فقط، مؤقتًا. الآن لا بُد أن ننزل. هذه محطَّتُنا.»
يقطع ألفارو ثقبًا في أحد الأجولة التي تم نقلُها، مما يسمح للحبوب بالتسرُّب. يقول للولد: «ها، أطعِم الملكَ وصديقَه. لكن احرص على ألا تُطعمَهما كثيرًا، وإلا انفجر بطناهما مثل البالونات ويكون علينا ثَقبُها بدبُّوس.»
الملك وصديقه فرَسَتان في الحقيقة، لكنه يلاحظ أن ألفارو لا يصحِّح للولد.
هناك سقيفةٌ خشبيةٌ صغيرة على الرصيف يستخدمها الرجالُ غرفةَ ملابس. رغم أن الباب بدون قفل، يبدون سعداء لأنهم يخزنون أفرولاتهم وبوتاتهم فيها. يسأل أحد الرجال أين يمكن أن يشتري أفرولًا له. يكتب الرجل عنوانًا على قصاصة من الورق.
يسأل: «بكم يمكن للمرء أن يشتري بوتًا؟»
يقول الرجل: «بريالين، وربما ثلاثة.»
يقول: «يبدو مبلغًا ضئيلًا جدًّا. بالمناسبة، اسمي سيمون.»
يقول الرجل: «يوجينيو.»
– «هل لي أن أسأل يا يوجينيو، هل أنت متزوِّج؟ هل لديك أطفال؟»
يهزُّ يوجينيو رأسه.
يقول: «حسنًا، ما زلت صغيرًا.»
يقول يوجينيو، بشكلٍ ملتبس: «أجل.»
ينتظر أن يُسأَل عن الولد — الولد الذي قد يبدو ابنه أو حفيده لكنه في الحقيقة ليس كذلك. ينتظر أن يُسأَل عن اسم الولد، عن عمره، لماذا ليس في مدرسة. ينتظر عبثًا.
– «تقصد ملعبًا؟»
– «لا، مدرسة للأطفال الصغار. مدرسة قبل المدرسة الحقيقية.»
ينهض يوجينيو: «آسف، لا أستطيع مساعدتك. حان وقتُ العودة إلى العمل.»
يقول صوت من خلفه. يوجينيو: «إنه الصراف.»
يفكُّ الصرَّاف أحزمةً من على حمالة دراجته ويزيل مشمعًا، يكشف صندوقًا معدنيًّا مطليًّا باللون الأخضر، يضعه على أسطوانةٍ مقلوبة. يشير ألفارو إلى الرجال. يتقدمون واحدًا واحدًا، يقولون أسماءهم، ويعطون أجورهم.
ينضم إلى نهاية الصف، ينتظر دَورَه. يقول للصرَّاف: «الاسم سيمون. أنا جديد، قد لا أكون في قائمتك بعدُ.»
يقول الصرَّاف: «أجل، أنت هنا.» يعُد النقود في عملاتٍ معدنية، كثيرة تُثقِل جيوبه.
يقول: «شكرًا.»
– «على الرَّحب والسَّعة. إنه حقُّك.»
يُدحرِج ألفارو الأسطوانة بعيدًا. يربط الصرَّاف الصندوق مرةً أخرى في درَّاجته، يُصافِح ألفارو، ويلبَس قبَّعَته، وينطلق بدرَّاجته على الرصيف.
يسأل ألفارو: «ما خططُك بعد الظهر؟»
– «ليست لديَّ خطَط. قد آخُذ الولد في نزهة؛ أو إن كانت هناك حديقة حيوان، قد آخُذه إلى هناك، ليرى الحيوانات.»
إنه ظهر السبت، نهاية أسبوع العمل.
يسأل ألفارو: «هل تُحب أن تأتي وتشاهد كرة القدم؟ هل الشاب يُحب كرة القدم؟»
– «ما زال صغيرًا على كرة القدم.»
– «عليه أن يبدأ في وقتٍ ما. تبدأ المباراة في الثالثة. قابِلْني عند البواية، لنقُل في الثانية وخمس وأربعين دقيقة.»
