الفصل الرابع

النزعة التجريبية في كتاب سِيبَوَيه

تقديم

ذكرنا في الفصل السابق أن العلم في نشأته وتطوره يمر بالمرحلة الوصفية، فالمرحلة التجريبية، وينتهي إلى المرحلة الاستنباطية، وبيَّنا أن المرحلة الوصفية لنشأة النحو استمدت مشروعيتها من خلال عملية إحداث النقط، وضبط المصحف، التي قام بها أبو الأسود الدؤلي، نتيجة وقوع اللحن في قراءة القرآن، والخوف من تزيد ذلك مع مرور الأيام، ومن حدوث التغيير والتحريف، في نص القرآن؛ فقد كانت نقط أبي الأسود الدؤلي للمصحف فاتحة النحو العربي، والخطوة الأولى في نشوئه ومجسدة لمرحلته الوصفية، وكان لعمله الذي ذكرَته الروايات السابقة ولعمل غيره من القراء المنتشرين في الأمصار الإسلامية أكبر الأثر في نشأة النحو العربي، وإن كانت هذه النشأة ما تزال غامضة لا يُعرف عنها الشيء الكثير؛ وبالتالي كان المستوى المباشر لطبيعة الدرس النحوي في تلك المرحلة، وهو الإدراك الحسي المباشر، لا يتطلب أي نوع من أنواع الاستدلال، ولا يقتضي استصدار أحكام من أي نوع، وبالتالي ظلت المرحلة الوصفية مجرد مرحلة قاصرة على جمع البيانات عن كل الحالات الجزئية موضوع دراسة العلم، كما ظلت قاصرة على محاولة إحصاء ووصف وتصنيف هذه البيانات نفسها، كما أوضحناها من خلال روايات الزَّجَّاجي والأنباري وغيرهما من النحاة المتأخرين.

وفي هذا الفصل ننتقل إلى الحديث عن المرحلة التجريبية لنشأة النحو العربي، والمقصود بالمرحلة التجريبية هنا في تاريخ علم النحو هي المرحلة التي تلي في التطور المرحلةَ الوصفية، ونحن نستعير هنا لفظ «تجريبية» من أحد فلاسفة العلم المعاصرين لنعبر به كما يقول: «عن المعارف التي نحصل عليها عن طريق الاستقراء، أما «الاستقراء» فإننا نفهمه هنا بمعنى واسع للغاية، فهو لا يعني فقط — وكما هو شائع — تلك العلاقة السببية التي توجد بين ظاهرتين، وإنما يعني أيضًا قدرة العقل على تحديد شكل من الأشكال، أو مسارًا من المسارات أو دالة من الدالات الرياضية. وبعبارة أخرى فإن الاستقراء لا يعني فقط تعميم خاصية مباشرة يمتلكها بعض أعضاء الفئة على كل الأعضاء، ولكن يعني استخلاص مجرد فكرة تمكننا من فهم الإدراكات المتفرقة وغير الدقيقة التي حصَّلناها عن الأشياء، والسبب الذي جعل معنى الاستقراء يرتبط في أذهان بعض العلماء بالتعميم، هو أن العالم متاح لملاحظاتنا الحسية في صورة فئات واقعية، ولكن حينما ننتقل — وعلى نحو دقيق — من تحديد العلاقة بين أعضاء الفئة إلى فكرة الفئة نفسها في ميدان علم الكيمياء — مثلًا — فإننا نجد أنفسنا مضطرين إلى تعريف الاستقراء — أولًا — عن طريق العلاقات التكوينية التي توجد بين الأشياء ذاتها.»١
فالمعنى الذي نحدده لمفهوم الاستقراء هنا قريب من المعنى الذي أعطاه له الفيلسوف الألماني «ليبنتز»، كما قال أحد فلاسفة العلم المعاصرين: «ومعنى الاستقراء عند «ليبنتز» يتساوى — دون تمييز — مع المعرفة التي حصلنا عليها عن طريق التجربة، على أن يكون مفهوم «التجربة» هنا عامًّا للغاية، بحيث تدخل فيه كل الأبعاد الحَدسية، وكذلك تلك الخاصة بالمحاولة والخطأ، والتي تصاحب تطور المعرفة بحكم طبيعة المرحلة التي نتحدث عنها.»٢
وتبدو هذه المرحلة التجريبية للنحو العربي أوضح ما تبدو في كتاب سيبويه، وسبب اختيارنا لسيبويه هو أنه من الناحية التاريخية يعرف الجميع أن «سيبويه» (ت١٨٠ﻫ) بعد أن أنهى — طبعًا — كتابة مؤلَّفه «الكتاب»، الذي يُعَد مرحلة متطورة وناضجة من مراحل التفكير النحوي العربي، كان يعتمد في منهجه النحوي على المنهج التمثيلي، والسبب أنَّ طريقة سيبويه اعتمدت العمل الاستقرائي المرتبط بالواقع الاستعمالي لِلُّغة، محاولًا تصنيفها وتحديد علاقاتها على أساس التماثل الشكلي والوظيفي، وصولًا إلى وضع الأحكام والقوانين العامة.٣

إن سيبويه لم يعتمد على التفنن العقلي في تقرير قواعد النحو، بل أخذ يحلل كل النصوص الواردة عن العرب، من شعر وخطابة ونثر … وغير ذلك، فوجد أنهم دائمًا يرفعون الفاعل في كلامهم، فاستنبط من ذلك قاعدة «الفاعل مرفوع» … وهكذا نتجت لدينا «قاعدة نحوية» تُسطر في كتب النحو ليتعلمها الأعاجم فيستقيم لسانهم بالعربية إذا جرت عليه. أفَلَو كان سيبويه وجد العرب ينصبون الفاعل، أكُنا سنجد كتاب القواعد النحوية في الصف الثالث الإعدادي يُخبرنا بأنه يجب علينا نصب الفاعل كلما وجدناه؟ بلى … إن علم النحو مبني على الاستقراء … «القواعد النحوية» مُستنبَطَة من «استقراء» صنيع العرب في كلامهم؛ ولذلك نرى أن نهج سِيبَوَيه في دراسة النحو منهج الفِطرة والطبع والاستقراء للغة العربية من على ألسنة العرب، وليس التفنن والاختراع في تحديد قواعد النحو، ولهذا نلاحظ منهج سيبويه اعتمد بالأساس الأول على الفطرة والسليقة العربية في وضع قواعد النحو، وتحديد مخارج الحروف.

وللحديث عن النزعة التجريبية في كتاب سيبويه لا بد أولًا من عرض محتويات كتاب سيبويه وتحليلها، وأهم الآراء التي قيلت حوله ومنهجيته، ثم بعد ذلك تناول قضية تأثر سيبويه بالمنطق من عدمه، وذلك على النحو التالي:

(١) كتاب سيبويه؛ مكانته وتحليل مضمونه

يُعد كتاب سِيبَوَيه أول كتاب نحوي كامل يظهر للناس، فقد ضمَّنه مؤلفه سيبويه قوانين لغة العرب التي استقاها من لغتهم، وضمَّنه الأبنية التي يستعملونها في هذه اللغة، وموضوعات صرفية أخرى كالتصغير، والنَّسَب، وتضمَّن الكتاب أيضًا دراسات صوتية لغوية كالإدغام، والإمالة، والإعلال والإبدال، فكان بذلك جامعًا موضوعات علم اللغة الحديث كلها: النحو والصرف، والأصوات، وكان علامةً مضيئة في حركة التأليف النحوي.٤
وقد اتخذ كتاب سيبويه مكانة لا يُضاهيه فيها كتاب قواعدَ في أُمَّةٍ من الأممِ، فقد جذَبَ أعيُنَ النَّاظرين، وتنافسَ في دراسته المتنافِسون، وشرحه سبعةٌ وثلاثون شارحًا من كبار فقهاء النَّحو ومُفتيه، وصار دليلًا على تمكُّنِ العالمِ ورسوخه، ولا أدلَّ على عِنايتهم به أنَّ بعضهم كان يسردُهُ غيبًا كما يحفظُ الكتابَ العزيز، وجاء في بعض الروايات أنَّ «عبد الله بن محمَّد الأسلمي» (نحو ٤٣٠ﻫ) كان يختمُه كلَّ خمسة عشر يومًا،٥ وقد عدَّه «السَّكَّاكي» المتوفى ٦٢٦ﻫ، كتابًا لا نظير له في فنه، ولا غنى لامرئٍ في أنواع العلوم عنه، ولا سيما الإسلامية، فإنه فيها أساس وأي أساس،٦ ورآه «ابن حمزة الأصبهاني» المتوفى سنة ٣٦٠ﻫ: «زينة لدولة الإسلام.»٧ ولشدة اعتزاز «المبرِّد» بالكتاب كان يقول: لم يُعمل كتاب في علم من العلوم مثله، وكان «أبو عمرو عثمان المازني»، يقول: «من أراد أن يعمل كتابًا كبيرًا في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحيِ مما أقدم عليه. وقيل: بل قال: فليَستنجِد به.»٨ وكان «صاعد بن أحمد الجياني»، من أهل الأندلس يقول في كتابه «طبقات الأمم»: لا أعرف كتابًا أُلِّف في علم من العلوم قديمها وحديثها، فاشتمل على جميع ذلك العلم، وأحاط بأجزاء ذلك الفن غير ثلاثة كتب. أحدها: المجسطي لبطليموس في علم هيئة الأفلاك، والثاني: كتاب أرسطوطاليس في علم المنطق، والثالث: كتاب سيبويه البصري النحوي. فإن كل واحد من هذه لم يشِذَّ عنه من أصول فنه شيء إلا ما لا خطر له.٩ وجاء في المُزهِر للسيوطي في وصف كتاب سيبويه: «الكتابُ الذي أعجَزَ من تقدَّم قبله، كما امتنع على مَن تأخَّر بعده.» ويكفيه رفعةً أنَّه الكتابُ الذي لا عُنوان له، فإذا قيل: الكتابُ. انصرفَت الأذهانُ إليه لشهرتِه وشهرة صاحبِه، وما تلك الوعُورةُ الظَّاهرةُ في أساليبه إلا بُرهانٌ على عقليَّة سيبويه الفذَّة.١٠
وهذا دليل على أن الكتاب لا يحتوي على النحو والصرف فقط، بل يبحث في مختلف فروع العربية، ويتعرض لكثير من المسائل الدينية والدراسات القرآنية، فهو كالبحر في تعدد ما يحتويه من أصناف العلوم والفنون؛ لذلك كان القدماء يسمونه «البحر»، أو «البحر الخِضَم» تشبيهًا له بالبحر لكثرة جواهره ولصعوبة مَضَايقه، وكان المبرِّد إذا أراد إنسانٌ أن يقرأه يقول له: «هل ركبت البحر؟» تعظيمًا واستصعابًا لما فيه، فكان لن يستطيع تحمل مشاق قراءته والصبر على استخراج دقائقه وعويصه إلا من رَكِب البحر وتحمل أهواله، وإلا من غاص فيه واستطاع استخراج درره وجواهره.١١
ولم يقف إجلال الكتاب على المعجبين بسيبويه من القدماء، إنما تعدَّاهم إلى خصومه، فكان لهم نصيب كبير في الانتفاع به وتقديره لا يقل عن نصيب المحبين، فهذا «علي بن حمزة الكسائي (ت١٨٩ﻫ)، مع خصومته لسيبويه، يقرأ على أبي الحسن سعيد بن مَسعَدة الأخفش كتاب سيبويه، ويدفع له مائتي دينار. قال أبو العباس أحمد بن يحيى عن سَلَمة قال: قال حدثني «الأخفش» أن «الكسائي» لما قدِم البصرة سألني أن أقرأ عليه، أو أُقِرئه، كتاب «سيبويه»، ففعلتُ فوجَّه إليَّ خمسين دينارًا، وقيل: بل وهبه سبعين دينارًا، وكان يقول: كان الكسائي يقول لي: هذا الحرف لم أسمعه فاكتبه لي، فأفعل.١٢
أما «الفراء»، وهو من يعلم تتبعًا لأخطاء «سيبويه»، ومخالفة له حتى في ألقاب الإعراب وتسمية الحروف، والذي كان زائد العصبية عليه، حتى هذا الخصم نراه لا يستغني عن كتاب سيبويه، إنما يقرأه خِلسة، وقد وُجِد الكتاب تحت وسادته بعد وفاته.١٣
ولما كان الكتاب موضوعًا لكل عصر، وليس مقصورًا على دارس دون آخر، نجد المحدثين قد اعتنَوا بدراسته وقدروه حق قدره، ولم يكن تقديرهم له أو رأيهم فيه بأقل من رأي القُدماء، فالجميع رأوا الحق واتبعوه وعبروا في أقوالهم عن إعجابهم وتعظيمهم للكتاب ولمؤلِّفه. فهذا الأستاذ أحمد أمين يقول في معرض حديثه عن نشأة النحو: «وتاريخ النحو في منشئه غامض كل الغموض، فأنَّى نرى فجأة كتابًا ضخمًا ناضجًا، هو كتاب سيبويه، ولا نري قبله ما يصح أن يكون نواة تُبَين ما هو سُنَّة طبيعية من نشوء وارتقاء، وكل ما ذكروه من هذا القبيل لا يشفي غليلًا.»١٤ ويقول عند كلامه على الخليل: «… واكتفى في ذلك بما أوحى إلى سيبويه من علمه، ولقنه من دقائق نظره، ونتائج فكره، ولطائف حكمته، فحمل سيبويه ذلك عنه وتقلَّده، وألف فيه الكتاب الذي أعجز من تَقدَّم قبله، كما امتنع على من تأخر بعده.» ويقول متحدثا عن الكتاب: «وحاز الكتاب ثقة العلماء، وتداولوه بالشرح، وإذا قالوا: الكتاب. فإنما يعنونه، وكل ما أُلِّف في النحو بعده فمبني عليه ومستمَد منه.»١٥
وهذا «بروكلمان» يقول عن سيبويه وكتابه: «وكان سيبويه الفارسي أشهر تلاميذ الخليل، ومصنف أول كتاب جَمع ما ابتكره الخليل إلى محصول الباحثين السابقين.» ويقول في موضع آخر: «أما كتاب سيبويه فهو أقدم مصنَّف، جمع مسائل النحو العربي كافَّة، وقد زاد المتأخرون كثيرًا من تحديد مقاصد النحو، وتبيين حدوده، لكنهم لم يكادوا يضيفون شيئًا ذا بال من الملاحظات المهمة.»١٦
كما تحدث عن الكتاب حديث المقدر المعترف بقيمته الدكتور «أحمد أحمد بدوي»؛ إذ يقول: «أصبح كتاب سيبويه بعد أن ظهر للناس برنامجًا لمن أراد الدراسة العليا في النحو، وأصبح الطالب لا يعد مستكملًا هذا النوع من الدراسة إلا إذا قرأ كتاب سيبويه، وصار اسم الكتاب يطلق عليه، ويفتخر الطلبة بأنهم قرءوه … والكتاب في نظرنا مرجع من المراجع، نعود إليه عندما نؤلف كتابًا في القواعد العربية، وهو صورة لآخر ما وصل إليه التقدم العلمي في النحو في أواخر القرن الثاني الهجري؛ لأن الكتاب ثمرة لهذه الجهود المتصلة في تلك المادة منذ أن بدأها «أبو الأسود»، وهو صورة لما كانت عليه دراسة النحو في ذلك الحين من التعليل، والقياس، والاستنباط، والتفريع، واستيعاب الفروض، وفي رأيي كذلك أن كتاب سيبويه كان الكتاب الأول والأخير في النحو؛ فالكتاب سجل لقواعد النحو، وقف العلماء عندها ولم يزيدوا عليها، وكل من جاء بعده جعل الكتاب أساس دراسته.»١٧
وننتقل إلى عرض وتحليل لكتاب سيبويه؛ ولعل أول ما يلاحَظ على الكتاب أن سيبويه لم يضع له اسمًا يُفرده به، وربما أعجلته وفاته عن تسميته، كما أعجلته عن وضع مقدمة بين يديه، وخاتمة ينتهي بها، فليس في مقدمة الكتاب ما يشير إلى أنه بداية له، وليس في نهايته ما يشير إلى النهاية، فهو مبتور البداية والنهاية، فنحن نفاجأ في أول سطر فيه بهذا العنوان «هذا باب علم ما الكلم من العربية»، وفيه تحدث عن أقسام الكلمة، وأنها اسم وفعل وحرف، ونمضي معه إلى نهاية الكتاب، فنجد الحديث ينقطع عند بيان حذف بعض العرب لحروف في بعض الأبنية تخفيفًا على اللسان، ومثَّل لذلك فيما مثل بقول بعضهم «عَلْمَاءِ بنو فلان» بحذف اللام في على، أي: على الماء بنو فلان. ونحس كأنه لا تزال في نفسه بقية يريد أن يضيفها للكتاب، ولعلنا لا نبعد إذا قلنا إنه لم يأخذ الفرصة الكافية كي ينقح الكتاب، ويخرجه إخراجًا نهائيًّا، وربما كان هذا هو السبب الحقيقي في أننا نجد عنده شيئًا من الاستطراد كأن يتحدث في بعض أبواب النحو عن مسائل صرفية، وكان يتعرض لبعض صيغ ليست من الباب؛ كتعرضه لبعض صيغ الحال في حديثه عن النعت، وقد يتحدث عن باب في موضعين، على نحو ما صنع بجموع التكسير في الجزء الثاني من الكتاب.١٨

وينبغي ألا نظن من ذلك أن الكتاب لم يُكفَل له منهج سديد في التصنيف، فقد نسق سيبويه أبوابه وأحكمها إحكامًا دقيقًا، وخاصة إذا عرفنا أنه أول كتاب جامع في قواعد النحو والصرف، فقد جعله في قسمين كبيرين هما: القسم الأول، وهو في أبواب النحو، والقسم الثاني، في أبواب الصرف والأصوات، وقد تضمن القسم الأوَّل المطبوع الأجزاء الآتية: الجزء الأول: مقدمة الكتاب، وإسناد الفعل؛ والجزء الثاني: إسناد الاسم، وأحوال إجرائه على ما قبله؛ والجزء الثالث: الإسناد الذي بمنزلة الفعل، وقد ضم: الحروف الخمسة، وكم، والنفي بلا، والاستثناء؛ والجزء الرابع: أحكام الإسناد مع بدائل الاسم المُظهَر التام المنوَّن: المضمر، والاسم الناقص، وما لا ينصرف، والأسماء في باب الحكاية. وقد ضم القسم الثاني، الذي هو في الصرف والأصوات — لما يطبع — الأجزاء الآتية: الجزء الأول: أعراض اللفظ، تناول سيبويه في هذا الجزء ما يقع في اللفظ من الأعراض عند النَّسَب، والتثنية، وجمع التصحيح، وإضافة الأسماء الستة وغيرها إلى الضمائر، والإضافة إلى ياء المتكلم، والتصغير، وحروف الإضافة إلى المحلوف به (القسم)، والتنوين، والتوكيد بالنون، وتضعيف آخر الفعل، والمقصور والممدود، والهمز، والعدد، وتكسير الواحد للجمع، وبناء الأفعال ومصادرها وما يُشتَق منها. الجزء الثاني: تأدية اللفظ، تناول سيبويه في هذا الجزء ما يجري في اللفظ عند التلفُّظ به من تغيير صوتي، وصرفي، وأبواب هذا الجزء: تلفظ أمثلة الأفعال، والأسماء، نحو يفعَل من فعَل، والإمالة، وإلحاق الهاء فيما يصير حرفًا نحو: عِه، وألف الوصل، والوقف، والإنشاد. والجزء الثالث: بناء اللفظ، وقد تناول سيبويه في هذا الجزء كيفية بناء اللفظ، وعدد حروفه، وأحواله في الزيادة، والإبدال، والتصريف، والقلب، والتضعيف، والإدغام الذي ضم خمسة وستين بابًا، فهو أطول الموضوعات في هذا الجزء، وبه يتم الكتاب.

