ما زلت أومن، بل ربما أكثر من أي وقت مضى، بأن
العلم، كما أكد بعض أساتذتنا المعاصرين: «يمر في
انتقاله من مستوى الممارسة التلقائية العفوية إلى
مستوى الصياغة النظرية لقواعد العلم، الأمر الذي قد
يُحدث نوعًا من القطيعة المعرفية»؛
٣٩ وهذه القطيعة أشبه ما تكون في نظري
نوعًا من المغايرة النسقية، ولتوضيح ما يعنيه هذا
المبدأ يمكن القول بأن أي علمٍ على الإطلاق قد مر
في تاريخه بمرحلتين أساسيتين ومتميِّزتين: مرحلة
الممارسة اليومية التلقائية، التي يغلب عليها
الطابع الأيديولوجي، ومرحلة الصياغة النظرية
للقواعد الأساسية والمبادئ العامة التي تجعل من
المعرفة معرفة علمية بالمعنى الدقيق للكلمة. أو هو
الانتقال مما هو ضمني إلى ما هو صريح وواضح؛ فالطفل
أو الرجل الأُمِّي — على سبيل المثال — يستطيع
كلاهما أن يستخدم اللغة استخدامًا صحيحًا نسبيًّا
ودون حاجة إلى تعلم قواعد النحو الخاصة بهذه اللغة
أو تلك، ولو سألنا أحدهما أن يستخرج لنا قواعد
اللغة التي يتحدث بها، وأن يصيغها صياغة نظرية، لما
كان هذا في إمكانه، والسبب في ذلك أننا ننقله في
هذه الحالة من مستوى الممارسة اليومية للغة إلى
مستوى الصياغة النظرية لقواعدها، والانتقال هنا هو
انتقال من مستوى الممارسة اليومية العفوية للمعرفة
إلى مستوى الوعي بالقواعد النظرية التي تنظم هذه
المعرفة، وقد أصبحت علمًا، وهذا الانتقال من
المستوى الأول إلى المستوى الثاني لا يتم إلا عن
طريق «قطع الصلة» (إلى حد ما) بالممارسات اليومية
ذات الطابع الحدسي والتلقائي التي تسيطر على
المعرفة قبل أن تتحول إلى علم، والقطيعة المعرفية
(أو المغايرة النسقية) هي «التغير الذي ينتج عنه
أمر جديد كل الجدة، ولكنها عبارة عن مسار معقَّد
متشابك الأطراف، تنتج عنه مرحلة جديدة متميزة في
تاريخ العلم»؛
٤٠ ومعالم تلك القطيعة (أو المغايرة) يمكن
تتبعها على ثلاثة مستويات: «مستوى لغة العلم من
جانب، ومنهجه من جانب آخر، ومستوى نظرية العلم من
جانب ثالث.»
٤١
(٢-١) والسؤال الآن: هل يمكن تطبيق هذا المبدأ على
النحو العربي في مرحلة نشأته؟
يذهب غالبية مؤرخي النحو، سواء القدماء منهم
والمعاصرون إلى أن النحو هو «علم بأصول تُعرَف
بها أحوال الكلمات العربية من حيث الإعراب
والبناء؛ أي من حيث ما يَعرِض لها في حال كونها
مفردة أو مركبة»؛
٤٢ وأن «سيبويه» أول من صاغ، بطريقة
علمية، نظرية هذا العلم الذي سبق تاريخيًّا كل
العلوم في التأسيس؛ حيث يمثل كتاب سيبويه أفضل
«صورة لما وصل إليه التقدم العلمي في النحو في
أواخر القرن الثاني الهجري، لأن الكتاب ثمرة
لهذه الجهود المتصلة في تلك المادة منذ أن
بدأها أبو الأسود، وهو (يمثل كذلك أفضل) صورة
لما كانت عليه دراسة النحو، في ذلك الحين من
التعليل والقياس والاستنباط والتفريع واستيعاب
الفروض … وهو الكتاب الأول والأخير في النحو،
فالكتاب سِجِل لقواعد النحو، وقف العلماء عنده،
ولم يزيدوا عليه، وكل من جاء بعده جعل الكتاب
أساس دراسته.»
٤٣ وبهذا يُعَد سيبويه بشهادة الكثير
من الباحثين والدارسين «أهم تلميذ للرعيل الأول
من أئمة اللغة؛ كما يعد أول عالم يكرس مجهوده
الذهني بصورة متخصِّصة، إلى حد كبير، في الدرس
النحوي بمعناه الواسع، فليس من شك في أنه قد
مهد بذلك الطريق للمباحث النحوية، وهو أمر لم
نعهده من قبل.»
٤٤
ومع احترامنا لهذا الرأي، إلا أن المنطق
والتاريخ يؤكدان أن الناس لم ينتظروا صياغةً
لقواعد النحو حتى يفكروا، والإنسان حيوان مفكر
منذ أن وُجد على سطح الأرض. النحو كعلم يفترض —
مسبقًا — المقدرة على الاستخدام المسبَق للغة،
فالعلم أيًّا كان لا يبدأ إلا حين يتجه المفكر
إلى الواقع العملي لهذا العلم، وواقع النحو
العربي، وخاصة في بداياته الأولى، يُكذب ذلك
وينفيه، فحتى الآن لم ينكشف لنا الفهم الصحيح
لطبيعة المرحلة التي تُنسب إليها نشأة الدراسات
النحوية، ولا فهم لطبيعة اللغة العربية التي
تتناول نشأة نحوها بالدرس والبحث والاستقصاء؛
إذ قبل «سيبويه» لم تكن معالم الدرس النحوي
واضحة، ولم يكن له تخطيط معين ولا منهج محدد؛ ﻓ
«لا يزال الباحث في حيرة من أمر النحو العربي،
ومن الظروف التي لابست نشأته، فلا القدماء
أماطوا اللثام بطريقة معقولة عن هذا الغموض
الذي لا نزال نُحِس به، ونتعثر في دياجيه، ولا
المحدَثون استطاعوا أن يتناولوا هذه المسألة
بطريقة جدية فيتعمقوا فيها بعد أن يمهدوا لها
بالدراسة الواسعة، والتفكير الحر، والمنطق السليم.»