– «حسنًا، لكن أية بوابة، وأين؟»
– «بوابة ملعب كرة القدم. هناك بوابةٌ واحدةٌ فقط.»
– «وأين ملعب كرة القدم؟»
– «اتبع الممَر بطول النهر ولن تُخطِئه. على بعد عشرين دقيقةً من هنا، على ما أظن. وإذا كنتَ لا تُحب المشي يمكنك ركوب الباص رقم ٧.»
ملعبُ كرة القدم أبعدُ مما قال ألفارو؛ يشعر الولد بالتعب ويتباطأ؛ يصلان متأخرَين. ألفارو عند البوابة، ينتظرهما. يقول: «أَسرِعا، سوف يبدأ اللعب في أية لحظة.»
يمرون عَبْر البوابة إلى الملعب.
يسأل: «ألا نحتاج إلى شراء تذاكر؟»
ينظر إليه ألفارو باستغراب. يقول: «إنها كرة قدم. إنها مباراة. لا تحتاج إلى أن تدفع لتشاهد مباراة.»
الملعب أكثر تواضعًا مما توقَّع. أرض الملعب محدَّدة بحبل؛ المدرَّج المغطَّى يضم ألف مشاهد على الأكثر. يجدون مقاعد بلا صعوبة. اللاعبون في أرض الملعب، يركلون الكرة، يسخِّنون.
يسأل: «من يلعب؟»
– «دوكلندز بالأزرق، ونورث هيلز بالأحمر. مباراة في الدوري. تُلعب مباريات البطولة صباح الأحد. وإذا سمعْتَ الصفَّارات تنطلق صباح يوم أحد، فهذا يعني أن هناك مباراة بطولة تُلعب.»
– «أيَّ فريقٍ تشجِّع؟»
– «دوكلندز بالطبع. من غيره؟»
يبدو ألفارو في حالةٍ مزاجيةٍ طيبة، مستثارًا، وحتى متحمسًا. إنه سعيدٌ بذلك، ممتنٌّ أيضًا لاختياره لصحبته. يُذهِله ألفارو بطيبته. في الحقيقة، كل رفاقه من عمَّال الشحن والتفريغ يُذهِلونه بطيبتهم. إنهم جادُّون في العمل، وودودون، ومُعِينون.
في الدقيقة الأولى من المباراة، يرتكب الفريق الذي يلعب بالأحمر خطأ دفاعيًّا بسيطًا ويسجِّل دوكلندز. يرفع ألفارو ذراعَيه ويصرخ صرخة انتصار، ثم يلتفت إلى الولد: «هل رأيتَ ذلك، أيها الرفيق الصغير؟ هل رأيت؟»
الرفيق الصغير لم يرَ. يجهل كرة القدم، الرفيق الصغير لا يدرك أن عليه الانتباه للرجال الذين يَجْرون إلى الخلف والأمام في الملعب بدل الانتباه إلى بحر الغرباء حولهم.
يحمل الولد في حجره. يقول وهو يشير: «انظر، يُحاوِلون ركل الكرة في الشبكة. والرجل الذي يقف هناك ويلبس قفازًا، هو حارس المرمى. عليه أن يُمسِك الكرة. هناك حارس مرمًى في كل طرف. حين يركلون الكرة في الشبكة، يُسمَّى هدفًا. الفريق الذي يرتدي الأزرق أحرز هدفًا للتو.
يومئ الولد، لكن يبدو أن ذهنه في مكانٍ آخر.
يخفض صوتَه. هل تريد أن تذهب إلى التواليت؟»
يردُّ الولد همسًا: «أنا جائع.»
– «أعرف. أنا أيضًا جائع. لا بد فقط أن نعتاد على ذلك. سوف أرى إن كان يمكن الحصول على بعض شرائح البطاطس بين الشوطَين، أو بعض الفول السوداني. هل تحب الفول السوداني؟»
يومئ الولد. ويسأل: «متى يحين بين الشوطَين؟»
– «بسرعة. في البداية ينبغي على لاعبي كرة القدم أن يلعبوا أكثر، ويُحاولِوا إحراز أهداف أكثر. شاهِد.»