(١) خصوصية العلاقة بين المنطق والنحو عند اليونان
وسبل انتقالها إلى السُّريان
تعد قضية العلاقة بين المنطق والنحو من أدق
موضوعات فلسفة اللغة وأصعبها تناولًا، ويهتم بها
المناطقة، والفلاسفة، والنحاة منذ أقدم العصور، بل
من قبل أن يصيغ أرسطو المنطق، ويضع قواعده، فلقد
نشأ المنطق مرتبطًا بالجدل الفكري والنحوي الذي ساد
القرن الخامس وشطرًا من القرن الرابع قبل الميلاد
عند كلٍّ من المدرسة الأيلية وجماعة السوفسطائيين؛
إذ اهتموا بالجدل، وبقوة الكلمة، عن قوة الفكر،
وبفن الإقناع الذي هو بعينه فن التفكير، وكان بحثهم
في اللغة بحثًا منطقيًّا.
٤
والعلاقة بين المنطق والنحو علاقة قديمة وحميمة؛
إذ يلتقيان في مصطلحيهما، وفي غايتهما، فالنحو آلة
يُعرف بها صواب تراكيب ألفاظ اللغة ومعانيها من
خطئها، والمنطق آلة يُعرف به صحة المعنى وتصديقه من
خطئه، وكل منهما يعتمد طُرقَ الاستقراء والاستنباط.
غير أنهما لا يتطابقان تمامًا؛ فالمنطق يستند إلى
الأدلة العقلية، مفترضًا وحدتها وشمولها، والنحو
يستند إلى مُعطيات اللغة الوصفية معترفًا بأن
قواعدها قابلة للاستثناء والتخصيص.
٥
ومن جهة أخرى فإن العلاقة بين النحو والمنطق تُعد
من الموضوعات العريقة التي تناولها العلماءُ منذ
زمن بعيد؛ إذ لا نجد من العلماءِ القُدامى أحدًا
ضرب سَهمًا في مجال اللغة، أو البلاغة، أو النقد،
إلا والعلاقة بين النحو والمنطق كانت إحدى أغراضه
ومراميه، ولذلك فإنه إذا ما درسنا هذه العلاقة من
منظار تاريخي نصل إلى أن لفلاسفة اليونان نظراتٍ
تتعلق بهذه العلاقة.
ومن يتتبَّع تاريخ الدراسات اللغوية في الفكر
اليوناني سيدرك أن هذا الفكر قد افترض اللغة
اليونانية مقياسًا للُغات العالم، وبنى على ذلك
اعتقادًا تُخطئه الدراسات اللغوية الحديثة، وهو أن
دراسة اللغة اليونانية في تراكيبها وطرقها صادقة
على كل لغات العالم؛ إذ إن هذه اللغات تجري على
مقياس اليونانية، وهذه الدراسات اللغوية القديمة
تختلط إلى حد كبير جدًّا بالنظريات المنطقية
والميتافيزيقية، ولقد وصف كُتاب اللغة من الإغريق
الجملة حكمًا منطقيًّا، وعدوا بها طرق الإسناد
النحوي بالطريقة نفسها، ولقد عدوا الموضوع والمحمول
في المنطق.
٦
ويصادفنا في مجال التفكير اللغوي-المنطقي أعمالُ
السوفسطائيين الخاصة بالنحو، والتي حملت في ثناياها
بذورًا منطقية أكيدة، فقد أرجعوا التصوُّر (المعنى)
إلى اللفظ، مما يسَّر لهم أن يجعلوا من الجدل وسيلة
للانتصار على الخَصم؛ ومعنى هذا أن السوفسطائيين قد
بحثوا في النحو فأدى بهم إلى المنطق؛
٧ و«لقد قام بروتاجوراس
Protagora ببعض
الدراسات الأولية في النحو كأساس للمنطق»؛
٨ حيث يُعد أول من تحدث عن أجناس الأسماء
Gene Onomaton؛
أي المذكَّرة
Arena
والمؤنثة
Thelea
وما نسميها المحايدة، وسمَّاها هو
Skeue (=
الأشياء غير الحية)، واستخدم أرسطو نفس هذه
المصطلحات، وإن كان يستخدم أحيانًا
Metaxy (= ما
بين) بدلًا من
Skeu».
٩
وإذا انتقلنا إلى العلاقة بين النحو والمنطق عند
أفلاطون (٤٢٩–٣٤٧ق.م.)، نجد أنه على الرغم من أنه
لم يسُق آراءه اللغوية بشكل مترابط، ولم يجمعها في
مكان واحد، فقد عدَّه الباحثون «رائد الدراسات
النحوية وأول فاحص للمشكلات النحوية»؛
١٠ فهو يُعد واحدًا من أهم وأشهر فلاسفة
اليونان الذين جاءوا بعد السوفسطائيين، والذين
شغلوا أنفسهم بالبحث في أقسام الكلام.
أما رأيه في أقسام الكلام، فنجده أنه كان أول من
صاغ لنا تعريفًا للجملة؛ إذ يقول: «إن الجملة هي
تعبير عن أفكارنا عن طريق أسماء
Onomata،
وأفعال
Rhemata،
وهذه الأسماء والأفعال تحكي أو تعكس أفكارنا في
مجرى النَّفَسِ الذي يخرج من الفم عند الكلام.» ثم
يُعرِّف الاسم على أنه اسم لفاعل الفعل، أما الفعل
فاسم «للفعل نفسه»، ومن الاسم والفعل تتكون الجملة،
وواضح من هذا أن أقسام الكلام عند أفلاطون اثنان؛
هما: الاسم والفعل، وهما قسما الكلام في الجملة
الخبرية، ولم يكن لأفلاطون وأرسطو من بعده اهتمام
بغير هذا النوع من الجمل؛ لأن هذا النوع من الجمل،
هو الذي يستحوذ اهتمام الحكماء والمناطقة دون غيره
من جمل الدعاء والسؤال والأمر.
١١
وهنا يرى بعض الباحثين أن أفلاطون يُعَد بذلك أول
من فرَّق بين الاسم والفعل، كما أنه أعطانا تقسيمًا
ثلاثيًّا للأصوات يمكن أن يكون: أصوات العلة،
الأصوات الساكنة المهجورة، الأصوات الساكنة
المهموسة. وأقر أرسطو تقسيم أفلاطون للكلمة إلى اسم
وفعل، وزاد عليها قسمًا ثالثًا سماه رابطة، وذلك
أنه شعر أن الأفعال والأسماء تؤدي معانيَ مستقلة،
في حين أن سائر الكلمات ليس لها إلا الوظيفة
النحوية فقط.
١٢
وبصِفة عامة كان منطلق أفلاطون الاقتناع بأن
الكلمة هي الشكل المادي للفكرة، وأنها تمكن بدايات
معرفتنا عن العالم، وقد تولَّدت المحاولات الأولى
لتعريف المحاولات النحوية الأساسية من هذا الموقف
الفلسفي وتطبيقًا للمعايير المتصلة بعمليات المنطق،
عرَّف أفلاطون «الاسم بأنه شيء يخبر عنه، وعرف
الفعل بأنه ما يخبِر به عن الاسم.»
١٣
وقد كان أرسطو هو الذي دخل تاريخ الدراسات
اللسانية على أنه المؤسس الحق للنحو الأوروبي
التقليدي، وخلال القرون التالية لم يتغير فكره حول
أقسام الكلِم إلا في تفاصيل لم تمَسَّ جوهره
الأصيل، وللمقاربة التقليدية للنحو جذورها الضاربة
في الطرق التي اعتمدها أرسطو لرصد ظاهرة اللغة، ولا
سيما في مجال بِنية الجملة، وقدم أرسطو — في
الحقيقة — ضمن تأملاته عن اللغة معايير خاصة تُلبي
البحوث الفلسفية حين صنف الأشكال النحوية وفقًا لما
تشير إليه من مادة، وكيف، وكم، وعلاقة، ووجود،
وتغير … إلخ، وقد أثبت هذا الميراث الفكري الفلسفي
أنه ميراث بلغ الغاية من بُعد النظر والثبات على
الزمن فيما تلا ذلك من تطور في مجال اللسانيات.
١٤
وكان أرسطو هو أول من حاول تصنيف أقسام الكلِم،
فجمع كلًّا من الأسماء
Onoma،
والأفعال
Rhema
معًا؛ حيث رأى أن هذه الكلمات هي وحدها التي تحمل
معانيَ مستمرة في ذاتها، في مقابل كل الكلمات
الأخرى التي لا تفيد إلا في ربط العمليات المنطقية
الأخرى للتفكير
Syndesmoi، وقد
اتضح فيما بعد ثبات الأساس الخاص بتقسيمه، على
الرغم من أن الترتيب الفعلي لأقسام الكلِم المتعينة
داخل هاتين المجموعتين قد تغير إلى حد ما.
١٥
وتختلف الأفعال — تبعًا لطريقة أرسطو في التفكير
— عن غيرها من أنواع الكلِم بسبب خصائصها المتعلقة
بتشكيل الزمن، ومن هنا كان الإسناد هو الوظيفة
الأساسية للفعل، وعلى الرغم من ذلك عدَّ أرسطو
المسنَد ذا وظيفة أكثر اتساعًا من الفعل؛ فالمسنَد
يتضمَّن كل ما يُعطي معلومة عن المسنَد إليه،
وبالنظر إلى أن البشر يمكن تعيينهم تبعًا لما يطلق
عليهم من نعوت، لذا فإن هذه النعوت — التي يُعبَّر
عنها نحويًّا بالصفات — هي ليست أفعالًا على
الحقيقة، ولكنها من قبيل المسنَد، وهذا يعني شيئين؛
أحدهما: أن هناك جُمَلًا بلا أفعال، والثاني: أن
المسند لا يلزم أن يكون فِعلًا على الحقيقة.
١٦
وقد عرَّف أرسطو الجملة بأنها تركيبٌ مؤلَّفٌ من
عناصر صوتية تحمل معنًى محددًا قائمًا بذاته، ولكن
كلًّا من مكوناته يحمل — في الوقت نفسه — معنًى
خاصًّا به أيضًا، غير أن نظرية أرسطو في الجملة
كانت مرتبطة في عمومها بنظريته في الحكم المنطقي،
التي أدت به إلى أن يُضفي على قضية الإسناد أهمية خاصة.