٤٥
ولذلك نحاول، بقدر استطاعتنا، أن نناقش نشأة
النحو بطريقة منهجية، ونبدأ حديثنا بمناقشة
الشخصيات التي يُعزى إليها نشأة النحو،
فنتساءل: مَن صاحب الفضل في نشأته؟ أهو أبو
الأسود الدؤلي، أم علي بن أبي طالب — كرم الله
وجهه — أم شخصيات أخرى مثل نصر بن عاصم أو عبد
الرحمن بن هُرمُز (ت١١٧ﻫ)؟
لقد اختلف المؤرخون في أول مَن وضع أبوابًا
من النحو أو تحدث فيه، وظهرت روايات متعددة
بخصوص هذا الموضوع، يمكن إجمالها كالآتي:
- الرواية الأولى: يرى أصحابها أن الإمام علي
بن أبي طالب هو الواضع الأول لعلم
النحو.
- الرواية الثانية: يرى أصحابها أن أبا الأسود
الدؤلي هو الواضع الأول لعلم النحو
بمشاركة نصر بن عاصم الليثي وعبد
الرحمن بن هرمز.
- الرواية الثالثة: يرى أصحابها أن أبا الأسود
وحده هو الواضع الأول لعلم
النحو.
ولا بد لنا قبل تحديد هذا الوضع من أن نعرض
لهذه الروايات، ومَن قال بها.
أما بخصوص الرواية الأولى، فقد وردت في كتب
علماء القرن الرابع الهجري وما بعد ذلك،
ورددتها المصادر التي تلت ذلك التاريخ؛ حيث
ينقل لنا «الزَّجَّاجي» في «أماليه» رواية عن
أبي الأسود الدؤلي أنه قال: «دخلت على أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب — رضي الله عنه —
فرأيته مُطرِقًا مُفكرًا، فقلت: فيمَ تفكر يا
أمير المؤمنين؟ قال: إني سمعت ببلدكم هذا لحنًا
فأردت أن أضع كتابًا في أصول العربية، ثم أتيته
بعد أيام فألقى إليَّ صحيفة فيها: بسم الله
الرحمن الرحيم، الكلام: اسم، وفعل، وحرف.
فالاسم ما أنبأ عن المسمَّى، والفعل ما أنبأ عن
حركة المسمَّى، والحرف ما أنبأ عن معنًى ليس
باسمٍ ولا فعل، ثم قال: تتبَّعه وزد فيه ما وقع
لك، واعلم أن الأشياء ثلاثة: ظاهر ومضمَر، وشيء
ليس بظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل العلماء في
معرفة ما ليس بمضمر ولا ظاهر. قال أبو الأسود:
فجمعت منه أشياء وعرضتها عليه، فكان من ذلك
حروف النصب، فذكرت فيها إنَّ، وأنَّ، وليت،
ولعل، وكأنَّ، ولم أذكر لكنَّ، فقال لي: لمَ
تركتها؟ فقلت: لم أحسبها منها. فقال: هي منها
فزدتها فيها.»
٤٦
ونفس الشيء يؤكده «ابن الأنباري» فيقول:
«الصحيح أن أول من وضع النحو الإمام علي — رضي
الله عنه — لأن الروايات كلها تُسنَد إلى أبي
الأسود، وأبو الأسود يُسنِد إلى علي … وسبب وضع
علي — رضي الله عنه — لهذا العلم ما روى أبو
الأسود، قال: دخلت على أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب — رضي الله عنه — فوجدت في يده رقعة،
فقلت: ما هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: إنِّي
تأملت كلام الناس فوجدته قد فسد بمخالطة هذه
الحمراء (يعني الأعاجم)، فأردت أن أضع لهم
شيئًا يرجعون إليه ويعتمدون عليه، ثم ألقى
إليَّ الرقعة وفيها مكتوب: «الكلام كلُّه اسم،
وفعل، وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمَّى،
والفعل ما أُنبئ به، والحرف ما جاء لمعنُى.»
وقال لي: «انحُ هذا النحو وأضف إليه ما وقع إليك».»
٤٧
ويعتمد الشيخ محمد الطنطاوي، في كتابه «نشأة
النحو وتاريخ أشهر النُّحاة» هذا الرأي، ويعلل
بأن ابن الأنباري: «أغناهم بهذا المقام، وقد
سرد معظم نقول السابقين عليه مع جودة الترتيب،
فذكر مختارَه أولًا مع روايتين في سبب وضع على
— كرَّم الله وجهه — ثم ذكر مختارَ غيره مع
روايات أربع في سبب وضع أبي الأسود — رضي الله
عنه — ثم عاد مصرحًا برُجحان اختياره.»
