الفصل الثالث

التفسير الأبستمولوجي لنشأة النحو العربي

تقديم

في هذا الفصل نتبنى مبدأً أبستمولوجيًّا، وهذا المبدأ ينص على «أن المقال في المنهج لا ينفصل عن المقال في العلم في أية مرحلة من مراحل تطور العلم نفسه.»١ ومعنى هذا المبدأ ببساطة أن الحديث عن المنهج في أي علم من العلوم، بمعزل عن المسار الذي يسلكه العلم في تطوره، هو ضرب من التبسيط المُخِل «بالتجربة العلمية»، والتزييف المتعمَّد للروح التي ينبغي أن تقود العلم وتوجهه، فالمراحل الأساسية التي يمر بها العلم، والتي سبق أن أوضحناها في نهاية الفصل السابق، وهي المرحلة الوصفية، ثم المرحلة التجريبية، ثم المرحلة الاستنباطية، ترتبط ارتباطًا عضويًّا بمراحل تطورية تناظرها في المنهج، أو المناهج المستخدمة في العلم نفسه.٢
ويترتب على هذا المبدأ الأبستمولوجي أننا لا نستطيع أن نحدد — كما يحلو لبعض العلماء وفلاسفة العلم — منهجًا بعينه لعلم بعينه؛ حتى ولو كان ذلك في مرحلة بعينها من مراحل تطور العلم، اللهم إلا إذا كنا بصدد التأريخ للعلم الذي نتحدث عنه، والسبب في ذلك أن أهم عنصر يتدخل في تشكيل هيكل أو بنية العلم هو المنهج المستخدم في بناء العلم نفسه، ولكن المنهج الذي يعمل على إضفاء بنية جديدة للعلم هو بالضرورة غير المنهج الذي تعارف جمهرة العلماء على استخدامه، ويترتب على ذلك أن فصل المقال في المنهج عن المقال في العلم في أية مرحلة من مراحل تطور العلم هو قفل باب الاجتهاد في العلم، ودعوة إلى تعطيل البحث العلمي، وباختصار فإن هذا يعني وضع العلم داخل «سجن» الهيكل أو البنية التي اكتسبها في المرحلة التي تم فيها عزل المنهج عن السياق التاريخي التطوري للعلم.٣
وإذا ما طبقنا ذلك على النحو العربي، نجد أن هناك فصلًا للمقال عن المنهج عن المقال عن العلم في بداية نشأة علم النحو، فلم يكشف لنا رجال هذا العلم ومؤرخوه الظروف والدوافع التي أحاطت بنشأة النحو! ولا الشخصيات التي تُنسب إليها ريادة البحث النحوي، كما لم تتضح لنا بعدُ صورة النحو العربي في مرحلته الوصفية، سواء فيما يتعلق بفهم طبيعة المرحلة التي تُنسب إليها نشأة الدراسات النحوية، أو بفهم طبيعة اللغة التي تتناول نشأة نحوها بالدرس؛ فالنحو العربي، بشهادة الكثير من الباحثين والدارسين، كان في بداية مَنشَئه «غامضًا كل الغموض؛ فإننا نرى فجأة كتابًا ضخمًا ناضجًا، هو كتاب سيبويه، ولا نرى قبله ما يصح أن يكون نواةً تبين ما هو سنة طبيعية من نشوء وارتقاء.»٤ فإن هذا يعني العجز عن التفسير.

ومن هنا نتساءل لماذا لم يصاحب هذا الغموض غير النحو من سائر العلوم الإسلامية الأخرى، كعلم القراءات والفقه والتفسير؟

والإجابة عن هذا السؤال تتمثل في أن هذه العلوم «لا سبيل إلى تطرق الشك في أوَّليتها ونشأتها بعد الإسلام؛ إذ إنها تستمد أُسُسها من القرآن والسنة، فهما أهم أصلين من الأصول الإسلامية؛ أما النحو فصِلَته باللغة وثيقة، فاللغة قد وُجدت وكمُلت قبل أن يوجد الإسلام، ولكن ينبغي أن نضيف إلى هذا اعتبارًا آخر؛ ذلك أنه فيما يختص بالنحو فقد تدخلت عوامل جديدة أهمها: صفة القداسة التي تُمنح للغة العربية حرصًا من القدماء على الرفع من شأنها ما دامت قد أصبحت لغة التنزيل والإسلام.»٥
هذه القداسة قد جعلت الكثير من المؤرخين وعلماء اللغة يفترضون أنها توقيفية، وأنها أشرف اللغات على الإطلاق؛ وأنها كانت صحيحة الإعراب لا يأتيها اللحن أو الخطأ من بين يديها ولا من خلفها؛٦ بل إن هذه الرغبة نفسها قد دفعتهم إلى تقرير ما هو أشد من ذلك كله، فقد قالوا إن اللغة العربية كانت لغة آدم — عليه السلام — في الجنة، واستمر يتحدث بها ويتفاهم بواسطتها حتى كانت منها الخطيئة التي ارتكبها بعصيان ربه، وعلى أثر ذلك قد انتُزعت منه اللغة العربية انتزاعًا، وهكذا بين لحظة وأخرى نسي اللغة التي كان يعبر بها عن رغباته ويشرح بها ضرورياته؛ وبقي كذلك حتى تاب إلى ربه، وحينئذٍ عادت إليه اللغة العربية، وتقمَّصته من جديد، فأخذ يتحدث بها كأن لم يكن منه نسيان فيما مضى، يقول ابن فارس: «ولعل ظانًّا يظن أن اللغة التي دلَّلنا على أنها توقيف إنما جاءت جملة واحدة، وفي زمان واحد، وليس الأمر كذلك، بل وقف الله — جل وعز — آدم — عليه السلام — على ما شاء أن يُعلمه إياه مما احتاج إلى علمه في زمانه، وانتشر من ذلك ما شاء الله، ثم علَّم بعد آدم — عليه السلام — من عرب الأنبياء — صلوات الله عليهم — نبيًّا نبيًّا ما شاء أن يُعلمه، حتى انتهى الأمر إلى نبينا محمد ، فآتاه الله — عز وجل — من ذلك ما لم يؤتِه أحدًا قبله، تمامًا على ما أحسنه من اللغة المتقدمة، ثم قرَّ الأمر قراره فلا نعلم لغة من بعده حدثت.»٧
وينتهي ابن فارس من تحليلاته للغة العربية إلى أن: «عِلم النحو في اللغة قديم، ثم أتت عليه الأيام وقَلَّ في أيدي الناس، حتى جاء أبو الأسود فأحيا ما اندرس منه.»٨
وأعتقد أن هذا الرأي ناءٍ عن المعقول، جارٍ وراء الخيال والوهم؛ حيث إن تحديد زمن وضع علم النحو لا سبيل إليه، وأن تعيين الواضع له إنما هو تقريب لزمن وضعه وليس تحديدًا له، وأما مكان وضعه فهو العراق؛ لأنه على حدود البادية ومُلتقى العرب وغيرهم، فكان أظهر بلدٍ انتشر فيه وباء اللحن، وهو الداعي إلى وضع علم النحو، وأما عرب البوادي في الحجاز ونجد فلم تكن بهم حاجة إلى وضعه، والمقصود بالعراق هنا البصرة والكوفة لا بغداد؛ لأنهما تأسستا في فجر الإسلام، أما بغداد فلم تُخطط إلا في صدر الدولة العباسية التي اتخذتها مقرًّا للخلافة، وكانت البصرة أقدم في العناية بهذا العلم من الكوفة؛ حيث استأثرت به مائة عام، كما أكد الذين كتبوا عن طبقات النحويين البصريين والكوفيين.٩
ويضاف إلى هذا عامل آخر، وهو وإن كان يُعدُّ في الدرجة الثانية بالنسبة لمعنى القداسة، إلا أنه جدير بالملاحظة، ذلك هو الرغبة البينة في إسناد هذا العلم إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ولا يبعد أن يكون هذا نوعًا من الدعاية السياسية والدينية في وقت واحد.١٠
كل هذه الاعتبارات ينبغي أن تدخل في حسابنا، وأن تكون موضع ملاحظتنا حينما نبحث نشأة النحو العربي من منطلق أبستمولوجي، ولذلك نحاول في هذا الفصل أن نكشف الأبعاد الحقيقة لنشأة النحو العربي من خلال المحاور التالية:
  • الظروف والدوافع التي أحاطت بنشأة النحو.

  • صورة النحو العربي والشخصيات التي تُنسب إليها ريادة البحث النحوي في بداياته.

(١) الظروف والدوافع التي أحاطت بنشأة النحو

يرى كثير من الدارسين — قدماء ومحدَثين — أن السبب في نشأة الدراسات النحوية — وهو ما يُصطَلح عليه بوضع النحو — هو شيوع اللَّحْن؛ فقد كان نزول القرآن الكريم بالعربية، ودخول غير العرب في الإسلام، وحرصهم على تلاوة القرآن، وتعلم العربية، وما حدث من انسياح المسلمين من قلب الجزيرة إلى كل جهات الأرض، وما صاحب ذلك كله من امتزاج لغوي ومن اتساع استعمال الكتابة؛ قد خلق وضعًا لغويًّا جديدًا لم يكن من اليسير على الكتابة العربية أن تستجيب له وهي على حالتها القديمة من إهمال تمثيل الحركات؛ فمع ازدياد حجم النصوص التي تكتب بها ضعُفت السليقة التي كان يقرأ بها العربي النص المكتوب قراءة صحيحة، وكذلك فإن المسلمين من غير العرب، لم يكُن من اليسير عليهم تجنب الخطأ فيما يقرءون من نصوص مكتوبة بها، فكان ذلك مَدعاةً للتفكير بوسيلة تُعِين على ضبط القراءة، خاصة في القرآن، ومن ثم فإن قول اللغوي «فندريس»: «إن العناية التي تبذلها اللغة في تسجيل الأصوات ترجع إلى انتشار اللغة بين أقوام لم يكونوا يتكلمونها بسليقتهم»،١١ يبدو صحيحًا.
وقد أدرك علماء السلف تلك الحالة التي صارت إليها اللغة في أفواه الناطقين بها، والكتابة التي لم تكن تُقدم العون الكافي لتجنب الخطأ في القراءة، فصوَّر لنا جانبًا من ذلك «ابن خلدون» بقوله: «فلما جاء الإسلام وفارقوا [يقصد العرب] الحجاز لطلب الملك الذي كان في أيدي الأمم والدول، وخالطوا العجم، والسَّمعُ أبو الملَكات اللسانية، ففسدت بما أُلقي إليها مما يُغايرها، لجنوحها إليه باعتياد السمع، وخشي أهل العلوم (الأناة والعقل) منهم أن تفسد تلك الملَكة رأسًا، ويطول العهد بها، فينغلق القرآن والحديث عن المفهوم، فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملَكة مُطَّردة، شبه الكليات والقواعد، يقيسون عليها سائر أنواع الكلام، ويلحقون الأشباه (منها) بالأشباه، مثل أن الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب، والمبتدأ مرفوع. ثم رأوا تغيُّر الدلالة بتغير حركات هذه الكلمات، فاصطلحوا على تسميته إعرابًا، وتسمية الموجِب لذلك التغير عاملًا، وأمثال ذلك، وصارت كلها اصطلاحات خاصة بهم، فقيَّدوها بالكتاب، وجعلوها صناعة مخصوصة لهم، واصطلحوا على تسميتها بعلم النحو.»١٢
وهذا يعني عند كثير من المؤرخين أن علم النحو وُضع بعد ظهور الإسلام في جزيرة العرب، وانتقل إلى بلاد فارس والروم وغيرها من البلاد المجاورة لها، وعندما ظهرت الحاجة إلى وضعه بسبب اختلاط العرب بغيرهم، وما أدى إليه ذلك من ضعف سليقتهم، وانتشار اللحن في لغتهم، ولم يكن العرب قبل الإسلام في حاجة إلى وضع هذا العلم؛ لأنهم ينطقون النطق السليم الفصيح بفطرتهم التي جُبِلوا عليها، والملَكة التي خُلِقت فيهم، وقد أثار هذا اللحن وذيوعه انتباه أبي الأسود بعد حادثة خاصة أدرك منها أن اللَّحن لم يعُد يتوقف عند الأجانب الداخلين في الإسلام، وإنما تجاوزهم إلى العرب الخُلَّص أيضًا، فلم يجد بُدًّا من أن يضع أصولًا لضبط اللغة، ومن ثم نشأ المبحث النحوي.١٣