ويتضح من هذا العرض أنه يخالف في ترتيبه الترتيبَ التي تتبعه كتب النحو والصرف اليوم، فأول ما يلاحظ من هذا الاختلاف أن ترتيب أبواب الكتاب يختلف عما في كتب المتأخرين، فهو لا يذكر المرفوعات على حدة، وإنما يخلط بعضها بالآخر، فيذكر المسنَد والمسنَد إليه، ثم ينتقل إلى الفاعل والمفعول والحال، والحروف التي تعمل عمل ليس، وإلى المبتدأ والخبر والاستثناء، ولا يسير في ترتيب أبوابه وفصوله ترتيبًا منطقيًّا سليمًا، فهو يقدم أبوابًا من حقِّها أن تتأخر، ويؤخر أبوابًا من حقها أن تتقدم، ويضع فصولًا في غير موضعها.١٩ وهو يذكر الباب العام ويتكلم عليه، ثم يعقد بابًا خاصًّا لكل مسألة صغيرة حتى يستغرق الكلام جزئيات الموضوع الواحد ومسائله الصغيرة، ولا يذكر مسائل الباب الواحد متصلة متتابعة، بل يذكر بعضها في بعض وبعضها الآخر في موضع ثانٍ، بعد أن يفصل بينها بأبواب غريبة عنها، وفي هذا تجزئة للموضوع الواحد، وتفرقة لمسائله في مواضع كثيرة.٢٠
أما فيما يتعلق بمنهجية سيبويه في الترتيب، والتبويب، والمصطلحات فإننا نلاحظ أنه على الرغم من أن كتابه أول كتاب وصل إلينا في النحو يحاول أن ينهج النهج الطبيعي القريب إلى الإفهام والإدراك في زمانه؛ حيث كان الناس، وكانت مؤلفاتهم، تعتمد على ما يدور في مجالسهم من آراء ومناقشات، وروايات في مختلف الموضوعات، ويعتمد كل موضوع في هذه المؤلفات على أسلوب هؤلاء الشيوخ وطريقتهم في الجدال والنقاش؛ لذلك نجد أسلوب سيبويه في الكتاب يختلف من باب إلى آخر تبعًا للموضع نفسه، ولسهولته أو صعوبته، ولتحديد معالمه في زمانه أو جدته عليه؛ لأن سيبويه عمل كتابه على لغة العرب وخُطبها وبلاغتها، ولذلك كانت ألفاظه تحتاج إلى عبارة وإيضاح؛ لأنه ألف في زمان كان أهله يألفون مثل هذه الألفاظ، فاختصر على مذاهبهم. اتبع سيبويه في كتابه أسلوب العرض السهل السريع القائم على الإيجاز في التعبير والإكثار من الأمثلة، فهو يعرض القاعدة ثم يمثل لها بأمثلة مُستقاة من كلام العرب. مثال ذلك كلامه في باب «اللفظ للمعاني». يقول: «اعلم أن من كلامهم اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين، واختلاف اللفظين والمعنى واحد، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين، فاختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين هو نحو: جلس، وذهب. واختلاف اللفظين والمعنى واحد نحو: ذهب، وانطلق؛ واتفاق اللفظين والمعنى مختلف قولك: فوَجدتُ عليه، من الموجِدة، ووجدتُ، إذا أردت وجدان الضالَّة وأشباه هذا كثير.» وقد يُفسر ما يقوله كما نرى عند كلامه على باب نفي الفعل.٢١
فهو هنا يحاول أن يوضح أمثلته ويُقربها إلى أذهان القارئين بتشبيه عبارة بأخرى أقرب منها إلى الأذهان؛ يفعل هذا في الأبواب البسيطة الواضحة، وقد يستشهد بآراء شيوخه أو بفصحاء العرب في المواضع الصعبة التي يرى أنه من الواجب أن يستشهد عليها بآرائهم، أو لاختلاف شيوخه في المسألة الواحدة، ولنستمع إليه في باب «ما يذهب التنوين فيه من الأسماء لغير إضافة، ولا دخول الألف واللام، ولا لأنه لا ينصرف، حيث كان القياس أن يَثبُت التنوين فيه»٢٢ فهو ينقل هنا رأي «يونس» و«أبي عمرو» وفُصحاء العرب؛ لحاجته إلى آرائهم في هذا الموضوع، ولاختلاف العرب فيه، ونجده يشير إلى صحة قول «يونس» بقوله: «وهكذا سمعنا من العرب.»٢٣
في هذه الأمثلة، وفي غيرها نجد أسلوب سيبويه سهل الفهم قريب التناول ويعسُر، في بعض الأحيان فَهمُ تعبيره لغموض العبارة واستغلاقها، مثال ذلك قوله عند كلامه في باب الأمر والنهي.٢٤
وسيبويه في طريقة بحثه يذكر القاعدة وأمثلتها، ويمزج ذلك بالتعليلات وبيان وجه القياس، ويعرض الآراء المختلفة في الموضوع الواحد، ويفضل بعضها حسب ما يراه موافقًا للصواب، ويفرض فروضًا يضع لها أحكامًا فيقول مثلًا: «إذا سميت رجلًا بإثمِد لم تصرفه؛ لأنه يشبه اضرِب؛ وإذا سميت رجلًا بإصبَع لم تصرفه؛ لأنه يشبه اصنَع؛ وإن سميته بأبلُم لم تصرفه؛ لأنه يشبه أقتُل.»٢٥
وكثيرًا ما نجد سيبويه يمزج أبواب النحو في صورة عجيبة، فهو ينتقل من الباب إلى غيره، قبل أن يستوفي أحكامه، فمثلًا نجد الكلام على الفاعل قد ابتدأ من الصفحات الأولى في الكتاب، ونثر الحديث عنه في صفحات الكتاب في قفزات غير منتظمة، بحسب تداعي المعاني الذي أثر على منهجه، فهو لا يحدثك عن أحوال الفاعل مع فاعله تذكيرًا وتأنيثًا إلا عند حديثه عن الصفة المشبَّهة، ليقول: «إن الوصف مع مرفوعه كالفعل مع فاعله في التذكير والتأنيث.»٢٦ ولكنه لا يستكمل الحديث على تأنيث الفعل للفاعل إلا في الجزء الثاني،٢٧ فضلًا عما أسبغه على الفاعل من أبواب ليس لها بها علاقة مباشرة، والحديث فيها أو لأجلها قد لا يختص بالفاعل.٢٨
وتتعجب من منهجه وهو يقدم لك المادة النحوية؛ المرفوع إلى جانب المنصوب والمجرور، فعندما تحدَّث عن المسنَد والمسنَد إليه،٢٩ كان عليه أن يستوفي أبواب المسنَد إليه؛ من ابتداء أو فاعلية أو غيرهما، ثم يعود إلى المسنَد ليستوفي أنواعه وأحكامه، ولكنه لم يتَّبع ذلك، وكثيرًا ما تقول وأنت تقرأ الكتاب: ليت ذلك الباب وُضِع هنا، أو ليت ذلك الفصل قد انتقل إلى هناك، وقد يكون باب الإسناد أحسن حالًا من باب الحال، الذي لم يضع له عنوانًا مميزًا، بل نثر الكلام عليه هنا وهناك؛ فنجده ضمن أبواب المفعول، والمفعول المطلق، والتوكيد، والمصادر، والاستفهام، موزِّعًا مسائله في أماكن شتي تبعًا للمناسبات التي تستدعيها،٣٠ فهو وإن فكر في صناعة الأبواب لمسائل النحو، إلا أنه لم يستطع ضم مسائل كل باب بعضها إلى بعض، ليُكوِّن منها سلاسل متصلة الحلقات متتابعة الاختصاص، بل راح يذكر بعضها في موضع ولا يوفيه حقَّه من البحث إلا في موضع آخر، بحسب استدعاء المناسبة له، وكأنما برزت العلاقة بين المسألتين أو المسائل النحوية بطريق الصدفة، فأثبتها في مكانها لكي لا تُنسى، ولو فكر في وضع كتابه وضعًا أخيرًا ونهائيًّا، فربما كان يجمع المتفرق إلى بعضه، ويخلص كل باب مما هو بعيد الصلة به، فيجعل حديثه عن المرفوعات أولًا، حتى إذا ما انتهى منها، انتقل إلى المنصوبات، فالمجرروات … وهكذا، ولكن فكرة الأبواب لم تكن بعد قد تميزت عنده التميز الكافي، شأنها شأن النحو نفسه، والذي لم يتميز عنده بعدُ عن غيره من علوم العربية، فكثير من الأبواب لم تتحدد معالمه.٣١
هذا النظام في التبويب جعل سيبويه يضطر إلى وضع المسائل النحوية في صورة أبواب كبرى شاملة، تندرج تحتها أبواب صغرى ومسائل متعلقة برأس الباب، فطال العنوان بالقدر الذي تضمه مسائل الباب من مشكلات، فلكي يتحدث مثلًا عن الأفعال المتعدِّية واللازمة، وما يعمل عملها من المشتقات، عقد لها بابًا من أطول عنوانات الكتاب، قال فيه: «هذا باب الفاعل الذي لم يتعدَّ إليه فعلُ فاعل، ولا تعدَّى فعلُه إلى مفعول آخر، وما يعمل من أسماء الفاعلِين والمفعولِين عمل الفعل الذي يتعدَّى إلى مفعول، وما يعمل من المصادر ذلك العملَ، وما يجري من الصفات التي لم تبلُغ أن تكون في القوة كأسماء الفاعِلِين والمفعولِين، التي تجري مجرى الفعل المتعدي إلى مفعول مجراها، وما أُجري مجرى الفعل المتعدي إلى مفعول مجراها، وما أُجري مجرى الفعل وليس بفعلٍ ولم يقوَ قوته، وما جرى من الأسماء التي ليست بأسماء الفاعلِين التي ذكرت لك، ولا من الصفات التي هي من لفظ أحداث الأسماء ويكون لأحداثها أمثلة لما مضى وما لم يمضِ، وهي التي لم تبلغ أن تكون في القوة كأسماء الفاعِلِين والمفعولِين التي تريد بها ما تريد بالفعل المتعدي إلى مفعول مجراها، وليست لها قوة أسماء الفاعلِين التي ذكرت لك، ولا هذه الصفات، كما أنه لا يقوى قوة الفعل وما جرى مجراه وليس بفعل.»٣٢ ثم بعد هذا يفصل سيبويه ما أجمله هنا في أبواب كثيرة،٣٣ هذا التفصيل قاده أحيانًا كثيرة إلى الاستطراد والانتقال إلى موضوعات قد لا تكون الرابطة بينها قوية، وهو واحد من المآخذ على الكتاب.٣٤
أما عناوين الكتاب فتبدو في أمور كثيرة غامضة كل الغموض، وهذا الغموض قد يصل خفاؤه إلى أن يقف القارئ أمامه لا يُدرك قدرة حتى يقرأ الباب كلَّه أو جُلَّه، ليستنتج من الأمثلة أن هذا الباب انعقد لكذا؛ فمثلًا قوله: «باب الفعل الذي يتعدى اسم الفاعل إلى اسم المفعول، واسم الفاعل والمفعول فيه لشيء واحد.»٣٥ لا أعتقد أن القارئ سيفهم منه، لمجرد العنوان، أن سيبويه عقده للكلام على «كان وأخواتها»، وذلك للغموض الذي يلفُّه باستخدام مصطلحات «اسم الفاعل، واسم المفعول» بدلًا من «اسم كان وخبرها»؛ لأن التفكير قد ينصرف أثناء قراءة هذا العنوان إلى الاسم المشتق الذي يجيء على وزن «فاعل» أو «مفعول» ويعمل عمل فعله،٣٦ أما إطلاق اصطلاح «الفاعل» على اسم كان، و«المفعول» على خبرها، فعلى المجاز، لشَبَه الأول بالفاعل والثاني بالمفعول،٣٧ ومثل ذلك غموضًا وخفاءً البابُ الذي عقده للتنازُع، مُعنوِنًا له بقوله: «هذا باب الفاعلَين والمفعولَين اللذَين كل واحد منهما يفعل بفاعله مثل الذي يفعل به.»٣٨ فما حَلَّ هذه الرموز غير قوله: «وهو قولك، ضربت وضربني زيد، وضربني وضربت زيدًا.»٣٩
وهنا ينبري الدكتور «علي النجدي» يحدثنا عن منهج سِيبَوَيه، فيقول: «نهَجَ سيبويه في دراسة النحو منهج الفطرة والطَّبْع، يدرس أساليب الكلام في الأمثلة والنصوص؛ ليكشف عن الرأي فيها صحةً وخطأً، أو حسنًا وقُبحًا، أو كثرةً وقلةً، لا يكاد يلتزم بتعريف المصطلحات، ولا ترديدها بلفظ واحد، أو يفرع فروعًا، أو يشترط شروطًا، على نحو ما نرى في الكُتب التي صُنفت في عهد ازدهار الفلسفة واستبحار العلوم.»٤٠
ونفس الشيء أكد عليه الدكتور «حسن عون» حين قال: «إننا نظلم الكتاب حينما نعتبره كتابًا في النحو، كما أننا نظلم النحو نفسه حينما نفهمه بذلك المعنى الضيق الذي يتعارف عليه الناس في عصرنا هذا … كتاب سيبويه يمثل النحو في شبابه الزاهر، ويرويه لنا في صُوَره الخصبة الأولى.»٤١
ومن هنا نخلص إلى أن كتاب سيبويه لم يتجاوز المرحلة التجريبية، تلك المرحلة التي تُبين استحالة تأثر سيبويه بالمنطق الأرسطي بسبب منهجه التجريبي الذي اتَّبعه، وأهم ما يلاحَظ في هذا المنهج عند سيبويه هو أنَّ منهجيَّته في الكتاب اعتمدت على العمل الاستقرائي المرتبِط بالواقع الاستعمالي لِلُّغة، محاولًا تصنيفها وتحديد علاقاتها على أساس التماثُل الشكلي والوظيفي، وصولًا إلى وضع الأحكام والقوانين العامة،٤٢ بقدر المستطاع، وهذا ما جعل أسلوبه يتَّسم بالتباين بين الوضوح تارة، والغموض تارة أخرى، ممَّا استدعى، في أحيان كثيرة، شرح اللاحقين وتوضيحهم، في حين تميز أسلوب النحاة اللاحقين غالبًا، وبالأخص عند نحاة القرن السادس الهجري وما تلاه، ويجسد هذا الاختلاف تحول أسلوب معالجة المسائل النحوية؛ إذ تحوَّلت من التأسيس تمثيلًا لدى سيبويه إلى التأسيس صياغةً لدى النحاة اللاحقين، فلم يكن مثلًا مفهوم الكلام النحوي محدَّدًا عند سيبويه ومصاغًا بعبارة واضحة، في حين حُدِّد فيما بعد وقُسِّمَ ووُضع حدٌّ لكل قسم، وفُرِّق بينه وبين الكلِم، والكلمة، والقول، واللفظ.