٤٨
وممن أكد نشأة النحو على يد الإمام علي أيضًا
الزبيدي في «طبقات النحويين واللغويين» حيث
يروي أنه قال: «تلقيته من علي بن أبي طالب —
رحمه الله»، وفي رواية أخرى قال: «ألقى إليَّ
علي أصولًا احتذيت عليها.»
٤٩ أمَّا ابن النديم في «الفهرست»،
فيقول: «زعم أكثر العلماء أن النحو أُخِذ عن
أبي الأسود الدؤلي، وأن أبا الأسود أخذ ذلك عن
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.»
٥٠
وهنالك شهادات أخرى كثيرة سجلها لنا القدماء
غير ما ذكرنا عن «الزَّجَّاجي» و«الأنباري»
و«الزبيدي» و«ابن النديم»، تؤكد إشارة الإمام
«علي» — رضي الله عنه — وإرشاده وتوجيهه؛
فالسيوطي يقول وينقل ما يلي: «اشتهر أن أول من
وضع النحو علي بن أبي طالب — رضي الله عنه —
لأبي الأسود، قال الفخر الرازي في كتابه
«المحرر في النحو»: «رسم علي — رضي الله عنه —
لأبي الأسود باب «إنَّ»، وباب الإضافة، وباب
الإمالة، ثم صنف أبو الأسود: باب العطف، وباب
النعت، ثم صنف باب التعجب، وباب الاستفهام.»
وتطابقت الروايات على أنَّ أول من وضع النحو
أبو الأسود، وأنه أخذه أولًا عن علي.»
٥١ ووضح ذلك أيضًا أبو الطيب اللغوي
في «مراتب النحويين» قائلًا: «أخذ ذلك عن أمير
المؤمنين «علي» — رضي الله عنه — لأنه سمع
لحنًا فقال لأبي الأسود: اجعل للناس حروفًا.
وأشار له إلى الرفع، والنصب، والجر.»،
٥٢ وابن كثير الدمشقي في «البداية
والنهاية» يذكر: «إنما أخذه عن أمير المؤمنين
علي بن طالب … ذكر له الإمام: «الكلام: اسم،
وفعل، وحرف.» وإنَّ أبا الأسود نحا نحوه …»
٥٣ وابن خلكان في «وفيات الأعيان»
يوضح أيضًا أن «الإمام علي — رضي الله عنه —
وضع له أقسام الكلام، ثم رخصه إليه وقال له:
تمم على هذا.»
٥٤
أما بخصوص الرواية الثانية التي تَنسب وضع
النحو إلى أكثر من واحد فهي متأخرة، يقول أبو
سعيد السِّيرافي: «اختلف الناس في أول من رسم
النحو، فقال قائلون «أبو الأسود الدؤلي»، وقال
آخرون «نصر بن عامر الليثي»، وقال آخرون «عبد
الرحمن بن هُرمُز»، وأكثر الناس قالوا أبو الأسود.»
٥٥ وسار في قوله الزبيدي، الذي زاد
على قول السيرافي: «فوضعوا للنحو أبوابًا،
وذكروا عوامل الرفع، والنصب، والخفض، والجزم،
ووضعوا أبواب الفاعل، والمفعول، والتعجب، والمضاف.»
٥٦ ثم تابعهما من جاء بعدهما ممن قال
بهذا القول.
والذي يبدو من هاتين الروايتين أن تعاصُر
هؤلاء الثلاثة كما يرى بعض الباحثين هو السبب
المباشر في التباس الأمر على المؤرخين اللذَين
جاء أولهما بعد أبي الأسود بثلاثمائة سنة، وهي
كافية للاختلاق والتزيد، أما «الزبيدي» فيبدو
أنه أخذ ما نسب وضعها إلى أبي الأسود إلى هؤلاء
جميعًا لكي تتم لهم المشاركة والمتابعة له في
تطبيق نقط المصحف وهي نقط الإعراب.
٥٧
أما فيما يتعلق بالرواية الثالثة التي تؤكد
ذلك، فهي تفرُّد أبي الأسود الدؤلي بأنه واضع
علم النحو، فقد أثبت له المؤرخون وكُتَّاب
التراجم والباحثون في الأعمال القرآنية نَقْط
الإعراب، وكانت جميع روايات المؤرخين تذكره عند
تعرضها لوضع النحو، سواء أذكرته وحده، أم مع
الإمام «علي»، أم مع معاصريه، وقد كان ذلك منذ
أول نص وصل إلينا يتحدث صاحبه فيه عن النحو
والنحاة حتى يومنا هذا.
٥٨
كان أول من تعرَّض للحديث عن نشأة النحو ابن
سلام الجُمَحي، قال: «وكان أولَ من أسس
العربية، وفتح بابها، وأنهج سبيلها، ووضع
قياسها أبو الأسود الدؤلي.»
٥٩ ويذكر أبو الطيب اللغوي روايات
أخرى تُجمِع على أن أبا الأسود هو الواضع لعلم
النحو، ولا تشير إلى الإمام — رضي الله عنه —
أو غيره،
٦٠ وذكر أبو سعيد السِّيرافي بعد
الرواية التي تشير إلى اختلاف الناس في واضع
النحو روايات متعددة تُجمِع على أن أبا الأسود
هو الواضع لعلم النحو بعد قوله في الرواية
السابقة «وأكثر الناس على أبي الأسود.»
٦١ ونفس الشيء ذهب إليه ابن قُتيبة في
«الشعر والشعراء»، إذ يجعله «أول مَنْ عمل في
النحو كتابًا.»