(١-١) وهناك روايات كثيرة تنقل عن شيوع اللحن على الألسنة آنذاك، منها:

  • (١)
    محمد بن سلام الجُمَحي (١٣٩–٢٣١ﻫ)، ذكر في كتاب طبقات الشعراء قضية اللحن وانتشاره فقال: «وإنما قال ذلك — أي أسَّس أبو الأسود النحو — حين اضطرب كلام العرب، وصار سُراةُ الناس ووجوههم يَلحنون، فوضع باب الفاعل والمفعول والمضاف وحروف النصب والجر والرفع والجزم.»١٤
  • (٢)
    أبو العباس المبرِّد: «وذكر أن السبب الذي بنى له أبواب النحو وعليه وصلت أصوله أن ابنة أبي الأسود الدؤلي قالت: يا أبتِ، ما أشدُّ الحرِّ! قال: الحَصباء بالرَّمضاء، قالت: إنما تعجبت من شدته، قال: أوَقد لحن الناس؟ فخبر بذلك عليًّا — رحمة الله عليه — فأعطاه أصولًا بنى منها وعمل بعده عليها.»١٥
  • (٣)
    الزَّجَّاجي قال في «أماليه»: «حدثنا أبو جعفر محمد بن رستم الطبري، قال: حدثنا أبو حاتم السِّجِسْتاني، حدثنا يعقوب بن إسحاق الحَضرمي، حدثنا محمد بن سالم الباهلي، حدثنا أبي عن جدي عن أبي الأسود الدؤلي، قال: دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب — رضي الله عنه — فرأيته مُطرِقًا مُفكرًا، فقلت: فيمَ تفكر يا أمير المؤمنين؟ قال: إني سمعت ببلدكم هذا لحنًا فأردتُ أن أضع كتابًا في أصول العربية، فقلت: إن فعلت هذا أحييتنا وبقِيَت فينا هذه اللغة …»١٦
  • (٤)
    أبو الطيب اللغوي (ت٣٥١ﻫ): «واعلم أن أول ما اختل من كلام العرب وأحوج إلى التكلم الإعرابُ؛ لأن اللحن ظهر في كلام الموالي والمتعرِّبين من عهد النبي فقد رُوِّينا أن رجلًا لحن بحضرته فقال: «أرشدوا أخاكم فقد ضلَّ.» وقال أبو بكر الصديق — رضي الله عنه: «لِأنْ أقرأ فأُسقط أحبُّ إليَّ من أن أقرأ فألحَن».»١٧
  • (٥)
    ابن الأنباري ذكر أنه في زمان خلافة الإمام علي — رضي الله عنه — حيث ازدادت رُقعة الاختلاط وتوسعت، وكثر اللحن نتيجة لذلك، لما دخل الإمام «علي» — رضي الله عنه — العراق، وخصوصًا البصرة، وهي المركز الحضاري الذي كثر فيه الاختلاط، لاحظ مدى شيوع اللحن على الألسنة، فروى «ابن الأنباري» أن الإمام «علي» — عليه السلام — قال: «إني تأمَّلت كلام الناس فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء. يعني الأعاجم.»١٨
  • (٦)
    ابن خلدون (ت٨٠٨ﻫ) ذكر في مقدمته: «وأول من كتب فيها — صناعة النحو — أبو الأسود الدؤلي من بني كنانة، ويقال: بإشارة «علي» — عليه السلام — لأنه رأى تغير الملَكة، فأشار عليه بحفظها، ففزع إلى ضبطها بالقوانين الحاضرة المستقرأة.»١٩
وإذا كانت كل هذه الروايات تُجمِع على أن ظهور اللحن، أو شيوعه هو السبب الأساسي في نشأة الدراسات النحوية، إلا أننا نشكك في ذلك، بدليل أنه لو كان مجرد اللحن في اللغة مَدعاة لوضع النحو، لوجدنا على الأقل مُحاولات فيه أيام الرسول أو أيام الخلفاء الراشدين من بعده؛ إذ إن اللحن كان «موجودًا في البيئة العربية منذ ذلك التاريخ، بل كان أقدم من ذلك عهدًا، فالبيئة العربية منذ مئات السنين قبل الإسلام كانت تُعَد مأوًى للمهاجرين، وطلاب الكسب من الأمم الأخرى، مثل اليهود والفرس والأحباش والروم.»٢٠
وقد ظهر اللحن في نطق بعض الأصوات في الجاهلية بين الرقيق من الزنوج في مخارج الحروف، وهو ما يعرف باللُّكنة، فقد استبدلوا الحروف التي لم تكن موجودة في لغتهم الأصلية، وقد نُقل هذا اللحن عن بعض العرب المجاورين لفارس، كقول النعمان بن المنذِر لحجل بن نضلة: «أردت أن تذيمه فمدهته.» قال المبرد: «تذيمه: معناه تذمه، ومدهته يريد: مدحته؛ فأبدل من الحاء هاءً لقرب المخرج، وبنو سعد بن زيد مناة بن تميم كذلك تقول، ولخم ومن قارَبها. قال رؤبة: للهِ دَرُّ الغانيات المُدَّهِ … يريد: المُدَّح.»٢١
وفي عهد النبي ، ظهر اللحن الإعرابي على لسان بعض العرب الموالي والمتعرِّبين، يقول أبو الطيب اللغوي: «واعلم أن أول ما اختل من كلام العرب، وأحوج إلى التعلم الإعرابُ؛ لأن اللحن ظهر في كلام الموالي والمتعربين من عهد النبي ، فقد رُوي أن النبي سمع رجلًا يلحن في كلامه قال: «أرشدوا أخاكم، فإنه قد ضل.»٢٢ وقال أبو بكر الصديق — رضي الله عنه: «لِأنْ أقرأ فأُسقِط أحبُّ إليَّ من أن أقرأ فألحَن.»٢٣ وفي عهد الخلفاء الراشدين كان اللحن مُستَقبَحًا، ويعاقَب المخطئ على لحنه، فقد رُوي أن الحُصَين بن أبي الحُر كتب إلى عمر بن الخطاب كتابًا، فلحن في حرف منه، فكتب عمرُ إلى أبي موسى الأشعري رسالة يقول فيها: «أن قَنِّع كاتبك سوطًا.» أي اضربه سوطًا.٢٤

ولكل هذه الاعتبارات لا نستطيع أن ننفي وجود اللحن في البيئات العربية قبل الإسلام، ولا في عهد الرسول، وعهد الخلفاء الراشدين من بعده، ولا نستطيع كذلك أن نقلل من كمية ما كان موجودًا في تلك العهود من لحن في اللغة العربية، وإذا كان الرواة قد حدثونا عن حوادث فردية وقع فيها لحن أمام الرسول، وأمام الخلفاء الراشدين من بعده فثاروا له ونبهوا إلى إصلاحه، فلنثق بأن أمثال هذا اللحن كان كثيرًا. غير أن هذا اللحن مع كثرته لم يكن ذا خطر، وبما أنه لم يكن هناك ما يُخشى عليه من هذا اللحن، فالقُرآن كان محفوظًا في ذاكرة الصحابة من العرب الخُلَّص، ولم ينتشر حفظه بين الكثير من الطبقات إلا بعد أن اتسعت الفتوح الإسلامية، وامتد نفوذ الإسلام.

وحينئذٍ يأتي دور اللحن الخطير الذي يُخشى منه على النصوص القرآنية، فيفزع العرب كما فزع الهنود والسُّريان من قبلهم؛ ويهبُّون يلتمسون الوسائل لوضع ضوابط تحفظ القرآن من هذه الأخطار؛ وفي هذا يقول «أبو عمرو الداني» (ت٤٤٤ﻫ) في المحكم: «اعلم، أيَّدك الله بتوفيقه، أن الذي دعا السلف — رضي الله عنهم — إلى نقط المصاحف … ما شاهدوه من أهل عصرهم، مع قربهم من زمن الفصاحة ومشاهدة أهلها، من فساد ألسنتهم، واختلاف ألفاظهم، وتغير طباعهم، ودخول اللحن في كثير من خواص الناس وعوامهم، وما خافوه مع مرور الأيام وتطاول الأزمان، مع تزيد ذلك، وتضاعفه فيمن يأتي بعد، ممن هو — لا شك — في العلم والفصاحة والفهم والدراية دون من شاهدوه، ممن عرض له الفساد ودخل عليه اللحن، كي لا يُرجع إلى نقطها ويُصار إلى شكلها، عند دخول الشكوك، وعدم المعرفة، ويتحقق بذلك إعراب الكلِم، وتُدرك به كيفية الألفاظ.»٢٥
وهنا يتضح لنا أن السبب المباشر في أن وضع النحو العربي ليس اللحن نفسه، وإنما هو الخوف على الآيات القرآنية من أن تمتد إليها يد التحريف، وأن ذلك لم يكن بطبيعة الحال يوم كان العربُ مستقرين في بيئاتهم الأولى، ودولتهم تكاد تكون محصورة في بيئة الحجاز؛ بل كان ذلك حينما انتقل سلطان الدولة الإسلامية إلى بيئات غير عربية، وخضع لهذه الدولة أفواج عديدة من الأجانب من فرس وسُريان وعِبرانيين.٢٦