١٧
ومن جهة أخرى يُقال إن أرسطو قد توصل إلى كثير من
التصنيفات المنطقية خلال دراسته للنحو اليوناني؛
حيث ذهب إلى أن الكلام يُعبِّر بدقة عن أحوال
الفكر، وأن المرء في وُسعه أن يستعين بالقوالب
النحوية لكي يكشف عن أحوال الفكر؛ فالنحو ينظر إلى
الألفاظ من ناحيتين: من ناحية وجودها مفردة؛
فيقسمها إلى أسماء، وأفعال، وحروف؛ ومن ناحية
ارتباطها في جملة معينة، ونفس الشيء يقال عن الفكر
الذي ينقسم إلى الأفكار المفردة، وهي تصورات،
والأفكار المرتبطة، وهي القضايا أو التصديقات، وعلى
هذا فتقسيم أرسطو للأفكار إلى تصورات وتصديقات هو
تقسيم مأخوذ أصلًا من النحو.
١٨
كما ميز أرسطو بين الاسم المفرد، والاسم
المركَّب، واسم الذات، واسم المعنى، والاسم الإضافي
أو النسبي، كما قسم الاسم إلى اسم حقيقي واسم
مُستَعار، ومن ناحية أخرى قسم الاسم إلى المذكَّر،
والمؤنث، والمحايد، وقدم تعريفًا لكل من الاسم
والكلمة (الفعل). كما بحث أرسطو في الألفاظ
ومعانيها، فقسم الألفاظ إلى المتَّفِقة،
والمتواطِئة، والمشتَقَّة، وكذلك قسم المقولات إلى
عشرة أقسام هي مقولة الجوهر، والكم، والكيف،
والإضافة، والأين، والمتى، والفاعل، والمفعول، وأن
يكون له، والوضع، معتمدًا في هذا كله على منطق القياس.
١٩
بل إن البعض يرى أن قائمة المقولات الأرسطية قد
أخذها أرسطو أيضًا من النحو، والدليل على ذلك أن
مقولات أرسطو تقوم على تقسيم الكلام إلى أجزائه؛
فالجوهر يقابل الاسم، والكيف يقابل الصفة، والكون
يقابل العدد، والإضافة تقابل صيغ التفضيل، والأين
والمتى يقابلان ظرفَي المكان، والزمان، والفعل،
والانفعال والوضع تقابل الأفعال المتعدية، والمبنية
للمجهول، واللازمة على التوالي، والملك يقابل صيغة
الماضي في اليونانية
Para
Fait؛ إذ يدل على الحالة التي
يملكها الشخص نتيجة فِعل فِعله.
٢٠
كذلك كان لبعض أفكار أرسطو المنطقية تأثيرها
عندما حاول اللغويون — فيما بعد — تطبيقها على
الدرس اللغوي. من ذلك مثلًا أفكاره في التعريف
المنطقي؛ إذ وجدت آثارها في التطبيقات المعجمية،
٢١ وأفكاره عن «معنى جزء الكلمة بالنسبة
للكلمة، ومعنى جزء الجملة بالنسبة للجملة، وقد
أخذها النحاة بعد ذلك لتكون أساسًا لتقسيم النحو
إلى البنية
Morphology
والتركيب
Syntax.»
٢٢ كما كان لأفكاره في «المعنى» تأثيرها
الواضح في النظرية العقلية
Mentalistic
وهي إحدى النظريات الرئيسة في تفسير المعنى.
٢٣
ولعلنا سنكشف في طوايا هذا الكتاب عن المزيد من
الجوانب اللغوية في منطق أرسطو، وكذلك عن الأفكار
المنطقية الأرسطية التي كان لها تأثير في الفكر
اللغوي.
وإذا انتقلنا إلى البحث المنطقي عند «الرواقيين»،
٢٤ فإننا نجد اهتمامًا متزايدًا بالجوانب
اللغوية، وبالنحو على وجه أخص؛ حيث ميز الرواقيون
بين أقسام الكلام، وهي: الاسم، والفعل، والأداة،
والحرف، والظرف. كما تطورت المصطلحات الفنية بشكل
كبير على يد الرواقيين، وقدموا تفسيرًا لبعض
المصطلحات الأرسطية وزادوا عليها، وبالإضافة إلى
ذلك، وضع الرواقيون تصنيفًا دقيقًا لحالات الإعراب،
ووضعوا تعريفات محدَّدة لبعض المصطلحات، مثل
المضارع، والتام، والرفع، والنصب.
٢٥
وعلى أيدي الرواقيين زِيدَ قسمٌ رابع، ثم قسم
خامس إلى أقسام الكلمة الثلاثة عند أرسطو، كما
قُدمت شروح مستفيضة لآراء أرسطو اللغوية. كذلك يبدو
أن الرواقيين كانوا أول من درس العدد والمطابقة بين
الاسم والفعل، وحالات الاسم الإعرابية، وحالات
الفعل من حيث الصيغة والزمن.
٢٦ كذلك فرق الرواقيون «بين الفعل المبني
للمعلوم والمبني للمجهول، وبين الفعل المتعدي
والفعل اللازم».
٢٧
ومن جهة أخرى أراد الرواقيون في دراساتهم اللغوية
من خلال علم الاشتقاق
Etymology
تتبُّع الأسماء على أصولها، ويمتد ذلك بالطبع إلى
تتبُّعها في اللهجات، واللغات الأجنبية، وإن كانت
مقارنة اللغات لم تحظَ باهتمامهم أو باهتمام
النحويين اللاتينيين بعدهم، وذلك لصعوبة الدراسة في
هذا المجال؛ حيث أدى الأمر إلى معرفة أجنبية. أما
في مجال النحو أو التركيب، فقد تصور الرواقيون
مفهومًا معينًا للجملة المركَّبة، وناقشوا في هذا
المجال وظيفة الروابط، كما ميزوا أيضًا بين أنواع
مختلفة من الجمل (المبتدأ في حالة الرفع، وكذلك
الحالات التي تنحرف عن هذه الحالة، والخبر المتعدي
واللازم)، كما أنهم توصلوا إلى مفهوم التطابق.
٢٨
وإذا انتقلنا إلى العصر الذي يلي عصر الرواقيين،
نجد أن انتشار اللغة اليونانية قد بدأ في منطقة
الشرق الأدنى في أعقاب غزو الإسكندر الأكبر لها؛ إذ
كان دخوله للشرق وما تلاه من تكوين إمبراطورية
يونانية في غرب البلاد اليونانية بمثابة نقطة تحول
في التاريخ السياسي، والاجتماعي، والفكري بها؛ حيث
دبَّت فيه حياة جديدة من الحضارات المختلفة، والتي
تتكون منها الحضارة الشرقية عامة، والتأم شملها في
وحدة جديدة تحمل طابع الروح اليونانية، وصارت
اليونانية لغة الإدارة العليا والمهن، ولغة الرقي
الاجتماعي، وأصبح تعليم اللغة اليونانية لغير
اليونانيين أول مرة نشاطًا واسع الانتشار له
أساليبه ومتطلباته.
٢٩
ومنذ ذلك الوقت اشتهرت اللغة اليونانية في البلاد
السُّريانية، وأصبحت لها منزلة اللغة الرسمية؛ ففي
الإسكندرية بلغ علم اللغة عند اليونان أوجَ ازدهاره
في الفترة الهلينستية (اليونانية الشرقية
«٣٣٤–٥٣١ق.م.») في الإسكندرية في مصر، وفي منطقة
«بيرجام» في آسيا الصغرى، وفي جزيرة رودوس قام
قواعدِيُّو الإسكندرية بجمع كلمات اللغة ووضعها في
معاجم، كما قام «ديسكولوس» بوضعِ نحو وصفي للغة
اليونانية. ففي جميع أنحاء العالم الهلينستي
الشرقي، وفي كل مكان له أية صبغة ثقافية، كانت
اللغة اليونانية مستعملة أولًا بوصفها نوعًا من
اللغة المشتركة بين المثقفين، في حين ظلت الطبقات
الدنيا في المجتمع تتحدث اللهجات الآرامية
(السُّريانية مثلًا) أو القبطية.
ولكن سرعان ما ظهرت مراكز ثقافية مستقلة تزايدت
أهميتها بقدر اضمحلال قوة المراكز اليونانية نفسها،
ومن بين هذه المراكز وأهمها: الإسكندرية في مصر،
وأنطاكية في سوريا، ثم في فترة تالية تزايد عدد
المدن ذات الجامعات والنظم التعليمية الخاصة؛
٣٠ ففي الإسكندرية كان حظ البطالمة أوفر
من حظوظ سائر الدول اليونانية في الشرق في ترقية
شئون العلم والفلسفة، وكان بطلميوس الأول الملقب
بسوتير أو المنقِذ (٣٦٧–٢٨٣ق.م.) أول البطالمة؛
عادلًا محبًّا للعلم (حكم من سنة ٣٠٥–٢٨٥ق.م.)
فتقاطر إليه العلماء والفلاسفة من بلاد اليونان على
اختلاف القبائل والأماكن، فأكرم وِفادتهم ونشَّطهم
في مواصلة البحث والدرس، وأطلق لهم الأموال، فزادوا
احترامًا له ورغبة في العلم، وكان في جملة المقربين
إليه خطيب أثيني اسمه «ديمتريوس فاليروس»
Demetrios
Valerius، أشار عليه بإنشاء
مكتبة يجمع إليها الكتب من أنحاء العالم، فأجابه
إلى ذلك، وهي مكتبة الإسكندرية، وبإشارته أيضًا
أنشأ «سوتر» المتحف أو النادي
Museum على
هيئة مدارس أوروبا الجامعة، يجتمع فيه العلماء
والأدباء والفلاسفة للدرس والبحث وهو مدرسة
الإسكندرية الشهيرة.
٣١
وتؤكد المصادر أن مدرسة الإسكندرية قد أسهمت في
نقل علوم اللغة والمنطق إلى العرب؛ ففي سنة ٥٠٠م،
كان العرب يعرفون اسم «يحيى ثامسطيوس (٣١٧–٣٩٠م)»؛
حيث يقول «جمال الدين القفطي»: «وذكر عبيد الله بن
جبرائيل بن عبيد الله بن بختيشوع، أن اسم يحيى
ثامسطيوس كان قويًّا في علم النحو والمنطق والفلسفة.»
