تقديم
ذكرنا في الفصل السابق النزعة التجريبية عند
سيبويه، وهذه النزعة تمثل المرحلة الثانية من نشأة
النحو، وهي تلك المرحلة التي تبدأ بالخليل بن أحمد
وتنتهي بسيبويه، فتمتد بذلك قرنًا ونصف القرن من
المرحلة التي شهدها النحو العربي لدى أبي الأسود
الدؤلي، وقد بيَّنَّا أن هذه المرحلة من أهم
المراحل التي مر بها النحو العربي؛ إذ شهدت تحولًا
كبيرًا في التعامل مع مادته المستمَدَّة — في أغلب
الظن — من منهج وصفي — على وفق ما وصفت به المرحلة
الأولى — إلى منهج تجريبي، وإذا كانت الآلية
الشفاهية هي الطريقة الوحيدة في النظر إليه في
المرحلة الأولى، فإن الأمر انقلب تمامًا عند سيبويه
الذي أنتج لنا نظرية نحوية مُدوَّنة ومؤسَّسة على
منهج تجريبي واضح يشير إلى نضوج التفكير النحوي
عنده، الأمر الذي يعني أن المرحلة التي سبقته كانت
مرحلة ناضجة أيضًا، ولكنها لم تُفلح في تأسيس نظرية
مدونة، ليصبح سيبويه — فيما بعد — رائدًا لعملية
التدوين، وبدايةً لمرحلة جديدة في تاريخ النحو؛ إذ
إن النظر إلى الكتاب يُنبئ عن رصانة التفكير
النحوي، وتمكَّن العقل العربي من الانقلاب به من
مجرد المشافهة إلى مشروع فكري ناضج خاضع لمنهج
تجريبي ناضج أيضًا.
وننتقل هنا إلى المرحلة الثالثة من نشأة النحو
العربي، وهي المرحلة الاستنباطية، وهذه المرحلة
جاءت بعد سيبويه، والتي بدأ من خلالها يظهر أثر
المنطق في النحو وأصوله واضحًا إلى حد ما، نتيجة
حركة الترجمة التي بدأت تتسع شيئًا فشيئًا خلال
القرن الثالث الهجري؛ حيث وصلت إلينا كل كتب
الأورجانون الأرسطي، ووجدنا أعلام مدرستَي البصرة
والكوفة يسعَون جاهدين إلى مزج النحو بالمنطق، ولكن
هذا المزج في الأغلب الأعم كان قاصرًا على الشكل،
والمنهج، والتنظيم، والتهذيب، وطرق الجدل، ووسائل
الحِجاج، ثم على شيء من المصطلحات والأساليب
والتقسيمات.
ويؤكد الكثير من الباحثين أن نحاة البصرة كانوا
أسبق من نحاة الكوفة إلى الانتفاع بالمنطق، وأن
عقولهم كانت أكثر خضوعًا وإذعانًا لسلطانه ومناهجه،
وهم يرون أن سبق البصريين إلى الانتفاع بالمنطق لم
يكن محض اتفاق، وإنما يعود إلى صلة البصرة المبكرة
بالدراسات المنطقية والفلسفية، ولذلك ظهر تأثير
المذاهب المنطقية والفلسفية في البصرة قبل ظهوره في
غيرها، كما بيَّن نُحاة البصرة كثيرًا من المتكلمين
والمعتزلة الذين حرصوا على الإحاطة بعلوم الفلسفة
والمنطق، والتعمُّق فيها والتسلح بها لدفع الشبهات
عن القرآن، ثم أفسحوا السبيل بعد ذلك لهذه العلوم
لكي تؤثر في دراستهم للنحو، وكان نتيجة خضوع نحاة
البصرة لسلطان المنطق ومناهجه أن سُمُّوا «بأهل المنطق».
١
والذي يظهر بوضوح أن تأثير المنطق في العصر الأول
لوضع النحو كان تأثيرًا ضعيفًا خافتَ الصدى، وكان
من أوضح آثاره استخدام آلة القياس والتوسع بواسطتها
في وضع القواعد النحوية، وقد أجمعت كتب تراجم
النحويين وطبقاتهم على أن «عبد الله بن أبي إسحاق
الحضرمي» (ت١١٧ﻫ) يُعَد أعلم البصريين؛ لأنه أول من
فرَّع النحو، واشتق قواعده، وطرد القياس فيها،
وعللها تعليلًا يُمكِّن لها في ذهن الدارسين.
٢
وظل الدرس النحوي محافظًا على أصالته طوال هذه
المرحلة، يظهر ذلك بوضوح في محافظة النحاة
والدراسات النحوية على الغرض أو الغاية التي وُضع
النحو من أجلها، وهي «انتحاء سمت كلام العرب في
تصرفه»، فبقي النحو دراسةً للأساليب التعبيرية إلى
جانب عنايته بالإعراب والبناء، وقد وجدنا لهذه
الروح الأصيلة امتدادًا في المرحلة التالية.
٣
وفي أوائل القرن الثالث الهجري، انفتح المجتمع
الإسلامي أكثر على ثقافات العالم، وتوسع في نقل
علوم المنطق والفلسفة، وقد انبهر علماء هذه المرحلة
— ومنهم النحاة — بهذه الثقافات المختلفة في
مصادرها والمتنوعة في فنونها، وقد حرصوا على
الإلمام بها، بل أجهدوا أنفسهم في استيعابها
وتمثلها، حتى أصبح بعضهم موسوعة لثقافات عصره.
٤
وننتقل إلى حديثنا عن بدايات مزج النحو بالمنطق
عند مدرستي البصرة والكوفة في أوائل القرن الثالث
الهجري، فنقول: لقد حاول النحويون بعد «سيبويه»
إعادة النظر في كتابه مادة وأسلوبًا، فشرعوا
يُذلِّلون صعبه بالشروح، ويخرِّجون شواهده،
ويختصرونه، ورأوا مع كثرة المدارسة أنه يمكن اختصار
عنواناته الطويلة في صورة محددة يستقر عليها
المصطلح الذي حام «سيبويه» حوله وأوشك أن يقع عليه،
ورأوا كذلك الاستقرار على واحد من مصطلحاته الكثيرة
التي كان يطلقها على المسألة الواحدة، فيكتفون بهذا
المصطلح عما عداه.
وقد أخذ التجديد في المصطلح بعد سيبويه منحيَين؛
أولهما: التسمية، والآخر: وضع الحدود الخاصَّة بها.
وأُلِّفت في ذلك الكتب، وكان من أقدمها كتاب
«الإمام أبو زكريا يحيى بن زياد المعروف بالفرَّاء»
الذي ألفه في «حدود النحو»، واشتمل على ستين حدًّا.
٥
وفيما هم آخذون بخدمة هذا الكتاب، أخذت تشتد
بينهم الخلافات في مسائله، فمنهم من تابعه وأخلص
له، ومنهم من خالفه في جانب وتبعه في آخر، ولم يكن
هناك نحوي واحد خالفه مخالفة تامة في مسائله
جميعها، حتى إن «الكسائي»، وهو إمام أهل الكوفة وفي
مقدمتهم، والذي وُصف بأنه اجتمعت له أمور لم تجتمع
لغيره، فكان أوحد الناس في القرآن، وكان أعلم الناس
بالنحو، وأوحدهم في الغريب، كما يقول ابن الأنباري.
٦ الكسائي الذي كان يقف منه موقف الند؛
يناظره ويخالفه الرأي لم يستغنِ عن دراسة كتاب
سيبويه، وتأثر به حتى في المصطلحات، ولا غرابة في
أن يكون كتاب سيبويه دستور النحاة من بصريين
وكوفيين، ومائدتهم الكبرى في صناعة النحو، فسيبويه
تلقَّى أكثر نظرياته عن «الخليل بن أحمد» أستاذ
البصريين والكوفيين على السواء بشهادة الكثير من المؤرخين.
٧
وإذا كان الخلاف بين البصريين والكوفيين هو
الشائع بين النحاة بصفة عامة، فإن الكوفة لن تنسى
تلمذة «الكِسائي» على يد «الخليل» و«يونس»، ولا
تلمذة «الفرَّاء» على يد «يونس بن حبيب»، وأن
«الخليل» كان السبب في توجيه نظر «الكسائي» للرحلة
إلى البادية ليتعلم الفصاحة واللغة،
٨ وهذا كان بشهادة الرواة الذين أكدوا
أن: «الكسائي خرج إلى البصرة ولقي الخليل بن أحمد
وجلس في حلقته، وأنه سأله عن علمه، من أين أخذته؟
فقال له: من بوادي الحجاز ونجد وتِهامة. فخرج
الكسائي، ورجع وقد أنفذ خمس عشرة قنينةً حِبرًا في
الكتابة عن العرب، سوى ما حفِظ، ولم يكن لهم غير
البصرة والخليل، فوجد الخليل قد مات وجلس في موضعه
«يونس بن حبيب» البصري النحوي، فجرت بينهما مسائل
أقر له «يونس» فيها، وصدَّره في موضعه.»
٩
وهنا نريد أن نقول بأن مدرسة الكوفة لم تكن تختلف
عن مدرسة البصرة في الأصول العامة للنحو؛ فالكوفيون
قد بنَوا نحوهم على ما أحكمته البصرة من تلك
الأصول، وذلك لأن أئمة النحو الكوفي قد أخذوا النحو
من مدرسة البصرة؛ فالكسائي قد تتلمذ على «الخليل بن
أحمد»، وقرأ كتاب سيبويه على الأخفش، والفرَّاء قد
رحل إلى البصرة وتتلمذ على يونس بن حبيب كما ذكرنا
منذ لحظات، وأكبَّ على كتاب سيبويه يقرؤه، كما
أكبَّ عليه جميع أئمة الكوفة من بعده، وكل خلافهم
مع البصريين إنما كان في بعض المصطلحات النحوية،
وفي جوانب من العوامل والمعمولات.
١٠
وهنا نستطيع القول مع بعض الباحثين بأن الكوفيين
لم يكونوا يُشكلون مدرسةً نحوية تتميز بأسلوبها
الخاص ومنهجها الذاتي؛ وذلك لأنهم لم يخرجوا على
منهج مدرسة البصرة في دراسة النحو، فالبصريون
والكوفيون يتحركون في إطارات متشابهة ويطبقون
أصولًا واحدة، وإن اختلفوا فيما بينهم في بعض
الجزئيات فإنه اختلاف لا ينفي عنهم وحدة المنهج
واتفاق الأصول.