(١-٢) والسؤال الآن: كيف تم وضع ضوابط تحفظ القرآن من هذه الأخطار؟

لعل علامات الحركات ونقاط الحروف التي نجدها في الكتابة العربية، سواء في المصاحف أم في الكتب، مرت بمراحل حتى أخذت هذا الشكل. أما استخدام النقاط لتمثيل الحركات فقد تم منذ وقت مبكر يرجع إلى النصف الثاني من القرن الأول الهجري؛ حيث قام أبو الأَسوَد الدؤلي بوضع أساس طريقة استعمال النقط للحركات، وذلك أنه أراد أن يؤلف كتابًا في العربية يُقوِّم الناس به ما فسد من كلامهم … فقال أرى أن أبتدئ بإعراب القرآن أولًا. فأحضَر من يمسك المصحف وأحضَر صبغًا يخالف لون المداد، وقال للذي يمسك المصحف عليه: إذا فتحتُ فايَ فاجعل نقطةً تحت الحرف، وإذا ضممتُ فايَ فاجعل نقطة أمام الحرف، فإن أتبعتُ شيئًا من هذه الحركات غُنَّة (يعني تنوينًا) فاجعل نقطتين. ففعل ذلك حتى أتى على آخر المصحف.»٢٧
وينقل لنا أبو عمرو الداني في «المحكم» أن محمد بن يزيد المبرِّد قال: «لما وضع أبو الأَسوَد الدؤلي النحو قال: ابغوا لي رجلًا، وليكن لقِنًا. فطُلب الرجل فلم يوجد إلا في عبد القيس، فقال أبو الأسود إذا رأيتَني لفظتُ الحرف فضممتُ شَفَتيَّ فاجعل أمام الحرف نقطة، فإذا ضممتُ شفتيَّ بغُنة فاجعل أمام الحرف نقطتين، فإذا رأيتَني قد كسرتُ فاجعل أسفل الحرف نقطة، فإذا كسرت شفتيَّ بغُنَّة فاجعل نقطتين، فإذا رأيتَ قد فتحتُ شفتيَّ فاجعل على الحرف نقطة، فإذا فتحتُ شفتيَّ بغُنَّة فاجعل نقطتين. قال أبو العباس فلذلك النقط بالبصرة في عبد القيس إلى اليوم.»٢٨

والملاحظ أن رواية أبي عمرو الداني تشير إلى أن أبا الأسوَد جعل تمييز نوع الحركة متوقفًا على وضع الشفتين أو الفم، وكان كاتبه معلق البصر يتابع حركة شفتيه، ولكن لا شك في أنه استطاع أن يميز بين الحركات الثلاث تبعًا لاختلاف الجرس المتولِّد عن كلٍّ منها بعد فترة قصيرة من ابتداء العمل، وقبل أن ينتهي من نقط المصحف، خاصة أن الروايات تؤكد أن الكاتب كان على درجة عالية من الفِطنة.

ثم انتشرت هذه الطريقة في تمثيل الحركات، واستمر العمل بها وحدها إلى أواخر القرن الثاني الهجري، عندما اقترح «الخليل بن أحمد الفراهيدي» (١٠٠–١٧٠ﻫ/٧١٨–٧٨٦م) الحركات المعروفة اليوم، والتي حلَّت تدريجيًّا محل نظام النقط القديم؛ حيث لم يكن من اليسير على نُساخ الكتب المصنَّفة في علوم اللغة العربية والعلوم الإسلامية وما جدَّ من علوم أخرى استخدام طريقة النقط المدوَّرة في ضبط الكلمات فيما يكتبون، لأنها تحتاج إلى لونين من المداد، واحد لرسم الحروف، وآخر لنقط الحركات، وربما أمكن استخدام مداد واحد قبل استخدام نقط إعجام الحروف في الكتابة، ولكن بعد ذلك الاستخدام أصبح من العسير تمثيل الحركات بنقطٍ من نفس مداد الكتابة، ويبدو أن الأمر ظل على هذه الحالة من عدم الاستقرار، حتى عصر الخليل الذي استطاع أن يجد الحل المناسب لهذه المشكلة الكتابية التي كانت تقف في وجه الكُتاب والنُّساخ والعلماء، ولم يكن ذلك ممكنًا من غير تخصيص كل حركة بعلامة تختص بها، لا كما في حالة النقط المدورة؛ حيث تشترك كل الحركات بشكل واحد، ويميز بينها بالمخالفة في الموضع ولون المداد، وقد تم ذلك للخليل بما عُرف له من فضل التقدم في علوم العربية.٢٩
وقد تم اختراع الخليل لعلامات الحركات ثم تنقيط الحروف المتشابهة في الصورة في أواخر القرن الأول الهجري على يد تلامذة أبي الأسود الدؤلي، فقد قام «نصر بن عاصم الليثي» (ت٨٩ﻫ/٧٠٧م)، و«يحيى بن يَعمر» (توفي قبل ١٢٩ﻫ)، بوضع النقاط على الحروف أزواجًا وأفرادًا، فوضعوا للباء واحدة من أسفل، وللتاء اثنتين من أعلى، وهكذا في بقية الحروف على ما نجده اليوم في كتاباتنا.٣٠
وبعد أن ابتكر «نصر بن عاصم» و«يحيى بن يَعمَر» طريقة تمييز الحروف المتشابهة بواسطة نقط الإعجام، ظهرت مشكلة اختلاط نقاط الحركات بنقاط إعجام الحروف، على الرغم من اختلاف لون كل منهما؛ إذ إن نقاط الإعجام بلون الكتابة نفسها، بينما نقاط الحركات بلون آخر، وقد استطاع الخليل أن يحل الإشكال حين جعل الحركات حروفًا صغيرة بدل النقط؛ فالضمة واو صغيرة فوق الحرف، والكسرة ياء صغيرة مزودة تحت الحرف، والفتحة ألف مائلة فوق الحرف.٣١
روى أبو عمرو الداني أن أبا الحسن بن كَيسان قال: «قال محمد بن يزيد: الشكل الذي في الكتب من عمل الخليل، هو مأخوذ من صور الحروف؛ الضمة واو صغيرة الصورة في أعلى الحرف، لئلَّا تلتبس بالواو المكتوبة، والكسرة ياء تحت الحرف، والفتحة ألف مبطوحة فوق الحرف.»٣٢ وذكر أبو الحجاج البَلَوي: «أن الخليل بن أحمد هو الذي بدأ التمدد والتشديد والرَّوم والإشمام، وأنه عمِل الشكل الذي على الحروف، وأخذه من صورة الحرف، فالضمة واو صغيرة الصورة أعلى الحرف لئلَّا تلتبس بالواو المكتوبة، والكسرة ياء تحت الحرف، والفتحة ألف مسطوحة (مبطوحة) فوق الحرف …»٣٣
ثم وَضع الخليل، إضافة إلى الحركات، علاماتٍ للهمزة والتشديد والرَّوم والإشمام؛ أما الرَّوم والإشمام فإنهما يتعلقان بحركات أواخر الكلمات عند الوقف خاصة، وقد تحدث «الداني» عن حقيقة كلٍّ من الرَّوم والإشمام، وقال: «فأما حقيقة الرَّوم فهو تضعيفك الصوتَ بالحركة حتى يذهب بذلك معظم صوتها، فتسمع لها صوتًا يدركه الأعمى بحاسة سمعه. وأما حقيقة الإشمام فهو ضمُّك شفتيك بعد سكون الحرف أصلًا، ولا يُدرك معرفة ذلك الأعمى؛ لأنه لرؤية العين لا غير، إذ هو إيماءٌ بالعضو إلى الحركة، فأما الرَّوم فيكون عند القُراء في الرفع والضم، والخفض والكسر، ولا يستعملونه في النصب والفتح لخِفَّتهما، وأما الإشمام فيكون في الرفع والضم لا غير، وقولنا الرفع والضم، والخفض والكسر، والنصب والفتح نريد بذلك حركة الإعراب المنتقلة وحركة البناء اللازمة.»٣٤

والسؤال الآن من أين استمدَّ أبو الأسود الدؤلي عملية تنقيط المصحف؟ هل هي تمثل إبداعًا عربيًّا أصيلًا، جاء على غير منوال؟ أم أن هناك أثرًا سُريانيًّا غلب على أبي الأسود الدؤلي في هذا الجانب؟

أعتقد أن ما قام به أبو الأسود الدؤلي في عملية تنقيط المصحف تشبه إلى حد كبير ما فعله السُّريان قبل ذلك في لغتهم، «فلقد ظلوا يستغنون بالحرف دون الحركات برهة طويلة من الزمان، ثم تنصَّروا، ونقلوا إلى لغتهم الكتب المقدسة، خصوصًا الأناجيل، وأرادوا ضبط كل كلمة منها عند قراءتها في الكنائس والبِيَع احترازًا من الخطأ، فإن الخطأ في تلاوة مثل هذه الكتب المحترمة فاحش، وقد يستلزم ما يوهم الكفر والزندقة في قارئها … ولما لم يكن للسُّريان بُدٌّ من الحركات، ولم تكن لهم سبيل إلى تغيير الأحرف ولا تغيير شكلها، فاقتصروا على رسم نقطة أو سطيرة صغيرة فوق الحرف أو تحته أو في وسطه؛ وبقيت الأحرف كما هي، فلم يغيروا أحرفًا، بل زادوا نقطًا أو سطيرات … ولقد حذا اليونان حذوهم في ذلك، فلما جاء العرب انتفعوا بذلك وأتقنوه وأصلحوه.»٣٥
ويلاحظ المستشرق «جويدي» أن المسلمين قد تأثروا بالسُّريان فيما اتخذوا لضبط لغتهم وإعرابها؛ ففي المصاحف القديمة من الجيل الثاني للهجرة تدل النقطة من فوق الحرف على الفتح، ومن تحته على الكسر، وفي وسطه على الضم، ثم صارت هيئة الحركات على ما هي عليه الآن.٣٦
ولقد استفاد «أبو الأسود الدؤلي»، بحكم وجوده بأرض العراق، وخاصة البصرة مع علي بن أبي طالب — رضي الله عنه — في ضبط النص القرآني، ومحاولة استبدالها بالحركات المستطيلة،٣٧ وهذا ما يُسمى بالنقط الإعرابي أو الضبط الإعرابي، وبيان أواخر الكلمات من فتح أو كسر أو ضم أو تنوين، ولذلك فلو كان أبو الأسود هو الذي ابتكر الحركات المستطيلة دون أية سوابق أو مؤثرات سريانية، لابتكرها عربية خالصة، أو تشير إلى أنها عربية على الأقل، كما فعل الخليل عندما طورها؛ فنقاط أبي الأسود عبارة عن نقاط تشبه حرف الخمسة أو السكون، كما ذكرها الرواة عن مخطوط المصحف الكوفي والموجود حاليًّا في دار الكتب المصرية، والذي كُتب على طريقة أبي الأسود الدؤلي.٣٨

ويجب ألا نخلط بين استفادة أبي الأسود الدؤلي في وضع النقاط عن السريانية التي طبقها على اللغة العربية واستعان بها، وبين النحو؛ فليس المقصود بهذه النقط النحو؛ فالنقاط التي استعملها أبو الأسود الدؤلي في كتابة المصحف، والتي قصدها كثير من الكتاب واعتقدوا أنها نحو أبي الأسود، وأصلها من السُّريانية، فالقائلون بهذا الرأي خلطوا بين شيئين: بين النحو وبين النقاط، فالنحو الذي قام به أبو الأسود له قصة مختلفة، سوف نتحدث عنها فيما بعد، أما «النقط» وإيجاد حركة الكتابة، وذلك مما استعاره الدؤلي من الكتابة السريانية، وهذا في رأينا لا يضير النحو العربي ولا يقلل من قيمته إطلاقًا.