٣٢ كما عرف العرب «أمونيوس بن هرمياس»
Ammonius
Hermiae، ويعرفون تلاميذه:
سيمبليقيوس
Simplicius،
ويحيى النحوي أو يحيى فيلوبولونس الشخصية الكبيرة
في مدرسة الإسكندرية على الأقل إن لم يكن رئيسها؛
ففي النصف الأول من القرن السادس الميلادي، وضع
يحيى النحوي شرحه لكثير من كتابات أرسطو، وبالذات
كتب المنطق، ويقال إن النشاط الفكري الذي كان في
القرن السابع كان استمرارًا للعصر السكندري الذهبي،
وكان التعليم الفلسفي قد اقتصر على دراسة النحو،
والبيان، والطب والموسيقى، وعلى أجزاء من منطق
أرسطو؛ حيث يذكر «إرنست رينان» أن «الترجمات
السُّريانية للأورجانون في مدرسة الإسكندرية كانت
تقف دائمًا عند الفصل السابع من التحليلات الأولى،
كذلك فعل اليعاقبة، مثل «سرجيوس» أسقف العرب الذي
لم يترجم ولم يشرح إلا هذا الجزء.»
٣٣ ويذكر «ابن أبي أصيبعة» أن «يوحنا ابن
حيلان كان قد امتنع أولًا عن قراءة كتاب التحليلات
الثانية، مع تلميذه أبي نصر الفارابي.»
٣٤
وكانت الأماكن التي ازدهرت فيها علوم النحو،
والمنطق، هي مدرسة الرُّها، ونصيبين، وأنطاكية؛ حيث
يؤكد بعض الباحثين أنه «لما تمدَّن اليونان
واستنبطوا الفلسفة والمنطق وغيرهما، نضجت علومهم
وانتقلت بفتوح الإسكندر إلى العراق والشام،
تلقَّاها السوريون ونقلوها إلى لسانهم، وأضافوا
إليها بعد انتشار النصرانية الآداب النصرانية
اليونانية، وحفظوها مع الفلسفة اليونانية في
أديِرَتهم، ثم كانت مصدرًا للعلم والفلسفة إلى بلاد
الفرس والهند وغيرهما، وكان السوريون في دولة
الفُرس الساسانية الواسطةَ الكبرى في نقل علوم
اليونان وطبِّهم وفلسفتهم إلى الفُرس، ولما بنى
الإمبراطور الفارسي كِسرَى أنوشروان (ت٥٨٧م)
جنديسابور لتعليم الطب والفلسفة، كان جُلُّ اعتماده
في ذلك على نصارى العراق والجزيرة، ناهيك بما حُفظ
من الآداب السامية على صبغته الوثنية في حَرَّان،
لأن أهلها ظلوا على ديانتهم القديمة.»
٣٥
ولقد قدَّم كِسرى أنوشروان المأوى في بلاطِه
لهؤلاء الفلاسفة الذين كانوا بلا وظيفة بعد أن أغلق
الإمبراطور الروماني «جوستنيان» الأكاديمية
الأثينية (٢٢٩ بعد الميلاد)، وكان من بين هؤلاء
الفلاسفة سيمبليقيوس، وفي هذه المراكز الثقافية
والعلمية كانت الفلسفة اليونانية تُدرس، والكتب
اليونانية تترجَم إلى السُّريانية والفارسية، وفي
هذه المنطقة القريبة من «جنديسابور» كان ظهور
العلامات الأولى للتأثير اليوناني، ولعل المناقشات
الاعتزالية الأولى حول خلق القرآن ومشكلة حُرية
الإرادة والنظرية المتعلقة بصفات الله، ولعل كل ذلك
يحمل دليلًا على الاتصال بين الثقافتين في مختلف
المجالات قبل بدء الترجمة.
٣٦
(٢) النحو اليوناني وسُبُل انتقاله إلى
السُّريان
بدأ انتشار اللغة اليونانية في منطقة الشرق
الأدنى في أعقاب غزو الإسكندر الأكبر لها؛ إذ كان
دخوله للشرق وما تلاه من تكوين إمبراطورية يونانية
في غرب البلاد اليونانية بمثابة نقطة تحول في
التاريخ السياسي والاجتماعي والفكري بها؛ حيث دبَّت
فيه حياة جديدة من الحضارات المختلفة، والتي تتكون
منها الحضارة الشرقية عامة، والتأَمَ شملُها في
وحدة جديدة تحمل طابع الروح اليونانية، وصارت
اليونانية لغةَ الإدارة العليا والمَهَن، ولغة
الرُّقِي الاجتماعي، وأصبح تعليم اللغة اليونانية
لغير اليونانيين أول مرة نشاطًا واسع الانتشار له
أساليبه ومتطلباته، ومنذ ذلك الوقت اشتهرت اللغة
اليونانية في البلاد السُّريانية وأصبحت لها منزلة
اللغة الرسمية.
٣٧
وتشير بعض المصادر إلى أن الترجمات السُّريانية
عن اليونانية ترجع إلى القرن الثاني الميلادي، على
أقل تقدير؛ حيث تبنَّت الحضارة الرومانية الحقائق
اللغوية التي وصلت إليها الحضارة الإغريقية، ولا
عجب، فقد تتلمذ الرومان على يد اليونانيين، فنقلوا
علوم اللغة اليونانية إلى غيرهم من الأمم، فتعلموا
اللغة اليونانية، ونهلوا الكثير من آدابها، ورغم
ذلك فقد أسهمت الحضارة الرومانية ولو بقِسطٍ قليل
في تطوير الدراسات اللغوية؛ وخاصة ما تعلق
بالجانبين الدلالي والبلاغي.
٣٨
كما تشير مصادر أخرى إلى أن الترجمات السُّريانية
عن اليونانية بدأت منذ أواخر القرن الرابع
الميلادي، وكانت ترجمات الكتاب المقدس تحتل مكان
الصدارة، تليها شروح العهد الجديد من اليونانية إلى
السريانية، وفي القرن السادس نشطت حركة الترجمة
واتسع نطاق الأعمال التي نقلها السريان ولا سيما في
الفلسفة والطب.
٣٩ كما اهتم السريان بنقل بعض ما كُتِب
باليونانية في النحو، مثل ترجمة كتاب فن النحو
للعالم اليوناني ديونيسيوس ثراكس (١٧٠–٩٠ق.م.)
٤٠
وكان ديونيسيوس من تلاميذ مدرسة الإسكندرية التي
غلب عليها الفكر الأرسطي والرواقي، ومن ثَم استفاد
التراث الفلسفي واللغوي السابق، وتأثر بالأفكار
الأرسطية والرواقية معًا، وقد وصلت أقسام الكلام
عند ديونيسيوس إلى ثمانية أقسام، هي: الاسم – الفعل
– المشترك – الضمير – الأداة – الحرف – الظرف –
الرابط، ورغم أن هذه الأقسام الثمانية كانت معروفة
عن أريستارخوس،
٤١ فإنها لم تظهر في مؤلَّف نحوي منظم إلا
عند ديونيسيوس، ولهذا يُعَد ديونيسيوس أول نحوي يضع
كتابًا متخصصًا في النحو يصف فيه قواعد اللغة
اليونانية بهذا الشكل.
٤٢
وتؤكد معظم الدراسات التي تناولت تطوُّر اللغة
السُّريانية ونحوها أهمية ترجمة كتاب «فن النحو»
الذي وضعه ثراكس؛ إذ يُنظَر إليها على أنها كانت
بمثابة عمل تأسيسي في قواعد اللغة السُّريانية،
ويُعَدُّ كتاب ديونيسيوس ثراكس، أول عمل نَحوي
منظَّم وُضِع في اللغة اليونانية؛ حيث يقدم فيه
المؤلِّف تعريفَه للقواعد، ودور الدراسات اللغوية
ككُل، والهدف من إجراء مثل هذه الدراسات.
٤٣
وتشير المصادر اليونانية المختلفة إلى أهمية كتاب
ديونيسيوس أن هذا الكتاب كان بمثابة حجر الأساس
للدراسات النحوية في العصر الروماني، ثم في العصور
اللاحقة؛ حيث راح النُّحاة الرومان مثل «فارو»،
و«بريشيان»، و«أبوللونيوس يسكولوس» و«سكستوس
إمبريكوس» وغيرهم يسيرون على نهجه، وكان النواة
الحقيقية لأعمالهم.
٤٤ وقد احتفظت الكتابات النحوية في العصور
الوسطي والعصر الحديث بالوصف الذي وضعه «ديونيسيوس»
لدور القواعد ودور الدراسات اللغوية ككل، وللهدف من
إجراء مثل هذه الدراسات، وقد ظل هذا التعريف
مقبولًا دون اعتراض في الأعمال النحوية المتأخرة
لليونانية واللاتينية، كما ترك هذا التعريف أثرًا
كبيرًا على التوجُّه العملي للدراسات اللغوية في أوروبا.
٤٥
ويقع كتاب فن النحو في حوالي خمس عشرة صفحة،
ويقدم فيه الكاتب وصفًا موجزًا لبِنية اللغة
اليونانية، يبدأ بتعريف الدراسات النحوية، كما
يراها النُّحاة السكندريون، فيقول إن: «القواعد هي
المعرفة العملية باستعمالات كتاب الشعر، والنثر
للألفاظ، وهي تشتمل على ستة عناصر؛ الأول: القراءة
الصحيحة مع مراعاة الأوزان العَروضية، والثاني:
تفسير التعابير الأدبية في المؤلفات، والثالث:
تقديم الملاحظات حول أسلوب ومادة الموضوع، والرابع:
اكتشاف أصول الكلمات، والخامس: استنباط القواعد
القياسية، والسادس: تقدير قيمة التأليف الأدبي. ثم
ينتقل الكاتب إلى الحديث بشكل موجَز عن النَّبرات،
والتنقيط، والحروف، والمقاطع. وقد حظِي العنصر
الخامس، الخاص باستنباط القواعد، بالاهتمام الأكبر
من المؤلف؛ إذ إنه يتناول القضايا الأساسية للنحو،
ولذلك يُفرِد له عرضًا أكثر تفصيلًا عن سواه من
العناصر، وهذا هو الجزء الذي نُقل إلى اللغة السُّريانية.»