١١
ومَن يرجع إلى كتاب «الإنصاف في مسائل الخلاف بين
النحويين البصريين والكوفيين» لابن الأنباري، يجد
أن عامَّة المسائل التي خالف فيها الكوفيون
البصريين لا يمكن أن تجعل من الكوفيين نُحاةً من
نمط جديد، أو تجعل آراءهم التي جاءوا بها تؤلف
مدرسة نحوية متميزة، وبهذا يصبح كل ما قيل في عصرنا
هذا من كلام من صِيَغ في الثناء على الكوفيين
لتميزهم في العمل النحوي أمرًا مبالغًا فيه.
١٢
وليس صحيحًا ما ذكره بعض الباحثين المعاصرين من
أن الكوفيين كانوا أقل من البصريين انتفاعًا بعلوم
المنطق والفلسفة، فقد كان للفرَّاء أثر واسع في
التفسير وفي اللغة وفي النحو، وقد طلب إليه المأمون
أن يجمع أصول النحو، وأن يجمع ما سمع من العرب،
فعكف على ذلك وألف الكُتب، وضبط النحو وفلسفه،
فألَّف فيه كتاب «الحدود»، واسم الكتاب يدل على
تأثره بالمنطق؛ فهو يريد بالحدود التعاريف. ﮐ «حد
المعرفة والنكرة»، وحد «النداء»، وحد «الترخيم» …
إلخ، وهذه أمور لم يُعنَ بها سيبويه في كتابه
كثيرًا، وهي أثر من آثار الفلسفة والمنطق، كما ذهب
أحمد أمين.
١٣
فالنحاة الكوفيون ومتأخرو البصرة كانوا سواءً في
اهتمامهم بالمنطق؛ فقد سلكوا سُبل المنهج الكلامي
نفسها، هذا المنهج هو الذي يقوم على المحاكمة
المنطقية. أما ما كنا نأخذه على الأقدمين من تمسكهم
بالعامل، فهو مُنصَب على البصريين والكوفيين على
السواء، فقد قال الكوفيون بالعامل وتمسكوا به كما
فعل البصريون تمامًا، فالطرفان لم يختلفا في جذور
نظرية العامل، وربما اختلفا في ضبط هذا العامل
وتعيينه في المسائل التي اختلفا فيه، كاختلافهم في
رافع خبر المبتدأ، فذهب الكوفيون إلى أن المبتدأ
يرفع الخبر، والخبر يرفع المبتدأ، فهما مترافعان،
وذهب البصريون إلى أن المبتدأ يرتفع بالابتداء، أما
الخبر فاختلفوا فيه؛ فذهب قوم إلى أنه يرتفع
بالابتداء وحده، وذهب آخرون إلى أنه يرتفع
بالابتداء والمبتدأ معًا، وذهب آخرون إلى أنه يرتفع
بالمبتدأ، والمبتدأ يرتفع بالابتداء.
١٤
إلا أنه لمَّا قامت المنافسة بين علماء البصريين
نُسب كل واحد إلى بلده، فهذا بصري وذاك كوفي،
واستقلت كل طائفة بشخصية مميزة، وقامت بين علماء
الفريقين مناظرات وصلت بهم إلى حد تعرض بعضهم للبعض
الآخر بالهجاء.
١٥
ولست هنا متحدثًا عن قيام هاتين المدرستين، فقد
ثبت ذلك وكتب عنه كثيرون في القديم والحديث، وألف
كل منهما بحثًا مستقلًّا، ويكفينا ما كتبه من
المحدثين الدكتور مهدي المخزومي في كتابه مدرسة
الكوفة، وما كتبه الدكتور عبد الرحمن السيد في
كتابه مدرسة البصرة، فقد تكفل كلاهما بما يمكن أن
أقوله في هذا المقام.
وهنا أركز حديثي في هذا الفصل عن الطريقة التي من
خلالها تمت عملية مزج النحو بالمنطق؛ خاصة بعد أن
صار الخلاف كبيرًا بين الفريقين إلى حد ما، حتى شاع
بين الدارسين المتأخرين أن نحاة البصرة كانوا أميل
لمزج النحو بالمنطق، في حين كان نحاة الكوفة رافضين
لهذا المزج، ولقد أفادت قضية علاقة النحو بالمنطق
من خصومة الفريقين فائدة كبيرة؛ إذ نظر كل فريق إلى
تلك العلاقة نظرة الناقد، ثم شرعوا في تطويرها
وتهذيبها وتطويرها، حتى وصلوا بها جميعًا إلى
الاستقرار الذي لم يكن من اليسير على «سيبويه» أن
يصل إليه بسبب نزعته التجريبية، فالاستقرار مرحلة
تالية لمرحلة شهدت مدارسات وخصومات شديدة ومناظرات
في هذا العلم، لم تهدأ حتى استقر النحو، ورست حدوده
ومصطلحاته بالشكل الذي وصل إلينا.
إذن فما الذي طرأ على قضية مزج النحو بالمنطق من
تطور في ظل علماء البصرة والكوفة؟
وللإجابة عن ذلك نلتفت إلى التراث الذي خلَّفه
علماء الطائفتين، فنجد عند البصريين بعد كتاب
سيبويه كُتب «أبي العباس محمد بن يزيد، المعروف
بالمبرِّد»، التي يأتي «المقتضَب» في مقدمتها، حيث
نصل إلى تسجيلٍ لخطوات مزج النحو بالمنطق، وتدرجه
في القرن الثالث الهجري، كما نجد عند الكوفيين ما
بقي ﻟ «أبي زكريا لفراء» من جهود في ميدان اللغة
والنحو، ويأتي كتابه «معاني القرآن» في أولها،
وسيكون في بقية المصادر التي خلَّفتها البصرة
والكوفة، وبالذات في القرن الثالث الهجري، ما يمكن
أن يسد الثغرات التي قد تبرز عند تدرج العلاقة بين
النحو والمنطق.
ومن هذا المنطلَق، فسوف أتحدث في الصفحات التالية
عن موقف كل من المبرِّد والفرَّاء من مزج النحو
بالمنطق، وذلك من خلال المحورين التاليين:
(١) المبرِّد؛ منهجيته في الدرس النحوي وبداية مزج
النحو البصري بالمنطق
لقد تهيأ لكتاب سيبويه من الشهرة والذيوع
والانتشار ما لم يتهيأ لأي كتاب آخر من كتب هذا
العلم، فاهتم الناس بنَسخه وقراءته وحفظه، وتواصل
الاهتمام بشرحه وشرح شواهده ومسائله والرد عليه،
وأصبح عمدة الدارسين في مجال الدرس ببغداد، ومصر،
والأندلس، والشام، وبلاد المغرب، وكان «المبرِّد»
نفسه من أوائل المهتمين به؛ فقد توفر على قراءته
ودرسه على يد شيخه «المازني» (ت١٥٤ﻫ)، و«الجرمي»
(ت٢٢٥ﻫ)، وانصرف إلى تدريسه وشرح مسائله لطلبته منذ
أن كان غلامًا في مجلس شيخه «المازني»، وبعد حمله
معه إلى سامراء ومنها إلى بغداد، حيث تصدر لإقرائه
وتفسير مشكلاته وشرح مسائله.
١٦
قال «ابن جِنِّي» (ت٣٩٢ﻫ) عن «المبرِّد»: «رجلٌ
يُعَدُّ جبلًا في العلم.»
١٧ والحق أنَّ مدينة بغداد لم تعرف شيخًا
مثل «المبرِّد» بعد «أبي زكريا الفرَّاء»، ولا شهدت
مجلسًا كمجلسه، فكان لهُ أثر واضح في أن تشق
المدرسة البصرية طريقها، وتظهر على نظيرتها المدرسة
الكوفية، فهو الذي مكَّنَ لآراء البصريين أن تنتشر
وتسود وسط زحام المنافسين والخصوم.
١٨
ولم يكن «المبرِّد» متأثرًا بسيبويه فحسب، بل إنه
ليَعُد نفسه الأمين على النحو البصري بعده، فحري به
أن يترسَّم خُطاه ويسير على نهجه، وبعد أن أصبح
إمام العربية في بغداد، فإن عليه الوقوف بثبات أمام
تحديات الكوفيين وعصبيتهم، فاستقرأ كتاب سيبويه،
وتأثر به كثيرًا، وعمل جهده ألا يغير إلا فيما لم
يستطع «سيبويه» أن يُقيمه على أمور واضحة،
فالمصطلحات التي جاءت عند «سيبويه» واستقرت إلى
يومنا هذا، نجد المبرد يستعملها كما كان «سيبويه»
من قبل يفعل، والشواهد على ذلك كثيرة، منها على
سبيل المثال لا الحصر: أنه تابع «سيبويه» في أحد
قولين قال بهما في كتابه، ولم يُشِر إلى الآخر،
فقال النحويون: إن «المبرِّد» خالف «سيبويه»، من
ذلك أنه جعل علة منع الصرف في الصفات مثل «عطشان»
و«سكران» مشابهة «الألف والنون» لألفَي التأنيث
الممدودة وعدد وجوه هذا الشبه. وقال في موضع آخر
بأن «النون» بدل من الهمزة، وتابعه المبرد في القول
الثاني، وذهب إلى أن «النون» بدل من «الهمزة»،
فنُسبت إليه مخالفة سيبويه في القول الأول، ولم
ينتبهوا على أنه متابع له في قوله هذا،
١٩ وعلى أن القولين نتيجتهما واحدة، لأن
كون «الألف والنون» تقابلان «ألفي التأنيث
الممدودة» معناه أن «الألف» التي قبل «الهمزة»، وأن
«النون» تقابل «الهمزة».
٢٠
علاوة على أن المبرد سار على خُطى سيبويه في
بحوثه لعلوم العربية الثلاثة: النحو، والصرف،
والأصوات اللغوية، فقد تحدث في كتابه المقتضَب عن
أبواب نحوية كثيرة، وإن لم تكن كل النحو، وتحدث عن
موضوعات علم الصرف كالمجرَّد والمزيد وأبنيتهما،
وتحدث في خلال ذلك عن أبنية الفاعل والمفعول
وغيرهما من المشتقَّات منها، وعن جمع ما يُجمع من
الأسماء معتلَّة العَين أو اللام، وما يحدث فيها من
تغيير بقلب أو حذف أو غيرهما من صور الإعلال
والإبدال، وعن غيرها من الموضوعات الصرفية.
٢١ وتكلم عن الإدغام وما يتبعه من دراسات
لمخارج الحروف، ومواقع الإدغام في الفعل وغيره، وفي
الكلمة والكلمتين، وعلى الإبدال في الحروف الصحيحة
عند الإدغام، والإعلال في الحروف المعتلَّة
وأنواعه، وهي عين المواضع الصرفية والصوتية التي في
كتاب سيبويه.