وهذا إن دلَّ فإنما يدل على أنَّ النظرة النحوية اللاحقة في المنهج والأسلوب قد اتَّسمت في أغلبها بالتنظيم والشمول، ومحاولة التفصيل في القضايا النحوية المطروحة، وهو الذي جرَّ النحاة — فيما يبدو — إلى إشاعة النقاشات والحوارات والجدل، والتي أفضت بدورها إلى إشاعة التأويل والتعليل والعبارات الفلسفية والمنطقية التي تتطلَّبها أصول المناقشة والجدل.

فبعد سيبويه ظهر نحاة كبار ارتقوا بالدرس النحوي ومصطلحاته، فصقلوا ما نقلوا، وزادوا على ما وجدوا، وطوروا وابتكروا، ووفَّوا المصطلح حقَّه من الدقة والإيجاز والوضوح، ومنهم قُطرُب محمد بن المستنير (ت٢٠٦ﻫ)، والأخفش الأوسط سعيد بن مَسعَدة (ت٢١١ﻫ)، وأبو عمر الجرمي صالح بن إسحاق (ت٢٢٥ﻫ)، وأبو عثمان المازني بكر بن محمد (ت٢٤٩ﻫ)، وأبو العباس المبرِّد محمد بن يزيد. فقد استطاع هؤلاء النحاة البصريون بمناقشاتهم الخصبة أن يرتقوا بمصطلحات النحو إلى مرحلة من النضج قاربت الكمال، وفي هذا نجد الدكتور «حسن عون» في كتابه الدرس النحوي قائلًا: «أما النُّحاة بعد سيبويه، فإنهم يوجهون هَمَّهم إلى صياغة القاعدة النحوية أولًا صياغةً علمية منهجية تكشف عن مدى التأثر بالنظريات والمبادئ الفلسفية: تعريف، ثم تقسيم للأنواع، ثم حصر للنماذج المستعمَلة؛ فتراهم هنا يفرقون بين «إن» المكسورة الهمزة، والمفتوحة الهمزة؛ ثم يذكرون مواضع استعمال الأولى مع ذكر الأمثلة على ذلك، ومواضع استعمال الثانية مع ذكر الأمثلة.»٤٣

وفي هذه الحقبة نفسها ظهر نُحاة الكوفة، وأبرزهم: «الكِسائي»، و«يحيى بن زياد الفَرَّاء»، و«أبو العباس أحمد بن يحيى، ثَعلب» (ت٢٩١ﻫ)، وحاولوا أن يصوغوا آراءهم بمصطلحات جديدة، فلم يصيبوا إلا حظًّا يسيرًا من التوفيق، ودل الدرس النحوي على أن مصطلح الكوفيين للمواد النحوية مصطلح لا يتصف بالشمول والسعة، وعلى أن الكوفيين يفتقرون إلى الإحكام في مصطلحهم، وآية ذلك أن المصطلح الواحد عندهم يدل على موضوعات عِدة؛ كمصطلح «التفسير» الذي يعني عندهم التمييز، والمفعول لأجله. وآيته كذلك أن نحاة بغداد ومصر والأندلس في القرن الرابع الهجري والقرون التي أعقبته آثروا مصطلح البَصرة على مصطلح الكوفة فيما صنفوا، وأن «ابن يَعيش» و«ابن هشام الأنصاري» و«أبا حيَّان الأندلسي» و«جلال الدين السيوطي» وأمثالهم استطاعوا أن يكتبوا بمصطلحات البصرة أضخم كُتب النحو في لغة العرب.