٤٦
ويحدد «ديونيسيوس» وحدتين أساسيَّتين للوصف،
أُولاهما: الكلمة، وهي أصغر جزء في تركيب الجملة،
ثانيتهما: الجملة، وهي حدٌّ مُركَّب من الكلمات
التي تعبر عن معنًى تام، ثم يذكر أن أقسام الكلام
ثمانية، ويُعرِّف كل قسم منها على النحو
التالي:
- (١)
الاسم، وهو قسم من أقسام الكلام،
يتصرف حسب الحالة، ويدل على شيء مادي
أو مجرَّد ومحسوس، وهو يقصد بالمادي
اسم الذات، والمحسوس وهو اسم الذات أو
المصدر، كما يقسم الاسم إلى اسم عامٍّ
وآخر خاصٍّ؛ فالمقصود بالاسم العام هو
اسم الجنس، والاسم الخاص هو اسم
العَلَم، ومن ناحية أخرى فهو يقسم
الاسم العام إلى اسم عام وآخر غير عام،
وهو يقصد بالاسم العام الاسم الذي يأتي
مرة مُذكَّرًا ومرة مؤنثًا، ولكن يغلُب
عليه صفة التذكير؛ والاسم غير العام هو
الاسم الذي يأتي مؤنثًا فقط وليس له
مُذكَّر، أو يأتي مُذكَّرًا فقط وليس
له مؤنث.
٤٧
- (٢)
الفعل، وهو قسم لا يتصرف حسَب
الحالة، بل حسَب الزمن، والشخص،
والعدد، ويدل على حدث.
٤٨
- (٣)
المشترك، وهو قسم يشترك في ملامح
الاسم والفعل، ويتصرف كما الاسم
والفعل، وهو يقصد به أسماء الفاعل والمفعول.
٤٩
- (٤)
الأداة، وهي قسم من أقسام الكلام
يتصرف أيضًا حسَب الحالة، وتسبق الاسم
في الوضع أو تليه.
٥٠
- (٥)
الضمير، فهو كلمة تحل محل الاسم،
ويتميز بالإشارة إلى الشخص.
٥١
- (٦)
حروف الجر، وتقع قبل كلمات أخرى في
تركيب الجملة.
٥٢
- (٧)
الظرف، وهو قسم مرتبط بالفعل.
٥٣
- (٨)
الروابط، وهي تربط بين معاني الكلام
المتناثر وتعمل على شرحه وتفسيره.
٥٤
يتبع المؤلف كل قسم من هذه الأقسام ببيان للخواص
الصرفية والاشتقاقية التي تنطبق عليه، ويُطلق عليها
اسم «الخصائص». فالاسم يُصرَّف حسَب خاصية الجنس من
حيث المذكر، والمؤنث والمحايد؛ وخاصية النوع من حيث
إنه اسمٌ أصلي مثل الأرض، أو اسم مشتق مثل الأرضي،
وهو يقصد بالاسم الأصلي أصل الاسم دون أن يدخل عليه
أية تغييرات، والمشتق هو كل اسم يلحقه تغييرات، أو
علامة من علامات النسب، أو التصغير، أو المقارنة،
أو التفضيل، أو الاشتقاق؛ وخاصية الشكل من حيث إنه
اسم بسيط أو مركب، وخاصية العدد من حيث هو الإفراد
والجمع والتثنية، وخاصية الحالة من حيث حالات
الفاعل والمفعول والنداء والإضافة والمفعول غير
المباشر (القابل). ويعرض المؤلف أنواع الاسم، مثل
اسم العلم، واسم الذات، والاسم المترادِف، والاسم
المزدوَج، والاسم المتجانِس، واسم الإشارة، واسم
الاستفهام، واسم الجمع، واسم الفاعل، واسم العدد،
وغيرها، ويُعرِّف كلًّا منها مع تقديم أمثلة لتوضيح مقصِده.
٥٥
وبالمثل، يُصرَّف الفعل حسَب «الصيغة»، مثل
الصيغة الخبرية، والصيغة المصدرية، وصيغة الأمر،
وصيغة الطلب، وصيغة التمني، وخاصية «البناء للمعلوم
أو المجهول»، وخاصية «النوع»، من حيث إنه أصلي أو
مشتق؛ وخاصية «الشكل»، من حيث إنه بسيط أو مركب أو
أكثر من مركب؛ وخاصية العدد، من حيث الإفراد والجمع
والتثنية، وخاصية «الشخص»، من حيث إنه يدل على
المتكلِّم أو المخاطَب أو الغائب؛ وخاصية «الزمن»،
من حيث إنه مضارع أو ماضٍ أو مستقبل. ويحدد المؤلف
أربع صيغ للفعل الماضي، وهي المتناقض، والتام
(البعيد)، والتام (القريب)، والبسيط؛ وخاصية
«التصرف». أما الأداة فتُصرَّف حسَب خصائص «الجنس»،
و«العدد»، و«الحالة» فقط، بينما تُصرَّف الضمائر
حسب خصائص «الجنس»، و«العدد»، و«النوع»، و«الحالة»،
و«الشخص»، و«الصيغة».
٥٦
وينتقل المؤلف إلى الحديث عن الحروف؛ فيَذكر أنها
ثمانية عشر حرفًا، ستة منها بسيطة، أي تتكون من
مقطع واحد، واثنا عشر حرفًا مُركبًا، أي تتكون من
مقطعَين، وفيما يتعلق بالظروف، يذكر المؤلف أنها
غير مُعرَبة، ولكنها تتبع الفعل، ومنها البسيط
والمُرَكب. ويهتم المؤلف بالمعاني المختلفة التي
تدل عليها الظروف، فيعرض له ستة وعشرين معنًى، مثل
دلالتها على الزمان، والمكان، والكَم، والعدد … وما
إلى ذلك، ويسوق أمثلة تُوضح هذه المعاني والفروق
فيما بينها، ويقسم الروابط إلى سبعة أقسام، يؤدي
كلٌّ منها وظيفة دلالية خاصة في الجملة، مثل أدوات
الربط، والفصل، والسببية، والنتيجة، وأدوات
التحسين، وغيرها، ويقدم أمثلة توضيحية لكلٍّ من هذه الأقسام.
٥٧
وقد قام «يوسف الأهوازي»، أستاذ مدرسة نَصِيبين
(المتوفَّى ٥٨٠م)، بترجمة كتاب «فن النحو»
لديونيسيوس ثراكس.
٥٨ إلى اللغة السُّريانية، ومن الواضح أن
ترجمة الأهوازي لكتاب «ديونيسيوس» إلى اللغة
السريانية كان الغرض منها أن يجعل النص في متناوَل
القراء السُّريان الذين لا تتوافر لديهم المعرفة
الكافية بالخلفية الفكرية التي استند إليها
«ديونيسيوس»، بالإضافة إلى الاستفادة من وضع قواعد
للنحو السُّرياني، وهو الأمر الذي كان السريان في
ذلك العصر في أمسِّ الحاجة إليه.
٥٩
وأشارت الدكتورة «زاكية رشدي» إلى أن: ««يوسف
الأهوازي» أستاذ مدرسة نَصِيبين يُعد صاحب أقدم
مؤلَّف سُرياني عُرِف في النحو.»
٦٠
وقد وُجدت نسخة من مؤلَّف «ديونيسيوس» الذي ترجمه
«الأهوازي» مُلحَقة بأحد كتب «سرجيوس الرأسعيني
(ت٥٣٦م)»، الذي ألف «مقالًا فلسفيًّا في أجزاء
الكلام»، وهو ما يؤكد أيضًا تأثُّره بالمعطيات
الفلسفية اليونانية، وبخاصة عن طريق مدرسة
الإسكندرية التي تلقَّن «سرجيوس» فيها العِلم، كما
أن أشهر علماء النحو السُّرياني يعقوب الرُّهاوي
(ت٧٠٨م) اعتمد على أشهر النحاة اليونان: ثراكس وثيودوسيوس.
٦١
وتذكر أكثر المصادر أن كتاب يعقوب الرُّهاوي
(المتوفَّى ٧٠٨م)، صاحب كتاب «غراماطيقي»، هو أول
مؤلف في النحو السُّرياني، وقد استعمله السُّريان
كثيرًا في التدريس، وقد عدَّه السُّريان أول كتاب
في النحو لديهم، إلا أنه قد ضاع، ولم يبقَ منه سوى
شذرات، ورآه «مار يعقوب» واضع علم النحو السُّرياني
وصاحب أول مؤلف نحوي مُنظَّم.
٦٢
كانت اللغة السُّريانية حتى أواخر القرن السابع
للميلاد تُكتب دون تشكيل، ثم استعمل السُّريان حروف
العلة الثلاثة: الألف، والواو، والياء، كحركات لضبط
اللفظ، ولكن هذه الطريقة كثيرًا ما تُربك القارئ،
حيث لا يميز فيما إذا كانت الحروف قد استُعملت في
الكلمة كحركة أم حرف. أما التنقيط فقد استُعمل قبل
القرن السابع كتشكيل للكلمات، وﻟ «يعقوب الرُّهاوي»
رسالة في ذلك يوضح فيها طريقة وضع النقط تحت الحرف،
أو فوقه، ضبطًا للمعاني، وتمييزًا بين المرادفات
وما إليها، ولعل السُّريان الغربيين هم الذين
استنبطوا طريقة التنقيط؛ لأنها لا تشتمل على الشدة
المستعمَلة في لهجة السُّريان الشرقيين، ولا يزال
السُّريان الغربيون يستعملون أحيانًا طريقة التنقيط
القديمة، وهي الطريقة الوحيدة في ضبط اللغة لدى
السُّريان الشرقيين.
٦٣
وقد استنبط «يعقوب الرُّهاوي» علامات الحركات،
آخذًا بعضها عن اليونانية التي كان يجيدها؛ حيث إنه
رأى أن جميع أصوات الصوائت السُّريانية كما ينطقها
الرُّهاويون يمكن أن تمثلها حروف يونانية، وكطريقة
للإشارة يمكن أن تكون أكثر وضوحًا للقارئ من مجموعة
النقط الصغيرة، فأخذ من اليونانية حرف الألف وجعله
للفتح، والهاء للكسر، والعين مع الواو للضم، والحاء
للكسر المشبَع، والعين وحدها للضم المُمال إلى
الفتح، وجعل صورة هذه الحروف اليونانية صغيرة، وكان
أسلوبه في تشكيل الكلمات كتابة الحركات (الحروف
الصوائت) مع الحروف الصوامت على السطر، ولم يُكتَب
لهذه الطريقة البقاء طويلًا، وتطورت بعدئذٍ، فوُضعت
الصوائت كعلامات صغيرة فوق الحروف، أو تحتها، كما
أن السُّريان الغربيين لم يتركوا طريقة التنقيط، بل
سارت الطريقتان جنبًا إلى جنب أجيالًا عديدة، ثم
فضلت الحركات لوضوحها وسهولتها، فاستعاض السُّريان
بها عن التنقيط.