٦٢
ويمكن أن نُعلق على الروايات الثلاث؛ ففيما
يتعلق بالرواية الثانية والثالثة التي تعزو وضع
النحو إلى «أبي الأسود الدؤلي» بمشاركة «نصر بن
عاصم الليثي» و«عبد الرحمن بن هرمز» والإمام
«علي بن أبي طالب»، أو تفرده بوضع النحو، فإننا
نقول، استنادًا إلى الروايات الكثيرة الواردة
في وضع أبي الأسود للنحو، إن أبا الأسود هو
الذي يصح أن يُعَد واضع النحو والمؤسس الحقيقي
له، وذلك لما لهذا الرجل من علم واسع في علوم
العربية، واطلاع غزير على مسائلها، زد على ذلك
أنه وضع أول نَقط يحرِّر حركات أواخر الكلمات
في القرآن الكريم، علاوة على أن أبا الأسود هو
البادئ بوضع هذا العلم بتدوين شيء من أصوله
وضوابطه، ولا يعنينا إن كان عمله هذا بدافع
ذاتي أو بحَثٍّ من الإمام علي أو زياد أو ابنه
عُبيد الله.
وأما فيما يتعلق بالرواية الأولى، التي تعزو
وضع النحو لعلي بن أبي طالب — رضي الله عنه —
فإننا لا نؤيد أن يكون الإمام علي هو من وضع
علم النحو كما قالت الروايات في هذا الصدد،
وذلك لأن «الأعباء التي كان يضطلع بها الإمام
علي بن أبي طالب — رضي الله عنه — أثقل من أن
تُتيح له التفكير في وضع النحو؛ إذ كان — كرم
الله وجهه — موزعَ الجهد والفكر لتثبيت دعائم
الدولة، وإقامة أحكام الدين، وتدبير شئون
الرعية، وإحباط المكائد.»
٦٣
وننتقل إلى نقطة أخرى نوَدُّ أن نناقشها، وهي
تتعلق بعملية نشأة القاعدة النحوية، فمن
المعروف أن النحو العربي قد مر في نشأته بمرحلتين:
- المرحلة الأولى: ضبط النص القرآني، وكانت هذه
المرحلة العاجلة التي تطلبت حلًّا
سريعًا، ولقد كان هذا الحل — الذي
قام به أبو الأسود الدؤلي — خطوة
تمهيدية لنشأة القواعد اللغوية،
بيد أنها مع ذلك جوهرية، ولقد اتسم
ضبط النص القرآني — الذي اصطُلِح
عليه فيما بعد بنَقط الإعراب —
بالضرورة باعتبار أن الحاجة
العاجلة إلى العربية لغة إنما
تنطلق من الرغبة في صحة التعامل مع
النص الديني أداءً، وهذه الرغبة
متصلة أوثق الاتصال بالعقيدة، ومن
ثم كان يشتد إلحاحُها مع اتساع
دائرتها، وازدياد انتشارها.٦٤
- المرحلة الثانية: الانتقال إلى التصدي المباشر
للمشكلة اللغوية، ولقد بدأت هذه
المرحلة عقب الانتهاء من المرحلة
السابقة؛ إذ لفت نظر أبي الأسود
أثناء ضبطه للنص القرآني هذا
الاختلاف في الحركات في أواخر
الكلمات، وليس من المستبعد أن
يحاول أبو الأسود إيجاد تصنيف من
نوعٍ ما لهذه الحركات، بل لقد
صنفها بالفعل إلى: مضمومات،
ومفتوحات، ومكسورات؛ منونة، وغير
منونة. وهكذا أدرك أبو الأسود
ظواهر التصرف الإعرابي، وإن لم
يستخدم بالضرورة المصطلحات التي
وُضعت له من بعد، وكان هذا الإدراك
نقطة البدء في التفكير في ظواهر
اللغة، ومن ثم التناول الموضوعي
لهذه الظواهر.٦٥
وهكذا أثمرت الخطوة الثانية، التي تم فيها
التصدي لمواجهة تحديد المشكلة اللغوية — بعد
فترة طويلة من المعاناة في استكشاف ظواهر
اللغة، وتحديدها، والتردد في تصنيفها وتشكيلها
— وضعَ قواعد النحو، تلك القواعد التي أتيح لها
أن تنمو وتتطور وتنضج وتستقر، حتى يصيبها
الاستقرار بما يصيب كافة الظواهر من تجمُّد
واحتراز، وهذه القواعد، كما قلنا من قبل، قد
انفرد بروايتها «الزَّجَّاجي»، وهو أحد نحاة
القرن الرابع الهجري، حين نسب علم النحو إلى
الإمام علي بن أبي طالب من خلال الرواية التي
ذكرناها له من قبل، عندما دخل عليه «أبو الأسود
الدؤلي» وبدأ يُملِي عليه أبواب النحو؛
٦٦ وهذه الرواية تناقلها المؤرخون بعد
ذلك بنصها، فوجدنا «ابن الأنباري»، وهو أحد
نحاة القرن السادس الهجري، في كتابه «نزهة الألبَّاء»؛
٦٧ وكذلك كلًّا من ياقوت الحموي
(ت٦٢٦ﻫ) في كتابه «معجم الأدباء»،
٦٨ والقفطي (ت٦٤٥ﻫ) في كتابه «إنباه الرواة»،
٦٩ وهما من نحاة القرن السابع الهجري،
وعنهما سار كل النحاة الباحثين عن نشأة النحو
يعولون على روايتهما.