(٢) صورة النحو العربي والشخصيات التي تُنسب إليها ريادة البحث النحوي في بداياته

ما زلت أومن، بل ربما أكثر من أي وقت مضى، بأن العلم، كما أكد بعض أساتذتنا المعاصرين: «يمر في انتقاله من مستوى الممارسة التلقائية العفوية إلى مستوى الصياغة النظرية لقواعد العلم، الأمر الذي قد يُحدث نوعًا من القطيعة المعرفية»؛٣٩ وهذه القطيعة أشبه ما تكون في نظري نوعًا من المغايرة النسقية، ولتوضيح ما يعنيه هذا المبدأ يمكن القول بأن أي علمٍ على الإطلاق قد مر في تاريخه بمرحلتين أساسيتين ومتميِّزتين: مرحلة الممارسة اليومية التلقائية، التي يغلب عليها الطابع الأيديولوجي، ومرحلة الصياغة النظرية للقواعد الأساسية والمبادئ العامة التي تجعل من المعرفة معرفة علمية بالمعنى الدقيق للكلمة. أو هو الانتقال مما هو ضمني إلى ما هو صريح وواضح؛ فالطفل أو الرجل الأُمِّي — على سبيل المثال — يستطيع كلاهما أن يستخدم اللغة استخدامًا صحيحًا نسبيًّا ودون حاجة إلى تعلم قواعد النحو الخاصة بهذه اللغة أو تلك، ولو سألنا أحدهما أن يستخرج لنا قواعد اللغة التي يتحدث بها، وأن يصيغها صياغة نظرية، لما كان هذا في إمكانه، والسبب في ذلك أننا ننقله في هذه الحالة من مستوى الممارسة اليومية للغة إلى مستوى الصياغة النظرية لقواعدها، والانتقال هنا هو انتقال من مستوى الممارسة اليومية العفوية للمعرفة إلى مستوى الوعي بالقواعد النظرية التي تنظم هذه المعرفة، وقد أصبحت علمًا، وهذا الانتقال من المستوى الأول إلى المستوى الثاني لا يتم إلا عن طريق «قطع الصلة» (إلى حد ما) بالممارسات اليومية ذات الطابع الحدسي والتلقائي التي تسيطر على المعرفة قبل أن تتحول إلى علم، والقطيعة المعرفية (أو المغايرة النسقية) هي «التغير الذي ينتج عنه أمر جديد كل الجدة، ولكنها عبارة عن مسار معقَّد متشابك الأطراف، تنتج عنه مرحلة جديدة متميزة في تاريخ العلم»؛٤٠ ومعالم تلك القطيعة (أو المغايرة) يمكن تتبعها على ثلاثة مستويات: «مستوى لغة العلم من جانب، ومنهجه من جانب آخر، ومستوى نظرية العلم من جانب ثالث.»٤١

(٢-١) والسؤال الآن: هل يمكن تطبيق هذا المبدأ على النحو العربي في مرحلة نشأته؟

يذهب غالبية مؤرخي النحو، سواء القدماء منهم والمعاصرون إلى أن النحو هو «علم بأصول تُعرَف بها أحوال الكلمات العربية من حيث الإعراب والبناء؛ أي من حيث ما يَعرِض لها في حال كونها مفردة أو مركبة»؛٤٢ وأن «سيبويه» أول من صاغ، بطريقة علمية، نظرية هذا العلم الذي سبق تاريخيًّا كل العلوم في التأسيس؛ حيث يمثل كتاب سيبويه أفضل «صورة لما وصل إليه التقدم العلمي في النحو في أواخر القرن الثاني الهجري، لأن الكتاب ثمرة لهذه الجهود المتصلة في تلك المادة منذ أن بدأها أبو الأسود، وهو (يمثل كذلك أفضل) صورة لما كانت عليه دراسة النحو، في ذلك الحين من التعليل والقياس والاستنباط والتفريع واستيعاب الفروض … وهو الكتاب الأول والأخير في النحو، فالكتاب سِجِل لقواعد النحو، وقف العلماء عنده، ولم يزيدوا عليه، وكل من جاء بعده جعل الكتاب أساس دراسته.»٤٣ وبهذا يُعَد سيبويه بشهادة الكثير من الباحثين والدارسين «أهم تلميذ للرعيل الأول من أئمة اللغة؛ كما يعد أول عالم يكرس مجهوده الذهني بصورة متخصِّصة، إلى حد كبير، في الدرس النحوي بمعناه الواسع، فليس من شك في أنه قد مهد بذلك الطريق للمباحث النحوية، وهو أمر لم نعهده من قبل.»٤٤
ومع احترامنا لهذا الرأي، إلا أن المنطق والتاريخ يؤكدان أن الناس لم ينتظروا صياغةً لقواعد النحو حتى يفكروا، والإنسان حيوان مفكر منذ أن وُجد على سطح الأرض. النحو كعلم يفترض — مسبقًا — المقدرة على الاستخدام المسبَق للغة، فالعلم أيًّا كان لا يبدأ إلا حين يتجه المفكر إلى الواقع العملي لهذا العلم، وواقع النحو العربي، وخاصة في بداياته الأولى، يُكذب ذلك وينفيه، فحتى الآن لم ينكشف لنا الفهم الصحيح لطبيعة المرحلة التي تُنسب إليها نشأة الدراسات النحوية، ولا فهم لطبيعة اللغة العربية التي تتناول نشأة نحوها بالدرس والبحث والاستقصاء؛ إذ قبل «سيبويه» لم تكن معالم الدرس النحوي واضحة، ولم يكن له تخطيط معين ولا منهج محدد؛ ﻓ «لا يزال الباحث في حيرة من أمر النحو العربي، ومن الظروف التي لابست نشأته، فلا القدماء أماطوا اللثام بطريقة معقولة عن هذا الغموض الذي لا نزال نُحِس به، ونتعثر في دياجيه، ولا المحدَثون استطاعوا أن يتناولوا هذه المسألة بطريقة جدية فيتعمقوا فيها بعد أن يمهدوا لها بالدراسة الواسعة، والتفكير الحر، والمنطق السليم.»٤٥

ولذلك نحاول، بقدر استطاعتنا، أن نناقش نشأة النحو بطريقة منهجية، ونبدأ حديثنا بمناقشة الشخصيات التي يُعزى إليها نشأة النحو، فنتساءل: مَن صاحب الفضل في نشأته؟ أهو أبو الأسود الدؤلي، أم علي بن أبي طالب — كرم الله وجهه — أم شخصيات أخرى مثل نصر بن عاصم أو عبد الرحمن بن هُرمُز (ت١١٧ﻫ)؟

لقد اختلف المؤرخون في أول مَن وضع أبوابًا من النحو أو تحدث فيه، وظهرت روايات متعددة بخصوص هذا الموضوع، يمكن إجمالها كالآتي:
  • الرواية الأولى: يرى أصحابها أن الإمام علي بن أبي طالب هو الواضع الأول لعلم النحو.
  • الرواية الثانية: يرى أصحابها أن أبا الأسود الدؤلي هو الواضع الأول لعلم النحو بمشاركة نصر بن عاصم الليثي وعبد الرحمن بن هرمز.
  • الرواية الثالثة: يرى أصحابها أن أبا الأسود وحده هو الواضع الأول لعلم النحو.

ولا بد لنا قبل تحديد هذا الوضع من أن نعرض لهذه الروايات، ومَن قال بها.

أما بخصوص الرواية الأولى، فقد وردت في كتب علماء القرن الرابع الهجري وما بعد ذلك، ورددتها المصادر التي تلت ذلك التاريخ؛ حيث ينقل لنا «الزَّجَّاجي» في «أماليه» رواية عن أبي الأسود الدؤلي أنه قال: «دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب — رضي الله عنه — فرأيته مُطرِقًا مُفكرًا، فقلت: فيمَ تفكر يا أمير المؤمنين؟ قال: إني سمعت ببلدكم هذا لحنًا فأردت أن أضع كتابًا في أصول العربية، ثم أتيته بعد أيام فألقى إليَّ صحيفة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، الكلام: اسم، وفعل، وحرف. فالاسم ما أنبأ عن المسمَّى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمَّى، والحرف ما أنبأ عن معنًى ليس باسمٍ ولا فعل، ثم قال: تتبَّعه وزد فيه ما وقع لك، واعلم أن الأشياء ثلاثة: ظاهر ومضمَر، وشيء ليس بظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بمضمر ولا ظاهر. قال أبو الأسود: فجمعت منه أشياء وعرضتها عليه، فكان من ذلك حروف النصب، فذكرت فيها إنَّ، وأنَّ، وليت، ولعل، وكأنَّ، ولم أذكر لكنَّ، فقال لي: لمَ تركتها؟ فقلت: لم أحسبها منها. فقال: هي منها فزدتها فيها.»٤٦
ونفس الشيء يؤكده «ابن الأنباري» فيقول: «الصحيح أن أول من وضع النحو الإمام علي — رضي الله عنه — لأن الروايات كلها تُسنَد إلى أبي الأسود، وأبو الأسود يُسنِد إلى علي … وسبب وضع علي — رضي الله عنه — لهذا العلم ما روى أبو الأسود، قال: دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب — رضي الله عنه — فوجدت في يده رقعة، فقلت: ما هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: إنِّي تأملت كلام الناس فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء (يعني الأعاجم)، فأردت أن أضع لهم شيئًا يرجعون إليه ويعتمدون عليه، ثم ألقى إليَّ الرقعة وفيها مكتوب: «الكلام كلُّه اسم، وفعل، وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمَّى، والفعل ما أُنبئ به، والحرف ما جاء لمعنُى.» وقال لي: «انحُ هذا النحو وأضف إليه ما وقع إليك».»٤٧
ويعتمد الشيخ محمد الطنطاوي، في كتابه «نشأة النحو وتاريخ أشهر النُّحاة» هذا الرأي، ويعلل بأن ابن الأنباري: «أغناهم بهذا المقام، وقد سرد معظم نقول السابقين عليه مع جودة الترتيب، فذكر مختارَه أولًا مع روايتين في سبب وضع على — كرَّم الله وجهه — ثم ذكر مختارَ غيره مع روايات أربع في سبب وضع أبي الأسود — رضي الله عنه — ثم عاد مصرحًا برُجحان اختياره.»٤٨
وممن أكد نشأة النحو على يد الإمام علي أيضًا الزبيدي في «طبقات النحويين واللغويين» حيث يروي أنه قال: «تلقيته من علي بن أبي طالب — رحمه الله»، وفي رواية أخرى قال: «ألقى إليَّ علي أصولًا احتذيت عليها.»٤٩ أمَّا ابن النديم في «الفهرست»، فيقول: «زعم أكثر العلماء أن النحو أُخِذ عن أبي الأسود الدؤلي، وأن أبا الأسود أخذ ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.»٥٠
وهنالك شهادات أخرى كثيرة سجلها لنا القدماء غير ما ذكرنا عن «الزَّجَّاجي» و«الأنباري» و«الزبيدي» و«ابن النديم»، تؤكد إشارة الإمام «علي» — رضي الله عنه — وإرشاده وتوجيهه؛ فالسيوطي يقول وينقل ما يلي: «اشتهر أن أول من وضع النحو علي بن أبي طالب — رضي الله عنه — لأبي الأسود، قال الفخر الرازي في كتابه «المحرر في النحو»: «رسم علي — رضي الله عنه — لأبي الأسود باب «إنَّ»، وباب الإضافة، وباب الإمالة، ثم صنف أبو الأسود: باب العطف، وباب النعت، ثم صنف باب التعجب، وباب الاستفهام.» وتطابقت الروايات على أنَّ أول من وضع النحو أبو الأسود، وأنه أخذه أولًا عن علي.»٥١ ووضح ذلك أيضًا أبو الطيب اللغوي في «مراتب النحويين» قائلًا: «أخذ ذلك عن أمير المؤمنين «علي» — رضي الله عنه — لأنه سمع لحنًا فقال لأبي الأسود: اجعل للناس حروفًا. وأشار له إلى الرفع، والنصب، والجر.»،٥٢ وابن كثير الدمشقي في «البداية والنهاية» يذكر: «إنما أخذه عن أمير المؤمنين علي بن طالب … ذكر له الإمام: «الكلام: اسم، وفعل، وحرف.» وإنَّ أبا الأسود نحا نحوه …»٥٣ وابن خلكان في «وفيات الأعيان» يوضح أيضًا أن «الإمام علي — رضي الله عنه — وضع له أقسام الكلام، ثم رخصه إليه وقال له: تمم على هذا.»٥٤
أما بخصوص الرواية الثانية التي تَنسب وضع النحو إلى أكثر من واحد فهي متأخرة، يقول أبو سعيد السِّيرافي: «اختلف الناس في أول من رسم النحو، فقال قائلون «أبو الأسود الدؤلي»، وقال آخرون «نصر بن عامر الليثي»، وقال آخرون «عبد الرحمن بن هُرمُز»، وأكثر الناس قالوا أبو الأسود.»٥٥ وسار في قوله الزبيدي، الذي زاد على قول السيرافي: «فوضعوا للنحو أبوابًا، وذكروا عوامل الرفع، والنصب، والخفض، والجزم، ووضعوا أبواب الفاعل، والمفعول، والتعجب، والمضاف.»٥٦ ثم تابعهما من جاء بعدهما ممن قال بهذا القول.
والذي يبدو من هاتين الروايتين أن تعاصُر هؤلاء الثلاثة كما يرى بعض الباحثين هو السبب المباشر في التباس الأمر على المؤرخين اللذَين جاء أولهما بعد أبي الأسود بثلاثمائة سنة، وهي كافية للاختلاق والتزيد، أما «الزبيدي» فيبدو أنه أخذ ما نسب وضعها إلى أبي الأسود إلى هؤلاء جميعًا لكي تتم لهم المشاركة والمتابعة له في تطبيق نقط المصحف وهي نقط الإعراب.٥٧
أما فيما يتعلق بالرواية الثالثة التي تؤكد ذلك، فهي تفرُّد أبي الأسود الدؤلي بأنه واضع علم النحو، فقد أثبت له المؤرخون وكُتَّاب التراجم والباحثون في الأعمال القرآنية نَقْط الإعراب، وكانت جميع روايات المؤرخين تذكره عند تعرضها لوضع النحو، سواء أذكرته وحده، أم مع الإمام «علي»، أم مع معاصريه، وقد كان ذلك منذ أول نص وصل إلينا يتحدث صاحبه فيه عن النحو والنحاة حتى يومنا هذا.٥٨
كان أول من تعرَّض للحديث عن نشأة النحو ابن سلام الجُمَحي، قال: «وكان أولَ من أسس العربية، وفتح بابها، وأنهج سبيلها، ووضع قياسها أبو الأسود الدؤلي.»٥٩ ويذكر أبو الطيب اللغوي روايات أخرى تُجمِع على أن أبا الأسود هو الواضع لعلم النحو، ولا تشير إلى الإمام — رضي الله عنه — أو غيره،٦٠ وذكر أبو سعيد السِّيرافي بعد الرواية التي تشير إلى اختلاف الناس في واضع النحو روايات متعددة تُجمِع على أن أبا الأسود هو الواضع لعلم النحو بعد قوله في الرواية السابقة «وأكثر الناس على أبي الأسود.»٦١ ونفس الشيء ذهب إليه ابن قُتيبة في «الشعر والشعراء»، إذ يجعله «أول مَنْ عمل في النحو كتابًا.»٦٢