٢٢
بل لقد تابعه في بعض المصطلحات النحوية التي لم
تأخذ شكلها النهائي؛ فسيبويه يُسمِّي الحرف المتحرك
حرفًا حيًّا،
٢٣ فيحافظ المبرد على هذا المصطلح بالرغم
من عدم صلاحيته للبقاء، فتراه يقول عن الواو في مثل
«جدول، وقسورة» إنها: «ظاهرة حية، أي متحركة»،
٢٤ ويقول في موضع آخر: «والمتحرك حرف حي»،
٢٥ وكان سيبويه يُطلق على الحال مصطلحات:
«الخبر، والصفة، والمفعول فيه» فأخذ منها المبرِّد
مصطلَح المفعول فيه وأطلقه على الحال،
٢٦ كما عبر عن الهمزة بالألف، تمامًا
مثلما فعل سيبويه، كما كان يُسمي اسم كان فاعلًا،
وخبرها مفعولًا به،
٢٧ مثله مثل سيبويه.
٢٨
وقد عرض لهذه الظاهرة عند المبرِّد الأستاذ «محمد
عبد الخالق عضيمة» في مقدمة المقتضَب،
٢٩ كما لا حظ الأستاذ «سعيد أبو العَزم
إبراهيم» أن «المبرِّد» قد ساق بعض المصطلحات كما
هي عن سيبويه، واختصر بعضها، وفاق سيبويه في تطويل
مصطلحات بعض الأبواب.
٣٠
وإذا كان «المبرِّد» وقف حارسًا أمينًا على
مصطلحات سيبويه ليحافظ للمصطلح النحوي وجهه البصري
الذي تضافرت جهود أئمة النحو على صناعته، وتقدمت به
البصرة خطوات كبيرة لا يزاحمها شرفَ هذه المسئولية
منافس، فما هو السر في عدم إقبال الكثير من أئمة
النحو ودارسيه على قراءة كتاب المقتضَب
ودراسته؟
علَّل أبو البركات بن الأنباري هذا الانصراف عن
«المقتضَب» بقوله: «وكان السر في عدم الانتفاع به
أن أبا العباس المبرد لما صنف هذا الكتاب أخذه عنه
«ابن الرواندي» المشهور بالزندقة وفساد الاعتقاد،
وأخذه الناس من يد «ابن الرواندي» وكتبوه منه،
فكأنه عاد عليه شؤمه فلا يكاد يُنتفع به.»
٣١ في حين يرى البعض أن انصراف الناس عنه
إنما كان لانشغالهم بكتاب سيبويه، وربما اطلع عليه
بعض الدارسين فلم يجدوا فيه ما يزيدهم عِلمًا
بمسائل هذين العِلمين، يقول أبو علي الفارسي نقلًا
عن ابن الأنباري: «نظرت في كتاب المقتضَب فما
انتفعت منه في شيء إلا بمسألة واحدة وهي: وقوع
«إذا» جوابًا في الشرط في قوله تعالى:
وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ
يَقْنَطُونَ.»
٣٢ ولعل لطريقته في العرض واستخدامه أسلوب
الاحتجاج والمناقشة، مع مجيئه بعقب كثير من أبوابه
بمسائل مشكلة؛ أثرًا في نفوس الدارسين منه
وانصرافهم عنه والتزامهم بكتاب سيبويه.
٣٣
وأعتقد أن سبب انصراف الناس على قراءة المقتضَب،
هو ما أدخله المبرِّد من أساليب الفلسفة والمنطق
عليه، الأمر الذي انعكس على أسلوبه في عرض المسائل
النحوية، فقد أصبح أكثر إسهابًا في الجدل والإطالة
في التعليل والاستطراد إلى مسائل جانبية تَعرِض في
أثناء شرح المسألة النحوية أو الصرفية، مما كان عند
سيبويه؛ فمن أمثلة تعليلاته العقلية البعيدة عن روح
تعليلات سيبويه السهلة الموضحة قوله «في باب
الفاعل»: «هذا باب الفاعل، وهو رفع، وذلك قولك:
«قام عبدُ الله» «وجلس زيدٌ»، وإنما كان الفاعل
رفعًا؛ لأنه هو والفعل جملة يحسن عليها السكوت،
وتجب بها الفائدة للمخاطَب، فالفاعل والفعل بمنزلة
الابتداء والخبر إذا قلت «قام زيدٌ»، والمفعول به
نصب إذا ذكرت من فعل به، وذلك لأنه تعدى إليه فعل
الفاعل، وإنما كان الفاعل رفعًا والمفعول به نصبًا
ليُعرَف الفاعل من المفعول به، مع العلة التي ذكرت
لك. فإن قال قائل: أنت إذا قلت: «قام زيد» فليس ها
هنا مفعول يجب أن تفصل بينه وبين هذا الفاعل. فإن
الجواب في ذلك أن يُقال: لما وجب أن يكون الفاعل
رفعًا في الموضع الذي لا لبس فيه للعلة التي ذكرنا،
ولما سنذكره من العلل في مواضعها، فرأيته مع غيره،
علمت أن المرفوع هو ذلك الفاعل الذي عهدته مرفوعًا
وحده، وأن المفعول الذي لم تعهده مرفوعًا، وكذلك
إذا قلت «لم يقُم زيدٌ» و«لم ينطلق عبدُ الله»
و«سيقوم أخوك». فإن قال قائل: إنما رفعت «زيد»
أولًا لأنه فاعل، فإن قلت: «لم يقُم» فقد نفيت عنه
الفعل، فكيف رفعته؟ قيل له: إن النفي إنما يكون على
جهة ما كان مُوجبًا، فإنما أعلمت السامعَ مَن الذي
نفيت عنه أن يكون فاعلًا. فكذلك إذا قلت: «لم يضرب
عبدُ الله زيدًا» علِم بهذا اللفظ من ذكرنا أنه ليس
بفاعل، ومن ذكرنا أنه ليس بمفعول، ألا ترى أن
القائل إذا قال: «زيد في الدار» فأردت أن تنفي ما
قال أنك تقول: «ما زيد في الدار» فترد كلامه ثم
تنفيه …» فأين هذا من تعليل سيبويه المختصر الدال،
وهو قوله: «ضرب عبدُ الله زيدًا ﻓ «عبد الله» ارتفع
ههنا كما ارتفع في «ذهب»، وشغلت «ضرب» به كما شغلت
«ذهب»، وانتصب «زيد» لأنه مفعول تعدى إليه فعل الفاعل.»
٣٤
ومن أمثلة استطراده ما جاء في أثناء كلامه على
«في» الجارَّة قال: «ومعناه ما استوعاه الوعاء، نحو
قولك: «الناس في مكان كذا» و«فلان في الدار». فأما
قولهم: «فيه عيبان» فمشتق من ذا؛ لأنه جعله كالوعاء
للعيبين، والكلام يكون له أصل ثم يتَّسع فيه فيما
شاكل أصله، فمن ذلك قولهم: «زيد على الجبل»، وتقول:
«عليه دَين»، فإنما أرادوا أن الدين قد ركبه وقد
قهره، وقد يكون اللفظ واحدًا ويدل على الاسم وفعل،
نحو قولك: «زيد على الجبل يا فتى»، و«زيد علا
الجبلَ»، ومن كلامهم اختلاف اللفظين لاختلاف
المعنيين، واختلاف اللفظين والمعنى واحد، واتفاق
اللفظين واختلاف المعنيين، فأما اختلاف اللفظين
لاختلاف المعنيين فهو الباب، نحو قولك «قام» و«جلس» …»
٣٥
ثم يمضي المبرِّد في شرح هذه الأنواع والتمثيل
لها، ثم يقول: «وكذلك «وجدت» تكون من «وجدان
الضالة» … وفي معنى «الموجِدة» نحو «وجدتُ على
زيد».» ويبدو أنه لم يكن غافلًا عن هذا الاستطراد
الطويل، وإنما هو متعمد له، ولهذا يقول بعده: «فهذا
عارض في الكتاب ثم نعود إلى الباب.»
٣٦ ويتحدث بعده عما كان من حرفين وهو «لم»
… ويستخدم التقرير النظري العقلي أكثر من اعتماده
اللغة؛ فهو يشرح أمورًا نظريَّةً كثيرة، ثم يمثل
لها، على خلاف ما كان واضحًا عند سيبويه وشيوخه، من
بناء القاعدة على المثال، لا المثال على القاعدة،
ومن ذلك ما ذكرناه من لجوئه إلى افتراض أمثله
مطوَّلة معقَّدة التركيب يُمتحن بها المتعلمون،
لكنه مع هذا يشرحها. ومن ذلك أيضًا قوله: «ما أعجب
شيء شيئًا إعجابَ زيدٍ ركوب الفرس عمرو.»
٣٧ ولهذا عِيبَ المبرِّد على جعله هذه
المسائل العويصة في أول كتابه مما نفَّر الناس
منه.
واتضح تأثير الفلسفة والمنطق في شرحه مسائل
النحو، كما مر بنا في كلامه على «الفاعل»، واتضح
فيه استخدام العلل المركَّبة، وذلك بالسؤال عن
العلة وعلتها، إلى أن تداخلت أربعة تعليلات فيه،
واستخدام المحاجَّة في ذلك كله.
٣٨
إنَّ الناظر في تراث المبرِّد النحوي يلمسُ شغفَه
واهتمامه بالتعليل وعنايتَه الفائقة به، فقلَّما
يترك حكمًا دون تعليل، حتى المصطلحات النحوية علَّل
لها، فعلى سبيل المثال علَّل تسمية المضارع بهذا
الاسم، قال: «واعلم أنَّ الأفعال إنما دخلها
الإعراب لمضارَعَتِها الأسماءَ، ولولا ذلك لم يجِب
أن يُعرَب منها شيء.»
٣٩
ويظهر في تعليلاته بدايةً تأثير الفلسفة التي
أدَّت إلى تعقيد المسائل النحوية، وقد اتضحت جليًّا
عنايته بالعلَّة الثانية التي سمَّاها الزَّجَّاجي
«العلَّة القياسية»، أو العلَّة الثالثة التي
سمَّاها «العلَّة الجدلية النظرية».
٤٠
ومع هذا، فالغالب على تعليلات المبرِّد أنَّها لم
تخرج عن علل البصريين، فعللُه شبيهه، إلى حدٍّ
كبير، بعلل الخليل وسِيبَوَيه.
ويتضح لنا أنَّ تعليلاته تُساق لأجل التعليم، فهي
تعليمية على الأغلب؛ ولهذا أصبحت العلة النحوية
رديفًا للحكم النحوي عند المبرِّد لا تفارقهُ.