وهذا الأمر يجعلنا نتساءل: كيف تسنى لعصر أبي
الأسود أو الإمام علي (والذي أطلقنا عليه بأنه
يمثل المرحلة الوصفية من نشأة علم النحو) أن
يحمل كثيرًا من التعريفات، والتقسيمات،
والأبواب، في النحو؟ من أين جاء تقسيم الكلام
إلى أسماء، وأفعال، وحروف، ثم يضع لكلٍّ منها
تعريفًا؟! وكذلك تقسم الأسماء إلى ثلاثة: ظاهر،
ومضمَر، ومبهَم، ويوضع لكلٍّ منها تعريفًا، ثم
يُضرب لها أمثلة؟! وكذلك تُوضع أبواب في النحو
عديدة منها: باب الفاعل، والمفعول، والتعجب،
والمضاف، وأدوات الرفع، والنصب، والجر، والجزم،
والنعت، والاستفهام؟! وليت الأمر وقف عند ذلك،
بل رأينا الكثير من كلام بعض المؤرخين ما يُفهم
منه أنه قد وضعت أبواب النحو جميعًا
وبتمامها؟!
إنني أعتقد بأن هذه الرواية التي رواها
«الزَّجَّاجي»، ومن بعده «ابن الأنباري»،
و«ياقوت الحموي»، و«القفطي» عن نشأة النحو،
وأجمع على ذكرها جميع النحاة المتأخرين بعد
ذلك، قد حملت في تقسيم أبواب النحو بُعدين:
بُعدًا شيعيًّا، وبُعدًا منطقيًّا، ويمكن توضيح
ذلك على النحو التالي:
(أ) البُعد الشيعي
وهذا البُعد رجحه الكثير من أساتذة النحو
المعاصرين؛ حيث رأوا أن كل الروايات التي
رواها المؤرخون بداية من القرن الرابع
الهجري وما بعده، والتي أكدت على أن «علي
بن أبي طالب» — رضي الله عنه — هو الذي قسم
أبواب النحو، حملت بُعدًا شيعيًّا، فوجدنا
مثلًا بعض الباحثين المعاصرين المتعصبين
للفكر الشيعي أثناء تعليقه على روايات
النحاة المتأخرين، يقول: «والذي نراه أن
الإمام «علي بن أبي طالب» — رضي الله عنه —
لم يكن شخصًا اعتياديًّا، بل هو إمام
معصوم، نشأ نشأة عربية خالصة، وتربى على يد
الرسول الأكرم «محمد»
ﷺ، فليس
غريبًا أن يوجه أبا الأسود الدؤلي ويُرشده
ويشرف عليه في وضع اللبنة الأولى للنحو
العربي. وكثرة المعارك التي شهدها عصره لم
تعفه من هذه المهمة الجليلة، فالإمام خاض
المعارك ضد المشركين والمنافقين والطامعين
من أجل إعادة الناس إلى جوهر الإسلام ولب
العقيدة. ووضع القواعد النحوية جزءٌ لا
يتجزأ من واجباته التي يراها ضرورية لحفظ
القرآن الكريم، وتنقيتها من الشوائب واللحن
والفساد، وقدراته في العربية غير خافية على
أحد، وتُعد خُطبه التي جمعها «الشريف
الرضي» (ت٤٠٦ﻫ) فيما بعد خير دليل على ما
نقول، ففيها من براعة الأسلوب ومتانة اللغة
ما يدل على علو باع الإمام علي بدقائق
اللغة، ومعرفة دقائق مسائلها.»
٧٠
وإلى مثل هذا الرأي ذهبت الدكتورة «خديجة
الحديثي» في كتابها «الشاهد وأصول النحو في
كتاب سِيبَويه»، ولكنها لم تنسب ذلك إلى
التشيع، وإنما إلى أن أبا الأسود ربما نسب
ما فعله إلى الإمام «علي» ليضفي عليه صفةً
دينية؛ وفي هذا تقول: «ومثل هذه الرواية
القائلة بأن الإمام «علي بن أبي طالب» هو
الواضع الأول لعلم النحو، لأن الصحابة
الأوائل، وعلى رأسهم علي — رضي الله عنه —
لم ينصرفوا إلى هذه الناحية، إنما كان جل
همهم مُنصَبًّا على تثبيت أركان الإسلام
ونشره خارج الجزيرة العربية، والذي نراه
أنه كان من بين الذين حثُّوا «أبا الأسود»
إلى ما وضعه مما اشتهر به من نَقط المصحف،
والذي هو جزء من الإعراب والنحو، لما عرف
عنه من ملازمته إياه واتصاله الدائم به،
وقد يكون «أبو الأسود» نفسه هو الذي وضع
النحو للإمام «علي» حتى يشتهر ما وضعه
ويأخذ به الناس بعد أن يكتسب صبغة دينية
تبين قيمة هذا العمل الذي قام به.»
٧١
ومن جهة أخرى تؤكد الدكتورة «خديجة» في
كتابها «المدارس النحوية» حين قالت: «إنه
من غير المعقول أن يكون الإمام «علي»، قد
وضع أول ما وضع هذه التحديدات والرسوم
والتقسيمات الناضجة المحددة للكلام
وأقسامه، وتحديد كل قسم بلا أمثلة، إنما
بتحديد نظري لم نجد مثله في كتاب
سِيبَوَيه، الذي جاء بعد «علي» — رضي الله
عنه — بمائة وأربعين سنة، وكذا تقسيمه
الأشياء أو الأسماء إلى ظاهر ومضمر غيرُ
منطقي وغير معقول وُجودُه في زمن كزمن
الإمام «علي». أما وضع أبي الأسود لحروف
النصب ونسيانه «لكنَّ» وقول الإمام «علي»
له: هي منها فزِدها فيها، فيدل على أن
النحو قد بلغ في أيامهما أوجَ نضجه
واكتماله؛ لهذا فالرواية غير واقعية ولا مقبولة.»