٦٤
وإذا كنَّا قد قلنا من قبل إن النحو السُّرياني
قام معتمدًا على النحو اليوناني، فإن من المهم هنا
أن نشير إلى أن هذا النحو اليوناني قد استمد من
تراثه المنطقي والفلسفي كثيرًا من الأُسس الفكرية
التي شكلت خلفية معالجاته لقضايا النحو واللغة،
ولقد أكد ثراكس — في تقسيمه السداسي لوظائف النحو،
كما يذكر «روبنز» — على وظيفة استنباط النظام
القياسي في اللغة، هذه الوظيفة أصبحت «الوظيفة
الأساسية للنحو».
٦٥
في هذا السياق التاريخي إذن، نستطيع أن ننظر إلى
جهود نحاة العرب لنُبرز أنه قد كانت الثقافة
العربية في عَلاقة تفاعل مع الثقافة المنطقية
اليونانية، والسريانية، منذ أمَد بعيد قبل هؤلاء
النحاة، وبين أيديهم، والدليل على ذلك هو أن تشابه
اللغتين السُّريانية والعربية واضح في بناء الجمل،
وفي دلالة الألفاظ، وفي الضمائر، والأعداد، وغيرها،
مثل تقسيم الكلمة إلى ثلاثة أقسام هي: الاسم،
والفعل، والحرف، ومثل المركَّب المَزْجي الذي كان
يُطلِق عليه السُّريان:
Merakabe،
Eskima، ووجود
مصطلح التصغير الدال على التقليل في النحو
السُّرياني والنحو العربي بعد سِيبَوَيه، والتصرُّف
مصطلَح عند السُّريان يقصدون به تصريف الفعل مع
الضمائر ويُسمونه:
Surafa بمعنى
فرع أو غصن، والعطف عندهم، ويُسمَّى عندهم
Etufya، أي
العطف، والفتح يُسمَّى عند السُّريان
Petaha أي
الفتح، وكذلك مصطلحات اسم الفاعل، واسم المفعول،
واسم المرَّة، واسم النوع، واسم الزمان، والمكان.
٦٦
وهذا التشابه الواضح بين اللغتين يجعلنا نقول: إن
اللغة العربية واللغة السُّريانية من فصيلة واحدة،
إن لم تكن إحداهما هي الأصل والأخرى فرعًا منها،
وقد وُجِدت صِلات طيبة بين العرب والسُّريان قبل
الإسلام، وتوثقت هذه الصِّلات بعد الإسلام، فاتخذ
منهم الأمراء العرب الكُتَّاب في الدواوين
والأطباء، واستعانوا بهم فيما بعد في الترجمة
والنقل، حتى اشتُهر منهم في العصر العباسي عدد غير
قليل لعل من أبرزهم: حنين بن إسحاق.
٦٧
وقد دعا النبي
ﷺ أصحابه إلى تعلُّم اللغات
الأجنبية في أكثر من مناسبة، وقد حثَّ زيدَ بنَ
ثابت على تعلُّم السُّريانية؛ فقد جاء في الأثر أن
زيدَ بنَ ثابت قال: قال لي النبي
ﷺ: إني
أكتب إلى قوم فأخاف أن يزيدوا عليَّ أو ينقصوا،
فتعلم السُّريانية. فتعلمها في سبعة عشر يومًا.
٦٨
وسنحاول في الفصول القادمة أن نستَجْلي الدور
الذي مثله هذا التفاعل في مسيرة النحو العربي خلال
عصوره التاريخية.
(٣) المنطق الأرسطي وسُبل انتقاله إلى العرب
بعد وفاة أرسطو عام ٣٢٢ق.م. قام تلاميذه بجمع
مؤلفاته وترتيبها وتنظيمها؛ فجُمع عدد من الرسائل
ضُمت معًا، ووضعت تحت عنوان: الأورجانون أو آلة
العِلم، وأَخَذت كلمة المنطق معناها الحديث بعد ذلك
بحوالي ٥٠٠ سنة، حين استخدمها الإسكندَر
الأفروديسي، وتحدد مجال دراسة المنطق بهذا
الأورجانون؛ إلا أن هذه الكتابات لم تُشكِّل كُلًّا
مُرتبًا؛ لأنها كُتبت في أوقات مختلفة، وفي غياب
خُطة واحدة بعينها، كما أنها لم تُنشَر في حياة
أرسطو نشرًا التزم فيه ترتيبًا مُعيَّنًا، وكل ما
حدث أنها كانت تُتَناول متفرقة. لذلك يصعب تحديد
تواريخَ لأعمال أرسطو، ولو بصورة تقريبية؛ فكثير
منها كان في صورة مذكرات قصيرة يُستعان بها في
المحاضرات، فضلًا عن أن عادة أرسطو قد جرت على أن
يُعِيد تصحيح هذه الكُتُب باستمرار، ويستخدمها في
الكتابات اللاحقة. وعلى كل حال، فإن ترتيب كتب
أرسطو المنطقية على يدِ تلاميذه قد شكل التركيب
المعروف للأورجانون الأرسطي منذ أواخر الأزمنة القديمة.
٦٩
ويتألف من ستة كُتُب منطقية مرتبة على النحو
التالي:
- (١)
المقولات Categoria
Seu
Praediecamenta،
ويتناول مجموعة أساسية من المفاهيم،
ويُطلَق على الفصول الخمسة الأخيرة اسم
«لواحق الحركة» Post
Praediecamemta.
- (٢)
العبارة
Perihermenias Seu
Interpretatione،
ويعالج تحليل القضايا والأحكام.
- (٣)
التحليلات الأولى
Analytica
Priora، ويتناول
بالدراسة نظرية الأَقيِسة.
- (٤)
التحليلات الثانية
Analytica
Posteriora
(كتابان)، ويعالج نظرية البُرهان
العِلمي.
- (٥)
الجدَل Topica, Seu
de Locis Communis
(ثمانية كتب)، ويعالج فن البرهنة
المحتملة.
- (٦)
السَّفْسَطة De
Sophisticis
Elenchis، ويُعَد
هذا الكتاب بوجه عام الكتاب التاسع من
الجدَل، وهو يعالج رفض الحُجَج
السوفسطائية.
هذه الكتب الستة لا شكَّ في نسبتها إلى أرسطو،
وإن كانت هناك بعض الشكوك قد حامت حول كتاب
المقولات؛ ذلك لأن الفصول الخمسة الأخيرة «لواحق
الحركة» تبدو غريبة عن بقية الكتاب وطريقته، ويبدو
أن هذا الكتاب كان ناقصًا، ثم جرى إتمامه بطريقة
مُلتَوية، لذلك يغلب الظن أنها ليست من عمل أرسطو،
بل من عمل أحد تلاميذه الأولين، ويخص المؤرخون
بالذكر هنا «ثاوفراسطس» و«أوديموس»، وإن كانت فيها
روح أرسطو سائدة، فهي على الأقل لا تنطوي على شيء
يُناقض تعاليم أرسطو، وهي وإن كانت من وضع تلميذ،
فهو تلميذ وفيٌّ، وإن دلالة هذا الترتيب هو أنه
يبدأ من المفاهيم (المقولات)، ثم ما يتألف من دمجٍ
لمفهومَين، وهي القضايا (العبارة)، فالقياس الناتج
من دمج ثلاث قضايا (التحليلات الأولى)، فنصل هنا
إلى النظرية الأساسية للاستدلال، تلك التي نقوم
بدراستها في تطبيقاتها الرئيسة وفقًا لترتيبٍ يبدأ
من الأعلى إلى الأدنى: قياس بُرهاني (التحليلات
الثانية)، فقياس جَدَلي (الجدل)، فقياس مُغالَطة (السفسطة).
٧٠
بيد أن عالِم المنطق الفرنسي «روبير بلانشيه»
يلحظ شيئًا من الافتعال في هذا الترتيب، ذلك لأننا
لا نجد عند أرسطو في أيٍّ من أعماله نظريةً متطورة
عن «المفهوم» أو التصور، وكتاب المقولات لا يعالِج
هذا الأمر، بل يعالج تلك المفاهيم التي هي مقولات.
هذا فضلًا عن أن أرسطو توصَّل إلى نظرية القياس في
وقت متأخر نسبيًّا، ومن المؤكد أنه لم يكن قد
توصَّل إليها حين كتب «المقولات» و«العبارة». لذلك
كان من الصعب أن نجعل هذين الكتابين مقدمة لنظرية
القياس التي لم تكن قد وُلِدت بعد، وبالتالي لا
يمكن أن تكون الكُتب التالية لها تطبيقًا لها، وهذا
من شأنه أن يُوحي بأن ترتيب الرسائل في الأورجانون
لا يتطابق أيضًا، وزمن تأليفها، ومع اعتراف
«بلانشيه» بعدم وجود معايير خارجية دقيقة لمعرفة
الترتيب الصحيح لكُتب أرسطو، مثل إشارات من أرسطو
أو أحد المؤلفين القدماء، فإنه يُطبق بعض المعايير
الداخلية، التي من أهمها تحليل كتب أرسطو من حيث
مستواها المنطقي؛ لأن بعض كتب الأورجانون لا يتجاوز
نصوص أفلاطون ومعاصريه، في حين يدل بعضها الآخر على
قدرة منطقية خارقة، وعلى هذا الأساس وصل «بلانشيه»،
كما وصل غيره من الباحثين، إلى ترجيح ترتيب كتب
الأورجانون الأرسطي على النحو التالي:
٧١
-
(١)
المقولات.
-
(٢)
الجدَل.
-
(٣)
السَّفْسَطة.
-
(٤)
العبارة.
-
(٥)
التحليلات الأولي.
-
(٦)
التحليلات الثانية.