٤١
وكان سر تفوق المبرِّد في بغداد على أقرانه من
الكوفيين هو شدَّة اهتمامه بالتعليل؛ إذ اتخذ منه
سلاحًا للمناقشة والبحث، وكانت له يدٌ طولى وحظ في
التعليل؛ لأنَّهُ كان من المجتهدين فيه، فكثيرًا ما
نراهُ يطالب الخَصمَ بالعلة، وهذا يتضح في حديثه مع
الزجاج ومَن معه من تلامذة ثعلب، وكان الزجاجُ
أوَّل من أحسَّ بهذا المنهج الذي كان يتَّبعه
المبرِّد، وقد أُولِع به هو بعده، قال: «لما قدم
المبرِّد بغداد جئتُ لأناظرهُ، وكنت أقرأ على أبي
العباس ثعلب فعزمتُ على إعناته، فلما فاتحتُه
ألجَمَني بالحُجة، وطالبني بالعلَّة، وألزمني
إلزامات لم أهتدِ إليها، فتيقَّنتُ فضلَه، واسترجحت
عقلَه، وأخذتُ ملازمتَه.»
٤٢
وما من شك في أن شيوع النظريات الفلسفية كان من
أثره أن انساح المبرد في طريق الفلسفة، ففلسف النحو
بإمعانه في التعليل وإسرافه فيه، ويجدُر بي أن أثبت
تأثر المبرد بالفلسفة بذكر أمثلة من تعليلاته هي من
وحي الفلسفة، ونذكر بعضًا من تعليلاته
مثل:
- (١)
حد الأفعال ألَّا تُعرَب: قال
المبرد: «كان حدها ألَّا يُعرب منها
شيء؛ لأن الإعراب لا يكون إلا بعامل،
فإذا جعلت لها عوامل تعمل فيها لزِمك
أن تجعل لعواملها عوامل، وكذلك لعوامل
عواملها إلى ما لا نهاية.»
٤٣
- (٢)
تصغير جمع الكثرة: قال المبرِّد:
«اعلم أنك إذا صغَّرت بناء من العدد
يقع ذلك البناء أدنى العدد، فإنك ترُده
إلى أدنى العدد، فتُصغره، وذلك أنك إذا
صغرت كلابًا قلت: أكليب؛ لأنك تخبر أن
العدد قليل، فإنما ترده إلى ما هو
للقليل، فلو صغرت ما هو للعدد الأكثر
كنت قد أخبرت أنه قليل كثير في حال
وهذا هو المحال.
٤٤
- (٣)
لا يرخم حُبلوي على لغة من لا ينتظر:
قال المبرد: «النحويون لا يجيزون ترخيم
رجل في النداء يُسمى حُبلوي في قول من
قال: يا حارُ، فرفع؛ لأن الذي يقول: يا
حار، لا يعتد بما ذهب ويجعله اسمًا على
حياله، فإذا رخَّم حبلوي لزمه أن يقول:
يا حُبلَى أقبل؛ لأن الواو تنقلب ألفًا
لفتحة ما قبلها، ومثال فعلى لا يكون
إلا للتأنيث، ومُحال أن تكون ألف
التأنيث منقلبة؛ فقد صار مؤنثًا مذكرًا
في حال، فلهذا ذكرتُ لك أنه محال.»
٤٥
- (٤)
ومنها على سبيل المثال ما دار بين
المبرِّد وثعلب الكوفي (ت٢٩١ﻫ) في مجلس
محمد بن عبد الله بن طاهر؛ فقد سأل
المبردُ ثعلبًا عن همزة بينَ بين،
أساكنةٌ هي أم متحركة؟ فقال ثعلب: لا
ساكنة ولا متحركة. يريد أن حركتها
رَومٌ، فقال المبرد: قوله: لا ساكنة،
أقرَّ أنها متحركة، وقوله: لا متحركة،
قد أقر أنها ساكنة، فهي ساكنة لا ساكنة
ومتحركة لا متحركة.
٤٦
- (٥)
ومن مظاهر النزعة المنطقية عند
المبرِّد ردُّه على ما ذهب إليه
الكوفيون من جواز جمع ما خُتم بالتاء
من أسماء المذكرين، كطلحة، بالواو
والنون؛ فيقال: طلحتون، بأن ذلك لو جاز
«للزِمك أن تكون أنَّثته وذكرته في
حال، وهذا هو المحال.»
٤٧ والجدل الفلسفي واضح في
قول المبرد، مما يذكرنا بقول أرسطو:
«لا يعرض أن يكون الشيء الواحد موجودًا
وغير موجود معًا، وذلك مُحال.»
٤٨
- (٦)
ومن تعليلاته عدم إلحاق الهاء في مثل
«طامث، وحائض، ومُتئم»؛ لأنَّ هذه
الألفاظ تدل على النَّسب لا على الوصف
باسم الفاعل؛ لأن المراد: لها حيضٌ،
ومعها طلاقٌ، ويرُد قولَ بعض النحويين:
إنَّما تُنتزع الهاء من كُلِّ مؤنث لا
يكون له مذكر فيحتاج إلى الفصل. وينعته
بقوله: ليس بشيء؛ لأن هناك ألفاظًا
مشتركة ولا تدخلها تاء التأنيث،
كقولهم: رجل عاقر وامرأة عاقر، وناقة
ضامر وبَكْر ضامر.
٤٩
وكذلك ظهر في مقتضَب المبرد الذي مهر مصنفه في
فلسفة المسائل، وتصريف الكلام وتشقيقه، واستِكناه
ما فيه من الاحتمالات العقلية، والذي انطبع أسلوبه
بسِمات أساليب المتكلمين على النحو الذي بدا بوضوحٍ
من خلال تمسكه بالقياس، فقد اعتمد المبرد القياس
وأخذ به، ورأى أن المصير إليه ضرورة تُمليها علينا
أبنية اللغة المتجددة، وتدلُّ أقوالُه فيه على
أنَّه أوجب في المقِيس عليه أن يكون كثيرًا،
وأنَّهُ لا يؤخذ بالقليل، ولا يُقاس على الشاذ،
وهذا ظاهر في قوله: «القياس المطَّرد لا تعترض عليه
الرواية الضعيفة.»
٥٠ وهذا يُرَدُّ به على رأي الدكتور
«محمود حسني محمود»، الذي ذهب إلى أنَّ المبرِّد
اقترب من الكوفيين بقياسه على الشاذ في بعض الأحيان.
٥١ ويؤكد بطلان هذا القول أيضًا قول
المبرِّد: «إذا جعلتَ النوادر والشواذ غرضك،
واعتمدت عليها في مقاييسك كثُرت زلاتُك.»
٥٢
ويمكننا القول: إن المبرِّد قد عمَّق اتجاه
القياس، وإنَّ المغالاة فيه قد تُعزى إليه، فقد
اهتم به اهتمامًا بالغًا، وكان لبَصرِيَّته دورٌ
بارزٌ في أقيستِه في مواضع كثيرة، فهو يقيس على
الكثير من كلام العرب، قال: «وأعلم أن القياس وأكثر
كلام العرب أن تقول: هذه أربعةَ عشرَك، وخمسة
عشرَك، فتدعه مفتوحًا على قولك: هذه أربعةَ عشَرَ،
وخمسة عشَرَ.»
٥٣ ومنه كلامُه على ما جاء من ذوات الياء
والواو التي ياءاتهنَّ وواواتهنَّ لامات، وذلك
قولهم «في رمية: رميات، وفي غزوة: غزوات وفي قَشوة:
قَشوات، كما تقول في «فَعلة» نحو حَصاة وقَناة:
حصيات وقنوات؛ لأنَّك لو حذفت لالتقاء الساكنين
لالتبس بفَعال من غير المعتل، فجرى ههنا مجرى غزوا
ورميا، لأنَّك لو ألحقت ألف «غزا» وألف «رمى» ألف
التثنية للزمك الحذف لالتقاء الساكنين، فالتبس
الاثنان بالواحد، فكنت تقول للاثنين: غزا ورمى،
فلما كان هذا على ما ذكرت لك لم تحذف.»
٥٤ وكثيرًا ما نرى المبرِّد يردد لفظة
«الأقيس»، كقولِهِ: «أمَّا الأقيَس والأكثر في لغات
العرب فأن تقول في بيضة: بيضات، وجوزة: جوزات،
ولوزة: لوزات.»
٥٥
وهكذا كان نحو البصرة منذ عهد المبرد متأثرًا
بالمنطق، وأصبح نُحاتها شيئًا فشيئًا أهل فلسفة
وجدل، وأصبحت أساليبهم في النهاية متَّسمة بقدر من
الغموض والتعقيد، وكل ذلك كان انعكاسًا لتأثرهم
بالمعارف العقلية التي سادت مدينتهم منذ عصر مُبكر؛
بسبب ما تم فيها من التقاء العرب بالعناصر الأخرى
التي اعتنقت الإسلام، وأثرت في علومه وفي علوم
اللغة العربية تأثيرًا فكريًّا عميقًا، وقد ساعد
على هذا موقع المدينة الجغرافي على تخوم فارس، كما
ساعد عليه انتشار أفكار الاعتزال الفلسفية بين
نحاتها ومزجهم هذه الأفكار بالثقافة العربية
وبالنحو مَزجًا دعا إليه شعورهم بالحاجة إلى هذا
الخليط الثقافي لمقارعة خصومهم بالبيان الرفيع
المتسلِّح بالمنطق والفلسفة، بعد أن أتموا، في
الوقت نفسه، آلته وأحكموا صناعته النحوية.
٥٦
وقد حملهم هذا الذي ذكرناه في نهاية المطاف على
الإفراط في التقنين والحماس في التقعيد، فانشغلوا
بهما عن البحث في المادة اللغوية نفسها، كما آل بهم
الأمر إلى إخضاع هذه المادة لقواعدهم وقوانينهم
النحوية التي وضعوها على أُسس وطيدة من المنطق،
وَفق أصول فلسفية محضة وبناء على علل نظرية، فأصبح
نحوهم منذ عهد المبرد ميدانًا واسعًا ومعرضًا
فسيحًا للمناهج الكلامية والاتجاهات المنطقية
والمصطلحات الفلسفية؛ لما امتلأ به من الأسباب،
والمسبَّبات، والمقدمات، والنتائج، والعلل،
والمعلولات، والتقسيم، والتبويب، والحد، والمحدود،
والشروط، والقيود، والداخل، والخارج … ونحو ذلك،
ولما خضعت له أحكامه من ضروب التقدير، والتأويل
الذي يقصد به إلى التوفيق بين النصوص اللغوية، وبين
ما يخالفها من أصولهم التي وضعوها ليثبتوا أن كل ما
نطق به العرب إنما كان على طُرق ثابتة لها أسبابها
ونتائجها المنطقية وأصولها الفلسفية، معتبرين أصول
اللغة كأصول المنطق لتلك ما لهذه من عموم وشمول،
ولما توسعوا فيه من القياس، يطبقون على قواعدهم حتى
أصبح عامًّا ومسيطرًا عليها، بحيث صار ما يخرج على
هذه القواعد شاذًّا، ولإكثارهم من قياس ما لم يُسمع
عن العرب وحمله على القواعد المبينة على المسموع
بشكل متعسف متكلف أحيانًا، من جهة ابتناء هذا
القياس في إجرائهم ليس على العلة الأولى التي هي
مدار الحكم ابتداء، بل على علل وراءها اعتُبرت من
العلل الثواني والثوالث، مما خرج بالنحو عن فطرة
اللغة إلى غموض الفلسفة وتعقيد المنطق في كثير من
مسائله إلى البصرية.