٧٢ وسار على منهجها من التشكيك
الشيخ «محمد الطنطاوي».
٧٣
وبالسياق نفسه يحاول الدكتور «علي أبو
المكارم» استبعاد أن يكون الإمام «علي» من
أوائل الذين وضعوا النحو، محتجًّا بسببين؛
الأول: وضوح الهدف السياسي من نسبة هذه
الأولية إليه، والثاني: أن طبيعة الظروف
السياسية وعُمق التغيرات الاجتماعية التي
جابهته كانت من العجلة بحيث فرضت عليه
مواجهتها، وشغلت فكره عن الالتفات إلى غيرها.
٧٤
وأما الدكتور «شوقي ضيف»، فقد أعلن أن
«الروايات التي وردت بشأن نشأة النحو على
يد أبي الأَسوَد أو الإمام «علي» تحمل
تضاعيفها ما يقطع انتحالها لما يجري فيها
من تعريفات وتقسيمات منطقية، لا يُعقل عن
علي بن أبي طالب أو عن أحد معاصريه، ولعل
الشيعة هم الذين نحلوه هذا الوضع القديم
للنحو الذي لا يُعقل في شيء وأولية هذا
العلم ونشأته.»
٧٥
وذهب إلى مثل هذا المذهب الدكتور «أحمد
مكي الأنصاري» في بحث له بعنوان «التيار
القياسي في المدرسة البصرية»، فقال: «وإذا
أردنا أن نناقش هذه الروايات — يعني نشأة
النحو — مناقشة علمية هادئة هادفة، ينبغي
أن نستبعد منذ البداية تلك الروايات التي
تَنسب إلى الإمام «علي» — كرم الله وجهه —
أنه هو الذي وضع النحو العربي، وليس معنى
ذلك أن الإمام عليًّا أعجز من أن يضع مثل
هذا النحو المفصَّل، ولكن لأن الزمن لا
يلائم هذا التفصيل المنطقي، كما أن الإمام
«عليًّا» كان مشغولًا بما هو أهم من ذلك
بكثير في تلك الظروف السياسية المضطربة،
التي كانت في أمَسِّ الحاجة إلى جهود
متكاملة.» ثم ذهب الدكتور «الأنصاري»، وهو
يحاول أن يرد الروايات التي نسبت وضع النحو
إلى الإمام علي، إلى أن «نسبة الوضع
التفصيلي للإمام علي جاءت من فكرة التشيُّع
التي تنسب إليه دائمًا عظائم الأمور، في
حين أن مكانته العظيمة في غنًى عن مثل هذا
الانتحال الواضح، ولكن العصبية المذهبية
تطغى على العقول، ومن يدري لعل أبا الأَسود
نفسه هو الذي نسب ذلك إلى الإمام علي؛
إرضاءً للنزعة الشيعية المتعمِّقة.»
٧٦
(ب) البُعد المنطقي
هناك فريق آخر من الباحثين والمفكرين
يرون أن الروايات التي أجمع المؤرخون على
ذكرها في نشأة النحو والمنسوبة إلى الإمام
«علي» تدل على احتمال وقوفه على تقسيم
الكلِم، إلى اسم وفعل وحرف، على المنطق
الأرسطي المتداوَل لدى أهل العراق؛ إذ كيف
يتصور المرء أن إنسانًا مثل الإمام «علي»
يستطيع أن «يجلس بمفرده، ثم يجيل النظر في
محيط اللغة التي يتكلم بها قومه، وهو غير
مُسلَّح بعلم سابق باللغات ولا بمعرفة
مُسبَقة بقواعدها، ثم تنثال عليه المعرفة
ويستخرج منها بنفسه القواعد المذكورة، ثم
يضع لأبوابها تلك الأسماء التي لا يمكن
لأحد وضعها (لأنها تحتاج إلى شخص لديه
معرفة بقواعد اللغات عند الأمم الأخرى)
لأنها مصطلحات علمية منطقية، ولا يمكن أن
تخرج من فم رجل لا علم له بمصطلحات علوم
اللغة والمنطق، ولأنها ليست من الألفاظ
الاصطلاحية البسيطة التي يمكن أن يستخرجها
الإنسان من اللغة بكل سهولة وبساطة حتى
نقول إنها حاصل ذكاء وعقل مُتَّقِد، وكيف
يُعقل أن يتوصل رجل إلى استنباط أن الكلمة:
إما اسم، أو فعل، أو حرف، ثم يقوم بحصرها
هذا الحصر، الذي لم يتغير ولم يتبدل حتى
اليوم، بمجرد إجالة نظر وإعمال فكر، من دون
أن يكون له علم بهذا التقسيم الذي تعود
جذوره إلى قبل الميلاد، ثم كيف يتوصل إلى
إدراك القواعد المعقَّدة الأخرى التي لم
يبتدعها إنسان واحد، وإنما هي من وضع أجيال
وأجيال، إذا لم يكن له علم بفلسفة الفعل،
وعمل الفاعل، وما يقع منه الفعل على
المفعول، وكذلك الأبواب المذكورة التي لا
يمكن أن يتوصل إليها عقل إنسان واحد أبدًا.»