وهناك من الباحثين من يجعل «التحليلات الثانية»
سابقًا على «التحليلات الأولى»، وهذا خطأ؛ لأننا
نجد في «التحليلات الثانية» إحالات إلى نظرية
القياس التي عُرِضت بالفعل في «التحليلات الأولى»
من قَبل، وهكذا نرى أن «الأورجانون الأرسطي» الذي
نعرفه اليوم لم يكن من ترتيب أرسطو، كما أنه لم يكن
يراعي الترتيب الزمني لهذه الكتب، وإنما كان من عمل
تلاميذ أرسطو، وربما راعَوا فيه الانتقال من البسيط
إلى المركَّب، ومن المبادئ إلى تطبيقها.
٧٢
وقد أضاف شُراح أرسطو المتأخرون؛ وبالذات
الإسكندر الأفروديسي، كتاب المدخل (إيساغوجي) الذي
وضعه فورفوريوس، وهو نوع من التقديم العام لمجمل
المنطق، إلى هذه القائمة على أنه مجرد مقدمة لهذه
الكتب التي تشكل ما يُسمَّى بالأورجانون الأرسطي.
لذلك لم يجد المتقدمون بأسًا من إقرار هذا الكتاب
بغرض تيسير فهم كتب أرسطو الأخرى؛ فقد روى «القفطي»
أن: «البعض راح إلى فورفوريوس يشكو له خللًا داخلًا
عليهم في كتب أرسطو، ففهم ذلك وقال: كلام الحكيم
(أرسطو) يحتاج إلى مقدمة، قصر عن فهمها طلبة زماننا
لفساد أذهانهم، وشرع في تصنيف كتاب إيساغوجي،
فأُخِذ عنه، وأضيف إلى كتب أرسطو، وجُعِل أولًا
لها، وسار مسير الشمس إلى يومنا هذا.»
٧٣
وهكذا أصبح إيساغوجي جزءًا لا يتجزأ من
الأورجانون الأرسطي؛ ولذلك وجدنا المستشرِق «دي
لاسي أوليري» يؤكد أن: «كتاب إيساغوجي
Isagoge، أو
مقدمة مقولات أرسطو لفورفوريوس، قد استُعمل قرونًا
عديدة في الشرق والغرب بوصفه أوضح المتون التي
تتناول منطق أرسطو، وأضبطها من الناحية العملية …
وأن هذا المنطق قد لقِي شهرة عظيمة بامتياز عرضه في إيساغوجي.»
٧٤
ومن جهة أخرى فإن إضافة إيساغوجي إلى الأورجانون
قد وجدت قَبولًا وترحيبًا أيضًا من قِبل شُراح
مدرسة الإسكندرية، الذين توسعوا فيه وأتمُّوه، وعلى
رأسهم «سيمبليقوس» و«أمونيوس»، اللذان حاولا أيضًا
إضافة كتابَي الخطابة والشعر لأرسطو ضمن الأورجانون
الأرسطي، وفي هذا يقول العالم المنطِقي الإنجليزي
«نيقولا ريشر»: «ولدينا قدر طيب من المعلومات عن
ترجمات السُّريان لمنطق أرسطو، وما زال الكثير منها
موجودًا، وقد نُشر بعضها (ويَضم هذا كتب المقولات،
والعبارة، والتحليلات الأولى)، وكان إيساغوجي
فورفوريوس قد وُضع على رأس الأورجانون المنطقي
بوصفه مقدمة له، ثم أُضيف كتاب الخطابة وكتاب الشعر
في النهاية، وقد أحدث الكتاب الأخير نوعًا من
الاضطراب للكُتاب السُّريان — مثلهم في ذلك مثل
خلفائهم العرب — إذ كان الأدب اليوناني، على عكس
العِلم اليوناني والفلسفة اليونانية، كتابًا مغلقًا
بالنسبة لهم تمامًا، ونتيجة لذلك وصل شراح المنطق
الأرسطي من السُّريان إلى التنظيم الأساسي التالي
للأعمال المنطقية. إيساغوجي (فورفوريوس)، المقولات،
العبارة، التحليلات الأولى، التحليلات الثانية،
الجدَل، السفسطة، الخطابة، الشعر. وكان من المعتقَد
أن هذه الكتب التسعة تتعلق بفروع للمنطق متميزة
نسبيًّا، ويقوم كلٌّ منها على نصه القانوني، وقد
أخذ العرب هذا البناء للمنطق الأرسطي، وأفضى بهم
إلى التنظيم التالي لمادة موضوع المنطق.»
٧٥
(٤) والسؤال الآن هو: كيف انتقل الأورجانون الأرسطى
إلى العرب؟
حين انطلق العرب من شبه جزيرتهم بعد موت النبي
ﷺ عام ٥٣٢م، كانت المناطق الآهلة بالمسيحيين
الناطِقين بالسُّريانية في الشام-العراق من بين
أولى ممتلكاتهم، وقد كانت هذه المناطق هي التي
انتقلت إليها التعاليم الهلينية للإسكندرية على يد
الطوائف المسيحية المتعددة (اليعاقبة، والنساطرة
أساسًا) … واستمر المسيحيون السوريون في رعاية
الآثار المتبقية من التعاليم اليونانية، من خلالهم
أصبح العرب بحق الفَتح ورثة هذا التراث، وقد وجهت
الطوائف المسيحية الناطقة بالسُّريانية عنايتها إلى
مؤلفي الرياضيات، والفَلَك، والطب، من اليونان، كما
وجهت عنايتها بالمثل إلى الفلاسفة اليونانيين،
وكانت هذه الفروع من التعاليم مرتبطة ارتباطًا
وثيقًا بالدراسات اللاهوتية، ذلك لأن العِلم
والفلسفة اليونانيَّين قد قدما التعليل التصوُّري
العقلي؛ حيث وجدت فيه لاهوت هذه الكنائس صياغته
الواضحة، وكان الطب، على وجه الخصوص، بمثابة جسر
بين العلوم واللاهوت، وكان كثير من اللاهوتيين
المسيحيين السُّريان قد تم إعدادهم على أنهم أطباء
بَدَن وأطباء رُوح بالمثل، وقد كان المنطق هنا
جزءًا لا يتجزَّأ من مِنهاج تعليم الدراسات الطبية،
كما كان سائدًا في الإسكندرية، بنفس الطريقة التي
أوصى بها «جالينوس» (١٢٩–٢٠٠م)،
٧٦ وكانت كُتب أرسطو معروفة في الترجمات
السُّريانية، وكانت معها تعليقات وتلخيصات، أُلِّف
بعضها بالسريانية، وتُرجم بعضها الآخر من
الإغريقية، ولكن المادة الأرسطوطاليسية كانت محصورة
في مبدأ الأمر في المؤلفات المنطقية.
٧٧
وكان نقل المنطق اليوناني إلى العرب هو العمل
الذي اضطلع به مسيحيُّو سوريا-العراق الناطقون
بالسُّريانية، والنساطرة على وجه الخصوص، وكان هذا
النقل مُشبعًا بالتصورات والتفسيرات التي أخذها
الباحثون السُّريان من الإسكندرية، وقد بقي هؤلاء
الباحثون على قدرٍ طيب من المعرفة باللغة اليونانية
والفكر اليوناني في العالم الإسلامي إبان القرن
التاسع عشر، وقد انتقل قدرٌ لا بأس به من التراث
النسطوري للمعارف اليونانية من الإسكندرية إلى
بغداد خلال أكاديمية جنديسابور.
٧٨
وقد قسمت الأكاديميات النسطورية، كما ذهب بعض
المستشرقين، منهاجها التعليمي إلى جزأين: (١)
برنامج تمهيدي، وهو إعداد ﻟ (٢) دراسة أكثر تقدمًا
في مجال أو أكثر من مجالات التخصص: الفلَك، والطب،
واللاهوت. وعلى سبيل المثال، فإن الأكاديمية
النسطورية في جنديسابور (حوالي ١٠٠ ميل من شرقي
بغداد) كان لها كلية للطب (ملحق بها مستشفى)، كلية
للفلك (ملحق بها مَرصَد). أما في الرياضيات فقد كان
المنطق موضوعًا أساسيًّا في البرنامج الإعدادي، على
ذلك يكون المنطق قد أدى دورًا مهمًّا بوصفه جسرًا
مشتركًا يربط بين الفروع المتعددة للتعليم.
٧٩
ومن جهة أخرى فإن اتصال العرب بالأفكار الأجنبية
لم يكن ضرورة فحسب، بل كان أيضًا أمرًا واقعًا،
يتمثل فيما كان يحدث من لقاءات ومناظرات بين علماء
المسلمين وغيرهم؛ وبخاصة علماء اللاهوت المسيحي
الذين كانوا ينتشرون في أَديِرتهم في الشام،
والعراق، وأطراف شبه الجزيرة، يدرسون الثقافة
اليونانية، وفي مقدمتها منطق أرسطو، بلُغتهم
السُّريانية حينًا، وبلغتها الأصلية حينًا آخر.
٨٠ ويقول «أوليري»: «ومن هذا يبدو واضحًا
أن الفتح العربي لم يُوقِف الدراسات
الأرسطوطاليسية، ولم يتدخل في شئونها، فبقِيت
الكنيسة النسطورية تحت الحكم العربي.»
٨١ وفي تاريخ ابن عساكر مناظرة بين «خالد
بن يزيد بن معاوية (توفي سنة ٨٥ﻫ/٧٠٤م) ومسيحي»،
تدل على اتصالٍ بالمنطق وقُدرة على لمح الشَّبه.
٨٢ مما يحمل على الظن بأنه قد تم شيء من
هذا الاتصال بشكل مباشر، ومن ثم لا يُستبعد أن تكون
هناك في تلك الفترة الباكرة محاولات للترجمة عن
الثقافة اليونانية أو الهلينية، ولكن المؤكد بأن
مثل هذه المحاولات — إن وُجدت — محدودة إلى أبعد
الحدود؛ إذ إن الظروف المختلفة التي أحاطت بالمجتمع
الإسلامي لم تُيسِّر البدء في الترجمة بصورة شاملة
إلا في رحاب الدولة العباسية، وما حدث من اتصال
مباشر بواسطة الترجمة قبل ذلك كان محدودًا في
طبيعته ونتائجه جميعًا.
٨٣
ويؤكد بعض الباحثين السُّريان المعاصرين، بأن
«السُّريان قد رحبوا، على الأرجح، بقدوم العرب،
آملين التخلُّص من التشدُّد البيزنطي والساساني،
وخضعوا برضًا للدولة الجديدة، وكان علماء الدين أول
من قاموا بترجمة الكتب اليونانية إلى السريانية،
وهناك عالِم مسيحي شاهد على الفتح العربي لهذه
البلاد هو «سويرس» الذي ترجم بعض الكتب الإغريقية
إلى السريانية وشاهد الفتح العربي.»