(٢) تحليل مصطلحات سِيبَوَيه

نقل سيبويه إلى الأجيال مصطلحات «الخليل بن أحمد» واستعمالات أسانيده، وأضفى عليه من ذكائه وفطنته وقدرته على التحليل والاستنتاج، فحاول أن يجعل أبواب كتابه واضحة سهلة المنال، ووضع المصطلحات النحوية وضعًا أشرف على الاستقرار، وفسَّر بعض المصطلحات ببعض، أو قُل عبَّر عن بعضها بأكثر من تعبير، وحاول صناعة المصطلح النحوي ليستقر في صورته النهائية، وما لم يُسعفه جهده بالظفر به لجأ إلى وصفه وتصويره بالأمثلة الكثيرة الموضِّحة، فكان شأنه في ذلك شأن المعلم القدير الذي يَفتن في طرق تدريسه، فتارة يسلك سبيل الاستقراء، وتارة يتبع طريقة الاستنتاج … وهكذا، بل إن سيبويه يرى في بعض الأحيان أن المصطلح الذي وضعه يقصر عن تحقيق الغرض، فيُردِفه بالتصوير والوصف.٤٤
ومن الملاحظ أن سيبويه يقتصر في أكثر حدود مصطلحات الكتاب على التعريف بالمثال، قاصدًا به إيضاح المعرف، فيقول في تعريف الاسم: «فالاسم: رجل، وفرس، وحائط.»٤٥ وعلل النحاة بعده عدم تعريفه الاسم بالحد بأنه «ترك تحديده ظنًّا منه أنه غير مشكل»،٤٦ وفي تعريف الضمير: «وأما الإضمار، فنحو: هو، وإياه، وأنت، وأنا، ونحن.»٤٧ وفي تعريف الإشارة يقول: «وأما الأسماء المبهَمة، فنحو: هذا، وهذه، وهذان، وهاتان»،٤٨ «والنصب في المضارع من الأفعال: لن يفعلَ، والرفع: سيفعلُ، والجزم: لم يفعلْ.»٤٩ وافتقاد التعريف بالحد كان أمرًا تفرضه طبيعة المرحلة التي يجتازها العِلم زمن سيبويه؛ فقد كان النحو في بدايته، وكان هم النُّحاة حينئذٍ جمع المادة العلمية لحفظها وتفهمها، ولم تكن الدراسة آنذاك قد بلغت المستوى الذي يؤهلها لتثبيت المعاني الاصطلاحية بشكل حدود دقيقة.٥٠
وفي أمور كثيرة نلاحظ أن كتاب سيبويه يخلو من التعريف المنطقي إلى حدٍّ ما، فهو مثلًا لم يُعرف الفاعل، ولم يُعرف الحال، ولم يُعرف البَدَل، ولا غير ذلك من أبواب النحو، ويكتفي في الأغلب بذكر اسم الباب، ثم يبدأ مباشرة بعرض القواعد المستخلَصة من الاستعمال، فيقول مثلًا: «هذا باب الفاعل الذي يتعدَّاه فعله إلى مفعوله. وذلك قولك: ضرب عبد الله زيدًا. عبد الله ارتفع ها هنا كما ارتفع في «ذهب»»،٥١ «وهذا باب ما يرتفع فيه الخبر لأنه مبني على مبتدأ، أو ينتصب فيه الخبر لأنه حالٌ لمعروف مبني على مبتدأ.»٥٢ أو أن يقول: «اعلم أن النداء كل اسم مضاف فيه فهو نصب على إظهار الفعل المتروك إظهاره، والمفرد رفع وهو في موضع اسم منصوب.»٥٣ ومن النادر جدًّا أن نجد عنده تعريفًا كالتعريف الذي قدمه عن الفعل بأنه «أمثلة أُخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبُنيت لما مضى، ولما يكون ولم يقع، وما هو كائنٌ لم ينقطع.» وإنما جُل تعريفاته تقوم على التمثيل كقوله: «الاسم: رجل، وفرس، وحائط.» أو تمييز المعرَّف بشيء من خواصه، كقوله: «والتضعيف أن يكون آخر الفعل حرفَين من موضع واحد، وذلك نحو رددت، واجتررت، وانقددت، واستعددت …»٥٤ وهكذا فإن كتابه كله، على شموله، لا يخرج عن هذه الأمثلة من التعريف، وهو دليل على أنه لم يطبق المنهج الأرسطي فيه، وقد يكون دليلًا على أنه لم يعرف هذا الأصل في المنطق الأرسطي معرفةً كان من الجائز أن يبدو لها أثر في الكتاب قبولًا أو رفضًا.»٥٥
ولذلك من النادر جدًّا أن نجد عند سيبويه تعريفًا دقيقًا كالتعريف الذي قدمه عن الفعل بأنه «أمثلة أُخذت من لفظ أحدث الأسماء، وبُنيت لما مضى، ولما يكون وما لم يقع، وما هو كائنٌ لم ينقطع.»٥٦ أي إن الأفعال أبنيةٌ أو صِيَغ مأخوذة من المصادر، فهي تدل بمادتها على المصدر أو الحدث، وبصيغتها على زمان وقوعه من ماضٍ أو حاضر أو مستقبَل، ويفرق بين هذه الأقسام بالتمثيل، وجُل تعريفاته في الكتاب تقوم على التمثيل، أو تمييز المعرَّف بشيء من خواصه، كقوله: «والتضعيف أن يكون آخر الفعل حرفين من موضع واحد، وذلك نحو: رددت، وددت، واجتررت، واستعددت.»٥٧ وهذا التعريف يُعَد من قبيل الحد بالرسم، وفي هذا النوع من التعريف تُحصَر خواص التعريف أو علاماته، أو تُذكَر علامته البارزة التي تميزه عن غيره، وهنا ذَكَر خواص المعرَّف وفرَّق بين أقسامه بالمثال لا بالتعريف.٥٨
وفي بعض الأحيان يذكر سيبويه حدودًا إذا اشتبه بغيره، فيميزه، أو يجمع صفاتهما معًا في تعريف واحد ليخلص لقاعدة النحو تجمعهما، في مثل تعريفه لنون التوكيد الخفيفة والتنوين؛ إذ يقول: «النون الخفيفة والتنوين من موضع واحد، وهما حرفان زائدان، والنون الخفيفة ساكنة كما أن التنوين ساكن، وهي علامة توكيد كما أن التنوين علامة المتمكِّن، فلما كانت كذلك أجريت مجراها في الوقف، وذلك قولك: اضرِبًا، إذا أمرت الواحد وأردت الخفيفة.»٥٩
ويستخدم سيبويه أحيانًا الحد بالنقيض أو الضد، في قوله في حد الحرف: «وحرف جاء لمعنًى، ليس باسمٍ ولا بفعل».٦٠ وفي مثل هذا التعريف لن تستطيع معرفة الحرف دون أن تكون مُدركًا لمفهومَي الفعل والاسم، وهكذا في الحدود في كتاب سيبويه لا تخرج عن المثال أو العلامة أو الوصف أو الضد.٦١
من كل ما سبق يتضح لنا أن سيبويه لم يتجاوز المرحلة التجريبية في كتابه، ويمكن أن نُجمل مظاهر هذه النزعة لديه على النحو التالي:
  • المظهر الأول: أن الحدود النحوية مرتبطة بالمصطلح النحوي، والمصطلح النحوي في زمن سيبويه لم يستقر بعد، وصياغة الحدود أو التعريفات لا تستقر إلا باستقرار المصطلح، والمتتبِّع لمصطلحات كتاب سيبويه يواجه صعوبة كبيرة في تحديد أُطُرِها، وجمع المتشابه منها إلى بعضه؛ وذلك للأساليب التي كان يسلكها في التعبير عن هذه المصطلحات، فهو إما يحوم حول المصطلح بالوصف، والتصوير، والتمثيل بالنظير وذِكر النقيض، وإما يورد المصطلح بصور وأشكال مختلفة من التعبير، ولهذا لم تُصَغ التعريفات الأولى للمصطلحات النحوية الصياغة نفسها التي صيغت فيها فيما بعد.٦٢
  • المظهر الثاني: تخلو الحدود النحوية في هذه المرحلة من الحدود المنطقية الأرسطية، وقد كان اهتمام النحاة في هذه المرحلة الوصول إلى إدراك فهم المصطلح النحوي ومعناه دون أن يهتموا بالأسس الفلسفية في صياغة هذا المعنى أو المفهوم؛ لهذا نجد الحدود النحوية في هذه المرحلة حدودًا لغوية وصفية تمثيلية في أغلبها.٦٣
  • المظهر الثالث: ارتباط الحدود النحوية باستنباط القواعد والأحكام النحوية وتطبيقها، فعندما يُعرِّف سيبويه الاسم بالمثال ويقول: «الاسم: رجل، وفرس، وحائط.» نجد في مثاله قاعدة يُقاس بها بمعرفة الشبه بينها وبين المثال، فنميز بين الاسم وسائر الكلمات إلى حد ما، إلا أن بعض الأسماء لا نستطيع قياسها على هذا المثال؛ كأسماء الاستفهام. وصياغة الحدود بالمثال تناسب مرحلة الاستقراء والتحليل التي يمر بها النحو العربي مع سيبويه قبل أن يصل إلى الصياغة العلمية الموضوعية المنظمة.٦٤
  • المظهر الرابع: لا يهتم سيبويه بشكل الكلمة في التركيب اللغوي قدر اهتمامه بمعناها ووظيفتها وصِلتها بغيرها من مفردات الجملة؛ ومعنى هذا أن التصنيف النحوي المؤسَّس على شكل الكلمة الإعرابي لم يُعرَف بطريقة حاسمة إلا فيما بعد، حينما تحول الحديث عن الإسناد وأنواعه وأجزائه وخواصه إلى حديث عن الأشكال الإعرابية: مرفوعات، ومنصوبات، ومجرورات، ومجزومات، وهذا موقف طبيعي؛ إذ إن الحديث عن الشكل أو عن القاعدة النحوية مجردةً من النص اللغوي لا يتأتى إلا بعد فترة زمنية تسمح للتفكير المنطقي — لا السليقة اللغوية — أن يتدخل فيصيغ القاعدة النحوية لنظرية تجريدية، ولا يتلاءم هذا عقليًّا مع عصر سيبويه.٦٥
  • المظهر الخامس: عند تتبَّعنا للحدود النحوية في كتاب سيبويه وجدناها قليلة جدًّا، وما ذكر منها اعتمد على التمثيل في أكثره، وهذا النمط من التعريفات هو السائد بين النحاة زمن الخليل وسيبويه وتلاميذهما؛ فالأخفش (ت٢١٥ﻫ) مثلًا يحد الاسم فيقول: «الاسم ما جاز فيه: نفعني، وضربني.» وسار المبرِّد «في المقتضَب على نهج سيبويه، غير أنه يضيف على حدود سيبويه في بعض الأحيان، كما في حده للاسم، وينقلها كما هي في أحيان أخرى، كما في حده للضمير.»٦٦
  • المظهر السادس: المصطلحات النحوية المألوفة في الكتب النحوية لا نعثر عليها إلا نادرًا عند سيبويه، وهذا بدوره موقف طبيعي يتفق مع أولويات البحوث العلمية قبل أن تستقر أوضاع العلوم وتثبت مصطلحاتها، ومن أجل ذلك نجد سيبويه يلجأ إلى مصطلحات فجَّة بدائية؛ وقد يستعيض عن ذلك بالدوران حول القضية أو المسألة على الظاهرة النحوية؛ مثل هذا: باب ما ينتصب من الأماكن والأوقات، وذاك لأنها ظروف تقع فيها الأشياء وتكون فيها، فانتصب لأنه موقوعٌ فيها، ومَكُونٌ فيها، وعمِل فيها ما قبلها، كما أنه إذا قُلت: أنت الرجل علمًا، عمل فيه ما قبله، وكما عمل في الدرهم عشرون إذ قُلت: عشرون درهمًا، وكذلك يعمل فيها ما بعدها، وما قبلها. ولقد صيغ هذا كله فيما بعد بهذه المصطلحات الثلاثة: ظروف الزمان، وظروف المكان، والتمييز.٦٧
  • المظهر السابع: ظاهرة الاستطراد شائعة عامة في كتاب سيبويه؛ فالمسألة الواحدة تستدعي مسائل أخرى، والموضوع قد يتشعَّب إلى موضوعات عديدة، وصنيعة هذا يُعَد صورة مصغَّرة لما كان يجري بين العلماء وفي مجالسهم، سواء كان الدرس اللغوي أو النحوي شفويًّا؛ غير أن استطراد سيبويه لا يبعد القارئ في هذا الاستطراد نوعًا من المتعة العلمية؛ حيث يعرض عليه نماذج من النصوص اللغوية مصحوبة بالبيان والشرح، وذلك عكس ما نجده في الكتب النحوية المتأخرة؛ حيث يكون الاستطراد مصحوبًا بذكر الخلافات، والمناقشات، وتعارض الأفكار، وتشابك الآراء.٦٨
  • المظهر الثامن: يُكثر سيبويه من الأمثلة والشواهد بدرجة لا نظير لها عند غيره من النحاة؛ ويتضح من ذلك أنه يريد جمع المتشابهات وعرض النماذج؛ رغبة في توضيح الفكرة، وبيان ما يلازم استعمالها من اطراد، ومصدر سيبويه في التمثيل آياتُ القرآن الكريم، وكلام العرب شعرًا ونثرًا، ثم ما يصطنعه هو من التراكيب اللغوية لأغراض خاصة.٦٩
  • المظهر التاسع: قلَّما يلجأ سيبويه إلى التعليل لبعض القواعد النحوية، أو الظواهر اللغوية، وهو — إن فعل — لا يلجأ إلى التعليل المنطقي المتَّسم بالتجريدية، ولا إلى التعليل العقلي المتعِب؛ وإنما هو تعليل فطري في متناوَل الكثير، تعليل مستمَد من فهم النص اللغوي فهمًا لا تكلُّف فيه ولا صنعة؛ وذلك مثل: «ومِن ثَم قال يونس: امرُر على أيهم أفضل، إن زيد وإن عمرو. ويعني إن مررت بزيد أو مررت بعمرو.»٧٠

(٣) كتاب سيبويه بين التبعية والأصالة

هناك رأيان متعارضان؛ أحدهما يقول أصحابه بتأثر سيبويه في كتابه بالمنطق الأرسطي والنحو اليوناني. أما الرأي الثاني فيقول أصحابه إن كتاب سيبويه يمثل إبداعًا عربيًّا أصيلًا.

وسبيلنا الآن هو عرض آراء هذين الفريقين، ثم نذكر رأينا، وذلك على النحو التالي:

(٣-١) الرأي الأول: الأصل اليوناني للمنهج عند سيبويه

في أذهان كثير من الباحثين في النحو العربي اليوم، سواء في الشرق أو الغرب، أن المنطق الأرسطي أمد علماء النحو العرب بكثير من أساليب البحث، ووضع بين أيديهم تجربة غنية في الدرس اللغوي أفادوا منها إفادة مباشرة في جانب، وغير مباشرة في جانب آخر، وقد اطمأنوا في كثير من الجزم إلى أن ما انتهجه نحاة العربية من استخدام القياس والعِلة، وما اصطنعوه في تقسيم الكلام إلى اسم وفعل وحرف، إنما يرجع في أصله إلى المنطق الأرسطي، وإلى الثقافة اليونانية عامة.٧١
وقد بدأت هذه النزعة في دراسة المستشرق الألماني «مركس»، الذي زعم أن مفهوم سيبويه للحرف يشبه ما جاء في كلام أرسطو عن الرباط Syndesmos. ثم توالى بعده المستشرقون، ومعظمهم يُجمع على أن كتاب سيبويه أول كتاب مدوَّن وصلنا في النحو العربي؛ حيث يلاحظون أن سيبويه قد جعله معرضًا لآراء أستاذه الخليل المتأثرة بالمنطق والفلسفة الكلامية، وكذلك لأفكاره الخاصة التي تبدو فيها النزعة العقلية.٧٢
علاوة على أن سيبويه، كما يرى هؤلاء الباحثون، أول ما يُطالعنا به في «الكتاب» من الموضوعات هو ذلك التقسيم الثلاثي للكلام إلى اسم وفعل وحرف؛ حيث يقول «سيبويه»: الكلم: «اسم، وفعل، وحرف جاء لمعنًى، ليس باسم ولا فعل.»٧٣ وهذا التقسيم يقول عنه أنصار هذا الرأي مأخوذ عن التقسيم الأرسطي إلى اسم Onoma، وفعل Fhema، وأداة Sundesmos،٧٤ وإن كان أرسطو يعمد إلى التحديد المنطقي الصارم، في حين أن سيبويه يلجأ إلى ذكر الأمثلة، فمثلًا عرَّف سيبويه الاسم فقال عنه: هو «رجل، وفرس، وحائط.»٧٥ على أن هذا التمثيل ليس بعيدًا جدًّا عن كتابات أرسطو؛ لأن لفظتي «إنسان» و«فرس» من الألفاظ التي استعملها دائمًا عند تقديمه الأمثلة.٧٦
والموضوع الثاني الذي يقف عنده دعاة هذا الرأي من الباحثين معتبِرين إياه أثرًا من آثار منطق أرسطو في «الكتاب»، هو الحديث عن المسنَد والمسنَد إليه، يقول سيبويه: «هذا باب المسنَد والمسنَد إليه، وهما مما يُغني واحد منهما عن الآخر، ولا يجد المتكلم منه بدًّا.»٧٧ وهنا يلاحظ بعض الباحثين أن مصدر سيبويه يرجع إلى أرسطو؛ حيث إن قضية الإسناد هي قضية الموضوع والمحمول، كما وردت في كتاب «العبارة»، و«التحليلات الأولى»، يقول روبنز: «لقد نظر المناطقة القدامى إلى المسنَد والمسنَد إليه باعتبارهما مكوَّنين جوهريين لكل الجمل التامة … ومن هنا فإن التطابق بين المسنَد النحوي في الجملة والموضوع المنطقي في القضية ليس مستغرَبًا.»٧٨
وإذا انتقلنا إلى موضع آخر من الكتاب، وهو «باب اللفظ للمعاني»، فإننا نجد سيبويه يعالج قضايا «اختلاف الألفاظ لاختلاف المعاني، واختلاف الألفاظ والمعنى واحد، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين.»،٧٩ وهذه القضايا مجتمعة في نظر بعض الباحثين تطرح قضية أعمَّ، وهي قضية الصلة بين الألفاظ والمعاني من حيث الدلالة الوضعية، ولقد بحث أرسطو هذه القضايا في كتبه المنطقية، ومن المعروف أن إحدى تقسيمات مباحث التصورات «في نسبة الألفاظ إلى المعاني»، وهذا التقسيم وإن كانت تغلب عليه النزعة الرواقية إلا أنه في جوهره أرسطوطاليس.٨٠
وهناك أمثلة كثيرة تُبين مدى الصلة بين منطق أرسطو والنحو العربي عند سيبويه، ونذكر منها الدراسة التي أعدها المستشرق الفرنسي «مركس» Merx في كتابه «تاريخ الصناعة النحوية عند السُّريان» Historia Artis: Grammaticae Apud Syros Merx؛ حيث حاول أن يثبت تأثر سيبويه بالمنطق الأرسطي، وذلك في المواضع الآتية: مفهوم الجنس (التذكير والتأنيث)، مفهوم الحال، مفهوم الظرف، تقسيم أزمنة الفعل، مفاهيم الفعل والفاعل والمفعول.٨١
بل إن البعض من المؤيدين لهذا الرأي قد أعلن أنه لا يضير كتاب سيبويه في شيء أن تتضافر عوامل شتى في تكوينه، وأن يُسهم منطق أرسطو في التوجيه إليه، ويكفي أن نشير إلى ذلك الفصل الذي عقده في الجزء الرابع من الكتاب وعنوانه «باب اطِّراد الإبدال في الفارسية»، حتى يتضح أن سيبويه لم يكن مُغمَض العينين عن أمثال تلك المؤثرات.٨٢

(٣-٢) الرأي الثاني: الأصل الإسلامي للمنهج عند سيبويه

إذا كان بعض الباحثين من الغربيين والعرب قد مالوا إلى القول بتأثر سيبويه في درسه النحوي بالمنطق الأرسطي والنحو اليوناني، فإن فريقًا آخر من المستشرقين والباحثين العرب قد رفض هذا القول، وهنا بدءوا يوجهون انتقاداتهم للمُستشرق «مركس» الذي زعم أن النحو العربي مؤسَّس وفق منطق أرسطو، فلم يأخذ أحد من المستشرقين كلام «مركس» بعين الاعتبار لسببَين اثنين؛ الأول: وفاة الخليل وسيبويه قبل نقل منطق أرسطو إلى العربية، والثاني: قلة التشابُه، بل انعدامه، بين النحو العربي والنحو اليوناني؛ فأقسام الكلِم عند العرب ثلاثة (اسم وفعل وحرف)، وعند اليونان ثمانية، ولا يوجد أدنى تشابه في علم الصرف وسائر علوم اللغة بين اللغتين.