ويمكن أن نُعلق على الروايات الثلاث؛ ففيما يتعلق بالرواية الثانية والثالثة التي تعزو وضع النحو إلى «أبي الأسود الدؤلي» بمشاركة «نصر بن عاصم الليثي» و«عبد الرحمن بن هرمز» والإمام «علي بن أبي طالب»، أو تفرده بوضع النحو، فإننا نقول، استنادًا إلى الروايات الكثيرة الواردة في وضع أبي الأسود للنحو، إن أبا الأسود هو الذي يصح أن يُعَد واضع النحو والمؤسس الحقيقي له، وذلك لما لهذا الرجل من علم واسع في علوم العربية، واطلاع غزير على مسائلها، زد على ذلك أنه وضع أول نَقط يحرِّر حركات أواخر الكلمات في القرآن الكريم، علاوة على أن أبا الأسود هو البادئ بوضع هذا العلم بتدوين شيء من أصوله وضوابطه، ولا يعنينا إن كان عمله هذا بدافع ذاتي أو بحَثٍّ من الإمام علي أو زياد أو ابنه عُبيد الله.

وأما فيما يتعلق بالرواية الأولى، التي تعزو وضع النحو لعلي بن أبي طالب — رضي الله عنه — فإننا لا نؤيد أن يكون الإمام علي هو من وضع علم النحو كما قالت الروايات في هذا الصدد، وذلك لأن «الأعباء التي كان يضطلع بها الإمام علي بن أبي طالب — رضي الله عنه — أثقل من أن تُتيح له التفكير في وضع النحو؛ إذ كان — كرم الله وجهه — موزعَ الجهد والفكر لتثبيت دعائم الدولة، وإقامة أحكام الدين، وتدبير شئون الرعية، وإحباط المكائد.»٦٣
وننتقل إلى نقطة أخرى نوَدُّ أن نناقشها، وهي تتعلق بعملية نشأة القاعدة النحوية، فمن المعروف أن النحو العربي قد مر في نشأته بمرحلتين:
  • المرحلة الأولى: ضبط النص القرآني، وكانت هذه المرحلة العاجلة التي تطلبت حلًّا سريعًا، ولقد كان هذا الحل — الذي قام به أبو الأسود الدؤلي — خطوة تمهيدية لنشأة القواعد اللغوية، بيد أنها مع ذلك جوهرية، ولقد اتسم ضبط النص القرآني — الذي اصطُلِح عليه فيما بعد بنَقط الإعراب — بالضرورة باعتبار أن الحاجة العاجلة إلى العربية لغة إنما تنطلق من الرغبة في صحة التعامل مع النص الديني أداءً، وهذه الرغبة متصلة أوثق الاتصال بالعقيدة، ومن ثم كان يشتد إلحاحُها مع اتساع دائرتها، وازدياد انتشارها.٦٤
  • المرحلة الثانية: الانتقال إلى التصدي المباشر للمشكلة اللغوية، ولقد بدأت هذه المرحلة عقب الانتهاء من المرحلة السابقة؛ إذ لفت نظر أبي الأسود أثناء ضبطه للنص القرآني هذا الاختلاف في الحركات في أواخر الكلمات، وليس من المستبعد أن يحاول أبو الأسود إيجاد تصنيف من نوعٍ ما لهذه الحركات، بل لقد صنفها بالفعل إلى: مضمومات، ومفتوحات، ومكسورات؛ منونة، وغير منونة. وهكذا أدرك أبو الأسود ظواهر التصرف الإعرابي، وإن لم يستخدم بالضرورة المصطلحات التي وُضعت له من بعد، وكان هذا الإدراك نقطة البدء في التفكير في ظواهر اللغة، ومن ثم التناول الموضوعي لهذه الظواهر.٦٥
وهكذا أثمرت الخطوة الثانية، التي تم فيها التصدي لمواجهة تحديد المشكلة اللغوية — بعد فترة طويلة من المعاناة في استكشاف ظواهر اللغة، وتحديدها، والتردد في تصنيفها وتشكيلها — وضعَ قواعد النحو، تلك القواعد التي أتيح لها أن تنمو وتتطور وتنضج وتستقر، حتى يصيبها الاستقرار بما يصيب كافة الظواهر من تجمُّد واحتراز، وهذه القواعد، كما قلنا من قبل، قد انفرد بروايتها «الزَّجَّاجي»، وهو أحد نحاة القرن الرابع الهجري، حين نسب علم النحو إلى الإمام علي بن أبي طالب من خلال الرواية التي ذكرناها له من قبل، عندما دخل عليه «أبو الأسود الدؤلي» وبدأ يُملِي عليه أبواب النحو؛٦٦ وهذه الرواية تناقلها المؤرخون بعد ذلك بنصها، فوجدنا «ابن الأنباري»، وهو أحد نحاة القرن السادس الهجري، في كتابه «نزهة الألبَّاء»؛٦٧ وكذلك كلًّا من ياقوت الحموي (ت٦٢٦ﻫ) في كتابه «معجم الأدباء»،٦٨ والقفطي (ت٦٤٥ﻫ) في كتابه «إنباه الرواة»،٦٩ وهما من نحاة القرن السابع الهجري، وعنهما سار كل النحاة الباحثين عن نشأة النحو يعولون على روايتهما.

وهذا الأمر يجعلنا نتساءل: كيف تسنى لعصر أبي الأسود أو الإمام علي (والذي أطلقنا عليه بأنه يمثل المرحلة الوصفية من نشأة علم النحو) أن يحمل كثيرًا من التعريفات، والتقسيمات، والأبواب، في النحو؟ من أين جاء تقسيم الكلام إلى أسماء، وأفعال، وحروف، ثم يضع لكلٍّ منها تعريفًا؟! وكذلك تقسم الأسماء إلى ثلاثة: ظاهر، ومضمَر، ومبهَم، ويوضع لكلٍّ منها تعريفًا، ثم يُضرب لها أمثلة؟! وكذلك تُوضع أبواب في النحو عديدة منها: باب الفاعل، والمفعول، والتعجب، والمضاف، وأدوات الرفع، والنصب، والجر، والجزم، والنعت، والاستفهام؟! وليت الأمر وقف عند ذلك، بل رأينا الكثير من كلام بعض المؤرخين ما يُفهم منه أنه قد وضعت أبواب النحو جميعًا وبتمامها؟!