٨٤
وجاء بعده «سابوخت جرجيس»، المتوفَّى ٦٦٦-٦٦٧م،
أسقف قِنَّسْرين الذي ترجم بعض كتب أرسطو إلى
السُّريانية، مثل كتاب التحليلات الأولى كما يقول «أوليري».
٨٥ وطوال العصر الأُمَوي واصل هؤلاء
المترجمون نقل الأعمال اليونانية، والساسانية إلى
لغتهم السُّريانية، وقرب نهاية العصر الأُموي كان
هؤلاء قد تعلموا العربية وأتقنوها، ولذا شرعوا في
نقل بعض هذه الأعمال المترجَمة إلى السُّريانية
للعربية، لينهل الفلاسفة العرب ويتعلموا فلسفة
اليونان وفكرهم.
٨٦
ولم تكن عملية الترجمة والنقل في ظل الدولة
الأُمَوية علامة ظاهرة، ولم يكن لهم شُغل بالعلوم
الفلسفية، إلا ما ذُكِر عن خالد بن يزيد، المُلقَّب
بحكيم آل مَرْوان، عندما أُبعد عن الخلافة اتجه صوب
العِلم واهتم بالكيمياء؛ لرغبته الشديدة في تحويل
المعادن إلى ذهب، وهكذا أمَر بعض علماء اليونان
الذين كانوا في الإسكندرية أن ينقلوا له من
اليونانية إلى العربية كُتب الكيمياء، كما أمَرهم
بترجمة «الأورجانون»، وهو مجموعة كتب أرسطو في
المنطق، ويقول «ابن النديم البغدادي» (توفي
سنة٣٨٠ﻫ/٩٠٠م) عن «خالد بن يزيد»: «وكان فاضلًا في
نفسه، وله هِمة ومحبة للعلوم، خطر بباله الصنعة
(الكيمياء)، فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة
اليونانيين ممن كان ينزل مدينة مصر، وقد تفصح
بالعربية، كما أمرهم بنقل الكتب في الصنعة من
اللسان اليوناني والقِبطي إلى العربي، وهذا أول نقل
كان في الإسلام من لغة إلى لغة.»
٨٧ ومن بين الذين ترجموا إلى خالد بن
يزيد: «أصطفن القديم»، والراهب «مريانوس».
إذن، الترجمة في هذا العصر الأُموي تناولت جانبين
في هذه المرحلة:
- الأول: ترجمة العلوم الطبيعية، كالطب
والكيمياء، دون أن تتجاوزها إلى
العلوم العقلية، كالمنطق وما وراء
الطبيعة؛ وذلك لحاجتهم لهذه العلوم
مع عدم معارضتها للإسلام في
الجملة.
- الثاني: حركة التعريب للدواوين.٨٨
ومن جهة أخرى كان أول تقديم للمنطق اليوناني في
العربية، كما يؤكد بعض الباحثين، خلال الفترة
٨١٠–٨٢٠م تقريبًا، وذلك بترجمة الكتب الأولى من
الأورجانون، كما ظهرت في هذه الفترة مجموعة من
الشروح المختصَرة لخلاصة «الكتب الأربعة» في
المنطق، ويعود الفضل في هذه الأعمال إلى «محمد بن
عبد الله بن المقفع» الابن المغمور للمؤلف «الشهير
عبد الله بن المقفع»، مترجِم الأسطورة الفارسية
كَليلة ودِمنة.
٨٩
وحدثت «النقلة الكبرى» في العصر العباسي
(١٣٢–٦٥٦ﻫ/٧٥٠–١٢٥٨م)، بعد أن شيَّد الخليفة
المنصور مدينة بغداد (عام ٧٦٢ ميلاديًّا)، وقد وجد
المسيحيون مكانًا بارزًا في حاشية الخلفاء
العباسيين، وأدَّوا، نتيجة لثقافتهم العالية
وكفاءتهم المتميزة، أدوارًا شغلوا فيها مناصب مُهمة
كأطباء، وأمناء السِّر، ونالوا أرفع المكافآت من
الخلفاء، وكان معظمهم من السُّريان. وبدأ الخليفة
المنصور خلال فترة حكمه تدشين عملية الترجمة إلى
العربية، وقام بتوظيف المترجمين في حاشيته، ومع
الوقت تصبح هذه المهنة وظيفة رسمية من وظائف
البلاط، لكن كان يعوق المترجمين والترجمة نقص الكتب
اليونانية وغيرها؛ لذا وجدنا الخليفة يرسل بعثة إلى
مدينة القُسطَنطينية برسالة منه إلى الإمبراطور
البيزنطي راجيًا فيها تزويده بعدد من الكتب
اليونانية، واستجاب الإمبراطور، فطلب الخليفة من
المترجمين نقلها إلى العربية على الفور.
٩٠
ومن هذا المنطلق يمكن تقسيم مراحل الترجمة في
العصر العباسي من اللغة اليونانية والسُّريانية إلى
اللغة العربية إلى ثلاثة أجيال من المترجمين بشكل
عام من خلال الفترات التالية:
(٤-١) الفترة الأولى
الجيل الأول، من عام ٧٥٣م وحتى عام ٧٧٤م؛ أي
في بداية العصر العباسي، وهو يقع تحت حكم
الخليفتين «أبي جعفر المنصور»، و«الرشيد»، وفي
هذه الفترة بالذات أمر «أبو جعفر المنصور»،
ابنه «الهادي» ببناء مدينة «الرافقة» بالقرب من
مدينة «الرَّقَّة البيضاء»، كما أنه طلب من
إمبراطور الروم أن يزوده بأعمال «إقليدس»،
و«المجسطي» ﻟ «بطليموس»، وأنه أيضًا أمر بترجمة
كتاب «إقليدس» إلى العربية، ويضم هذا الجيل
مجموعة طيبة من المترجمين من أمثال: «يحيى بن
البطريق»، الذي ترجم «المجسطي» في زمن الخليفة
«المنصور»، «جرجس بن جبريل» وهو طبيب عاش في
زمن «الرشيد»، و«محمد بن عبد الله بن المقفع»
الذي عاش في زمن الخليفة «المنصور»، وترجم كتب
المنطق، و«يوحنا بن ماسويه». في إشارات قديمة
أخرى أخبارٌ موثقة ترى أن الكاتب «ابن المقفع»
كان قد ترجم للخليفة «المنصور» كتبًا أخرى، من
بينها كتاب «بانشانترا» الهندي، «قواعد سلوك
الملوك»، كما أن الخليفة «هارون الرشيد» الذي
حكم من عام ٧٨٤ وحتى عام ٨٠٨ ميلاديًّا، قد
أمر، وهو في «الرَّقَّة»، بترجمة المؤلفات
الطبية اليونانية، التي تم جمعها أثناء حروب
التحرير العربية، وقد أَوكل هذه المهمة إلى
الطبيب «يوحنا بن ماسويه».
٩١
ومن أهم المقوِّمات التي تقوم عليها هذه
الفترة الانفتاح على الثقافات والعلوم
المختلفة، لا يصد عنها اختلافها مع الفكر
الإسلامي هذا الاختلاف الذي يصل إلى حدود
التناقض في أحيان كثيرة، ويتضح هذا الأساس
المهم أولًا من تنوع العلوم التي بُدئ في
ترجمتها في هذه المرحلة، فمنها ما يتصل
بالآداب، كترجمات «ابن المقفع» وأهمها «كَليلة
ودِمنة»، ومنها ما يتناول المنطق، كبعض ما
يُنسب له أيضًا، وفيها كذلك ما يتعلق بالطب،
والفلك، والهندسة، وثانيًا من تعدد الأصول
المنقولة عنها، فقد اتصل الفكر العربي في هذه
المرحلة بالفكر الإغريقي عن طريقٍ غير مباشر في
أكثر الأحيان، بوساطة الترجمات السُّريانية
والآرامية والفارسية، كما اتصل بالفكر الهندي
أيضًا عن طريقٍ غير مباشر غالبًا بوساطة
الترجمات الفارسية، ولكن هذا الاتصال غير
المباشر باللغتين اليونانية والسنسكريتية لم
يحُل دون محاولاتٍ أولية للاتصال المباشر بهما،
وقد أثبت المحققون من المؤرخين أن العرب قد
ترجموا في هذه المرحلة عن اليونانية مباشرةً
«كتب أرسطو المنطقية الثلاثة، وهي كتاب
المقولات، والعبارة، والقياس، وترجم كذلك
المدخل إلى كتاب المنطق المعروف بالإيساغوجي
لفورفوريوس، بالإضافة إلى اتصالهم المباشر
باللغات الفارسية، والسُّريانية، والآرامية.»
٩٢
(٤-٢) الفترة الثانية
أما الجيل الثاني، فإنه يعود إلى عهد الخليفة
«المأمون» الذي حكم من عام ٨١٣م حتى عام ٨٣٣م،
وهذا الجيل ينتمي إليه «حنين بن إسحاق»،
ومدرسته التي كانت تضم مجموعة من المترجمين،
مثل: «ثابت بن قُرَّة»، و«قسطا بن لُوقا»،
و«يحيى البطريق»، و«الحجاج بن مطر»، الذين
كانوا على رأس القائمة من مترجمي المرحلة
الأكثر فعالية في حركة الترجمة في العصر العباسي.
٩٣
وأهم ما يميز هذه الفترة الاتصال المباشر،
على وجه العموم؛ حيث كان طابع المرحلة الثانية
في الاتصال بالثقافات الأجنبية، على عكس
المرحلة السابقة التي كان الاتصال فيها
بالثقافات المختلفة، يتم غالبًا بوساطة
السُّريانية، أو الفارسية، أو الآرامية، أو
النَّبَطية. ومن يقرأ عن المترجمين في هذه
المرحلة يجدهم يتصلون اتصالًا مباشرًا باللغة
السنسكريتية، والبابلية القديمة، واليونانية.
وكان كثير من المترجمين عن الإغريقية يجيدون
اللغة السُّريانية، ويطابقون بين ما قد يكون من
ترجمات سُريانية مع الترجمة العربية، فيضمنون
بذلك قدرًا من الدقة العِلمية لم يتوافر في
المرحلة السابقة.
