الخاتمة

بعد هذه الجولة التي طوَّفنا من خلالها، لعرض قضية «النحو العربي وعلاقته بالمنطق»، فإنه يمكننا القول بأن المنطق اليوناني قد أثر بلا شك في النحو العربي، وجاء هذا التأثر على مرحلتين: مرحلة غير مباشرة، وتجسدت من خلال ما قام به أبو الأسود الدؤلي في عملية تنقيط المصحف التي تشبه إلى حدٍّ كبير ما فعله السريان قبل ذلك في لغتهم، وذلك حين أرادوا ضبط كتابهم المقدس، حين رسموا نقطة أو سطيرة صغيرة فوق الحرف، أو تحته، أو في وسطه؛ وبقيت الأحرف كما هي، فلم يغيروا أحرفًا، بل زادوا نقطًا أو سطيرات، فلما جاء أبو الأسود ليضبط المصحف انتفع بذلك واستفاد منهم استفادة كبيرة.

وأما المرحلة المباشرة، فقد تمثلت من خلال عملية الترجمة لكتب الفلسفة والمنطق في القرن الثالث الهجري، وذلك حين انفتح المجتمع الإسلامي أكثر على ثقافات العالم، وتوسع في نقل العلوم، ولا سيما علوم المنطق والفلسفة، وقد ساعد على ذلك الحركة الثقافية الصاخبة في العصر العباسي، تلك الحركة التي صاحبها انتعاش حركة الترجمة، وانتشارها من اليونانية وغيرها إلى العربية، وأضحى العرب يعرفون الأورجانون الأرسطي بكافة أجزائه المشتملة على المقولات، والعبارة، والتحليلات الثانية، والطوبيقا، والسوفسطيقا، والريطوريقا، والشعر، مع شروحات وتلخيصات المشائيين اليونانيين من أمثال «فورفوريوس»، «جالينوس»، «والإسكندر الأفروديسي».

وقد كان لازدهار الترجمة أثره في دعم الاتجاه العقلي، وتقويته في الفكر الإسلامي، مما أدى إلى ظهور علم الكلام على يد «المعتزلة» الذين احتاجوا إلى المنطق الأرسطي للتسليح به ضد خصومهم، ولما كان هؤلاء قد استكملوا أدوات التسلح بالمنطق الأرسطي، فقد أثر ذلك كله في النحو؛ حيث أخذ نحاة البصرة والكوفة معًا يعتكفون على قراءة منطق أرسطو بطريقة منقطعة النظير؛ حيث تناولوه بالبحث، والدراسة، واستخدموه كمنهج للتفكير في بعض المشكلات، والمسائل اللغوية، والنحوية، ولقد واكب ظهور «أبو زكريا بن الفراء»، على مسرح الدراسات اللغوية والنحوية تطورًا هائلًا في المنهج الذي كانت تستخدمه المعتزلة، وهو المنهج الذي اعتمد في جانب كبير منه على العقل؛ من حيث إنهم استخدموا بعض الأقيسة والإلزامات وعمدوا كثيرًا إلى ضرب الأمثال، واستخلاص الأحكام من المعاني المتضمنة في النصوص.

وأما بالنسبة لتحديد الفترة الزمنية لدخول المنطق اليوناني في النحو العربي فيمكننا القول بأنها تجسدت من خلال المراحل الارتقائية لنشأة وتطور النحو العربي، والتي تجسدت في اعتقادنا من خلال ثلاث مراحل حتى اكتملت:

(١) المرحلة الوصفية

وهذه المرحلة قد استغرقت نحو قرن وأكثر من نصف قرن، من عهد أبي الأسود الدؤلي حتى عهد سيبوبه، ولعل أهمية هده المرحلة في النحو تعود إلى أنها شهدت بدء محاولات استكشاف الظواهر اللغوية، بعد أن فرغ أبو الأسود الدؤلي من ضبط المصحف بواسطة طريقة التنقيط التي استعارها من يعقوب الرهاوي، بعد تقنينها وتعديلها حسب مستجدات وأبعاد اللغة العربية، كما أنه تم فيها أيضًا المحاولات الأولى لصياغة ما استكشف من الظواهر اللغوية في قواعد، ثم تصوير هذه القواعد في شكل بعض المصنفات الصغيرة التي أتاحت الفرصة لمناقشة الظواهر والقواعد معًا مما فتح الباب أمام أجيال هذه الفترة لوضع الأسس المنهجية التي كان لها تأثيرها فيما بعد؛ كما شهدت هذه المرحلة أن النحاة العرب الأوائل قد استعاروا بعض مضامين النحو اليوناني الذي دون منظومته «ديونيسيوس ثراكس»، وذلك بطريق غير مباشر عن طريق السريان، وتجسد ذلك من خلال عصر «أبو الأسود الدؤلي» و«علي بن أبي طالب» (رضي الله عنه)، وبالتالي فالمرحلة الأولى من النحو العربي شهدت تأثُّرًا بالنحو اليوناني بواسطة السريان؛ خاصةً بعد أن امتلك العرب سوريا، والعراق، ومصر، وبلاد فارس، بين سنتَي (١٤ﻫ و٢١ﻫ، ٦٣٥م–٦٤١م) فاتصل العرب باليونان عن طريق السريان اتصالًا غير مباشر لقرب البصرة والكوفة من مراكز الثقافة، ووجود كثير من الناس يتكلمون بلغتين، ووجود أوجه شبه ملفته بين النحو العربي والنحو اليوناني، مما يثبت أن النحاة العرب الأوائل قد استعاروا بعض العناصر من النحو اليوناني حتى يبنوا نظامهم النحوي عن طريق السريان.

(٢) المرحلة التجريبية

وهذه المرحلة قد استمرت قرابة قرن أو يزيد، وتبدو هذه المرحلة التجريبية للنحو العربي أوضح ما تبدو في كتاب سيبويه، وسبب اختيارنا لسيبويه هو أنه من الناحية التاريخية يعرف الجميع أنه بعد أن انتهى من كتابة مؤلَّفه «الكتاب»، الذي يُعتبَر مرحلة متطورة، وناضجة من مراحل التفكير النحوي العربي، كان يعتمد في منهجه النحوي على المنهج التمثيلي، والسبب أنَّ طريقة سيبويه اعتمدت العمل الاستقرائي المرتبط بالواقع الاستعمالي لِلُّغة محاولًا تصنيفها، وتحديد علاقاتها على أساس التماثل الشكلي، والوظيفي، وصولًا إلى وضع الأحكام والقوانين العامة.

ومن هذا المنطلق تبين لنا خلال مسيرتنا في هذا الكتاب لماذا لم يعتنِ سيبويه بالحدود النحوية مع أنه رتب موضوعات المادة النحوية في كتابه على أساس ذكر المادة كاملة؟ والسبب كما تبين لنا هو أن سيبويه كان يقتصر في أكثر حدود مصطلحات الكتاب على التعريف بالمثال، قاصدًا به إيضاح المعرف، حيث يكثر من الأمثلة والشواهد بدرجة لا نظير لها عند غيره من النحاة، وهذا يؤكد نفي تهمة تأثر كتاب سيبويه بمنطق أرسطو بسبب النزعة التجريبية التي تبناها.

(٣) المرحلة الاستنباطية

وهي المرحلة التي أفضى فيها التراكم المعرفي الذي حققه تطور النحو العربي في المرحلتين الوصفية والتجريبية، وقد أدى هذا التراكم الكمي إلى تغير كيفي على ثلاثة مستويات محددة: مستوى الوسائل العقلية المنهجية من جانب، ومستوى مفاهيم العلم ومبادئه من جانب آخر. أما المستوى الثالث فهو مستوى نظرية العلم، التي تُحدِّد البِنية أو الشكل الذي سيجيء عليه العلم في هذه المرحلة، وفي المرحلة الاستنباطية يتم صياغة الحد الأدنى من قواعد العلم ومبادئه التي تمكن المختصين من الانتقال من مبدأ أو أكثر داخل العلم إلى مبدأ جديد كما هو الحال في المنطق والرياضيات، أو تمكنهم من التنبؤ بما سيحدث مستقبلًا — بحسب مبدأ عام مستقر — كما هو الحال في العلوم الطبيعية، أو تؤهلهم أخيرًا لاستنباط أحكام معينة من قواعد عامة لحل مشكلات اجتماعية جزئية معينة، وهذا هو مثلًا شأن علم القانون.