إنني أعتقد بأن هذه الرواية التي رواها «الزَّجَّاجي»، ومن بعده «ابن الأنباري»، و«ياقوت الحموي»، و«القفطي» عن نشأة النحو، وأجمع على ذكرها جميع النحاة المتأخرين بعد ذلك، قد حملت في تقسيم أبواب النحو بُعدين: بُعدًا شيعيًّا، وبُعدًا منطقيًّا، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:

(أ) البُعد الشيعي

وهذا البُعد رجحه الكثير من أساتذة النحو المعاصرين؛ حيث رأوا أن كل الروايات التي رواها المؤرخون بداية من القرن الرابع الهجري وما بعده، والتي أكدت على أن «علي بن أبي طالب» — رضي الله عنه — هو الذي قسم أبواب النحو، حملت بُعدًا شيعيًّا، فوجدنا مثلًا بعض الباحثين المعاصرين المتعصبين للفكر الشيعي أثناء تعليقه على روايات النحاة المتأخرين، يقول: «والذي نراه أن الإمام «علي بن أبي طالب» — رضي الله عنه — لم يكن شخصًا اعتياديًّا، بل هو إمام معصوم، نشأ نشأة عربية خالصة، وتربى على يد الرسول الأكرم «محمد» ، فليس غريبًا أن يوجه أبا الأسود الدؤلي ويُرشده ويشرف عليه في وضع اللبنة الأولى للنحو العربي. وكثرة المعارك التي شهدها عصره لم تعفه من هذه المهمة الجليلة، فالإمام خاض المعارك ضد المشركين والمنافقين والطامعين من أجل إعادة الناس إلى جوهر الإسلام ولب العقيدة. ووضع القواعد النحوية جزءٌ لا يتجزأ من واجباته التي يراها ضرورية لحفظ القرآن الكريم، وتنقيتها من الشوائب واللحن والفساد، وقدراته في العربية غير خافية على أحد، وتُعد خُطبه التي جمعها «الشريف الرضي» (ت٤٠٦ﻫ) فيما بعد خير دليل على ما نقول، ففيها من براعة الأسلوب ومتانة اللغة ما يدل على علو باع الإمام علي بدقائق اللغة، ومعرفة دقائق مسائلها.»٧٠
وإلى مثل هذا الرأي ذهبت الدكتورة «خديجة الحديثي» في كتابها «الشاهد وأصول النحو في كتاب سِيبَويه»، ولكنها لم تنسب ذلك إلى التشيع، وإنما إلى أن أبا الأسود ربما نسب ما فعله إلى الإمام «علي» ليضفي عليه صفةً دينية؛ وفي هذا تقول: «ومثل هذه الرواية القائلة بأن الإمام «علي بن أبي طالب» هو الواضع الأول لعلم النحو، لأن الصحابة الأوائل، وعلى رأسهم علي — رضي الله عنه — لم ينصرفوا إلى هذه الناحية، إنما كان جل همهم مُنصَبًّا على تثبيت أركان الإسلام ونشره خارج الجزيرة العربية، والذي نراه أنه كان من بين الذين حثُّوا «أبا الأسود» إلى ما وضعه مما اشتهر به من نَقط المصحف، والذي هو جزء من الإعراب والنحو، لما عرف عنه من ملازمته إياه واتصاله الدائم به، وقد يكون «أبو الأسود» نفسه هو الذي وضع النحو للإمام «علي» حتى يشتهر ما وضعه ويأخذ به الناس بعد أن يكتسب صبغة دينية تبين قيمة هذا العمل الذي قام به.»٧١
ومن جهة أخرى تؤكد الدكتورة «خديجة» في كتابها «المدارس النحوية» حين قالت: «إنه من غير المعقول أن يكون الإمام «علي»، قد وضع أول ما وضع هذه التحديدات والرسوم والتقسيمات الناضجة المحددة للكلام وأقسامه، وتحديد كل قسم بلا أمثلة، إنما بتحديد نظري لم نجد مثله في كتاب سِيبَوَيه، الذي جاء بعد «علي» — رضي الله عنه — بمائة وأربعين سنة، وكذا تقسيمه الأشياء أو الأسماء إلى ظاهر ومضمر غيرُ منطقي وغير معقول وُجودُه في زمن كزمن الإمام «علي». أما وضع أبي الأسود لحروف النصب ونسيانه «لكنَّ» وقول الإمام «علي» له: هي منها فزِدها فيها، فيدل على أن النحو قد بلغ في أيامهما أوجَ نضجه واكتماله؛ لهذا فالرواية غير واقعية ولا مقبولة.»٧٢ وسار على منهجها من التشكيك الشيخ «محمد الطنطاوي».٧٣
وبالسياق نفسه يحاول الدكتور «علي أبو المكارم» استبعاد أن يكون الإمام «علي» من أوائل الذين وضعوا النحو، محتجًّا بسببين؛ الأول: وضوح الهدف السياسي من نسبة هذه الأولية إليه، والثاني: أن طبيعة الظروف السياسية وعُمق التغيرات الاجتماعية التي جابهته كانت من العجلة بحيث فرضت عليه مواجهتها، وشغلت فكره عن الالتفات إلى غيرها.٧٤
وأما الدكتور «شوقي ضيف»، فقد أعلن أن «الروايات التي وردت بشأن نشأة النحو على يد أبي الأَسوَد أو الإمام «علي» تحمل تضاعيفها ما يقطع انتحالها لما يجري فيها من تعريفات وتقسيمات منطقية، لا يُعقل عن علي بن أبي طالب أو عن أحد معاصريه، ولعل الشيعة هم الذين نحلوه هذا الوضع القديم للنحو الذي لا يُعقل في شيء وأولية هذا العلم ونشأته.»٧٥
وذهب إلى مثل هذا المذهب الدكتور «أحمد مكي الأنصاري» في بحث له بعنوان «التيار القياسي في المدرسة البصرية»، فقال: «وإذا أردنا أن نناقش هذه الروايات — يعني نشأة النحو — مناقشة علمية هادئة هادفة، ينبغي أن نستبعد منذ البداية تلك الروايات التي تَنسب إلى الإمام «علي» — كرم الله وجهه — أنه هو الذي وضع النحو العربي، وليس معنى ذلك أن الإمام عليًّا أعجز من أن يضع مثل هذا النحو المفصَّل، ولكن لأن الزمن لا يلائم هذا التفصيل المنطقي، كما أن الإمام «عليًّا» كان مشغولًا بما هو أهم من ذلك بكثير في تلك الظروف السياسية المضطربة، التي كانت في أمَسِّ الحاجة إلى جهود متكاملة.» ثم ذهب الدكتور «الأنصاري»، وهو يحاول أن يرد الروايات التي نسبت وضع النحو إلى الإمام علي، إلى أن «نسبة الوضع التفصيلي للإمام علي جاءت من فكرة التشيُّع التي تنسب إليه دائمًا عظائم الأمور، في حين أن مكانته العظيمة في غنًى عن مثل هذا الانتحال الواضح، ولكن العصبية المذهبية تطغى على العقول، ومن يدري لعل أبا الأَسود نفسه هو الذي نسب ذلك إلى الإمام علي؛ إرضاءً للنزعة الشيعية المتعمِّقة.»٧٦