٥٧
وبعدُ، فإن السبب الحقيقي — كما أزعم — وراء
انصراف الكثير من النحاة عن قراءة المقتضَب والأخذ
به، إنما يتمثل في أن المبرد حاول اقتصار النحو على
دراسة الإعراب والبناء في الألفاظ، وتبيُّن أثر
العامل بها، وانصرافه عن العناية بالمعنى وأساليب
الكلام والموازنة بينها، مما أدى إلى انقطاعه عن
مباحث البيان والبلاغة نتيجة اعتماده المنهجَ
المنطقي وتمكينه من أصول النحو وقواعده، وما كنت
أظن أحدًا من الباحثين المعاصرين يرضى بهذا
الانقطاع، إلى أن وجدت الدكتور «شوقي ضيف» يرضاه
ويباركه بقوله: «والحق أن اللغويين بعد القرن
الثالث أخذوا يتوسعون في المباحث اللغوية الخالصة،
مُنحازين عن مباحث البيان والبلاغة، وكأنهم رأوا —
مُحقِّين — أنها ميدان آخر غير ميدانهم.» فلقد
رأينا أن هذه المباحث كانت ميدانهم، وكانوا أول
الفرسان فيها، وكيف أنها قد خالطت فكرهم وكتابتهم،
وكانت السبب في جعل النحو عندهم دراسة حية، وهم
يتتبعون أساليب العرب في كلامهم وطرائقهم في
التعبير في سبيل الاقتدار على فهمها والتعبير
بمثلها. علمًا بأن الدكتور شوقي ضيف نفسه يرى أن
انفراد كتاب سيبويه بالقدرة على تعليم قارئه دقة
الحِس اللغوي وتلقينه سَليقة العربية والحس بها
حسًّا دقيقًا مُرهفًا، والشعور بها شعورًا رقيقًا
حادًّا؛ إنما كان بسبب كونه لا يقف عند الإحاطة
بالخصائص اللغوية والنحوية، بل يمتد أيضًا إلى
الإحاطة بالخصائص البيانية والأدبية.
٥٨
على أية حال، بصرف النظر عن مدى نجاح أو فشل ما
قام به المبرد، فإنه، لا شك، يُعَد أول نحاة البصرة
الذين أدخلوا الروح المنطقية رُويدًا رويدًا في
الدرس النحوي، وإن مَثَله كمثل إمام الحرمين أبي
المعالي الجُوَيني الأشعري، حين «عُدَّ أول عالم من
علماء أصول الفقه الأشعريين الذين أدخلوا المنطق
إلى حظيرة علم أصول الفقه.»
٥٩
(٢) الفرَّاء وبدايات مزج النحو الكوفي
بالمنطق
لم تنل الكوفة قسطًا وافرًا من علم النحو، كما
نالته البصرة التي سبقتها في هذه الصناعة بما يقرب
من مائة عام.
٦٠ فالكوفة كانت في تلك الآونة منشغلة
بتدوين الحديث، وأخبار العرب، وقراءة القرآن وتفسيره.
٦١ ولكن رغم ذلك فإن الكوفة بعد هذه
الفترة الطويلة وتمرُّسها في علم الحديث، استطاعت
أن تمضي نحو علم النحو، لتُعوِّض ما فاتها منه، وقد
كان للظروف السياسية وقتذاك، حيث شجعها العباسيون
واحتضنوها، أكبر الأثر في منافسة البصرة حاضنة
النحو ومُنشِئته.
٦٢
وتختلف الآراء وتتعدد الأقوال في نشأة النحو
الكوفي وتحديد بدايته، فيكاد يتفق معظم المؤرخين
على أن المذهب الكوفي يبدأ بأبي جعفر الرؤاسي، أول
من ألف في النحو من الكوفيين، وأن الخليل بن أحمد
كان مُعاصرًا له واستفاد من بعض مصنفاته، وأنه صنف
كتاب «الفيصل» في النحو؛ فقد جعله الزبيدي في
طبقاته رأسَ المذهب الكوفي، وأستاذ أهل الكوفة في النحو،
٦٣ وتابعه في ذلك ابن النديم، وجعله أول
من وضع في النحو كتابًا من الكوفيين،
٦٤ وأن تلميذه «الكِسائي» هو الذي نهض
بالمذهب الجديد ودعمه، وكان نظير «سيبويه» رأس
المذهب البصري، يقول صاحب الأغاني: «إن الكسائي هو
الذي رسم للكوفيين رسومًا يعملون عليها.»
٦٥
لقد كان «الكِسائي» أول كوفي يخرج على أساليب
البصريين، فمنذ اللحظة التي عاد فيها من البادية،
وكان يقصد «الخليل» ليُطلعه على تحصيله، فوجده قد
مات ووجد في موضعه «يونس بن حبيب»، فمرت بينهم
مسائل أقر له «يونس» فيها وصدَّره في موضعه،
٦٦ فمنذ اللحظة شرع في الإعداد لمذهب
مستقل عن مذهب البصريين، وأخذ يخالفهم في آرائهم
ويغير كثيرًا من أصولهم، فرسَم للكوفيين رسومًا
فهُم الآن عليها؛
٦٧ فالكِسائي هو الذي رسم للكوفيين الحدود
التي احتذوا أمثلتها في النحو، وخالفوا فيه البصريين؛
٦٨ وهو يُعَد أول كوفي «خرج على أساليب
البصريين، وخالفهم في كثير من آرائهم، وغيَّر
كثيرًا من أصولهم.»
٦٩ وهو خلاف «لا حِدة فيه، ويخلو من عصبية
مذهبية بالمعنى الذي صار إليه فيما بعد».
٧٠ قال الشافعي: «من أراد أن يتبحر في
النحو، فهو عيال على الكسائي.»
٧١ وقال ابن الأنباري: «اجتمع فيه أنه كان
أعلم الناس بالنحو، وأوحدهم في الغريب، وأوحدهم في
علم القرآن، كانوا يكثرون عليه حتى لا يضبط عليهم،
فكان يجمعهم ويجلس على كرسي ويتلو وهم يضبطون عنه
حتى الوقوف.»
٧٢ وقال عنه إسحاق بن إبراهيم: «سمعت
الكسائي يقرأ القرآن على الناس مرتين»، وعن خلف،
قال: «كنت أحضر بين يدي الكسائي وهو يتلو، وينقطون
على قراءته مصاحفهم.»
٧٣
كما شهد له يونس بن حبيب بأنه حقيق برئاسة
الكوفيين بعد أن امتحنه قائلًا: «أشهد أن الذين
رأَّسوك رأسوك باستحقاق.»
٧٤ ولكنه مع ذلك لم يسلم من طعن البصريين
عليه، فابن درستوَيه (ت٣٤٧ﻫ) يقول: «كان الكسائي
يسمع الشاذَّ الذي لا يجوز إلا في الضرورة فيجعله
أصلًا ويقيس عليه، فأفسد النحو بذلك»، وقال أبو
حاتم: «لولا الكسائي دنا من الخلفاء فرفعوا من ذكره
لم يكن شيئًا، وعلمه مختلط بلا حجج ولا علل إلا
حكايات عن الأعراب مطروحة؛ لأنه كان يلقنهم ما
يريد، وهو على ذلك أعلم الكوفيين بالعربية والقرآن،
وهو قدوتهم وإليه يرجعون.»
٧٥ بل لقد وصل الأمر باليزيدي إلى هجائه،
وجاء أتباعه واتهمهم بإفساد النحو وتضييعه.
٧٦
وجاء بعد الكِسائي تلميذُه «الفرَّاء»، وهو يحيى
بن زياد، الديلمي الأصل، الأسدي بالولاء، وكان —
بلا شك — أعلم الكوفيين، جمع إلى علم الكوفيين علم
البصريين، فأخذ عن الكسائي الكوفي، وكان الفرق بينه
وبين أستاذه الكسائي كالفرق بين المأمون والرشيد،
وكالفرق بين محافظة الرشيد، وحرية العقل عند
المأمون، وكالفرق بين الحركة العلمية الناشئة في
عهد الرشيد، والناضجة في عهد المأمون؛
٧٧ وكان للفرَّاء أثر واسع في التفسير،
وفي اللغة، وفي النحو، ثم هو كبير العقل، بجانب سعة
الاطلاع، فهو بحر في اللغة، ونسيجُ وحدِه في النحو؛
حتى يُلقَّب بأمير المؤمنين في النحو، قال عنه
ثعلب: «لولا الفرَّاء ما كانت عربيةٌ؛ لأنه حصَّنها
وضبطها، ولولا الفرَّاء لسقطت العربية؛ لأنها كانت
تُتنازع ويدَّعيها كل من أراد، ويتعلم الناس فيها
على مقادير عقولهم وقرائحهم تذهب.»
٧٨ وهو من أصل فارسي، وتُحدثنا بعض
المراجع بأنه لُقِّب بالفراء لأنه كان يفري الكلام،
أي يقطعه ويُفصل القول فيه، وعكف منذ نشأته على
حلقات الدراسة التي كانت تُعقَد بالكوفة، فدرس
الفقه، والحديث، والتفسير، واللغة، والنحو، وقد
أتاحت له هذه الدراسة فُرصة الاتصال بعلماء الكوفة
في عصره، ثم رحل إلى البصرة طلبًا للمزيد من
الدراسة، فلقِي يونس بن حبيب وأخذ عنه اللغة والنحو.