وهذه المرحلة حين نطبقها على النحو العربي، نجد أنها تبدأ من أبي بكر بن السراج حتى الحقبة الحديثة، وهذه المرحلة قد ظهر فيها تأثير المنطق في الدرس النحوي بصورة واضحة في استعمال النحويين للتعريفات، أو الحدود، والعوامل، والأقيسة، والعلل، وبعض المصطلحات المنطقية كالجنس، والفصل، والخاصة، والماهية، والماصدق، والعهد، والاستغراق، والعموم، والخصوص، المطلق، والعموم والخصوص الوجهي، والموضوع والمحمول، واللازم والملزوم، إلى آخر هذه المباحث المنطقية.

بيد أن هناك كثيرًا من المؤرخين والباحثين قديمًا وحديثًا، حاولوا تعتيم هذه القضية من خلال الغرس في الأذهان أن نشأة النحو العربي، جاءت فقط مرتبطة بالدراسات القرآنية ارتباطًا وثيقًا، ففيها أنزل وبه حفظت واستمرت وتطوَّرت وبينهما أثر وتأثير، ومن أجل القرآن الكريم قام النحو يصحح ويضبط ويقعِّد ويعلل ليفهم نصًّا وتسلم لغة ويستقيم لسانًا؛ فلذلك كانت نشأة النحو العربي بأيدي أوائل القرَّاء لا غيرهم، والنحو كان من أهم العلوم الأولى التي ظهرت ونضجت في القرنين الأول والثاني الهجريين، وهو أحد الأركان التي شكَّلت الحضارة العربية-الإسلامية.

ومن هذا المنطلق ذهبوا إلى أن النحو العربي، «عربي النشأة، أصيل الطابع، ظهر بدافع عربي أصيل، بعيد كل البعد عن التيارات العلمية التي وجدت في عصر النشأة.» ولم يتأثر بالمنطق اليوناني ولا النحو السرياني ولا توجد به أدنى علاقة بينهما لا من قريب ولا من بعيد. علاوة على أن تقعيد النحو بدأ في عهد علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، وذلك حين أمر «أبا الأسود» بما يلي: «الكلام كله: اسم، وفعل، وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمَّى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمَّى، والحرف ما أنبأ عن معنًى ليس باسم ولا فعل.» ثم قال له: «اعلم أن الأشياء ثلاثة: ظاهر، ومضمَر، وشيء ليس بظاهر ولا مضمَر، وإنما يتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بمضمر ولا ظاهر»، ثم وضع «أبو الأسود» بابَي العطف والنعت، ثم بابَي التعجب والاستفهام، وإلى أن وصل إلى باب «إنَّ وأخواتها» ما خلا لكنَّ، فلما عرضها على «علي» أمره بضم «لكنَّ» إليها، وكلما وضع بابًا من أبواب النحو عرضه عليه، كما أكد الكثير من المؤرخين.

ومع احترامنا الشديد لهذا الرأي إلا أنه مجانب للصواب، فحين نقول إن النحو العربي كان جزءًا من المعجزة العربية يكون المعنى الحقيقي لقولنا هذا هو أننا لا نعرف كيف نفسر ظهور نشأة النحو العربي.

ومن ناحية أخرى، نود أن نشير بأن المكان الذي ظهرت فيه البدايات الأولى للنحو العربي على يد أبي الأسود الدؤلي، وعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، هو ذاته دليل على الاتصال الوثيق بين العرب ومن سبقهم من النحو اليوناني والنحو السرياني، فلم تظهر البدايات الأولى للنحو العربي في أرض العرب ذاتها، كالجزيرة العربية، وإنما ظهرت في بلاد العراق؛ أي في أقرب أرض ناطقة بالسريانية، واليونانية، والفارسية ذوات اللغات الأقدم عهدًا، وهذا أمر طبيعي؛ لأنه من المحال أن تكون هذه المجموعة من الشعوب الشرقية قريبة من العرب إلى هذا الحد، وأن تتبادل معها التجارة على نطاق واسع، وتدخل معها أحيانًا أخرى في حروب طويلة دون أن يحدث تفاعل بين الطرفين، كما أنه من المستحيل تجاهل شهادات المؤرخين العرب القدماء من أمثال «عبد الرحمن بن خلدون» وأبو الريحان البيروني أو المعاصرين من أمثال: «جورجي زيدان»، و«أحمد أمين»، و«فؤاد حنا ترزي»، و«حسن عون»، و«علي أبو المكارم»، وغيرهم من الباحثين الأفاضل الذين أكدوا تأثر معظم نحاة العرب بالنحو والمنطق اليوناني والسرياني.