(ب) البُعد المنطقي

هناك فريق آخر من الباحثين والمفكرين يرون أن الروايات التي أجمع المؤرخون على ذكرها في نشأة النحو والمنسوبة إلى الإمام «علي» تدل على احتمال وقوفه على تقسيم الكلِم، إلى اسم وفعل وحرف، على المنطق الأرسطي المتداوَل لدى أهل العراق؛ إذ كيف يتصور المرء أن إنسانًا مثل الإمام «علي» يستطيع أن «يجلس بمفرده، ثم يجيل النظر في محيط اللغة التي يتكلم بها قومه، وهو غير مُسلَّح بعلم سابق باللغات ولا بمعرفة مُسبَقة بقواعدها، ثم تنثال عليه المعرفة ويستخرج منها بنفسه القواعد المذكورة، ثم يضع لأبوابها تلك الأسماء التي لا يمكن لأحد وضعها (لأنها تحتاج إلى شخص لديه معرفة بقواعد اللغات عند الأمم الأخرى) لأنها مصطلحات علمية منطقية، ولا يمكن أن تخرج من فم رجل لا علم له بمصطلحات علوم اللغة والمنطق، ولأنها ليست من الألفاظ الاصطلاحية البسيطة التي يمكن أن يستخرجها الإنسان من اللغة بكل سهولة وبساطة حتى نقول إنها حاصل ذكاء وعقل مُتَّقِد، وكيف يُعقل أن يتوصل رجل إلى استنباط أن الكلمة: إما اسم، أو فعل، أو حرف، ثم يقوم بحصرها هذا الحصر، الذي لم يتغير ولم يتبدل حتى اليوم، بمجرد إجالة نظر وإعمال فكر، من دون أن يكون له علم بهذا التقسيم الذي تعود جذوره إلى قبل الميلاد، ثم كيف يتوصل إلى إدراك القواعد المعقَّدة الأخرى التي لم يبتدعها إنسان واحد، وإنما هي من وضع أجيال وأجيال، إذا لم يكن له علم بفلسفة الفعل، وعمل الفاعل، وما يقع منه الفعل على المفعول، وكذلك الأبواب المذكورة التي لا يمكن أن يتوصل إليها عقل إنسان واحد أبدًا.»٧٧
ومن هنا يمكننا القول بأنه بغض النظر عن الجهة العليا التي أشارت إلى «أبي الأسود» أن يضع مبادئ هذا العلم، فإن الرواية المنسوبة إلى الإمام «علي» رواية لا تتفق مع طبيعة العلوم ونشأتها، التي تبدأ بالملاحظة أولًا، لا بصياغة المصطلحات والحدود، وذلك يؤكد أن هذه الرواية موضوعة على لسان الإمام «علي»، لأن عصر «أبي الأسود الدؤلي» كان عصر ولادة النحو (أي المرحلة الوصفية)، وليس عصر نضوجه (المرحلة الاستنباطية)، بل إن المتأمل في رواية «الزَّجَّاجي» وما تلاها من روايات يجد أنها تتضمن قضايا نحوية ثلاث: فهي تتناول أولًا تقسيم الكلام إلى اسم وفعل وحرف، ثم تعرف كل قسم منها، ثم تتحدث ثانيًا عن أقسام الأسماء، ثم ثالثًا بذكر حروف نصب الأسماء. وبشيء من التأمل يتضح أن كل واحدة من هذه المسائل الثلاث تتطلب قُدرة على التجريد والتقعيد معًا، وهو ما لم يكن في عصر الإمام «علي» و«أبي الأسود»، وقد استغرق الوصول إلى مثل هذه النتائج التفصيلية أجيالًا كثيرة، حتى عصر «سِيبَوَيه»، بل إن سيبويه نفسه، الذي يفصل بينه وبين الإمام «علي بن أبي طالب» قرابة قرن ونصف قرن، لم يستطع أن يصل إلى هذه الدقة من التفاصيل التي نُسبت إلى «علي» وعصره.٧٨
فسِيبَوَيه في كتابه لم يُعرِّف الاسم بما ذُكر في رواية «الزَّجَّاجي»، التي تقول: الاسم ما أنبأ عن المسمَّى، ويحدُّ سيبويه الاسم بقوله: «فالاسم: رجل، وفرس، وحائط.»٧٩ فلم يذكر سِيبَوَيه ما ذكرته هذه الرواية المزعومة عن الاسم ووظيفته، ولذلك فإنني أؤيد قول القائلين عن هذه الرواية التي رواها الزَّجَّاجي وغيره أنها «حديث خُرافة، وطبيعة زمن «علي» و«أبي الأسود» تأبى هذه التعاريف وهذه التقاسيم الفلسفية، والعلم الذي ورد إلينا من هذا العصر في كل فرع علم يتناسب مع الفِطرة، ليس فيها تعريف ولا تقسيم، وإنما هو تفسير آية أو جمع لأحاديث، ليس فيه تبويب ولا ترتيب، فأما تعريفٌ أو تقسيمٌ منطقي فليس في شيء مما صح نقله إلينا عن عصرهما.»٨٠
فالعلوم لا تُولَد مكتملة النمو، بل تنشأ ساذَجةً مبعثرة، ثم تنمو وتكتمل، وما ذُكر في هذه الرواية المزعومة من تبويب وتقسيمات منطقية لا تصح إلا بعد النمو والاكتمال، يخالف طبيعة الأشياء في النشأة والتكوين، ثم النمو والارتقاء.٨١
نعم إنه من السذاجة تصوُّر أن النحو العربي قد حمل في نشأته الباكرة على يد «أبي الأَسوَد» أو الإمام «علي» حدًّا من التطور فاق كل تطور حققه من بعد طوال أكثر من قرنين، لأن هذا يجعلنا نصطدم بعقبة أبستمولوجية، وهذه العقبة تتمثل في أن فصل المقال في العلم يؤدي إلى فصل المقال في المنهج؛ الأمر الذي ينجم عنه الاصطدام بظاهرتين متناقضتين؛ الأولى أن: «النحو قد نشأ متطورًا؛ حتى إنه يناقش في مرحلة نشأته ظواهر بالغة الدقة، وقضايا غاية في التفصيل، في حين أنه — وهذه هي الظاهرة الثانية — قد جمد بعد ذلك، بحيث لم يستطع أن يضيف جديدًا من أبواب النحو، ولا أن يُدرك مزيدًا من ظواهر اللغة.»٨٢
ولا شك أن هذا كله ضد منطق التطور الطبيعي، فليس معقولًا أن ينبثق فجأة علمٌ يتصل باللغة، متكامل المنهج، محدد الظواهر والأبعاد، دون سابق معاناة في تحديد ظواهره، وبلورة أبعاد قضاياه، وذلك لأن اللغة ظاهرة اجتماعية، وتحليل الظواهر الاجتماعية يتطلب مرحلة طويلة من المعاناة في تناول الظاهرة المدروسة، والتردد في تشكيلها طبقًا لتعدد علاقاتها وتنوعها، «ومن البديهيات في تاريخ الاختراع أن المنهج الجديد يندُر أن ينشأ فجأة من لا شيء، ويسبق الاختراع الفني عادة بتطورات في النظرية العلمية.»٨٣
إن العقلانية تفرض علينا بأن نؤمن بأن القواعد اللغوية لا بد من أن تمر بمرحلتين:
  • المرحلة الأولى: مرحلة الممارسة العَفوية أو الإدراكات التلقائية لوجود قواعد، وهو إدراك نستطيع أن نصفه بأنه تطبيقي أكثر منه تجريدي، أي أنه يتم من خلال استيعاب النماذج اللغوية، وليس بالبُعد عنها، وهو السبب في قبول ما يقبل من هذه النماذج، ورفض ما يرفض فيها، من غير تبرير ذهني مقبول أو مرفوض، ثم هو إدراك يمكننا أن نسميه جزئيًّا وليس كُليًّا، فإنه قد لا يستطيع أن يصل إلى حُكمٍ عام يشمل أحداثًا لُغوية متعددة، بيد أنه قادر دائمًا على التعامل مع الأحداث اللغوية المتعددة، كما حدث منها، على حدة؛ بالتصويب أو بالتخطئة، وهو إدراك في مقدرونا أن نوسع دائرته بحيث يوشك أن يكون «صفة للمتمكنين» من اللغة، وليس خَصِيصة لفريق من الباحثين فيها.٨٤
  • المرحلة الثانية: مرحلة الوعي العقلي، وهي مرحلة تتميز بالرؤية التجريدية التي تحكم كل تطبيق، وهي رؤية قادرة على الإحاطة الشاملة دون أن نَتيه في خِضَم الجزئيات، ولكنها — في مقابل ذلك — محدودة في نطاق الباحثين في اللغة، وليس صفة لكل الناطقين بها، ومرحلة الوعي العقلي لا تتسم بالقِدَم كما تتسم بذلك مرحلة الإدراك العفوي التلقائي، فإن هذه المرحلة الأخيرة هي التي تحفظ للُّغة قدرتها على البقاء والاستمرار، وتصونها من الاضطراب، وتنأى بنشاطها عن التخبُّط، ولا سبيل إلى تصور لغةٍ لا يكون لدى الناطقين بها إدراك لقواعدها، وإن كان — في مقابل ذلك — من الممكن بقاء اللغة، واستمرارها ونموها دون معرفة عقلية كاملة بقواعدها، ومرحلة الوعي العقلي بالقواعد متأخِّرة بالضرورة عن مرحلة الإدراك العفوي التلقائي لها، وهي مرحلة لا توجد فجأة ولا تنشأ في لحظة واحدة، ولا تتم بأساليب غيبية، فإن كل ذلك يختلف مع طبيعة المادة التي تتناولها، وهي «اللغة»، فإن محاولة الإحاطة بالخصائص اللغوية لأي مستوًى من مستوياتها يتطلب قدرةً على التجريد وعلى التقعيد معًا.٨٥
والقدرة على التجريد تستلزم التزام منهج فكري يعتمد على كلية النظرة، حتى يستطيع أن يُصدر أحكامًا شاملة تتناول المادة بأسرها، دون أن يُضلله عن ذلك الركام الهائل من جزئيات المادة، وصورها المشتقة المبعثَرة، كما تستلزم في الوقت نفسه إحاطة دقيقة بالجزئيات، بحيث يرتكز تحليله لما بينها من علاقات على إدراك حقيقي لها، وهكذا تتسم النظرة الكلية بالشمول، وتصدر — في الوقت نفسه — عن إدراك تفصيلي، فهل كانت هذه القُدرة متوافرة في عصر أبي الأسود؟ من الواضح أن المادة اللغوية التي كانت محور دراسة «أبي الأَسوَد» محصورة في النص القرآني، والنص القرآني — على أهميته الكبيرة — جزء من المادة اللغوية المستخدَمة في عصر «أبي الأسود الدؤلي» نفسه، ثم دراسة «أبي الأسود» له لم تكن قائمة على أساس تحليل ظواهره التركيبية؛ لافتقاره بالضرورة إلى منهج محدد لهذا التحليل، وإنما اعتمدت على مجموعة من الملاحظات العامة التي لا يمكن أن تُسلم إلى نتائج علمية محددة.٨٦
والقدرة على التقعيد تتطلَّب مقدرة على صياغة الظواهر، في تشابُكها وتعددها وتنوع علاقاتها؛ في قواعد تحيط بها وتدل عليها، دون أن تتسم هذه القواعد بالاتساع، فتضلل في فهم الظاهرة بما تُضيفه إليها من ظواهر أخرى دون أن تتصف بالقصور عن الإحاطة بأبعاد الظاهرة والإلمام بكل تفاصيلها، وهذا كله يستدعي نوعًا من الإدراك لهذه القوانين، نوعًا من التناقض مع طبيعة التفكير العلمي ذاته، وإذا كان النحو العربي حتى عصوره المتأخرة قد أضاف فهم النصوص وتفسيرها إلى النصوص ذاتها؛ فاعتُبر ما يقدم من هذا الفهم بما يقدمه من كلمات للشرح، وهذا التفسير بما يتضمنه من عبارات للتوضيح؛ جزءًا من النص يجب أن يوضع في الاعتبار حين التقعيد، مما أدى إلى اضطراب النحاة في فهم الظواهر المختلفة للغة، ومن ثم أسلم إلى الكثير من التناقض في التقعيد لها، ألا يصبح — بعد هذا كله — تصور القدرة على الصياغة التقعيدية للظواهر اللغوية في عصر أبي الأسود نوعًا من السذاجة، لا تؤيدها قضايا العلم نفسه.٨٧

(٢-٢) والسؤال الآن: أين تستمد المرحلة الوصفية لنشأة النحو العربي مشروعيتها إذا كانت الروايات التي رُويت بشأن نشأة النحو مشكوكًا في صحتها؟