٧٧
ومن هنا يمكننا القول بأنه بغض النظر عن
الجهة العليا التي أشارت إلى «أبي الأسود»
أن يضع مبادئ هذا العلم، فإن الرواية
المنسوبة إلى الإمام «علي» رواية لا تتفق
مع طبيعة العلوم ونشأتها، التي تبدأ
بالملاحظة أولًا، لا بصياغة المصطلحات
والحدود، وذلك يؤكد أن هذه الرواية موضوعة
على لسان الإمام «علي»، لأن عصر «أبي
الأسود الدؤلي» كان عصر ولادة النحو (أي
المرحلة الوصفية)، وليس عصر نضوجه (المرحلة
الاستنباطية)، بل إن المتأمل في رواية
«الزَّجَّاجي» وما تلاها من روايات يجد
أنها تتضمن قضايا نحوية ثلاث: فهي تتناول
أولًا تقسيم الكلام إلى اسم وفعل وحرف، ثم
تعرف كل قسم منها، ثم تتحدث ثانيًا عن
أقسام الأسماء، ثم ثالثًا بذكر حروف نصب
الأسماء. وبشيء من التأمل يتضح أن كل واحدة
من هذه المسائل الثلاث تتطلب قُدرة على
التجريد والتقعيد معًا، وهو ما لم يكن في
عصر الإمام «علي» و«أبي الأسود»، وقد
استغرق الوصول إلى مثل هذه النتائج
التفصيلية أجيالًا كثيرة، حتى عصر
«سِيبَوَيه»، بل إن سيبويه نفسه، الذي يفصل
بينه وبين الإمام «علي بن أبي طالب» قرابة
قرن ونصف قرن، لم يستطع أن يصل إلى هذه
الدقة من التفاصيل التي نُسبت إلى «علي» وعصره.
٧٨
فسِيبَوَيه في كتابه لم يُعرِّف الاسم
بما ذُكر في رواية «الزَّجَّاجي»، التي
تقول: الاسم ما أنبأ عن المسمَّى، ويحدُّ
سيبويه الاسم بقوله: «فالاسم: رجل، وفرس، وحائط.»
٧٩ فلم يذكر سِيبَوَيه ما ذكرته
هذه الرواية المزعومة عن الاسم ووظيفته،
ولذلك فإنني أؤيد قول القائلين عن هذه
الرواية التي رواها الزَّجَّاجي وغيره أنها
«حديث خُرافة، وطبيعة زمن «علي» و«أبي
الأسود» تأبى هذه التعاريف وهذه التقاسيم
الفلسفية، والعلم الذي ورد إلينا من هذا
العصر في كل فرع علم يتناسب مع الفِطرة،
ليس فيها تعريف ولا تقسيم، وإنما هو تفسير
آية أو جمع لأحاديث، ليس فيه تبويب ولا
ترتيب، فأما تعريفٌ أو تقسيمٌ منطقي فليس
في شيء مما صح نقله إلينا عن عصرهما.»
٨٠
فالعلوم لا تُولَد مكتملة النمو، بل تنشأ
ساذَجةً مبعثرة، ثم تنمو وتكتمل، وما ذُكر
في هذه الرواية المزعومة من تبويب وتقسيمات
منطقية لا تصح إلا بعد النمو والاكتمال،
يخالف طبيعة الأشياء في النشأة والتكوين،
ثم النمو والارتقاء.
٨١
نعم إنه من السذاجة تصوُّر أن النحو
العربي قد حمل في نشأته الباكرة على يد
«أبي الأَسوَد» أو الإمام «علي» حدًّا من
التطور فاق كل تطور حققه من بعد طوال أكثر
من قرنين، لأن هذا يجعلنا نصطدم بعقبة
أبستمولوجية، وهذه العقبة تتمثل في أن فصل
المقال في العلم يؤدي إلى فصل المقال في
المنهج؛ الأمر الذي ينجم عنه الاصطدام
بظاهرتين متناقضتين؛ الأولى أن: «النحو قد
نشأ متطورًا؛ حتى إنه يناقش في مرحلة نشأته
ظواهر بالغة الدقة، وقضايا غاية في
التفصيل، في حين أنه — وهذه هي الظاهرة
الثانية — قد جمد بعد ذلك، بحيث لم يستطع
أن يضيف جديدًا من أبواب النحو، ولا أن
يُدرك مزيدًا من ظواهر اللغة.»
٨٢
ولا شك أن هذا كله ضد منطق التطور
الطبيعي، فليس معقولًا أن ينبثق فجأة علمٌ
يتصل باللغة، متكامل المنهج، محدد الظواهر
والأبعاد، دون سابق معاناة في تحديد
ظواهره، وبلورة أبعاد قضاياه، وذلك لأن
اللغة ظاهرة اجتماعية، وتحليل الظواهر
الاجتماعية يتطلب مرحلة طويلة من المعاناة
في تناول الظاهرة المدروسة، والتردد في
تشكيلها طبقًا لتعدد علاقاتها وتنوعها،
«ومن البديهيات في تاريخ الاختراع أن
المنهج الجديد يندُر أن ينشأ فجأة من لا
شيء، ويسبق الاختراع الفني عادة بتطورات في
النظرية العلمية.»