٧٩
كما اتصل بعُلماء الفلسفة، والكلام، والطب،
والنجوم، وجلس في حلقاتهم واجتذبته مبادئ
المعتزِلة، وصادفت هوًى في نفسه فأيَّدها واشتُهر بها؛
٨٠ مما جعل مترجموه يقولون إنه كان
متكلمًا يميل إلى الاعتزال، وآثار اعتزاله واضحة في
كتابه معاني القرآن؛ إذ نراه فيه يتوقف مرارًا للرد
على الجبرية، ولعل صِلته بالاعتزال والمعتزِلة هي
التي دفعته إلى قراءة تلك الكتب الخاصة بالفلسفة
والطب والنجوم، فقد كان المعتزلة يحرصون على قراءة
هذه الكتب، حتى لَيقول الجاحظ: «لا يكون المتكلم
جامعًا لأقطار الكلام، متمكنًا في الصناعة حتى يكون
الذي يُحسن من كلام الدين في وزن الذي يُحسن من
كلام الفلسفة، والعالِم عندنا (يريد المعتزِلة) هو
الذي يجمعهما.»
٨١
ومعنى ذلك أن الفرَّاء عُني منذ نشأته في الكوفة
والبصرة بالوقوف على فكر المعتزِلة، ويشهد بذلك
الكثير من المؤرخين؛ فمما ذكره السيوطي في ترجمته
قوله: «وكان يحب الكلام ويميل إلى الاعتزال.»
٨٢ ومما قاله ابن خلكان: «وكان الفراء
يميل إلى الاعتزال.»
٨٣ ومما ذكره المتقدمون في ترجمته الخبر
التالي: «قال الجاحظ: دخلت إلى بغداد حين قدِمها
المأمون سنة أربع ومئتين، وكان بها الفرَّاء،
فاشتهى أن يتعلم الكلام.»
٨٤ وعُرف الفرَّاء بعلوم شتى في الوسط
العلمي في وقته، وطبيعي أن يكون بينها علم الكلام،
وقد اتضح ذلك عندما التقى «ثُمامة بن الأشرس
النُّمَيري المعتزِلي» عندما التقيا على باب
المأمون. قال الخطيب البغدادي (ت٤٦٣ﻫ): «ولما عزم
الفرَّاء على الاتصال بالمأمون، وكان يتردد إلى
الباب، فبينما هو ذات يوم على الباب إذ جاء أبو
بِشر ثُمامة بن الأشرس النميري المعتزلي، وكان
خَصِيصًا بالمأمون، قال ثُمامة: فرأيت أُبَّهة
أديب، فجلست إليه، ففاتشته عن اللغة فوجدته بحرًا،
وفاتشته عن النحو فشاهدتُه نسيجَ وحدِه، وعن الفقه
فوجدته رجلًا فقيهًا عارفًا باختلاف القوم،
وبالنجوم ماهرًا، وبالطب خبيرًا، وبأيام العرب
وأشعارها حاذقًا، فقلت له: مَن تكون؟ وما أظنك إلا
الفرَّاء، فقال: أنا هو، فدخلت فأعلمت أمير
المؤمنين المأمون فأمر بإحضاره لوقته وكان سبب
اتصاله به.»
٨٥
وقال أبو بُريدة الوضاحي: «أمر أمير المؤمنين
المأمون الفرَّاءَ أن يؤلف ما يجمع من أصول النحو
وما سمع من العرب، فأمر أن تُفرَد له حجرة من حُجَر
الدار، ووكَّل بها جواري وخدمًا للقيام بما يحتاج
إليه، حتى لا يتعلق قلبه ولا تتشوَّف نفسه إلى شيء،
حتى إنهم كانوا يؤذنونه بأوقات الصلاة، وصير له
الورَّاقين، وألزمه الأُمناء والمنفقين، فكان
الوراقون يكتبون؛ حتى صنف كتاب «الحدود»، وأمر
المأمون بكُتبه في الخزائن.»
٨٦
وقد اتخذه المأمون مُربِّيًا لأولاده، فلما كان
يومًا أراد الفرَّاء أن ينهض إلى بعض حوائجه،
فابتدرا إلى نعلَي الفراء ليُقدِّماها له، فتنازعا
أيهما يقدمها له؟ ثم اصطلحا على أن يقدم كل واحد
منهما واحدة، فقدَّماها … فوصل الخبر إلى المأمون
فوجَّه إلى الفرَّاء واستدعاه، فقال: يا أمير
المؤمنين لقد خشيت أن أدفعهما عن مكرُمة سبقا
إليها، وأكسر نفوسهما عن شريفة حرَصا عليها … فقال
له المأمون: لو منعتهما عن ذلك لأوجعتُك لومًا
وعَتبًا، وألزمتك ذنبًا، وما وَضَع ما فعلا من
شَرفهما، بل رفع من قدرهما، وبيَّن عن جوهرهما،
ولقد تبيَّنت مخيلة الفراسة بفعلهما، وليس يكبر
الرجل، وإن كان كبيرًا، عن ثلاث: عن تواضعه
لسلطانه، ولوالديه، ولمعلمه. ثم قال: قد عوضتهما
مما فعلا عشرين ألف دينار، ولك عشرة آلاف درهم على
حُسن أدبك لهما.
٨٧
ويذكر بعض المؤرخين أنه كان واسع الثقافة، متعدد
الجوانب، ذا عقلية واسعة. يقول أبو العباس: كان
الفراء يتفلسف في تأليفاته، حتى يسلك في ألفاظه
كلام الفلاسفة.
٨٨ فقد عُني الفراء منذ نشأته في الكوفة
والبصرة بالوقوف على ثقافات عصره الدينية والعربية
والكلامية والفلسفية والعلمية، ولم يتفق المترجِمون
للفراء على تعيين عقيدته أو مذهبه الكلامي؛ إذ يرى
الكثير من القدماء، منهم «ياقوت الحموي».
٨٩ و«القفطي».
٩٠ و«السيوطي»،
٩١ و«ابن النديم»،
٩٢ وجميعهم يرددون هذا النص: «وكان
الفرَّاء يميل إلى الاعتزال، وكان يتفلسف في
تصانيفه، ويستعمل فيها ألفاظ الفلاسفة.» أما
المحدَثون فيذهب معظمهم إلى أن «الفراء» يتفلسف في
تصانيفه، ويميل إلى الاعتزال، ومنهم أحمد أمين.
٩٣ وعدَّهُ الأستاذ زُهدي جار الله من
مشهوري المعتزلة، وسلكه في طائفة المثقفين
المتزهدين، على عادة أهل الاعتزال.
٩٤ وكلهم أجمعوا على أن الفراء كان يميل
إلى الاعتزال، وقد اختلف إلى حلقات المعتزلة، وقد
تلقَّى حينئذٍ مبادئ الاعتزال.
٩٥
وقد ظهر في تصانيف الفراء التأثر بالمنطق
والفلسفة، ويبدو هذا بوضوح في كتابه الحدود، الذي
يدل مجرد تسميته «على تأثره بالمنطق»،
٩٦ «والذي يدل محتواه من الحدود الستين،
كحد الإعراب في أصول العربية، وحد كي، وكيلا، وحد
حتى، وحد الإدغام، وحد الدعاء، وحد القسم»
٩٧ وغيرها من الحدود التي هي أثر من آثار
الفلسفة والمنطق. هذا فضلًا عن «كثرة تفصيله،
وتمثيله، وقياسه، وتقليبه المسائل على وجوهها
المختلفة، مع التماس الأسباب في كل وجه منها، مما
يعكس ما في آرائه النحوية وتفسيراته لوجوه الإعراب
من أثر التفكير المنطقي، الذي يفترض في المسألة
الواحدة فروضًا متعددة، ويُجري تجاربه على كل فرض
منها على حدة ليصل إلى الغرض الذي يقصد إليه.»
٩٨
وتذكر كتب التراجم أن الفراء حين صنف كتاب
«الحدود» كان ذلك بأمر من أمير المؤمنين المأمون
ليجمع فيه أصول النحو، وما سمع عن العرب، وأفرد له
حجرة من حُجَر قصره، ووكَّل إليه من يخدمه، وجعل
بين يديه خزائن كُتبه، وجعل له الورَّاقين يكتبون
بين يديه، فعكف على ذلك، وألف الكتاب، وضبط النحو
وفلسفه، فألَّف فيه كتاب الحدود، واسم الكتاب يدل
على تأثره بالمنطق، فهو يريد بالحدود التعاريف، كحد
المعرفة، وحد النكرة، وحد النداء، وحد الترخيم …
إلخ، وهذه أمور لم يُعنَ بها سيبويه في كتابه
كثيرًا، وهي أثر من آثار الفلسفة والمنطق.
٩٩
واختلف المترجمون في عدد الحدود التي ضمَّنها
الفرَّاء كتابه، فقد ذكر الزبيدي، والقفطي أنها «ستون»،
١٠٠ في حين ذكر السيوطي أنها «ستة وأربعون
حدًّا في الإعراب»؛
١٠١ وتناقلت التراجم أسماء هذه الحدود، وهي
على ما ذكره ابن النديم، والقفطي: «حد الإعراب في
أصول العربية، وحد النصب المتولِّد من الفعل، وحد
المعرفة والنكرة، وحد «من» و«رُب»، وحد العدد، حد
ملازم «دخل»، حد العماد، حد الفعل الواقع، وحد «إن»
وأخواتها، حد «كي» و«كيلا»، حد «حتى»، حد
«الإغراء»، حد «الدعاء»، حد النون الشديدة
والخفيفة، حد الاستفهام، حد الجزاء، حد الجواب، حد
«الذي» و«مَن» و«ما»، حد «رُب» و«كم»، حد
«القَسَم»، حد الثنوية والمثنَّى،
١٠٢ حد النداء، حد النُّدبة، حد الترخيم،
حد «أن» المفتوحة، حد «إذ» و«إذا» وإذن، حد ما لم
يُسمَّ فاعله،
١٠٣ حد الحكاية، حد التصغير، حد النسبة، حد
الهِجاء، حد راجع الذكر، حد الفعل الرباعي، حد
الفعل الثلاثي، حد المعرَب من مكانَين، حد الإدغام،
حد الهمز، حد الأبنية، حد الجمع، حد المقصور
والممدود، حد المذكر والمؤنث، حد «فَعل وأفعل»، حد
النهي، حد الابتداء والتقطيع، حد ما يُجرى وما لا يُجرى.»