أعتقد أن الأقوال التي قيلت بأن أبا الأسود الدؤلي كان أول من بدأ بالعمل على وضع قواعد النحو بعد توجيهات أولية من الإمام علي — رضي الله عنه — أقوال مشكوك في صحتها، وأن الحقيقة هي أن النحو الذي وضعه «أبو الأسود» لم يصل إلينا منه شيء — فيما حُفِظ من التراث النحوي — سوى إشارات عامة ذكرناها فيما مر، وليس فيها رأي محدد أو تفصيل لمسألة نحوية، ويصدق هذا الأمر أيضًا على جيلين بعد أبي الأسود؛ إذ لم يصل إلينا مما عملوا في النحو سوى نزر يسير، وبالتالي فإن المرحلة الوصفية لنشأة النحو تستمد مشروعيتها من خلال عملية إحداث النَّقط وضبط المصحف التي قام بها «أبو الأسود الدؤلي»، نتيجة وقوع اللحن في قراءة القرآن، والخوف من تزيُّد ذلك مع مرور الأيام، ومن حدوث التغيير والتحريف في نص القرآن؛ حيث كان الفكر الذي كان وراء نشأة النحو فكرًا إصلاحيًّا، كما يرى بعض الباحثين، حاول أن يمنع خللًا بدأ يطرأ على الألسنة، فلجأ إلى أسلوب عمَلي مدرسي يرمي إلى إيجاد علامات مادية تساعد على القراءة السليمة من دون اللجوء إلى الاستنباط والتجريد؛ أي إن البحث اللغوي لم يكن غاية عملية مقصودة بذاتها هنا فلسفة عملية اجتماعية والقائم به حول السماع الصوتي للظواهر الإعرابية إلى مادة مكتوبة يمكن إدامة النظر فيها وإيجاد العلاقات الكلية الجامعة إياها، ثم انتقل الدرس بعد ذلك إلى نمط من النشاط الذهني التأمُّلي الذي يحاول تجريد المعاني المطلَقة من المحسوسات اطِّرادًا مع التيارات الفلسفية المتصاعدة مع حركة المجتمع النامية، وهو ما يمكن أن نسمِّي به النحو في المراحل التي وصلت إلينا نصوصًا عن أصحابها؛ أي بعد أبي الأَسود بما يقرب من قرن من الزمان وإلى عصور لاحقة عديدة.٨٨
وعلى كل حال، فقد كان نَقط أبي الأسود الدؤلي للمُصحف فاتحة النحو العربي، والخطوة الأولى في نُشوئه، ومجسدة لمرحلته الوصفية، وكان لعمله الذي ذكرَته الروايات السابقة، ولعمل غيره من القراء المنتشرين في الأمصار الإسلامية، أكبر الأثر في نشأة النحو العربي، وإن كانت هذه النشأة لا تزال غامضة لا يُعرف عنها الشيء الكثير، فما ذكرته الروايات من أبواب وضعها أبو الأسود الدؤلي، وهي: باب التعجب، وباب الفاعل، والمفعول، والمضاف، وحروف النصب، والرفع، والجر، والجزم … لم يصل إلينا منه شيء يمكن في ضوئه معرفة مدى ما وصل إليه البحث في زمنه أو بعده حتى زمن الخليل بن أحمد.٨٩
١  د. حسن عبد الحميد: التفسير الأبستمولوجي لنشأة العلم، بحث منشور ضمن دراسات في الأبستمولوجيا، ص٢٢٧.
٢  نفس المرجع، ص٢٢٧.
٣  نفس المرجع، ص٢٢٧.
٤  أحمد أمين: ضُحى الإسلام، ج٢، ص٣٨٥، ص٢٩١-٢٩٢؛ نفس المرجع، ص٢٢٧.
٥  د. حسن عون: اللغة والنحو «دراسة تاريخية وتحليلية ومقارنة»، ص١٩٩.
٦  ينظر: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا: الصاحِبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ١٩٩٧م، ص١٣.
٧  نفس المصدر، ص١٤.
٨  نفس المصدر، ص١٤، ١٧.
٩  محمد الطنطاوي: نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة، دار المعارف، ط٢، القاهرة، ١٩٩٥م، ص٢٠.
١٠  د. حسن عون: المرجع السابق، ص٢٠٠.
١١  جوزيف فندريس: اللغة، تعريب: عبد الحميد الدواخلي، محمد القصاص، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٥٠م، ص٤٠٦.
١٢  ابن خلدون: المقدمة، تحقيق عبد الله محمد الدرويش، المجلد الثاني، مكتبة الهداية، دمشق، سوريا، ٢٠٠٤م، ص٣٦٨-٣٦٩.
١٣  د. علي أبو المكارم: مدخل إلى تاريخ النحو العربي، ص٣٣.
١٤  ابن سلام: طبقات الشعراء، ص٣٩.
١٥  أبو العباس محمد بن يزيد المبرِّد: الفاضل، تحقيق: عبد العزيز الميمني، دار الكتب المصرية، الطبعة الثانية، القاهرة، ١٣٧٥ﻫ، ص٥.
١٦  عبد الرحمن بن إسحاق الزَّجَّاجي النحوي: كتاب الأمالي، تحقيق وشرح: عبد السلام هارون، دار الجيل، بيروت، لبنان، ١٩٨٧م، ط٢، ص٢٣٨-٢٣٩.
١٧  أبو الطيب اللغوي: مراتب النحويين، حققه وعلق عليه: محمد أبو الفضل إبراهيم، مكتبة نهضة مصر ومطبعتها، القاهرة، ص٦–٨.
١٨  ابن الأنباري: نزهة الألباء، ص٢٧٢.
١٩  ابن خلدون: المقدمة، تحقيق: عبد الله محمد الدرويش، المجلد الثاني، مكتبة الهداية، دمشق، ٢٠٠٤م، ص٣٦٩.
٢٠  د. حسن عون: اللغة والنحو؛ دراسة تاريخية وتحليلية ومقارنة، ص١٥٧-١٥٨.
٢١  أبو العباس محمد بن يزيد المبرد: الكامل، تحقيق: د. محمد أحمد الدالي، مؤسسة الرسالة الطبعة الثالثة، ١٤١٨ﻫ/١٩٩٧م، ج٣، ص٩٩–١٢٠.
٢٢  عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي: المزهر، تحقيق: فؤاد علي منصور، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، بيروت، ١٩٩٨م، ج٢، ص٣٩٦.
٢٣  المزهر، ج٢، ص٣٩٧.
٢٤  الجاحظ: البيان والتبيين، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ١٩٩٨م، ج٢، ص٢١٦-٢١٧.
٢٥  أبي عمرو عثمان بن سعيد الداني: المحكم في نقط المصاحف، دار الفكر العربي، بيروت، ١٩٩٧م، ص١٨.
٢٦  د. حسن عون: اللغة والنحو؛ دراسة تاريخية وتحليلية ومقارنة، ص١٦٢-١٦٣.
٢٧  د. علي مزهر محمد الياسري: الفكر النحوي عند العرب؛ أصوله ومناهجه، الدرار العربية للموسوعات، بيروت، لبنان، ٢٠٠٣م، ص١٠١-١٠٢.
٢٨  الداني: نفس المصدر، ص٦-٧.
٢٩  د. غانم قدوري الحَمَد: رسم المصحف؛ دراسة لغوية تاريخية، ط١، اللجنة الوطنية، العراق، ١٩٨٢م، ص٥٠٦.
٣٠  ابن قُتيبة: عيون الأخبار، ج٢، دار الكتب المصرية، القاهرة، ١٩٦٣م، ص١٥٨؛ وينظر: أيضًا: د. رشيد عبد الرحمن العبيدي وآخرون: تاريخ العربية، دار الكتب للطباعة والنشر، القاهرة.
٣١  الداني: نفس المرجع، ص٧.
٣٢  نفس المرجع، ص٧-٨.
٣٣  جلال الدين السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ١٤٢٦ﻫ، ص١٦٢.
٣٤  الداني: نفس المرجع، ص٩-١٠.
٣٥  أجنتسيو جويدي: محاضرات أدبيات الجغرافيا والتاريخ واللغة عند العرب، باعتبار علاقتها بأوروبا وخصوصًا بإيطاليا، مجلة الجامعة المصرية، القاهرة، بدون تاريخ، ص٨٤–٩٣.
٣٦  نفس المرجع، ص٨٤.
٣٧  ينظر: حسن ظاظا: الساميون ولغتهم؛ تعريف بالقرابات اللغوية والحضارية عند العرب، دار القلم، دمشق، ط١، ١٩٨٥م، ص٩٩-١٠٠.
٣٨  د. فتحي عبد الفتاح الدجني: أبو الأسود الدؤلي ونشأة النحو العربي، ص٧٦.
٣٩  د. حسن عبد الحميد: التفسير الأبستمولوجي لنشأة العلم، ص١٨٦.
٤٠  نفس المرجع، ص١٨٦.
٤١  نفس المرجع، ص١٨٦-١٨٧.
٤٢  د. فتحي عبد الفتاح الدجني: المرجع السابق، ص١٥.
٤٣  أحمد أحمد بدوي: سيبويه؛ حياته كتابه، بحث منشور ضمن صحيفة دار العلوم الصادرة في يناير (كانون الثاني) ١٩٨٤م، ص٣٩.
٤٤  نفس المرجع، ص٣٩-٤٠.
٤٥  د. حسن عون: المرجع السابق، ص١٩٨.
٤٦  أبو بكر الزَّجَّاجي: أمالي الزجاجي، ص٢٣٨-٢٣٩.
٤٧  أبو البركات كمال الدين عبد الرحمن بن محمد: نزهة الألبَّاء في طبقات الأدباء، مطبعة المعارف، بغداد، ١٩٥٩م، ص٥-٦؛ وينظر أيضًا: القفطي، جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف: إنباه الرواة على أنباه النحاة، دار الفكر العربي، القاهرة، ١٩٨٦م، ص٥٠.
٤٨  محمد الطنطاوي: نشأة النحو، ص١٢.
٤٩  أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي: طبقات النحويين واللغويين، دار المعارف بمصر، ١٩٥٤م، ص٢١.
٥٠  ابن النديم: الفهرست، دار الكتاب العربي، القاهرة، ١٩٩١م، ص٦٧.
٥١  جلال الدين السيوطي: الاقتراح في علم أصول النحو، ط١، القاهرة، ١٩٧٦م، ص٢٠٣؛ وينظر أيضًا: بُغية الوُعاة، للمؤلف، ج٢، مطبعة عيسى، مصر، ١٩٦٥م، ص٢٢-٢٣.
٥٢  أبو الطيب اللغوي: مراتب النحويين، ص٢٤.
٥٣  ابن كثير، اسماعيل بن عمر الدمشقي (ت٧٧٤ﻫ/١٣٧٢م): البداية والنهاية، دار الكتب العلمية، بيروت، ج٨، ص٢٤٨.
٥٤  ابن خلكان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد (ت٦٨١ﻫ/١٢٨٢م): وفيات الأعيان، دار صادر، بيروت، مجلد ٢، ص٥٣٥.
٥٥  أخبار النحويين البصريين، ص١٧.
٥٦  طبقات النحويين اللغويين، ص٣.
٥٧  خديجة الحديثي: المدارس النحوية، ص٤٧.
٥٨  نفس المرجع، ص٤٧.
٥٩  محمد بن سلام الجمحي: طبقات فحول الشعراء، ج١، ص١٢.
٦٠  أبو الطيب اللغوي: مراتب النحويين، ص٦–١١.
٦١  نفس المصدر، ص١٢–١٦.
٦٢  ابن قُتيبة عبد الله بن مسلم (ت٢٧٦ﻫ/٨٩٩م).
٦٣  د. على النجدي ناصف: تاريخ النحو، دار المعارف، القاهرة، ١٩٨٧م، ص٩.
٦٤  د. علي أبو المكارم: مدخل إلى تاريخ النحو العربي، دار غريب للطباعة والنشر، القاهرة، ص٥٥–٥٩، ص١٦٥.
٦٥  نفس المرجع، ص١٦٦.
٦٦  عبد الرحمن بن إسحاق الزجاج النحوي: كتاب الأمالي، تحقيق وشرح: عبد السلام هارون، دار الجيل، بيروت، لبنان، ١٩٨٧م، ط٢، ص٢٣٨-٢٣٩.
٦٧  ابن الأنباري: نزهة الألباء في طبقات الأدباء، ص١٨-١٩.
٦٨  ياقوت الحموي: معجم الأدباء، القاهرة، ١٩٣٦م، ج١٤، ص٤٨-٤٩.
٦٩  جمال الدين أبي الحسين علي بن يوسف القفطي: إنباه الرواة على أنباه النحاة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، ط١، ١٩٨٦م، ج١، ص٣٩-٤٠.
٧٠  د. أسعد محمد علي النجار: الدرس النحوي في الحلة، مركز بابل للدراسات التاريخية والحضارية، العراق، بدون تاريخ، ص١٤.
٧١  د. خديجة الحديثي: الشاهد وأصول النحو في كتاب سيبويه، مطبوعات جامعة الكويت، الكويت، ١٩٧٤م، ص١١.
٧٢  د. خديجة الحديثي: المدارس النحوية، ص٤٦.
٧٣  الطنطاوي: نشأة النحو، ص٢٧.
٧٤  د. علي أبو المكارم: المدخل لتاريخ النحو العربي.
٧٥  د. شوقي ضيف: المدارس النحوية، ص١٤.
٧٦  د. أحمد مكي الأنصاري: التيار القياسي في المدرسة البصرية، مجلة آداب، القاهرة، مج٢٤، ج٢، السنة ١٩٦٢م، ص٤.
٧٧  د. جواد علي: المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الجزء التاسع، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط٢، ١٩٧٨م، ص٥٠.
٧٨  د. علي أبو المكارم: المدخل لتاريخ النحو العربي، ص٧٨.
٧٩  سيبويه: الكتاب، ج١، ص١٢.
٨٠  أحمد أمين: ضُحى الإسلام، ج٢، ص٤٦٣.
٨١  جنان عبد العزيز التميمي: الحدود النحوية في التراث (كتاب التعريفات للجرجاني أنموذجًا)، رسالة دكتوراه غير منشورة، ١٤٢٩ﻫ، جامعة الملك سعود، ص٥٣.
٨٢  د. علي أبو المكارم: نفس المرجع، ص٧١-٧٢.
٨٣  نفس المرجع، ص١٤٣.
٨٤  نفس المرجع، ص١٥٧-١٥٨.
٨٥  نفس المرجع، ص١٥٨-١٥٩.
٨٦  نفس المرجع، ص٧٣-٧٤.
٨٧  نفس المرجع، ص٧٥-٧٦.
٨٨  د. على مزهر محمد الياسري: الفكر النحوي عند العرب أصوله ومناهجه، الدار العربية للموسوعات، بيروت، لبنان، ٢٠٠٣م، ص١٠٣.
٨٩  نفس المرجع، ص١٤-١٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