٨٣
إن العقلانية تفرض علينا بأن نؤمن بأن
القواعد اللغوية لا بد من أن تمر بمرحلتين:
- المرحلة الأولى: مرحلة الممارسة العَفوية أو
الإدراكات التلقائية لوجود قواعد،
وهو إدراك نستطيع أن نصفه بأنه
تطبيقي أكثر منه تجريدي، أي أنه
يتم من خلال استيعاب النماذج
اللغوية، وليس بالبُعد عنها، وهو
السبب في قبول ما يقبل من هذه
النماذج، ورفض ما يرفض فيها، من
غير تبرير ذهني مقبول أو مرفوض، ثم
هو إدراك يمكننا أن نسميه جزئيًّا
وليس كُليًّا، فإنه قد لا يستطيع
أن يصل إلى حُكمٍ عام يشمل أحداثًا
لُغوية متعددة، بيد أنه قادر
دائمًا على التعامل مع الأحداث
اللغوية المتعددة، كما حدث منها،
على حدة؛ بالتصويب أو بالتخطئة،
وهو إدراك في مقدرونا أن نوسع
دائرته بحيث يوشك أن يكون «صفة
للمتمكنين» من اللغة، وليس خَصِيصة
لفريق من الباحثين فيها.٨٤
- المرحلة الثانية: مرحلة الوعي العقلي، وهي
مرحلة تتميز بالرؤية التجريدية
التي تحكم كل تطبيق، وهي رؤية
قادرة على الإحاطة الشاملة دون أن
نَتيه في خِضَم الجزئيات، ولكنها —
في مقابل ذلك — محدودة في نطاق
الباحثين في اللغة، وليس صفة لكل
الناطقين بها، ومرحلة الوعي العقلي
لا تتسم بالقِدَم كما تتسم بذلك
مرحلة الإدراك العفوي التلقائي،
فإن هذه المرحلة الأخيرة هي التي
تحفظ للُّغة قدرتها على البقاء
والاستمرار، وتصونها من الاضطراب،
وتنأى بنشاطها عن التخبُّط، ولا
سبيل إلى تصور لغةٍ لا يكون لدى
الناطقين بها إدراك لقواعدها، وإن
كان — في مقابل ذلك — من الممكن
بقاء اللغة، واستمرارها ونموها دون
معرفة عقلية كاملة بقواعدها،
ومرحلة الوعي العقلي بالقواعد
متأخِّرة بالضرورة عن مرحلة
الإدراك العفوي التلقائي لها، وهي
مرحلة لا توجد فجأة ولا تنشأ في
لحظة واحدة، ولا تتم بأساليب
غيبية، فإن كل ذلك يختلف مع طبيعة
المادة التي تتناولها، وهي
«اللغة»، فإن محاولة الإحاطة
بالخصائص اللغوية لأي مستوًى من
مستوياتها يتطلب قدرةً على التجريد
وعلى التقعيد معًا.٨٥
والقدرة على التجريد تستلزم التزام منهج
فكري يعتمد على كلية النظرة، حتى يستطيع أن
يُصدر أحكامًا شاملة تتناول المادة بأسرها،
دون أن يُضلله عن ذلك الركام الهائل من
جزئيات المادة، وصورها المشتقة المبعثَرة،
كما تستلزم في الوقت نفسه إحاطة دقيقة
بالجزئيات، بحيث يرتكز تحليله لما بينها من
علاقات على إدراك حقيقي لها، وهكذا تتسم
النظرة الكلية بالشمول، وتصدر — في الوقت
نفسه — عن إدراك تفصيلي، فهل كانت هذه
القُدرة متوافرة في عصر أبي الأسود؟ من
الواضح أن المادة اللغوية التي كانت محور
دراسة «أبي الأَسوَد» محصورة في النص
القرآني، والنص القرآني — على أهميته
الكبيرة — جزء من المادة اللغوية
المستخدَمة في عصر «أبي الأسود الدؤلي»
نفسه، ثم دراسة «أبي الأسود» له لم تكن
قائمة على أساس تحليل ظواهره التركيبية؛
لافتقاره بالضرورة إلى منهج محدد لهذا
التحليل، وإنما اعتمدت على مجموعة من
الملاحظات العامة التي لا يمكن أن تُسلم
إلى نتائج علمية محددة.
٨٦
والقدرة على التقعيد تتطلَّب مقدرة على
صياغة الظواهر، في تشابُكها وتعددها وتنوع
علاقاتها؛ في قواعد تحيط بها وتدل عليها،
دون أن تتسم هذه القواعد بالاتساع، فتضلل
في فهم الظاهرة بما تُضيفه إليها من ظواهر
أخرى دون أن تتصف بالقصور عن الإحاطة
بأبعاد الظاهرة والإلمام بكل تفاصيلها،
وهذا كله يستدعي نوعًا من الإدراك لهذه
القوانين، نوعًا من التناقض مع طبيعة
التفكير العلمي ذاته، وإذا كان النحو
العربي حتى عصوره المتأخرة قد أضاف فهم
النصوص وتفسيرها إلى النصوص ذاتها؛ فاعتُبر
ما يقدم من هذا الفهم بما يقدمه من كلمات
للشرح، وهذا التفسير بما يتضمنه من عبارات
للتوضيح؛ جزءًا من النص يجب أن يوضع في
الاعتبار حين التقعيد، مما أدى إلى اضطراب
النحاة في فهم الظواهر المختلفة للغة، ومن
ثم أسلم إلى الكثير من التناقض في التقعيد
لها، ألا يصبح — بعد هذا كله — تصور القدرة
على الصياغة التقعيدية للظواهر اللغوية في
عصر أبي الأسود نوعًا من السذاجة، لا
تؤيدها قضايا العلم نفسه.
٨٧