١٠٤
هذه هي حدود النحو عند الفرَّاء، وهي كما رأينا
اشتملت على ستين حدًّا لم تصلنا إلا أسماؤها ها
هنا، وروى البغدادي قصيدة لمحمد بن الجَهم في رثاء
الفرَّاء يذكر فيها حدوده، فيقول:
١٠٥
يا طالبَ النَّحوِ التمِسْ علمَ
ما
ألَّفَه الفَرَّاءُ في
نَحوِه
سِتِّينَ حَدًّا، قاسَها
عالمًا
أَملَّها بالحفظِ من
شَدوِه
وننتقل إلى قضية تأثُّر الفرَّاء بالفلسفة
والمنطق؛ حيث نجد أن هناك رأيين متعارضين، أحدهما
يقرُّ أصحابه بأن كتب الفراء تمثل إبداعًا عربيًّا
أصيلًا لا أثر فيها للمنطق أو الفلسفة، أما الرأي
الثاني فيُقر أصحابه بتأثر الفراء في كُتبه بالمنطق
الأرسطي والنحو اليوناني.
وسبيلنا الآن هو عرض آراء هذين الفريقين، ثم نذكر
رأينا، وذلك على النحو التالي:
(٢-١) الرأي الأول: الأصل الإسلامي للمنهج عند
الفراء
هناك بعض الباحثين مَن ينكرون هذا التأثر،
ومن هؤلاء الدكتور عبد الفتاح شلبي، حيث يقول:
«إن كتاب معاني القرآن خلا من الفلسفة والمنطق.»
١٠٦ وذهب الباحث «رحيم الحسناوي» في
بحثه عن «التعليل اللغوي عند الفراء» إلى أن
«دراسة الجانب التعليلي عند الفراء لها أثر
واضح في إثبات عدم تأثر النحو العربي بالمنطق
أو الفلسفة أو علم الكلام.»
١٠٧
وأعتقد أن السبب في ذلك ربما يعود إلى
اعتقادهم بأن النحو الكوفي أقرب للسليقة
العربية وأبعد عن التنظير المنطقي، والدليل على
ذلك ما ذهب إليه البعض من الباحثين، وهم بصدد
مناقشتهم لقضية العلل التعليمية عند الفراء؛
فنجد الأستاذ «رحيم»، يقول: «وأود هنا أن أؤكد
على حقيقةٍ أشرقت من خلال البحث لفتت انتباهي،
وقد أثبتَها كثير من الباحثين، وهي أنَّ
الكوفيين عمومًا كانوا أكثر اعتمادًا في
الانتصار لمذهبهم على العِلل التعليمية من البصريين.»
١٠٨ ونفس الشيء كان قد قاله الدكتور
مازن المبارك: «إنَّ نظرة الكوفيين إلى اللغة
وما يرد فيها من شواهد غير مطابقة للقياس
المصطَنَع، نظرة فيها الكثير من الحق والسداد.»
١٠٩ وأكَّد هذه الحقيقة الدكتور عبد
الفتاح الحموز بقوله: «وعليه فإنَّ جمهور
عِلَلهم يمكن عدُّها من باب العلل التعليمية،
أو العِلل الأولى البعيدة عن أساليب الفلسفة،
والمنطق، والتأويل، والتقدير، والتخمين؛ لأنها
تُنتزع من روح اللغة، أو الكلام العربي
المسموع، الذي بنَوا عليه قواعدهم، وليست من
باب العلل الجدَلية، أو الفلسفية، أو من باب
علة العلل، أو علة العلة.»
١١٠ كما يرى الدكتور مهدي المخزومي أن:
«نحاة الكوفة كانوا يَلمحون الطبيعة اللغوية
ويمتازون بفهم العربية فهمًا لا يقوم على
افتراضات وتكهُّنات، أو استهداء بقوانين العقل
وأصول المنطق، ولكنه يقوم على تذوق اللغة
وحِسٍّ بطبيعتها.»
١١١
(٢-٢) الرأي الثاني: الأصل اليوناني للمنهج عند
الفراء
وهذا الرأي يخالف الرأي الأول؛ حيث يؤكد
أصحابه بأن رياح الفلسفة والمنطق قد امتدت إلى
عقلية الفراء؛ إذ كان مثقفًا ثقافة كلامية
فلسفية، فكانت قدرته على الاستنباط والتحليل
والتركيب، واستخراج القواعد والأقيسة كبيرة،
مما أعطى النحو الكوفي صورته النهائية، وهي
صورة تقوم على الخلاف مع نحاة البصرة في كثير
من الأصول، مع وضع مصطلحات جديدة، بالإضافة إلى
الخلاف مع الخليل وسيبويه في تحليل كثير من
الكلمات والأدوات والعوامل والمعمولات، ومع حد
القياس وبسطه ليشمل كثيرًا من اللغات، والإبقاء
على فكرة الشذوذ، ومخالفة القياس حتى في القراءات.
١١٢
كما يؤكد أصحاب هذا الرأي أن ما سمَّاه
النحاة بالمدرسة الكوفية ما هو إلا آراء
الفرَّاء في أغلبها، فقد كان «عقله أدق وأخصب
من عقل الكسائي … وكانت قدرته على الاستنباط
والتحليل والتركيب، واستخراج القواعد والأقيسة،
والاحتيال للآراء، وترتيب مقدماتها لا تقرن
إليها قدرة أستاذه، وقد تحول بها إلى تنظيم
واسع لما تركه من أسس بانيًا عليه من اجتهاده
ما أعطى النحو الكوفي صورته النهائية.»
١١٣
وقد عُرف عن الفراء أنه كان من المتكلمين،
وهذه الروح الكلامية قد تركت أثرًا في تفكيره،
«فالراصد أقوالَه يحس بجلاء ما في آرائه
النحوية وتفسيراته لوجوه الإعراب من أثر
التفكير الفلسفي، فلا يزال يُقلب المسألة على
وجوهها ويعلل كل وجه منها، شأنه شأن العالم
الذي يفترض في المسألة الواحدة فروضًا متعددة،
ويُجري تجاربه على كل فرض منها على حِدة ليصل
إلى الغرض الذي قصد إليه.» كما يقول الدكتور
مهدي المخزومي.
١١٤
والفلسفة التي ذكرها المخزومي لا يقصد بها
النظام الفلسفي المتكامل، ونظرياته في الوجود
والمعرفة والأخلاق، وإنما المقصود بها التفكير
التأمُّلي، ومظاهر التعليل، والتحليل، والقياس،
وتقليب المسألة الواحدة على ما تتحمله من وجوه،
والانتفاع بما لديه من العلوم والثقافات بكل
وسيلة ممكنة، وهذا المعنى ألمحه من قول الدكتور
أحمد مكي الأنصاري: «رأيت الفرَّاء يوجه كلام
العرب، ويتفلسف على لسانهم، كأنه يقول: لو
سئلوا عن تعليل ذلك لقالوا كذا وكذا … فأنت
تراه يفصِّل، ويمثِّل، ويُعلِّل، ويقيس، وكل
ذلك من ألوان الفلسفة.»
١١٥ كما وصف الدكتور «أحمد الديرة»
الفراء بأنه كان «يتفلسف في مؤلفاته».
١١٦
ويرى الدكتور مازن المبارك أنه من الطبيعي أن
يتأثر كل عالم بالطابع الذي غلب عليه من فنون
العلم، فيظهر هذا الطابع جليًّا في علله وأسلوب
عرضه والحِجاج لها «ولا شك أن عالمًا كالفراء
عُرف بميله إلى الاعتزال، واشتهر بالفلسفة في
تصانيفه، لن تخلو عللُه من هذا الطابع الفلسفي.»
١١٧
وإلى مثل ذلك ذهبت الدكتورة خديجة الحديثي.
١١٨ في حين رأى الدكتور المخزومي أن
الطابع العام لتعليلات الفراء «كان إلى روح
الأساليب اللغوية أقرب منه إلى التفكير النظري المجرد.»
١١٩ وذهب الباحث «جميل عويضة» إلى أن
«معظم العلل والأقيسة في المذهب الكوفي إنما
كانت للفراء، والعلة عنده أبرز ما نقف عليه في منهجه.»
١٢٠
ونؤيد قول القائلين بغَلبة الطابع الفلسفي
والمنطقي في المنهج عند الفراء، حيث نلاحظ
غلبته في كتاباته وبحوثه، وبناءً على هذا ينبغي
لنا أن نقف على سُنة الفراء في بحثه النحوي في
كتابه «معاني القرآن» لنتعرف منهجَه الذي اصطبغ
به تفكيره النحوي، ولنعلم مقدار أخذِه بالفلسفة
والمنطق، فنقف على مدى مَيلِه إلى الجدل،
والافتراض، والاعتراض، والتجريد العقلي،
والأسلوب المنطقي في التقسيم، والنفي،
والإثبات، وبناء المسائل بعضها على بعض، وخير
ما ننتفع به للوصول إلى غايتنا أن نستعرض بضعة
نصوص من كتابه «معاني القرآن»؛ حيث نلاحظ
الفراء في أوائل هذا الكتاب يوجه كلام العرب،
ويعلل له، ويتفلسف على لسانهم، كأنه يقول: لو
سئلوا عن تعليل ذلك لقالوا: كذا وكذا. استمع
إليه يقول: «وأما أهل البَدو، فمنهم من يقول:
الحمد لله «بالنصب»، ومنهم من يقول: الحمد لله
«بالكسر»، ومنهم من يقول: الحمد لله «بالضم»
فيرفع الدال واللام. فأما من نصب فإنه يقول:
«الحمد» ليس باسم إنما هو مصدر، يجوز لقائله أن
يقول: أحمَدُ الله، فإذا صلح مكان المصدر
«فَعَل» أو «يَفعَل» جاز فيه النصب، من ذلك قول
الله تبارك وتعالى:
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
فَضَرْبَ الرِّقَابِ يصلح مكانها
في مثله من الكلام أن يقول: فاضربوا الرقاب،
ومن ذلك قوله:
مَعَاذَ
اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا
مَتَاعَنَا عِنْدَهُ يصلح أن تقول
في مثله من الكلام: نعوذ بالله، ومنه قول
العرب: سَقيًا لك، ورعيًا لك، يجوز مكانه: سقاك
الله، ورعاك الله.
١٢١
وأما من خفض الدال من «الحمد» فإنه قال: «هذه
كلمةٌ كثرت على ألسُن العرب حتى صارت كالاسم
الواحد، فثقل عليهم أن يجتمع في اسم واحد من
كلامهم ضمة بعدها كسرة، أو كسرة بعدها ضمة،
ووجدوا الكسرتَين قد تجتمعان في الاسم الواحد،
مثل إِبِل، فكسر الدال ليكون على المثال من
أسمائهم. وأما الذين رفعوا اللام، فإنهم أرادوا
المثال الأكثر من أسماء العرب، الذي يجتمع فيه
الضمتان، مثل الحُلُم، والعُقُب.»