٩٤
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى التركيز الشديد
على العلوم الإنسانية، وعلى الفلسفة والمنطق
بصفة خاصة، ولعل ذلك يرجع بصورة أساسية إلى
ثقافة المأمون التي كان يغلب عليها الطابعان:
الفارسي، واليوناني، وقد ظهر التأثير الفارسي
في النواحي السياسية والاجتماعية للدولة، على
حين بدأ التأثير الإغريقي جَلِيًّا في وَلَعه
الشديد بالمناقشات العقلية، وفي حرصه البالغ
على ترجمة كل ما أُثر عن الثقافة اليونانية من
فلسفة ومنطق، وقد تناولت الترجمة في الفترة
السابقة بعض الآثار العقلية في الفلسفة
والمنطق، ولكن طابع المرحلة كلها كان — بحكم
الظروف التاريخية — الاهتمام بالعلوم
العَمَلية، وبصفة خاصة الطب، والهندسة، والفلك،
والصيدلة. فلم تكد هذه الظروف تتغير حتى انصرفت
كل الجهود إلى ترجمة كتب الفلسفة والمنطق.
٩٥
وقد كان أول اتصال بين الفكر الفلسفي،
والمنطق الإغريقي عن طريق الترجمة في عصر بني
العباس، كان في عهد أبي جعفر المنصور
١٣٦–١٥٨ﻫ/٧٥٤–٧٧٥م؛ إذ ترجم ابن المقفع الابن،
كما أثبت المستشرق الألماني «بول كراوس»، كتب
أرسطو الثلاثة «التي في صورة المنطق، وهي كتاب
قاطيغورياس، وكتاب باري أرميناس، وكتاب
أنولوطيقا، وذكر أنه لم يترجم منه إلى وقته إلا
الكتاب الأول فقط، وترجم ذلك المدخل إلى كتاب
المنطق المعروف بالإيساغوجي لفورفوريوس
الصُّوري، وقد أعاد حنين بن إسحاق ومدرسة
الترجمة الرسمية النظر في تلك الترجمات
القديمة، فأصلحوا ما يمكن إصلاحه منه وأعادوا
ترجمة ما لم يرضوا ترجمته.»
٩٦
ومن ثَم نقل حنين بن إسحاق كتاب المقولات إلى
العربية، ونقل إسحاق ابنُه كتاب العبارة إلى
العربية، بعد أن مهد له والده بترجمته إلى
السُّريانية، كما أشرف حنين على ترجمة «تادروس»
لكتاب القياس إلى العربية، ثم تتابعت ترجمة كتب
الفلسفة والمنطق، وبخاصة كتب أرسطو المنطقية،
والإلهية، والطبيعية، والأخلاقية، وهي كما
عرفها العرب بالإضافة إلى الكتب السابقة
«أنالوطيقا الثاني: البرهان» و«أبوطيقا: الشعر»
و«السماع الطبيعي» بتفسير الإسكندر، وبتفسير
يحيى النحوي؛ والسماء، والعالم، والكون،
والفساد، والآثار العلوية، والنفس، والحيوان،
والحروف المعروف بالإلهيات، والأخلاق، كما ترجم
إلى العربية أيضًا ما وُضع لهذه الكتب من شروح
وتفسيرات بالإغريقية أو السُّريانية، وكذلك ما
وُصف لها من ملخَّصات، حتى ليَكاد نشاط
المترجمين، منذ أيام «حنين بن إسحاق»، يكون
مقصورًا كله على الكتب المعزوَّة إلى أرسطو بحق
أو بباطل، وعلى مختصرات لها وتفسيرات وشروح.
٩٧
وبانتهاء هذه الفترة كانت الترجمات العربية
(التي تمت بوجه عام من السُّريانية) لستة من
«الكتب السبعة» في المنطق متاحة بالفعل، وكان
كتاب الخطابة قد نُقِل أيضًا إلى العربية.
٩٨
(٤-٣) الفترة الثالثة
أما الجيل الثالث من هذه الحركة العلمية
المتألِّقة، فقد ظهرت بدءًا من عام ٢١٩م، وحتى
نهاية القرن العاشر الميلادي، ومن مترجمي هذه
المرحلة نستذكر بعض الأسماء اللامعة في حقل
الترجمة مثل: «يحيى بن عدي» (٢٨٠–٣٦٤ﻫ)،
و«متَّى بن يونس»، «سِنان بن ثابت بن قُرة»
(٨٨٠–٩٤٣م)، وكانت الترجمة تتم، إما مباشرة من
اللغة اليونانية إلى العربية، أو من اليونانية
إلى السُّريانية ومن ثم إلى العربية، ولقد أدت
المكتبات العامة والخاصة دورًا كبيرًا في هذا
المجال، وخاصة «بيت الحكمة»، الذي اشتهر في
«بغداد»، وفرعه الثاني في «الرَّقة».
٩٩
وأهم ما يميز هذه الفترة أنه قد استمر
الاهتمام بالتراث الإغريقي، واتصلت العناية
بالعلوم الإنسانية، وظل التركيز واضحًا على
الكتب المنطقية والفلسفية، وكان من أبرز مَن
أَسهم في هذه المرحلة في خدمة الترجمة «متَّى
بن يونس»، وقد نَقل إلى العربية كتاب البُرهان،
وكتاب السوفسطيقا، وكتاب الكون والفساد بتفسير
الإسكندر، وكتاب الشعر، و«أبو سعيد» وابنه «أبو
الحسن ثابت بن سِنان بن ثابت»، وقد غلب عليهما
الناحية العَمَلية لاشتغالهما بالطب تدريسًا
وممارسة، و«أبو زكريا يحيى بن عدي» الذي كان
عاشقًا لكتب الفلسفة، وهو أكبر من عُني بأرسطو
في هذه المرحلة المتأخرة؛ فترجم له كتاب
الطوبيقا، كما هذب تفسيرَي «الإسكندر»،
و«أمونيوس» له، وجمعهما في شرح واحد ترجمه
أيضًا، وكذلك ترجم كتاب السوفسطيقا: المغالطة،
وأصلح ترجمة المقالة الأولى من السماع الطبيعي
بتفسير الإسكندر … إلخ، وآخر مَن قام بدورٍ
بارز في الترجمة كان أبا الخير الحسن بن سوَّار
الخمَّار المولود سنة ٣٣١ﻫ؛ إذ نقل إلى العربية
كتاب الآثار العلوية، وكتاب اللَّبس في الكتب
الأربعة في المنطق … إلخ. ثم «أبا علي عيسى بن
إسحاق بن زُرعة ٣٣١–٣٨٩ﻫ»، الذي وضع ترجمات
لبعض المؤلفات في الطب والفلسفة، ومنها ترجمات
لكتاب الحيوان، وللسوفسطيقا، ولبعض شروح أرسطو،
ولكتاب «نيقولاوس الدِّمَشقي» في فلسفة
أرسطوطاليس، وبهؤلاء تنتهي طائفة المترجمين في
آسيا، ويتحول النشاط بعد ذلك إلى التعليق
والعرض مع المراجعة أحيانًا لبعض الترجمات القديمة.
١٠٠
من كل ما سبق يمكننا الآن استعراض الخط العام
لوصول الأورجانون الأرسطي إلى البيئة الناطقة
بالعربية في القرنين الثاني والثالث
الهجريَّين، والحصيلة الناتجة عن ذلك هي على
النحو التالي:
- (١)
بجهد مُتماثل وبتدعيم من قِبَل
الطبقة العليا، قامت جماعة من
المترجمين (جميعهم أو معظمهم من
المسيحيين السُّريان) خلال الفترة
٨٢٥–٨٤٠م بنقل الكتب الأربعة في
المنطق إلى العربية، وكذلك كُتب
الجدَل، والسفسطة، والخطابة، وقد
بدت هذه الترجمات — التي تمت عن
طريق السُّريانية بوجه عام —
ترجماتٍ حرفيةً فجَّة، مختلطة
باصطلاحات يونانية مكتوبة
بالعربية، ولم تؤدِّ هذه الترجمات
إلى نص عربي يمكن فهمه بسهولة.
١٠١ لقد كان هؤلاء
المترجمون القدماء في أغلب الأحيان
«باستثناء شخص مثل يحيى (يوحنا) بن
البطريق عبيدًا للنص، فقدموا ترجمة
حرفية من السُّريانية إلى العربية.»
١٠٢
- (٢)
كانت هذه الترجمات السابقة موضع
رفض من قبل الجيل الثاني من مترجمي
المنطق من العرب، ويضم هؤلاء «حنين
بن إسحاق» وآخرين تدرَّبوا على
يديه؛ وخاصة ابنه إسحاق، وقد نبذ
هؤلاء الرجال الأساس السابق،
وراجعوا النصوص اليونانية، وقارنوا
المخطوطات، ووصلوا إلى ترجمات
نهائية (عادة عن طريق السُّريانية)
سواء كانت ترجمات جديدة، أو — في
حالة أو حالتين — عن طريق المراجعة
المتقَنة للترجمات القديمة. لقد
قام حنين بن إسحاق بثورة كاملة في
الترجمة العربية للنصوص الفلسفية
اليونانية، فقد استَحدث الأمور
التالية:
- (٣)
إن حنينًا وزملاءه (وخاصة ابنه
إسحاق) قد أتاحوا (عن طريق
السُّريانية) مجموعة متنوعة من
الشروح اليونانية على الكتب
المنطقية، وقليلًا من الوسائل
الأخرى المعينة للدراسة المنطقية،
والتعليم المنطقي، تلك الوسائل
التي كانت مستخدمة في الأكاديميات النسطورية.
١٠٤
- (٤)
أما عن الأعمال التي تمت خلال
الأعوام ٨٣٠–٨٧٠م، فقد قال الكِندي
ما يمكن أن يُقال عنها بوضوح إنها
أول ملخصات ودراسات مستقلة بصورة
أصيلة (ليست مترجمة) للنصوص
المنطقية في العربية، وقد نجح في
ذلك بفضل تلميذه السَّرَخْسي (كان
نشاطه من حوالي ٨٦٠–٨٩٩م) وهو الذي
لخص الكتب المنطقية الأربعة؛ وثابت
بن قُرة، تلميذ حنين (كان نشاطه من
حوالي ٨٥٥–٩٠١م)، وهو الذي لخص
أيضًا قدرًا كبيرًا من الأورجانون.
١٠٥