لذلك لم تكن نشأة النحو العربي نشأة عربية خالصة، ولم يبدأ العرب في اكتشاف ميادين اللغة والنحو من فراغ كامل؛ بل إن الأرض كانت ممهدة لهم في بلاد العراق التي عاصرت النحو اليوناني، والمنطق اليوناني، والنحو السرياني، وبالتالي يتضح لنا أن الاعتقاد بضرورة أصل واحد للمعرفة العلمية، وتصور واحد يرجع إليها الفضل في نشأة النحو العربي، ربما كان ذلك عادةً سيئةً ينبغي التخلص منها، فإصرارنا على تأكيد الدور الذي ساهمت به اللغات السابقة في نشأة اللغة العربية والنحو العربي، لا يعنى أبدًا أننا مِن الذين يُنكِرون على العرب أصالتهم اللغوية، ولا نشك لحظة في أنهم يمثلون مرحلة علمية ناضجة ومتميزة في اللغة والنحو، ولكننا لا نوافق على ادعاء أن تلك الأصالة، وهذا التمايز قد أتيا من فراغ كامل؛ فلقد كانت عظمة العرب أنهم استطاعوا أن ينقلوا بشغف كل ما وقعت عليه أعينهم وعقولهم مِن التراث اللغوي السابق عليهم، وأن يهضموه هضمًا يتلاءم مع بيئتهم الخاصة، وأن يحولوا هذه المؤثرات إلى شيء شبيه بتراثهم، وأن ينتقدوا هذا وذاك شيئًا فشيئًا، حتى استطاعوا في النهاية أن يتجاوزوا المرحلة السابقة في اللغة، وأن يبدءوا مرحلة جديدة متميزة.

علاوةً على أن النحاة العرب في أول عهدهم قد استلهموا التراث اللغوي اليوناني والسرياني السابق عليهم، واستحوذوا عليه بروحهم الفتية، وحاولوا تجاوزه حينما صبغوه بصبغة النظرية النقدية، وقد فعل ذلك نحاة العرب والمسلمين أمثال «أبي الأسود الدؤلي» و«الخليل بن أحمد»، ومن بعدهما أنصار مدرستي البصرة والكوفة من أمثال «الفراء»، و«المبرد»، وكذلك نحاة القرن الرابع الهجري وما بعده، حينما نقلوا التراث اللغوي اليوناني-السرياني وحاولوا تطويعه، مع مبادئ دينهم الحنيف في شتى الميادين، ثم تجاوزوه بما قدموا من أفكار نحوية جديدة في مختلف قضايا اللغة العربية.

وما من لغة ذات شأن ومكانة في تاريخ الحضارة الإنسانية، إلا كانت عرضة لمثل هذا التبادل اللغوي، فالإنجليزية على قدمها، وعراقتها، وشيوعها قد استوردت الآلاف المؤلفة من الكلمات، واقتبست الحديثة منها ما بين «٥٥٪» و«٧٥٪» من مجموع مفرداتها من اللغتين الفرنسية واللاتينية وغيرهما من اللغات الرومانية، كما اقتبست الكورية ما يقرب من «٧٥٪» من مفرداتها من اللغة الصينية، حتى ليمكن القول إن عملية التبادل اللغوي أصبحت من الحقائق المألوفة الآخذة في الاتساع والازدياد بفعل انتقال الأفكار، والنظم، والعلوم، يواكبها الميل المتنامي إلى البحث العلمي الرصين في هذه الظاهرة التي أصبحت حقيقة لا يمكن إغفالها أو تفاديها، إذ مَن يمنع المصطلحات العلمية المتصلة بعالم الفضاء وعلومه الحديثة اليوم من الانتشار والذيوع بالألفاظ ذاتها من اللغة الأولى إلى لغات العالم كلها؟!

إن اختلاط الأمم والتبادل اللغوي الآن يفوق ما كان عليه في الماضي، ومشاكل الترجمة أو اقتباس الأجنبي مشاكل عصرية سائدة في معظم المجتمعات، والحلول الكثيرة المقترحة لمعالجتها لا تُلقَى ارتجالًا، ولا تُبنَى من فراغ، بل لا معنى لها عن النظر إلى الأعراض الأولى والظروف المختلفة التي رافقت أصول هذه الظاهرة في ماضي اللغات والشعوب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