١٢٢
وهنا نجد الفراء يمثل، ويعلل، وكل ذلك من
ألوان الفلسفة والمنطق، ثم هو إلى جانب ذلك
يسند هذه التعليلات إلى أهل البدو، وغني عن
البيان أن تقول: إن البدو كانوا ينطقون على
سجيتهم، ولا يلتفتون إلى شيء من هذه العلل التي
وضعها النحاة فيما بعد.
١٢٣
وهناك دليل آخر على أن الفراء سلك سُبل
المتكلمين، في إرجاع الظواهر اللغوية إلى
عِللها وأسبابها، مثلما كان في ظاهرتَي النحت
والتركيب، مما يدُل على أن تفلسف الفراء يتصل
بالتكوين الداخلي لمنهجه، حتى إنه أحيانًا كان
يسبق البصريين في تفلسُفهم، فقال بالنحت في
كلمة «لهنَّك» وفلسف ذلك قائلًا: هذه — أي:
لهنَّك — من كلمتين كانتا تجتمعان، كانوا
يقولون: «والله إنك لعاقل»، فخُلِطتا فصار
فيهما اللام والهاء من «الله» والنون من «إن»
المشددة، فهو يقول بالنحت في «لهنَّك».
١٢٤
وثمة نقطة أخرى جديرة بالإشارة، وهي أن
الفراء لم يختلف عن البصريين في الاعتماد على
«التعليل»، وفي استمداد كثير من تعليلاتهم من
المنطق، ومن الفكر الإسلامي، وآية ذلك أن
الفراء كان كثير الاهتمام بالتعليل، وآثاره
تشهد بذلك، ونحن هنا نسوق طائفةً من تعليلاته
لتوضيح هذا الجانب عنده، فمن ذلك قوله: «إذا
تقارب الحرفان في المخرج تعاقبا في اللغات.»
١٢٥ وذلك عند تفسير قوله تعالى:
وَإِذَا السَّمَاءُ
كُشِطَتْ١٢٦ إذ يقول: «وفي قراءة عبد الله:
قُشِطَتْ. بالقاف، وهما لغتان، والعرب تقول:
القافور والكافور، والقف والكف، إذا تقارب
الحرفان في المخرج تعاقبا في اللغات، كما يُقال
جدف، وجدث، وتعقابت الفاء والثاء في كثير من
الكلام، كما قيل الأثافي، والأثاثي، وثوب
فُرقبي وثرقبي، ووقعوا في عاثور شرٍّ، وعافور شرٍّ.»
١٢٧
من ذلك أيضًا ما ذكره في قوله تعالى:
وَإِذَا الرُّسُلُ
أُقِّتَتْ١٢٨ إذ يقول: «اجتمع القُراء على
همزِها، وهي في قراءة عبد الله: «وُقِّتَتْ»
بالواو، وقرأها أبو جعفر المدني: «وُقِتَتْ»
بالقاف الخفيفة، وإنما هُمزت لأنَّ الواو إذا
كانت أول حرف وضمت همزت، ومن ذلك قولك: صلَّى
القوم أُحْدانًا … ويقولون: هذه أُجُوه حِسان —
بالهمز — وذلك لأنَّ ضمة الواو ثقيلة، كما كان
كسر الياء ثقيلًا.»
١٢٩
وربما وجدنا في التفكير الداخلي عند الفرَّاء
ما يتفق ومعطيات المنطق نحو تفسيره بعض الظواهر
النحوية، بما يُسمَّى عند المنطقيين بالدَّور،
وهو توقف كل واحد من الشيئين على الآخر، وذلك
قوله: «وأما قوله:
مَثْنَى
وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فإنها حروف لا
تجري، وذلك أنهن مصروفات (أي معدولات) عن
جهاتهن، ألا ترى أنهن للثلاث والثلاثة، وأنهن
لا يُضفن إلى ما لا يضاف إلى الثلاثة والثلاث،
فكان لامتناعه من الإضافة كأن فيه الألف
واللام، وامتنع من الألف واللام، لأن فيه تأويل
الإضافة، كما كان بناء الثلاثة أن تضاف إلى
جنسها، فيُقال: ثلاث نسوة وثلاثة رجال.»
١٣٠
ومن مظاهر التأثر بالمنطق عند الفرَّاء مما
استند إليه في تعليله «التوهُّم»، فمما أُثِر
عن العرب أن الكلمتين إذا اتفقتا في اللفظ
والمعنى، لم يجُز إضافة إحداهما إلى الأخرى،
وإذا اختلفتا في اللفظ، واتحدتا في المعنى جاز
عقد الإضافة بينهما كقوله تعالى:
وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ
خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا
تَعْقِلُونَ،
١٣١ وجاء الفرَّاء ليعلل ذلك بتوهمهم
اختلافهما في المعنى، كما اختلفتا في اللفظ
فقال: «قوله:
وَالدَّارُ
الْآخِرَةُ،
١٣٢ ومثله مما يضاف إلى مثله في المعنى
قوله:
إِنَّ هَذَا لَهُوَ
حَقُّ الْيَقِينِ،
١٣٣ والحق هو اليقين، كما أن الدار هي
الآخرة، وكذلك «أتيتك بارحة الأولى» و«البارحة
الأولى» ومنه «يوم الخميس» و«ليلة الخميس» يضاف
الشيء إلى نفسه، فإذا اختلف لفظه، كما اختلف
الحق واليقين، والدار والآخرة، واليوم والخميس،
فإذ اتفقا لم تقل العرب: هذا حق الحق، ولا يقين
اليقين، لأنهم يتوهمون إذا اختلفا في اللفظ
أنهما مختلفان في المعنى.
١٣٤
ومن المصطلحات النحوية عند الفرَّاء، والذي
يبدو عليها التأثير بالفلسفة والمنطق، نذكر
منها مثلًا: الفعل، وهو مصطلح أطلقه الفرَّاء
على خبر المبتدأ تارة، وعلى ما كان أصله خبرًا
للمبتدأ تارة أخرى، ثم دخل عليه الناسخ.
١٣٥ الاسم المبهَم، ويعني به ما ليس
بمعلوم من الأسماء.
١٣٦ الاسم الموضوع، وهو يعني عند
الفراء اسم الجنس، أو الأسماء المحضة، كعُمر ومحمد،
١٣٧ ومصطلح المؤقَّت وغير المؤقت،
اصطلاحان عند الفراء بمعنى العَلم والضمير،
والثاني ينطبق على النكرة، أما إذا كان الاسم
مُعرَّفًا أو موصولًا، فهو عند معرفة غير مؤقته.
١٣٨ مصطلح الرفع، بمعنى الخبر عند
الفرَّاء، الضمير يعني المبتدأ المحذوف —
المضمر: المبتدأ المحذوف.
١٣٩ مصطلح الأسماء المضافة، أطلقه
الفرَّاء، على ما يُسمَّى بالأسماء الستة، مثل
أبيك …
١٤٠ مصطلح الألِف الخفيفة، ويقصد به ما
يُسمى ألفَ الوصل، أو همزة الوصل.
١٤١ مصطلح التأويل، يطلقه الفراء على
الإعراب بالمحل.
١٤٢ مصطلح الصرف، ويقصد به عامل النصب
في بابين، هما باب الفعل المضارع المنصوب بعد
الواو، والفاء، وأو؛ وباب المفعول معه.
١٤٣ مصطلح المحل، وهو عند الفراء ما
يُسمَّى بظرف الزمان والمكان.
١٤٤ مصطلح النداء، وهو ما يطلقه على
النداء والمنادى.
١٤٥ مصطلح الاستثناء المنقطع، يطلقه
الفراء على الاستثناء المفرَّغ.
١٤٦ مصطلح الجَحد، وأطلقه على ما يُسمى بالنفي
١٤٧ … وهلم جرًّا.
وقد تعددت الوسائل النحوية، والتي غلب عليها
تأثر الفراء بالمنطق، منها ما يتعلق بالعامل،
ومنها ما يتعلق بعمل الأدوات وخصائصها، ومنها
ما يتعلق بالعِلة النحوية، ومنها ما يتعلق
بالبناء والإعراب، ومن المسائل النحوية التي
تتعلق بالعامل عند الفراء، منها على سبيل
المثال لا الحصر:
- (١)
أن عامل الرفع في الفعل المضارع،
هو تجرُّده من الناصب والجازم.
١٤٨
- (٢)
أن العامل في المفعول به، هو
الفِعل والفاعل معًا.
١٤٩
- (٣)
أن العامل في المفعول لأجله، هو
أنه منصوب على نية الشرط والجزاء،
أو أن يُجعل ناصبه الفعل.
١٥٠
- (٤)
أن ناصب المستثنى هو عاملٌ
معنوي، وهو الخلاف، ويكون نصبه على الاستثناء.
١٥١
وأما الأصول التي خالف «الفرَّاء» البصريين
في بعض مسائل النحو الأساسية، فنذكر منها على
سبيل المثال لا الحصر:
- (١)
عدم تفرقته بين ألقاب البناء
والإعراب، فلم يُميِّز الفرَّاء
علامات الإعراب من علامات البناء،
فسمي المُعرَب بعلامات المبني،
والمبني بعلامات المعرب، دون أن
يفرق بينهما، وهو مذهب الكوفيين.
١٥٢ وأما البصريون فجعلوا
للإعراب علامات، وللبناء علامات،
فميَّزوا بعضها من بعض، فجعلوا:
الرفع، والنصب، والجر، والجزم
علامات الإعراب؛ والضم، والفتح،
والكسر، والسكون علامات البناء.
١٥٣
- (٢)
ذهب الفراء إلى أن المصدر مشتق
من الفعل وفرع عليه، وهو مذهب
الكوفيين، وذهب البصريون إلى أن
الفعل مشتق من المصدر.
١٥٤
- (٣)
ذهب الفراء إلى أن الإعراب أصل
في الأسماء، فرع في الأفعال؛ لأن
الإعراب جيء به لمعانٍ لا تصح إلا
في الأسماء، كالفاعلية،
والمفعولية، والإضافة، وهذه لا تصح
في الأفعال، فعُلِم أن الإعراب في
الفعل محمول على إعراب الاسم.
١٥٥
وعلى هذا النحو كان الفرَّاء لا يزال يُلِح
في تحليل صيغ الذِّكر الحكيم ومواضع كلمة
الإعراب في ذهنه، مستخرجًا منه فيضًا من
الآراء، مخالفًا البصريين وسِيبَوَيه، وقد
يخالف أستاذه الكِسائي، وهو في كل ذلك إنما
يريد أن يشكل النحو الكوفي في صيغته النهائية؛
بحيث تستقر قواعده، وتستقر فيه العوامل
والمعمولات، مُتَّخذة كل ما يمكن من أوضاع جديدة.
١٥٦