بيد أن المستشرق الهولندي «كيس فرستيج»، قد حاول التوفيق بين كلام «مركس» والواقع التاريخي، فبين أن مركس كان يخلط في كلامه بين علوم اللغة أيام الخليل وسيبويه من جهة، وعلوم اللغة أيام «ابن جِنِّي» الذي يبدو تأثير الفقه الإسلامي والمنطق اليوناني جليًّا في كتابه الشهير «الخصائص»، من جهة أخرى، ولما استحال إثبات التأثير اليوناني المباشر على النحو العربي، افترض بعضهم التأثير غير المباشر عليه، أي عن طريق السريان الذين اتصلوا قبل العرب باليونان وعلومهم.٨٣
ويكفينا هنا ما قاله المستشرق الفرنسي «جيرار تروبو» G. Troupeau، الذي نشر بحثًا في الرد على القائلين بالفرضية اليونانية والسريانية لنشأة النحو العربي، وهذا البحث سماه «نشأة النحو العربي في ضوء كتاب سيبويه»، ذهب فيه إلى أن القائلين بالفرضية اليونانية والسريانية يرون أن العرب قد اقتبسوا في دراساتهم النحوية أربعة مصطلحات عن المنطق اليوناني هي: الإعراب، والصرف، والتصريف، والحركة. وأنهم اقتبسوا عنهم أيضًا التقسيم الثلاثي للكلمة إلى اسم، وفعل، وحرف، ويقابلها في النحو اليوناني ثمانية، وهي: الحرف، والمجموع، والرباط، والفاصلة، والاسم، والكلمة، والرقعة، والقول. ثم يأخذ كل كلمة من هذه الثماني، ويقابلها بالتقسيم الثلاثي العربي، وذلك على النحو التالي:
  • (١)
    ليس لقِسْم الحرف اليوناني قِسْمٌ يقابله في النظام العربي؛ لأنَّ «سيبويه» لم يجعل حروف الهجاء قسمًا مستقلًّا في تقسيمه كما فعل أرسطو، وكذلك ليس لقسم المجموع اليوناني قِسمٌ يقابله في النظام العربي؛ لأن مفهوم المجموع المركَّب من حرف غير مصوَّت وحرف مصوَّت، مفهوم صوتي يختلف عن مفهوم الحرف الساكن والحرف المتحرك الذي نجده عند «سيبويه».٨٤
  • (٢)
    أما قسم الرباط اليوناني فإنه لا يقابِل إلا جزءًا من قسم الحرف العربي؛ ونجد فرقًا بينهما؛ لأنَّ الرباط عند أرسطو لفظ خالٍ من المعنى، بيد أن الحرف عند «سيبويه» لفظ له معنًى.٨٥
  • (٣)
    يشتمل قسم الفاصلة اليوناني على آلة التعريف، والاسم الموصول، وهما عند «أرسطو» لفظان خاليان من المعنى؛ فليس لهذا القسم قسم يقابله في النظام العربي؛ لأن «سيبويه» يرى أن الاسم الموصول اسمٌ غير تام يحتاج إلى صلة، فيدخله في قسم الاسم، كما أنه يرى أن آلة التعريف لفظ له معنًى، فيدخله في قسم الحرف.٨٦
  • (٤)
    أما قِسم الاسم اليوناني فإنه يقابل قسمَ الاسم العربي، غير أننا نجد فرقًا بين القسمين؛ لأن الاسم عند «أرسطو» لفظ له معنًى يدل على شيء، بيد أن الاسم عند «سيبويه» لفظ يقع على الشيء، فهو ذلك الشيء بعينه.٨٧
  • (٥)
    وكذلك يقابل قسمُ الكلمة اليونانية قسمَ الفعل العربي؛ فالكلمة عند «أرسطو» لفظٌ له معنًى يدلُّ على زمان، والفعل عند «سيبويه» مثال أُخذ من لفظ حَدَثِ الاسم، فيه دليل على ما مضى وما لم يمضِ؛ غير أننا نجد فرقًا بين القسمين، لأن الصيغة غير المبيَّنة Aparemphatos مضمَّنة في قسم الكلمة اليوناني، بيد أن المصدر مضمَّنٌ في قسم الاسم العربي، كما أن الصيغة المشتركة Metochikon مضمَّنة في قسمي الاسم والكلمة معًا في النظام اليوناني؛ بيد أن اسم الفاعل مضمَّن في قسم الاسم فقط في النظام العربي.٨٨
  • (٦)
    وأخيرًا، فليس لقسم الوقعة اليوناني قسمٌ يقابله في النظام العربي؛ لأن مفهوم الوقعة التي تحدث في آخر الاسم أو في آخر الفعل مفهوم غير موجود عند «سيبويه»، وكذلك قسم القول، الذي هو عند «أرسطو» مُركَّب من ألفاظ لها معنًى، ليس له قسم يقابله في النظام العربي؛ لأنَّ سيبويه لم يجعل من القول قسمًا مستقلًّا في تقسيمه.٨٩
وينتهي بعد هذه المقابلة إلى أنه من الناحية اللسانية يظهر لنا أنه من المستحيل أن يكون التقسيم العربي منقولًا عن التقسيم اليوناني؛ لأن عدد الأقسام ومضمونها يختلف في النظامين اختلافًا تامًّا.٩٠
ثم ينتقل إلى النوع الثاني من الكلمات، وهو المصطلحات النحوية الأربعة التي قال الذاهبون بالفرضية اليونانية إنها مأخوذة عن النحو اليوناني، ويقول: «ثم يجب علينا أن نتساءل، هل كان من الممكن من الناحية اللغوية أن يكون النُّحاة العرب القدامى أخذوا من النحو اليوناني تلك المصطلحات الأربعة التي هي: الإعراب، والصرف، والتصريف، والحركة؟»٩١ ثم يرد على التساؤل بأن يعرض لهذه الكلمات كلمة في النحو اليوناني، مُبينًا ما يقابلها ومعناها واستعمالها، ثم يعرض لها عند علماء العربية، كابن جِنِّي، وسيبويه، والأنباري … وغيرهم، ويستخلص في كل منها أنها اصطلاح نحوي عربي، وينتهي إلى القول بأن «النحو اليوناني لم يستطِع النحاة العرب القدامى أن يَعرفوه بطريفة مباشرة؛ إذ إنهم كانوا يجهلون اللغة اليونانية، ولم يكن لديهم كتاب في النحو اليوناني مترجم إلى اللغة العربية، فلم يستطيعوا إذن أن يعرفوا النحو اليوناني إلا بواسطة النحو السرياني.» يضاف إلى أن النحاة السريان من جهة أخرى يختلفون اختلافًا تامًّا، وأن النحو اليوناني لم يستطع أن يؤثر على النحو العربي بواسطة النحو السرياني.٩٢
وكان أبلغ رد قال به قيامه بإحصاء المصطلحات النحوية واللغوية والصوتية والصرفية في كتاب سيبويه خارج الشواهد الشعرية والقرآنية، فوجد أن عدد ما استعمل منها في العِلم بمعناه الاصطلاحي ألف وستمائة لفظ، منها ما يتعلق بالمفاهيم النحوية العامة؛ كأقسام الكلام، وأنواع الألفاظ وأحوالها، ومنها ما يتعلق بالمفردات المختصة بتركيب الجمل، وتشمل الألفاظ التي تُعنى بمواقع الألفاظ في الكلام ومجراها من ناحية العمل، ومنها المفردات المتعلقة بالتصريف، ومنها التي تتعلق بالأصوات، وأخيرًا المفردات التي تتعلق بالمنهاج، وهي أكثرها، واستخلص من هذه الأعداد الكبيرة للألفاظ والمصطلحات المستخدمة في أصناف علم العربية الواردة في كتاب واحد، هو كتاب سيبويه، خطأَ المستشرقين، ومن تابعهم، الذين اعتمدوا على بضعة مصطلحات وصلت إلى العشرة عند الجميع ليبرهنوا على مضارعة النظام العربي للنظام اليوناني، وقال ما معناه: فما تعني تلك العشرة بالنسبة للمئات والمئات من المصطلحات التي كانت متداولة في لغة العرب؟ إن كل واحد من هذه المصطلحات الألف والستمائة جزء من نظام معقَّد ليس له معنًى خارج عن هذا النظام.٩٣
وهكذا استطاع «تروبو» أن يثبت أنه من المستحيل أن يكون النحو العربي القديم في نشأته، الأصيل في وجوده؛ قد اقتبس مصطلحات معدودة لا تتجاوز أصابع اليدين عدًّا من النحو اليوناني، وقد أثبت ذلك بطريقة عملية عِلمية، ولم يكتفِ بهذا، وإنما كرر في ختام بحثه اعتقاده بأصالة النحو العربي وعروبته واستقلاله عن العلوم الأخرى وعدم تأثره بالعلوم الأجنبية، فقال: «وفي الختام، فأنا أعتقد أن علم النحو أعربُ العلوم الإسلامية، وأبعدُها عن التأثير الأجنبي في طَوره الأول، كما حاولتُ أن أُبيِّن ذلك في ضوء كتاب سيبويه، ذلك الكتاب المشهور الذي هو أقدم كتب العرب في النحو.»٩٤
ولقد ساير «تروبو» العديد من المستشرقين والباحثين العرب، فنجد أن المستشرق الألماني «فيشر» W. Fischer يرى أن سيبويه يمثل بداية لمرحلة عربية خالصة، وقد نشر ذلك بالإنجليزية فيما بعد تحت عنوان: The Chapter on Grammar in the Kitab Mafatih Al-Ulum, in: ZAL-15, (94–103), 1985، والنصوص المقتبَسة تعود إلى نسخة خطية بيده مكتوبة بالعربية.
  • (أ)
    يقول: «إن البحث في نشأة النحو العربي لم تحقق نجاحًا كبيرًا حتى الآن، ولم يدرَك كثير من المعلومات الصالحة لتوضيح ما حدث فيما بين بدايات النقاش النحوي في عهد أبي الأسود وظهوره في صورة متكاملة في كتاب سيبويه.» ويقول: «نُسلم بأن الحوار المحتمل بين النحاة العرب واليونان قد وقع فعلًا في بداية الأمر.» ويجعل فيشر من الخليل بن أحمد نهايةَ مرحلة التأثر الناجم عن هذا الحوار، فقال: «إن موقف الخليل في تطور النحو قريب إلى حد ما من النحو اليوناني، في أن موقف سيبويه بعيد عنه.»٩٥
  • (ب)
    يتضح من هذا أن «فيشر» يَعُد كتاب سيبويه بداية مرحلة جديدة لتنقية النحو العربي من الآثار اليونانية. قال: «ومن هنا نفهم أهمية كتاب سيبويه وأثره الباهر في تطور علم النحو في العصور اللاحقة له؛ إذ إن سيبويه كان النحوي الذي أبعد ما يكون في النحو العربي من آثار الفكر اليوناني، وأقام بذلك النحو العربي طريقة علمية مستقلة، وطوى النسيانُ كل ما كان العلماء قبله يفكرون في اللغة.»٩٦
ونفس الرأي أكد عليه كلٌّ من المستشرقَين اليهوديين رافي طلمون R. Talmon وريفيل E. J. Revell اللذين يؤكدان نفس ما قاله «فيشر» على أن النحو العربي قد تأثر بمؤثرات أجنبية في مرحلة مبكرة في نشأته. أما ما وصل إلينا من هذا النحو ممثَّلًا في كتاب سيبويه فهو عربي.٩٧ ويفترق فيشر عن الآخرين في أنه يرى أن التأثر باليونان قد تم بالفعل في فترة مبكرة من ظهور الإسلام، ثم انتهت فترة التأثر هذه بالخليل بن أحمد لتبدأ مرحلة أخرى بسيبويه، وهي مرحلة تخليص النحو العربي من المؤثرات الأجنبية. أما «رافي طلمون» وزميله اليهودي «ريفيل»، فيذهبان إلى أن النحو العربي في صورته التي وصلت إلينا من خلال كتاب سيبويه لا تعكس تأثرًا خارجيًّا، ولكن قبل ذلك مرَّ بمراحل التأثر الخارجي، وهما يرُدان بداية هذا التأثر إلى القرن السابع الميلادي، بل إلى القرن السادس الميلادي أو قبله، وهما يفسحان المجال في كلامهما إلى تأثير عِبري إلى جانب التأثير السرياني، بل يذكر أن العبريين قبل السريان في هذا الشأن؛ يقول: «إن أُولى مراحله كانت قد اتسمت بتأثير أجنبي، بينما كان ما يليها خلال القرنين الإسلاميين الأوليين عبارة عن تطور إسلامي داخلي محض.»٩٨
أما المستشرق ليتمان فيأخذ موقفًا وسطًا حين يقول: «ونحن نذهب في هذه المسالة وسطًا، ونقول بأنه أبدع العرب علم النحو في الابتداء، وأنه لا يوجد في كتاب سيبويه إلا ما اخترعه هو والذين تقدموه.‏»٩٩

والحجة التي يستند إليها ليتمان هي أنه من الناحية التاريخية يعرف الجميع أن منظِّر النحو العربي سيبويه، بعد أنهى — طبعًا — كتابة مؤلَّفه «الكتاب» الذي يُعد مرحلة متطورة وناضجة من مراحل التفكير النحوي العربي، بمعنى أن سيبويه كان مسبوقًا إلى هذا العلم (النحو) بعلماء قبله كأبي الأسود الدؤلي (القرن الأول الهجري)، وأبي عمرو بن العلاء (١٥٤ﻫ)، ويونس بن حبيب (١٨٢ﻫ)، وأستاذه الخليل بن أحمد الفراهيدي (١٧٥ﻫ)، الذي يشير إليه دائمًا في كتابه بقوله: «قال شيخنا — رحمه الله.» وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على أن كتاب سيبويه أُلف — من الناحية التاريخية — ما بين تاريخ وفاة أستاذه الخليل (١٧٥ﻫ) وتاريخ وفاته هو نفسه (١٨٠ﻫ)، وفي مقابل هذا لو بحثنا عن الفترة التي تمت فيها ترجمة المنطق الأرسطي إلى العربية سنجد أن حنين بن إسحاق قام بهذه الترجمة سنة ٢٦٤ﻫ! وهذا يبين بما لا يدع مجالًا للشك بأنه لا علاقة بكتاب سيبويه بالمنطق الأرسطي.

ونحن نؤيد هذا الرأي، فكتاب سيبويه بحكم نزعته التجريبية خلا تمامًا من العناصر اليونانية، وبالأخص المنطق الأرسطي؛ بدليل أنه إذا ما نظرنا إلى العناصر المحددة التي تختص بالدرس النحوي عند سيبويه اختصاصًا مباشرًا، وهي أنَّ التعريف عند أرسطو يختلف عن التعريف عند سيبويه؛ حيث إن سيبويه الذي تأسَّس عنده منهج النحو لم يطبق التعريف الأرسطي، ولا يظهر من كتابه ما يؤكد أنه كان على معرفة قوية به؛ «فالكتاب كله، على شموله، لا يخرج عن هذه الأمثلة من التعريف، وهو دليل على أنه لم يطبق المنهج الأرسطي فيه، وقد يكون دليلًا على أنه لم يعرف هذا الأصل في المنطق الأرسطي معرفةً كان من الجائز أن يبدو لها أثر في الكتاب قبولًا أو رفضًا.»١٠٠
فمثلًا حين ننظر إلى تعريف الاسم Anoma عند أرسطو نجد أنه يُعنَى بأنه: صوت يدلُّ دلالة عرفية على معنًى، ولا يدل على زمن، وليس لجزئه معنًى. وأما سيبويه فعرَّفه في كتابه عندما ذكر أنه: «فرس وإنسان»، وهي من الأمثلة التي يستعملها دائمًا عند تقديم الأمثلة، لتأييد القول أن هناك عدم تأثُّر بالفكرة اليونانية؛ إذ إن استعمال سيبويه للفعل في «الكتاب» يختلف عن استعماله عند أرسطو؛ حيث استخدم كلمة «ضرب» و«كتب» و«فعل»، أما أرسطو فلم يستخدم كلمة Tuptein أي «ضرب» في بعض ما كتبه، بل استخدم Hugiainein (to be healthy) وBadizein (to walk)؛ أي «لا «ضَرَبَ» ولا «كَتَبَ» ولا «فَعَلَ».»١٠١
١  د. حسن عبد الحميد: التفسير الأبستمولوجي لنشأة العلم، ص٢٠٦.
٢  نفس المرجع، ص٢٠٧.
٣  ينظر: د. تمام حسان: الكتاب بين المعيارية والوصفية، ص١٢٩-١٣٠؛ وينظر كذلك: د. نوزاد حسن أحمد: المنهج الوصفي في كتاب سيبويه، ص٣٠٤.
٤  أبو العباس أحمد بن محمد بن ولاد: الانتصار لسيبويه على المبرِّد، دراسة وتحقيق: الدكتور زهير عبد المحسن سلطان، مؤسسة الرسالة، ط١، بيروت، ١٩٩٦م، ص٥.
٥  الصفدي (صلاح الدين خليل بن أيبك بن عبد الله، المتوفى: ٧٦٤ﻫ): الوافي بالوفيات، تحقيق أحمد الأرناءوط وتُركي مصطفى، دار إحياء التراث، بيروت، ١٤٢٠ﻫ/٢٠٠٠م، ج٤، ص١٥٥.
٦  الخوارزمي (محمد بن أحمد بن يوسف، أبو عبد الله، الكاتب البَلخي، المتوفى ٣٨٧ﻫ): مفاتيح العلوم، تحقيق: إبراهيم الإبياري، دار الكتاب العربي، ط٢، ١٩٨٩م، ص١٣٠.
٧  ابن خلكان (أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر): وفيات الأعيان، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، ١٩٠٠م، ج٢، ص١٦.
٨  أبو سعيد السِّيرافي: أخبار النحويين البصريين، ص٣٩؛ الفهرست، ص٧٧.
٩  القاضي ابن صاعد الأندلسي: طبقات الأمم، حققه وشرحه وذيَّله: لويس شيخو، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٣٣٠ﻫ، ص٣٣؛ وينظر كذلك: عبد القادر بن عمر البغدادي (ت١٠٩٣ﻫ): خزانة الأدب ولُب لباب لسان العرب، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط٤، ١٩٩٧م، ج١، ص١٧٩.
١٠  جلال الدين السيوطي: المزهر في علوم اللغة وأنواعها، تحقيق: فؤاد علي منصور، دار الكتب العلمية، بيروت، ١٩٩٨م، ج١، ص١٦٦.
١١  السيرافي (أبو محمد يوسف بن أبي سعيد): أخبار النحويين البصريين، تحقيق فريتس كرنكو، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ١٩٣٦م، ص٣٩؛ ابن النديم: الفهرست، ص٧٧.
١٢  نفس المصدر، ص٤٠.
١٣  نفس المصدر، ص٧٨-٨٨.
١٤  أحمد أمين: ضُحى الإسلام، ج٢، ص٣٨٥، ص٢٩١-٢٩٢.
١٥  نفس المرجع، ج٢، ص٢٩٢.
١٦  بروكلمان: تاريخ الأدب العربي، ج٢، ص١٣٤-١٣٥.
١٧  د. أحمد أحمد بدوي: سيبويه؛ حياته وكتابه، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ١٩٦٩م، ص٣٨-٣٩.
١٨  د. شوقي ضيف: المدارس النحوية، دار المعارف، القاهرة، ٢٠٠٥م، ص٦٠.
١٩  د. محمد عبد الخالق عضيمة: تجربتي مع كتاب سيبويه، مجلة كلية اللغة العربية بالرياض، العدد الرابع، ١٣٩٤ﻫ/١٩٧٤م، ص٣٩.
٢٠  د. خديجة الحديثي: كتاب سيبويه وشروحه، دار التضامن، ط١، بغداد، ١٩٦٧م، ص٨٨.
٢١  ينظر: الكتاب، ج١، ص٤٦٠.
٢٢  نفس المصدر، ج٢، ص١٤٧-١٤٨.
٢٣  نفس المصدر، ج٢، ص٥٨.
٢٤  نفس المصدر، ج١، ص٧٠.
٢٥  خديجة الحديثي: كتاب سيبويه وشروحه، ص٨٩–١٠١.
٢٦  ينظر: الكتاب، ج١، ص٢٣٨–٢٤٠.
٢٧  نفس المصدر، ج٢، ص٢٢.
٢٨  نفس المصدر، ج١، ص١٦.
٢٩  نفس المصدر، ج١، ص٧.
٣٠  عوض حمد القوزي: المصطلح النحوي؛ نشأته وتطوره حتى آواخر القرن الثالث عشر، ص١٢٥.
٣١  نفس المرجع، ص١٢٥.
٣٢  ينظر الكتاب، ج١، ص١٣-١٤.
٣٣  عوض حمد القوزي: نفس المرجع، ص١٢٥.
٣٤  نفس المرجع، ص١٢٦.
٣٥  الكتاب، ج١، ص٣٧٧.
٣٦  نفس المصدر، ج١، ص٢١.
٣٧  نفس المصدر، ج١، ص٣٧.
٣٨  نفس المصدر، ج١، ص٣٩.
٣٩  عوض حمد القوزي: المرجع السابق، ص١٢٦.
٤٠  د. على النجدي ناصف: سيبويه إمام النحاة، عالم الكتب، القاهرة، ١٩٧٩م، ص١٨٥ وما بعدها.
٤١  د. حسن عون: أول كتاب في نحو العربية، مجلة كلية الآداب، جامعة الإسكندرية، مجلد ١١، ١٣٧٧ﻫ/١٩٥٧م، ص٣٩.
٤٢  د. حسن عون: تطور الدرس النحوي، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، ١٩٧٠م، ص٣٩.
٤٣  ينظر: الكتاب بين المعيارية والوصفية، ص١٢٩-١٣٠؛ والمنهج الوصفي في كتاب سيبويه، ص٣٠٤.
٤٤  عوض حمد القوزي: المرجع السابق، ص١٣٠.
٤٥  ينظر: الكتاب، ج١، ص١٢.
٤٦  الزَّجَّاجي (أبو القاسم عبد الله بن أبي إسحاق): الإيضاح في علل النحو، تحقيق: الدكتور مازن المبارك، الطبعة الثانية، بيروت، ١٣٨٢ﻫ/١٩٧١م، ص٤٩.
٤٧  ينظر: الكتاب، ج٢، ص٦.
٤٨  نفس المصدر، ج٢، ص٥.
٤٩  نفس المصدر، ج١، ص١٤.
٥٠  د. جنان عبد العزيز التميمي: الحدود النحوية في التراث (كتاب التعريفات للجرجاني أنموذجًا)، رسالة دكتوراه غير منشورة، ١٤٢٩ﻫ، جامعة الملك سعود، ص٦٦.
٥١  ينظر الكتاب، ج١، ص٣٤.
٥٢  نفس المصدر، ج٢، ص٨٦.
٥٣  نفس المصدر، ج١، ص١٤.
٥٤  نفس المصدر، ج١، ص١٥٨.
٥٥  د. عبده الراجحي: النحو العربي والدرس الحديث، ص٧٢-٧٣.
٥٦  ينظر الكتاب، ج١، ص١٢.
٥٧  انظر الكتاب، ج٣، ص٥٢٩.
٥٨  د. جنان عبد العزيز التميمي: المرجع السابق، ص٦٨.
٥٩  ينظر: الكتاب، ج٣، ص٥٢٩؛ وينظر كذلك: جنان عبد العزيز التميمي: المرجع السابق، ص٦٩.
٦٠  ينظر: الكتاب، ج١، ص٧٠.
٦١  د. جنان عبد العزيز التميمي: الحدود النحوية في التراث، ص٧٢.
نفس المرجع، ص٧٣.
٦٢  نفس المرجع، ص٧٣.
٦٣  نفس المرجع، ص٧٤.
٦٤  د. حسن عون: تطور الدرس النحوي، ص٤٤.
٦٥  جنان عبد العزيز التميمي: نفس المرجع، ص٧٤.
٦٦  د. حسن عون: نفس المرجع، ص٤٤.
٦٧  نفس المرجع، ص٤٥.
٦٨  نفس المرجع، ص٤٥.
٦٩  نفس المرجع، ص٤٦.
٧٠  جيرار تروبو: نشأة النحو العربي في ضوء كتاب سيبويه، بحث منشور ضمن مجلة مجمع اللغة العربية الأردني، المجلد الأول، العدد الأول، صفر ١٣٩٨ﻫ (كانون الثاني ١٩٨٧م).
٧١  د. محمد خير الحلواني: بين منطق أرسطو والنحو العربي في تقسيم الكلام، ص١٩.
٧٢  د. إبراهيم مدكور: بين المنطق الأرسطي والنحو العربي، ص٤٧-٤٨.
٧٣  ينظر: الكتاب، ج١، ص٢.
٧٤  كيس فرستيج: الفكر اللغوي …، ص١٠.
٧٥  ينظر: الكتاب، ج١، ص٢.
٧٦  ينظر مثلًا: كتاب المقولات، نقل إسحاق بن حنين في كتاب منطق أرسطو، تحقيق: د. عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت، ١٩٨٠م، ج١، ص٤ وما بعدها.
٧٧  ينظر: الكتاب، ج١، ص٢٣.
٧٨  Robins: General Linguistics, North Holland, Amsterdam, 1970, p. 383.
٧٩  ينظر: الكتاب، ج١، ص٦٥.
٨٠  د. على سامي النشار: مناهج البحث، ص٣٥.
٨١  ينظر شرح تفاصيل هذا الكتاب عند كيس فرستيج: الفكر اللغوي بين اليونان والعرب، ص١٧–٢٣.
٨٢  إبراهيم مدكور: بين منطق أرسطو والنحو العربي، ص٤٥؛ وينظر كذلك: سيبويه: المصدر السابق، ج٤، ص٣٠٥.
٨٣  ينظر: جيرار تروبو: نفس المرجع، ص١٢٩.
٨٤  كيس فرستيج: الفكر اللغوي …، ص١٩ وما بعدها.
٨٥  ينظر: جيرار تروبو: نفس المرجع، ص١٢٩.
٨٦  نفس المرجع، ص١٢٩.
٨٧  نفس المرجع، ص١٣٠.
٨٨  نفس المرجع، ص١٣٠.
٨٩  نفس المرجع، ص١٣٠.
٩٠  نفس المرجع، ص١٢٧-١٢٨؛ وينظر كذلك: د. خديجة الحديثي: المدارس النحوية، ص٣٥-٣٦.
٩١  ينظر: جيرار تروبو: نفس المرجع، ص١٢٩؛ وينظر كذلك: د. خديجة الحديثي: المدراس النحوية، ص٣٥-٣٦.
٩٢  ينظر: جيرار تروبو: نفس المرجع، ص١٣٠؛ وينظر كذلك: د. خديجة الحديثي: نفس المرجع، ص٣٥-٣٦.
٩٣  ينظر: جيرار تروبو: نفس المرجع، ص١٣٤-١٣٥؛ د. خديجة الحديثي: نفس المرجع، ص٣٥-٣٦.
٩٤  جيرار تروبو: نفس المرجع، ص١٣٧-١٣٨.
٩٥  د. إسماعيل أحمد عمايرة: المستشرقون ونظرياتهم في نشأة الدراسات اللغوية، ص٦٧-٦٨.
٩٦  نفس المرجع، ص٦٧–٦٩.
٩٧  رافي طملون: مذهب المؤرخين العرب في وصف نشأة علم النحو العربي، بحث منشور بمجلة الكرمل، عدد ١٩٨٣م، ص٩٣ وما بعدها.
٩٨  د. إسماعيل أحمد عمايرة: نفس المرجع، ص٤٠-٤١.
٩٩  أحمد أمين: ضحى الإسلام، ج‏٢، ص‏٢٩٣.
١٠٠  د. عبده الراجحي: النحو العربي والدرس الحديث، دار النهضة العربية، بيروت، ١٩٨٦م، ص٧٢.
١٠١  نفس المرجع، ص٧٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